Posted on Leave a comment

الجميعات الإسلامية بالخارج | الشيخ: محمد الغزالي

الجمعيات الإسلامية بالخارج .. ثمانية أدواء هي فروع من شجرة خبيثة تستحق القطع!

«زرت مسجد “باريس” وألقيت به عدة محاضرات، وتحدثت مع رواده ودرست بعض قضاياهم وكونت فكرة مجملة عن شؤونهم المادية والأدبية.
وعندما نظرت إلى صفوف المصلين، وأنا أخطب الجمعة أحسست أن سوادهم من هذا الصنف الذي إن حضر لم يعرف وإن غاب لم يفتقد!
إنه صورة نبيلة لجماهير المسلمين المحبين لدينهم الحريصين على إحياء شعائره وإسراج منائره..
لكنني لمّا درست أحوال بعضهم مسّني الضرّ وشعرت بالقلق!
إنهم ينتمون إلى جمعيات شتى، وينتشر بينهم خلاف وجدال طويلان.!!

قال لي صديق: ليس في كثرة الجمعيات ضرر.
قلت: ذاك لو كان التعدد نوعيا، هذه لتعليم اللغة العربية، وهذه لرعاية الشباب، وهذه للرياضة البدنية، وهذه لتيسير الزواج بين المغتربين والمغتربات، وهذه للرحلات إلى الداخل والخارج، وهذه لدراسة شبهات المبشرين والمستشرقين، وهذه لزيارة الأحزاب والمؤسسات الفرنسية… إلخ.

أما انقسام هذه الطائفة الإسلامية المحدودة إلى سلف وخلف، وحركيين وصوفيين، ومالكيين وحنفيين، وشيعة وسنّة وأعراب وأعاجم… إلخ، فهذا بلاء مخوف العواقب، إن كان محقور الشر اليوم فربما أودى بالجميع غدا…
لقد حذرت وما زلت أحذر من نقل العلل القديمة إلى هذا المجتمع الجديد.
أعرف أن الأوروبيين تشيع بينهم شهوات منكرة، لكن هذه الشهوات- على دمامتها- أقل فتكا بالأمم من حب الرياسة وطلب الظهور، وتحوّل الناس إلى شراذم يقودها أمكرها أو أضراها.
قال لي صديق: كان هناك خمسة أشخاص يريدون تكوين جمعية، فقال أحدهم:
أنا الرئيس العام
وقال الثانى: أنا نائب الرئيس العام
وقال الثالث: أنا الوكيل العام
وقال الرابع: أنا المراقب العام.
قلت: يجب أن يقول الخامس: وأنا العضو العام .!
إن فراغ النفس والعقل وراء التطلع إلى الصدارة، واختلاق تشكيلات كثيرة لإشباع رغبة طفولية..
إنني أنصح المسلمين في كل بلد أوروبي يعيشون فيه أن يكونوا- شكلا وموضوعا- موضع إعجاب الأمة التي نزلوا بأرضها، ولن ينالوا هذا الإعجاب إلا إذا كانوا آية باهرة في تربيتهم وثقافتهم ومسالكهم، هنالك فقط ينتظرون البقاء والنماء.
يكره الإسلام الأمراض النفسية كراهية شديدة، ويراها أسوأ عقبى وأعم ضررا من الأمراض البدنية، والواقع أن عمى البصر أخف من عمى البصيرة، ودمامة الوجه أهون من دمامة الروح.
وقد رأيت في حديث نبوي واحد استعاذة من جملة علل نفسية تهبط بقيمة الإنسان وإنتاجه، وتحول بين الشعوب وبين أية مكانة مرموقة.
والحديث كما صح في المأثورات:
“اللهم إنى أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال”!!.

ثمانية أدواء هي فروع من شجرة خبيثة تستحق القطع، لأن واحدا منها يجلب الضرّ، فكيف بها مجتمعة؟!.
وننظر على عجل إلى كل واحد من هذه الثمانية!

  • أولها: الهمّ، وهو انشغال القلب بما يثير الكآبة دون قدرة على ردّه، والمهموم يواجه الحياة ببعض قواه، لأن البعض الآخر مقيد أو مغلول.
  • والثانى: الحزن، وهو انهزام النفس أمام ألم غالب، واستقبال الحياة كأنها خريف دائم، والمحزون سجين يأسه وقعيد مآسيه، وقلما ينهض بعمل كبير.
  • والثالث، والرابع: العجز والكسل، وهما- فيما رأيت- من آفات العالم الثالث، ترى الرجل يخرج العمل من بين أصابعه شائها مقبوحا، وكان يستطيع إتمامه وتحسينه، وربما فكر في صلاة الاستسقاء والماء إلى جواره على مدى سهم!.
    وقد رأيت من يجلس واضعا قدما على أخرى قريبا من قمامة لا يفكر في إزالتها، أو تتساقط المياه حوله من “حنفية ” معطوبة فلا يفكر في إصلاحها!.
    إنها بلادة تنشأ في نفس الفرد، ثم تنمو في أرجاء البيئة، فإذا أمم فقيرة تعيش فوق أرض خصبة، أو أمم محجوبة الرؤية يطرق أبوابها الأجانب ليستخرجوا من تربتها أنواع المعادن السائلة والجامدة !.
  • والخامس والسادس: الجبن والبخل، وهما آفتان متلازمتان، فالضنين بماله لا يجود بروحه، أو الجواد بنفسه لا يبخل بماله.

وكلا الرجلين لا يذوق طعم الحياة الرفيعة، وكيف يتأتى هذا المذاق لجبان يعتذر عن هروبه بهذا الكلام: لأن يقال: فر لعنه الله، خير من أن يقال: مات رحمه الله!
أو لبخيل يحضن ثروته بإراقة حيائه وابتذال نفسه؟!.

  • والسابع والثامن: غلبة الدَّين وقهر الرجال.
    ونحب التنبيه إلى أن الاستدانة لأى رغبة عارضة، مع العجز عن الوفاء لون من السرقة، فإن السارق يتناسى حقوق الآخرين في أموالهم ولا يذكر إلا إشباع نهمته الخاصة، وكذلك كل من يستدين لغير سبب معقول.
    أما قهر الرجال، فبلاء ينغص حياة الشرفاء، ويرون الموت دونه، ومن نكد الدنيا على الحرّ أن يرى عدوا له ما من صداقته بدّ.

صلوات الله على صاحب الرسالة الهادية الشافية، واللهم اهدنا فيمن هديت وعافنا فيمن عافيت

بقلم: الشيخ/ محمد الغزالي – من كتاب: الحق المرّ.

Posted on Leave a comment

القلق الفقهي

أقصد بالقلق الفقهي، ذلك الهمّ المعرفي والانشغال الذهني الذي تثيره بعض المسائل الفقهية التي تكاد تكون محسومة في مدارس الفقه وبين طلبة العلم، وصارت لها سطوة على العقول، رغم أنها لا تستند إلى أدلة قطعية الثبوت أو قطعية الدلالة، ورغم ما لها من آثار كبيرة على حياة المكلفين وانتظام حياتهم، وما يسببه بعضها من حرج ومشقة في عباداتهم.

أقصد بالقلق الفقهي أيضا، ذلك الحسّ النقدي الموجه إلى قضايا تربينا عليها في المراحل الأولى للتحصيل العلمي، وتلقيناها في المعاهد الشرعية والجامعات، على أنها مسلمات شرعية دينية، غير أنها لا تعدو أن تكون مسلمات مذهبية أو اختيارات فقهية جاءت في سياق تاريخي واجتماعي مختلف تماما عما نعيشه نحن اليوم.  

فكيف لا يقلق من يقرأ قوله تعالى لا إكراه في الدين، ويعرف مكانة الحرية في المنظومة الإسلامية، من فكرة قتل المرتد لمجرد ردّته، ودعوى الإجماع عليها.  

وكيف لا نقلق من حصر تعريف الإسلام في الذل والانقياد والإنكسار، وإغفال السلم النفسي والأمن الاجتماعي، وهي معان في أصل الكلمة اللغوي وجذرها اللفظي.

وكيف نأنس لتعريف عقد الزواج في الإسلام بأنه عقد انتقال ولاية أوعقد تمليك، ليختلفوا فيما بعد، هل هو تمليك ذات أم تمليك استمتاع، وتعريف المهر بأنه مال مقابل البضع أو مقابل الاستمتاع، في حين وصفَ القرآنُ الزواج بأنه السكن والمودة والرحمة، وجعل المسؤولية فيه مشتركةً، وخاطب المتزوجين ب: لكم وتسكنوا وبينكم.

وأي فرصة للمجتمعاتنا العربية والإسلامية في التحرر من الاستبداد والانعتاق من قيد التخلف، مع وجود هذا الإرث المثقل بأحكام حرمة الخروج على الحاكم وتبرير الظلم وتحريف مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهماً وممارسة.  

ثم كيف يطمئن المرء إلى هذا المسلك الممنهج في تضييق مساحات الفعل الاجتماعي والنشاط الإنساني في مجال فقه المرأة والأسرة، والنشاطات الاجتماعية، ومجالات الإبداع الفني، من خلال تضخيم بعض الأحكام وتوسيع دائرة التحريم.

وقس على ذلك كماًّ هائلا من الأحكام في كل الأبواب الفقهية، من باب الطهارة والنجاسات إلى أبواب الدماء والحدود مرورا بأبواب العقود والمعاملات،

كحكم مس المصحف لغير المتوضئ، والطلاق الثلاث بلفظ واحد، وفتاوى عقود التأمين والبيوع الحديثة، وفتاوى المرأة في علاقتها بلباسها وطهارتها وصلاتها ومسجدها وقرآنها وعلاقتها بالرجل ، كما في حلها وسفرها، وأحكام العلاقة بغير المسلمين وفقه الأقليات المسلمة في الغرب، وغيرها من الأحكام التي اكتسبت هالةً كبيرةً من التقديس، دون أن تكون مستندة إلى أدلة قطعية الورود أو قطعية الدلالة، بل ربما تسير عكس مقررات القرآن ومبادئ الإسلام العليا.     

ورغم أن هذه القضايا المنتشرة المستطيرة لا يكاد يخلو منها كتاب فقه، فإن تاريخ الفكر والتشريع الإسلامي لم يَعْدِم يوما ذلك الحسّ النقديّ وعدم الخضوع لسطوة الكثرة أو دعاوي الإجماع، فتأسس تيار علميٌّ حقق التوازن في قراءة الأدلة ونقد الآراء وإرساء منهج علميّ يقوم على الجمع بين النصوص وتقديم الكليات على الفروع، والمقاصد العامة على الجزئيات، والإعلاء من مبادئ العدل والحرية والقيم الإنسانية العليا.

ولقد كان هذا التوجه أكثر حضوراً ووضوحاً في عهد الصحابة رضوان الله عليهم، مقارنة بالعصور التي تلته، مما يؤكد طبيعة هذا الدين وروح هذه الشريعة التي تتسم بالتحرر العقلي والبناء المنطقي والاحتكام إلى مرجعية واضحة شفافة متمثلة في القران الكريم وما صح من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وربما كان تشبع الصحابة بهذه الروح وقربهم من عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وتتلمذهم على يديه، هو الذي قوى فيهم تلك الملكة النقدية والرؤية المنهجية الواضحة.  

وقد حمل هذه الراية جلُّ الصحابة رضوان الله عليهم، ومن أبرزهم أبو بكر وعمر وعلي وابن عباس وابن مسعود وأبو ذر وغيرهم.

فأبو بكر وقف في وجه المرتدين، مخالفا بذلك أكثر الصحابة وقراءتهم لبعض النصوص، ولولا موقفه الحكيم هذا، لربما شهد خط الإسلام مساراً آخر غير الذي سار فيه.

 أما عمر، فحدث ولا حرج، فقد كانت له جرأة كبيرة واجتهادات عظيمة خالف فيها ظاهر النص لمصلحة راجحة أو لاعتبار مقاصدي أولى أو لظروفٍ وأنماطِ حياة مستجدة، فكان أول ما عمل به عمر أن رد سبايا أهل الردة إلى عشائرهم، وقال: «إني كرهت أن يصير السبي سنة على العر» (تاريخ اليعقوبي 1/160)، ومنع في عهده المؤلفة قلوبهم من الزكاة، لحمله الآية المصرحة بذلك على حالة الضعف والحاجة الى استمالة المترددين أو النافذين، ومنع قسمة أرض العراق والشام، مثلما هو منصوص عليه في القران والسنة، لاعتبارات مشهورة مشهودة، واعترض على حديث فاطمة بنت قيس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجعل لها حين طلقها زوجها سكنى ولا نفقة، فقال: «لا نترك كتاب الله وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم لقول امرأة، لا ندري لعلها حفظت، أو نسيت، لها السكنى والنفقة، قال الله عز وجل: {لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة » (مسلم).

ومما يوضح منهج الفاروق أكثر، تشديده، هو وأبو بكر، في قبول الحديث، وأمر بالإقلال من التحديث حتى لا يتشاغل الناس بالتحديث عن حفظ القران، وقد روى الذهبي بسنده ان عمر حبس ابن مسعود وأبا الدرداء وأبا مسعود الأنصاري لإكثارهم من التحديث (تذكرة الحفاظ 1/7)، وأوصى وفده إلى العراق بقيادة قرظه بن كعب فقال لهم: “جودوا القرآن وأقلوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، امضوا وأنا شريككم” (فلما قدم قرظة، قالوا: “حدثنا؛ فقال، نهانا عمر”. (تذكرة الحفاظ 1/8 وسنن الدارمي) كما أنه عدل عن تدوين السنة بعد جولة استشارة واستخارة، كل ذلك بغية تجويد الرواية وسد باب الخطأ أو الكذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنع التشويش على العامة والحفاظ على القرآن الكريم مرجعية عليا وحكما على ما عداه.     

أما الشاهد الأكبر وحامل لواء هذا المنهج النقدي فكان عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم. فقد كانت قوية الشخصية، شديدة الشكيمة، حادة الذكاء، واسعة العلم رضي الله عنها، مما جعلها تعارضُ كبار الصحابة وتستدرك عليهم وتصوب القضايا العويصة بمنهجية واضحة واستدلالات قوية.

وقد بلغت هذه المعارضات العشرات، جمع أكثرها الإمام الزركشي في كتابه: ”الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة”. ونؤكد في هذا السياق أن استدراكات عائشة ليست بمبنية كلها على زيادةِ علمٍ حصّلته من قربها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل أكثرها مبني على منهجية نقدية تفهم الحديث على ضوء نصوص القرآن، وتبوّب أولويات الفهم والتنزيل بحسب أصول الأحكام ومقاصد التشريع.

لذلك نجدها قد بنت نقدها لرأي عبد الله بن عمرو بن العاص في نقض النساء رؤوسهن عند الغسل على مبدأ رفع الحرج وفِعْلِها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا عجبا لابن عمرو هذا! وهو يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رؤوسهن؛ أفلا أمرهن أن يحلقن رؤوسهن؟! لقد كنت أغتسل أنا ورسول الله ﷺ من إناء واحد، فما أزيد على أن أفرغ على رأسي ثلاث إفراغات” (صحيح مسلم)

وقالت في حديث: «من غسَّل ميتا اغتسل، ومن حمله فليتوضأ» (أبو داود والترمذي، ضعيف والصحيح أنه موقوف على أبي هريرة)، (سبحان الله! أَمواتُ المسلمين أَنجاسٌ؟! وهل هو إلَّا رجلٌ أَخذ عودًا فحمله؟)

 وفي وجوب المحرم في سفر المرأة قالت: «ليس كل النساء تجد مَحْرَماً» (صحيح ابن حبان: 6/442)

وفي معارضة وجوب اعتداد المُتوَفَّى عنها زوجها في بيت زوجها، أفتت المرأة المتوفى عنها زوجها بأن تعتد حيث شاءت (تفسير القرطبي البقرة 234)  

وقالت لامرأة جاءت تستفتيها في النمص: “أميطي عنك الأذى وتصنّعي لزوجك” (مصنف عبد الرزاق) مخالفة بذلك جمهور الصحابة.  

وخطأت أبا هريرة فيما رواه في الصحيحين “لأن يمتلئ جوفُ أحدكم قيحاً ودماً خير من أن يمتلئ شِعْراً” وقالت: “لم يحفظ [أبو هريرة]! إنما قال: من أن يمتلئ شِعراً هُجِيتُ به”. (فتح الباري)

ومن أشهر معارضاتها إنكارها لحديث ابن عمر وأبيه عمر وكثير من الصحابة  أن الميت« يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ ببكاء أهله عَلَيْه” وهو في الصحيحين، فقد ورد ((أن ابن عباس ذكر لعائشة ما قاله عمر بعد وفاته، فقالت: رحم الله عمر، والله ما حدَّث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله ليعذب المؤمن ببكاء أهله عليه، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الله ليزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه، حسبكم القرآن: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [فاطر: 18] ))، وقد أولت عائشة رضي الله عنها هذا الحديث أكثر من تأويل، ورد ذلك عنها في الصحاح والسنن . (فتح الباري 3/152).

كما ردت حديث إسماع الموتى لأنس بن مالك في الصحيحين لتعارضه – برأيها – مع القرآن الكريم في قوله تعالى: {إنك لا تسمع الموتى} و {وما أنت بمسمعٍ مَنْ في القبور}.

ولم تُخْف شدة غضبها ورفضها لحديث ابن عمر في صحيح البخاري: “إن كان الشؤم في شيء ففي الدار والمرأة والفرس” وبينت أنه ورد في سياق الحكاية عن أهل الجاهلية فقالت: والذي نزّل القرآنَ على محمد ما قاله رسول الله قَطّ، إنما قال: إن أهل الجاهلية كانوا يتطيرون من ذلك”. (انظر شرح الحديث في فتح الباري)

كما شددت النكير على حديث أَبِي هُرَيْرَةَ في الصحيحين: “يَقْطَعُ الصَّلاَةَ الْمَرْأَةُ وَالْحِمَارُ وَالْكَلْبُ” وقالت: “شبهتمونا بالحُمُر والكلاب، والله لقد رأيت النبي ﷺ يصلي وأنا على السرير بينه وبين القِبلة مضطجعة”. (فتح الباري)

وقد سار تلامذتها على منهجها نفسه، ومن أهمهم ابن عباس الذي يرى رأيها في قطع المرأة الصلاة والوضوء من حمل الجنازة وسفر المرأة من غير محرم، كما خالف عمرَ في إمضاء الطلاق الثلاث باللفظ الواحد، وتوسع في الترخص حتى أطلق أبو جعفر المنصور كلمته الشهيرة ” تراخيص ابن عباس وشدائد ابن عمر”  

وفي معارضته لحكم الوضوء مما مست النار الذي رواه أبو هريرة، أشار ابن عباس إلى بُعده عن الحكمة واليسر، دون الإشارة ابتداءً إلى ما يعلمه من نسخ الحديث، فقال له:«يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، أَنَتَوَضَّأُ مِنَ الدُّهْنِ؟ أَنَتَوَضَّأُ مِنَ الحَمِيمِ؟ »، فرد عليه أبو هريرة، مثبتاً منهجه الخاص في الأخذ بظواهر النصوص: «يَا ابْنَ أَخِي، إِذَا سَمِعْتَ حَدِيثًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا تَضْرِبْ لَهُ مَثَلًا» (سنن الترمذي)

والأمثلة على قوة حضور هذا التوجه في عصر الصحابة كثيرة، يمكن الوقوف عليها في مظانها، والمقصد من إيراد بعضها هو الإشارة إلى وجود هذه الملكة النقدية والروح التحررية لدى الصحابة رضوان الله عليهم في روايتهم ودرايتهم، ووجود نسق اجتهادي يراعي المقاصد والأولويات ويضبط التعامل مع النصوص فهماً وتنزيلاً. بل كانت هذه سمة عصور الانفتاح وازدهار العلوم والريادة الحضارية الإسلامية. والعجيب أن هذا التوجه، بل قل هذه المدرسة، قد ضعفت جيلا بعد جيل حتى استقر جزء من الفقه، بشقيه الأكبر والأصغر، على أقوال جامدة واختيارات بعيدة عن مقاصد الشرع وروح العصر.

ولا يجولنَّ بخاطر القارئ أننا ندعو إلى ما يسمى بتاريخية / تاريخانية النص أو العقلانية المنفلتة، كما هو ديدن البعض، وإنما ندعو إلى الانفتاح على تراثنا الفقهي كله دون إقصاء، وإحياء الاجتهاد المقاصدي، ومراجعة الأحكام الفقهية التي لا تتسق مع ما قرره القران من مبادئ عليا وقضايا كلية، إضافةً إلى التسامح والمرونة مع الآراء المخالفة.

هذا، ولم يخل عصرٌ منذ وفاة النبي صلى الله عليه وسلم من قائمٍ لله بحجة ومجدد لمعالم الدين وأحكامه، كعمر بن عبد العزيز وفقهاء الأمصار من التابعين، وفقهاء المذاهب الأربعة في المائة الثانية، والبخاري في الثالثة، وابن حزم الأندلسي في القرن الرابع، وصلاح الديون الأيوبي في الخامس، والعز بن عبد السلام في السادس، وابن تيمية وتلميذه ابن القيم والإمام الشاطبي في المائة السابعة، وابن خلدون ومحمد الفاتح في الثامنة، كلٌّ بحسب مجاله، ثم اشتد الخمول الفكري والجمود المذهبي في القرون المتأخرة حتى سيطرا على الحياة العلمية والثقافية والاجتماعية، ولم يكن مجال الفقه والتدين بمعزل عن ذلك، رغم ظهور عدد من المصلحين المجددين في العصور المتأخرة، كالأفغاني وعبدة وابن عاشور ومحمد الغزالي والألباني والشيخ القرضاوي، وغيرهم من أعلام الفقه والفكر والإصلاح.  

ومما يحز في النفس أن هذه المادة التراثية المثيرة “للقلق الفقهي” كانت مسرحا لعبث فئتين فزادوها رهقا، الفئة الأولى، من تصدى لها من غير المتمكنين في أصول الأحكام وقواعد الاستدلال، فميَّعوا وحرَّفوا، أما الفئة الثانية فاتخذت منها مادة للتشكيك في تراثنا الإسلامي كله إن لم يكن في الإسلام كدين، وحاولت النيل من رموزه وأعلامه.    

لذلك نحن في حاجة حقيقة إلى عدول خالفة على منهج العصور النيرة السالفة، يتصدون إلى ما أشكل من مسائل العلم والدين، ينفونَ عنها تحريفَ الغالينَ وانتحالَ المبطلينَ وتأويلَ الجاهلينَ.

والله الموفق وهو الهادي إلى أقوم السبل

بقلم الشيخ/ كمال عمارة

Posted on Leave a comment

قيمة الجمال في الإسلام | الجزء الثاني

بقلم الشيخ/ عبدالمجيد نوار التلمساني

جمال القرآن الكريم

مَن يقرأ كتاب الله تعالى يجد صور الجمال منثورةً في آياته، وهو یُمثل بحقّ ذروة الجمال، وقمّة الحسن في عالم البیان، وقد سمعه الجنّ فقالوا: (إنا سمعنا قرآنا عجبا)، وسمعه الوليد بن المغيرة فقال: ” والله، إن لقوله الذي يقول حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى، وإنه ليحطم ما تحته” قالوا: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه! قال: (هذا سحر يؤثر) يأثره عن غيره، فنزلت: ذرني ومن خلقت وحيدًا.                                                                                                                 إنّ البيان القرآني يعرض الجمال كعنصر أساسي في بناء الكون، معبرا عنه بألفاظ جمالية متنوعة كالحُسْن والزينة والنضرة والبهجة والحلية، وغيرها.                                                                                                                   يقول الشيخ صالح بن عبد الله بن حميد: “كتابُ ربِّنا جاء بالجمال، وحكَى الجمال، ودعا إلى الجمال، وامتلأ بمعاني الجمال”. ويقول عمر عبيد حسنة في مقدمة كتاب “علم الجمال رؤية في التأسيس القرآني” : “لا يـملك الباحث في القرآن الكريم إلا أن يندهش للاستعمال المكثف للألفاظ والمفاهيم الجمالية، استعمال لم يأت على نمط واحد، ولم نلحظ في ترداده رتابة أو تكلفا، بل يأتي عذبا زلالا يصف المشاهد الجمالية بلغة مبينة، تعكس المقصود وتجليه، وتبلغ المراد في لبوس يجعل القارئ والمتأمل يسبح في عوالم روحية آية في الجمال، ويتذوق السياقات اللغوية في تنوعها البديع ورصفها المحبوك، فإذا هو مأخوذ قلبا وقالبا في مناجاة يرددها لسانه باللغة القرآنية الآسرة، ويجد رجع صداها هادرا في قلبه وروحه المنتشية بتتالي لوحات الجمال والجلال”.

ومن خصوصيات الرؤية الجمالية للقرآن الكريم أنها تلحظ الجمال وتـبديه في مجالات لـم يعهد الفكر الإنساني وجودا للجمال فيها، كما هو الحال في التعبيرات القرآنية المرتبطة بـ”الصبر الجميل” و”الصفح الجميـل” و”الهجر الجميل”  و”السراح الجميل” 

فكيف يكون الصبر جميلاً؟ وكيف يكون السراح جميلاً والأمر يتعلق بالطلاق؟، وكيف يكون الهجر جميلاً وهو في حقيقته فراق؟ فالسراحُ الجميل ذكر مرَّتين في مُحكم التنزيل، وفيه إشارة إلى الطلاق وهو أبغض الحلال إلى الله، لكنَّه عندما يقترن بالجمال فعلا وقولا يجْمُل هذا السراح، حيث تفارق المرأة بيتها من غير غبن ولا عدوان أو انتقاص للحقوق. إنّ القرآن بهذا يُعطى بُعداً جديداً للسلوك الإنساني، وأنَّ الجمال مطلوب حتى في المواقف التي لا تخلو من حزن وألم. وهكذا دخل مفهوم الجمال في القرآن الكريم مجالات لم يدخلها في الثقافات الإنسانية بمختلف مشاربها، ولم يتعود الناس على أن يروا قيمة للجمال فيها.

من الواضح أنّ كتاب الله للعالمين يشكل بمجموع آياته وسوره لوحةً جماليةً متكاملةً، تعكس بدورها جلال وجمال الخالق البارئ عز وجل، الذي يُعدّ مصدر الجمال في هذا الكون الفسيح.

وردت أربعة ألفاظ متداخلة ومترادفة لمفهوم الجمال في القرآن الكريم والسُّنة النبوية:

الحسن: وهو يدل على الجمال الحقيقي في حقيقة الشيء وجوهره. وهو كل ما هو ضد القبح من أحوال الخَلق والخُلق؛ أو الفعل والصفة [الراغب الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن]. ويقول الغزالي رحمه الله: “كلّ شيءٍ فجماله وحسنه في أنْ يحضر كماله اللائق به الممكن له، فإنْ كان جميع كمالاته الممكنة حاضرة فهو في غاية الجمال، وإنْ كان الحاضر بعضها فله من الحسن والجمال بقدر ما حضر”. وفي القرآن الكريم {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [السجدة: 7] أي حسّن خلق كل شيء [ابن منظور، لسان العرب]. وجاء في الحديث تعريف للإحسان ‏”‏أن تعبد اللَّه كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فهو يراك” فالإحسان هنا هو المرتبة العليا لمعرفة الخالق عز وجل وحسن عبادته.

التسوية: قال تعالى: {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ} [السجدة: 9]. والتسوية ليست كما قال بعضهم أنها تخص الجسم والخلقة فقط، بل تشمل الجمال الروحي والعقلي، ولا يمكن الفصل بينهما. والتسوية هي ذلك التناسق الجميل والتكامل المبدع ما بين الباطن والظاهر، وهي أعلى درجات الجمال {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} [الانفطار: 7].

الزينة: وهي اسمٌ جامعٌ لكل شيء يُتزين به مادي أو معنوي، والزينة الحقيقة كما قال الراغب الأصفهاني: “ما لا يشين الإنسان في شيء من أحواله لا في الدنيا ولا في الآخرة”. وقيل الزينة على ثلاثة مستويات: زينة نفسية متعلقة بحسن الفهم والاعتقاد وجميل الطيع وحُسن الخلق، وزينة جسدية متعلقة بما وهب الله للإنسان من معالم الوسامة والحسن وكمال الخلق، وزينة خارجية كالمال والأولاد واللباس وغير ذلك. والزينة تكون في الصوت أيضا: عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “زيّنوا القرآن بأصواتكم”[سنن أبي داود].                                                                                                                    وتأتي الزينة مع الإشارة إلى سنة الابتلاء والتمحيص أحيانا مثل قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف: 7]، {وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 28].

يقول صاحب الظلال: ” ونظرة إلى السماء كافية لرؤية هذه الزينة ولإدراك أنّ الجمال عنصرٌ مقصود في بناء هذا الكون، وأنّ صنعة الصانع فيه بديعة التكوين جميلة التنسيق، وأنّ الجمال فيه فطرة عميقة لا عرض سطحي”.

الإبداع: أبدع الشيء أنشأهُ على غير مثال سابق، فهو بديع. يقول الرازي في التفسير: (الإبداع: عبارة عن تكوين الشيء من غير سبق مثال، ولذلك فإن من أتى في فن من الفنون بطريقة لم يسبقه غيره فيها، يقال: إنّه أبدع فيه” (جزء7 ص 124) .قال تعالى: {بديع ٱلسَّمَٰوَٰتِ والأرض وإذا قضي أمرا فإنّما يقول له كن فيكون}. والبديع: من أسماء الله تعالى الحسنى، خلق فأبدع فأذهل العيون بجمال خلقه فتبارك الله أحسن الخالقين.

علاقة مفهوم الجمال بالذكر والعبادة

ينسب إلى داوود الأنطاكي قوله: “الحسن هو ما استنطق اللسان بالتسبيح”، فنحن نسبح الخالق ونحمده عندما نرى الشيء الجميل. وانظر إلى مشهد تسبيح داود عليه السلام، قال تعالى: {وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير}، وجميع المخلوقات تسبح خالقها، قال تعالى: {ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض}.                                                                                             يقول محمد شاكر المودني: “وإن أقل ما يعيشه المؤمن المتفكر المتأمل لجمال خلق الله تعالى هو حرج أداء المقابل مع قصر اليد، وحرج أداء الشكر مع ضيق الصدر وعدم انطلاق اللسان والجوارح، ذلك أن ”الجمال في المخلوقات يستدعي مقابلته بجمال مثله هو جمال العبادة والشكر، وإلا كان في ذلك سوء أدب”. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها حينما سألته: “لمَ تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أحب أن أكون عبداً شكورا”.                                             ومقصد التزكية هو الإرتقاء بالنفس البشرية إلى التخلق بكل جميل حسن محمود من النيات والصفات والأفعال والأقوال.

جمال المظهر وجمال المخبر

يحرص الإسلام على جمال الإنسان مظهراً ومخبراً، والمسلم الذي فهم تعاليم دينه تراه مهذب السلوك، راقي في تعامله مع الخلق، أنيقاً في مظهره. ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم نظيف الثياب جميل المنظر سر من رآه لبهائه وحسن هيئته، ولكنه كان في نفس الوقت أحسن الناس خُلقا، وأزكاهم نفسا، جمع الله له صفات الكمال في جمال المظهر والمخبر.                                                 وعن الجمال الباطن يقول ابن القيم رحمه الله: “هو المحبوب لذاته وهو جمال العلم والعقل والجود والعفة والشجاعة، وهذا الجمال الباطن هو محل نظر الله من عبده وموضع محبته كما في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم”.                                                                   وقد ذم الله سبحانه الاكتفاء بجمال المظهر الخارجي فقط، دون الجمال الباطن فقال عن المنافقين: {وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم} (المنافقون: 4). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم».  ذلك لأن الإنسان إذا غاب عنه جمال المخبر لم يغني عنه جمال المظهر شيئا، ومن ذلك قول الشاعر: لو أن المرء لم يلبس ثيابا من التقى ….. تجرد عريانا ولو كان كاسيا.                                                                                                                                    يقول صاحب كتاب: (الأصول الجمالية والفلسفية للفن الإسلامي): “ولا شك أن هناك أنواع من الجمال المحبوب المحمود عند الله كجمال التقوى والأخلاق والأعمال، وجمال مكروه مذموم عند الله، هو الجمال الظاهر الذي يصحبه قبح باطن سواء في الأقوال أو الأفعال من نفاق أو كبر أو كفر”.                                                                                                                             تجدر الإشارة هنا إلى ضرورة التعامل مع الظاهرة الجمالية دون إفراط أو تفريط، والتمييز بين طائفتين من الناس كل منهما على الطرف النقيـض من الأخرى: الطائفة الأولى: يؤمنون بإطلاق الجمال ويقولون: “ما خلقه الله فلا نبغض منه شيئا، ومن رأى الكائنات منه رآها كلها جميلة” واحتجوا بقوله تعالى: (الذي أحسن كل شيء خلقه (السجدة:7)، وقوله سبحانه: (صنع الله الذي أتقن كل شيء)، وهؤلاء لا يفرقون بين ما يُحمد وما يُذم من مفاهيم الجمال، وغلوا في ذلك غلوا كبيرا.                                                           الطائفة الثانية: قالوا إن الله تعالى ذم جمال الصور وتـمام الخلقة، فقال عن المنافقين: ( وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم ) (المنافقون:4)، وقال: ( وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورئيا ) (مريم:74)، وفي صحيح مسلم عنه: ( إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ). وهؤلاء لا يهتمون بجمال المظهر ولا  يرون له أي أهمية.                                                                                       ويقول الامام ابن الجوزي في الذين يهملون صلاح الظاهر وزينته: “وهذا ليس بشيء، فإن الله تعالى زيننا لما خلقنا؛ لأن للعين حظاً من النظر، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنظف الناس وأطيبهم، وكان لا يفارقه السواك، ويكره أن تشم منه ريحٌ ليست طيبة” وهو عليه الصلاة والسلام كاملٌ في العلم والعمل، فيه يكون الاقتداء، وهو الحجة على الخلق.

الداعية بين المظهر والمخبر

إن حُسن سمت الداعية وجمال مظهره ورِفعة ذوقه جزء مهم من شخصيته، وأدعى لقبول دعوته والاستجابة لها، لأن النفوس جُبلت على حب الجمال والمظهر الحسن. عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الهدي الصالح والسمت الصالح والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزءًا من النبوة»، والمراد بالهدي هنا السيرة والهيئة والطريقة.                    إن أولى الناس بحسن السمت والذوق الرفيع هم الدعاة إلى الله، لأن أناقة المظهر ومناسبته للموقف من عوامل نجاح الداعية في دعوته. ويبقى أن نؤكد على أن جمال المظهر مكمل لكمال المخبر، ولا قيمة لمظهر حسن والقلب خرب، وإنما أردنا التنبيه على الاهتمام بالمظهر مع العناية بالمخبر..

الجزء الأول على الرابط التالي

Posted on Leave a comment

شروط الخطيب – الطاهر بن عاشور

يتعلق الكلام على الخطيب بأمرين:

أحدهما: شروطه. وثانيهما: عيوبُه. لتحصل من معرفتِهما ما يجبُ اتِّبَاعه، وما يتعين عليه تركُه.

أما شروطُه فكثيرةٌ: منها: ما يَرجِعُ إلى ذِهْنِه. ومنها: ما يرجع إلى ذاته.

فأما شروط الخطيب الراجعة إلى ذِهْنِه فقد أرجعها أرسطو في كتابه في الخطابة إلى ثلاثة أشياء -هي كالأصول لها-:

أولها: معرفة الأقوال التي يحصل بها الإقناع. وثانيها: معرفة الأخلاق والفضائل الذاتية. وثالثها: معرفة الانفعالات، ومِنْ أيِّ شيءٍ تكون. ونحن نزيدها رابعًا وهو قُوَّة البَدَاهة في استحضار المعاني.

أما الثلاثة الأُوَل فقد شرحها ابن رشد في تلخيص كتاب أرسطو بعض الشرح، ونحن نزيدها بيانا فنقول:

أما معرفة الأقوالِ المُقْنِعَة فالمراد بها معرفة الأَقْيِسَة الخطابيَّة، وذلك يحصل من التمييز بين الأقيسة الصحيحة، والكُلِّيات وجزئياتها، والصادق والكاذب، ومراتب أنواع الحُجَّة، وذلك مما دُوِّن له علمُ المنطق، ولا نريدُ معرفتَه بصناعة المنطق؛ إذ قد كان الخطباءُ خطباءَ قبل تدوينِه، ولا يزال الخطباءُ خطباءَ ومنهم من لم يخطُر المنطق بباله، وإنما المراد أن تكون له مَلَكَةُ التمييز، سواء حصلت تلك المَلَكَة من سلامة

            الفِطْرة وأصَالة الرَّأي، أم من مُزَاولة الفنون الحِكْمِيَّة، ويُلحَق بذلك معرفةُ الحقِّ والباطل، والمقبول والمردود، والصَّريح والخفي، والظاهر والمُؤَوَّل، ونضربُ لذلك مثلاً وهو كلما كان القولُ أعمَّ معنى كان أكثرَ تأتِّيًا لأن يُستعمَلَ في مواطن كثيرة، وكلما كان أخصَّ كان أوضحَ دِلالةً وأقربَ تناوُلاً، ولكلٍّ مَقَامٌ ووقتٌ ومخاطَبٌ، وهكذا معرفةُ العِلَل والغايات. وقد تقدم في جزء صناعة الإنشاء المعنوي من ذلك مَقْنَعٌ، وفي مُمَارسة علوم البلاغة والمنطق منه مَبْلَغٌ.

وأما معرفة الأخلاق والفضائل فالقصدُ من ذلك التمييزُ بين ما هو فضيلةٌ وضدِّه من الأفعال، ومعرفة محاسِن الأخلاق ومساوئها، فإن بمعرفة ذلك تحصيل غرضين مهمين:

أحدهما: رياضة الخطيبِ نفسَه على التَّحَلِّي بتلك الفضائل.

وثانيهما: معرفتُه ذلك من حال المخاطَبين؛ ليلقي لهم الكلام على قَدْر احتياجهم وبقدر ما تَهيَّأَت له نفوسُهم. وكأنَّ هذا الثاني موجِب اشتراط الاستيطان في خطيب الجمعة عند مَن اشترطه.

واعلم أن الخطيب لا غِنَى له عن معرفة أضداد الفضائل أيضًا؛ إذ قد يدعوه الحالُ إلى بيانها إما لِذَمِّ ما تشتملُ عليه وتُؤثِرُه، وإما لمعرفة ما فيها من منافع قليلة؛ لئلا يَبْهَتَه بها مَنْ يريدُ التَّضليلَ بترويجها، فإذا كان

عالمًا بتفاصيلها لم يعسُر عليه تفنيدُ من يضلِّلُ بها، وفي ذلك أيضًا عَوْنٌ على الدِّفَاع عن مُرتكِب هَفْوةٍ وصاحب فَلْتَة. وقد يكون الشيءُ نافعًا في وقتٍ، وضدُّه نافعًا في آخرَ، كالشَّجاعة وقت الحَرْب، والأَنَاة وقت السِّلْم.

وأما معرفة الانفعالات ومَنْشَئِها فهي من أكبر ما يعتمدُ عليه خطيبُ القوم؛ إذ به يُمَيِّزُ بين ما تنفعلُ به نفوس العامة، وما تنفعلُ به نفوس الخاصة، وما هو مُشترَكٌ بينهما، وبين أنواعِ الانفعالات خيرِها وشَرِّها، وقوَّتِها وضعفِها، وما هو مقبولٌ وما هو مردود. وقد تَعَرَّض أرسطو إلى ذلك بما عَبَّر عنه بـ (إثارة الأهواء) فقال: “إنها انفعالات في النَّفْسِ تُثِيرُ فيها حُزْنًا أو مَسَرَّةً”. وقال أفلاطون: “لكلِّ أمرٍ حقيقةٌ، ولكلِّ زمانٍ طريقةٌ، ولكلِّ إنسانٍ خَلِيقَةٌ، فالتمس من الأمور حقائقَها، واجْرِ مع الزَّمان على طرائقه، وعامِل الناسَ على خلائقهم”. فعلى الخطيب ألا يقيس الناسَ على حَذْوِ نفسِه؛ فإنَّ منهم مَنْ يُسَاويه، ومنهم مَنْ يفوقُه، ومنهم مَنْ هو دونه، وليس ما يزهد فيه الفتى -مثلاً- يزهد فيه الصَّبي، ولا ما يخاطَب به الجنديُّ في صَفِّ القتال يخاطَب به الحكيمُ؛ إذ رُبَّ مَحْمَدَةٍ عند هذا هي مَذَمَّةٌ عند الآخَر، فنحن ندعو كلاً منهما -إذا أَرَدْنا منه انفعالاً- بما يُناسِب اعتقادَه. ألا ترى أن حُبَّ التعظيم والفَخْر -مثلاً- لو زَهِد فيه الطِّفْل في المَكْتَبِ كما يزهَد فيه الحكيمُ لاستوى عنده العمَل والكَسل، ولم يهتمَّ بمنافسة أقرانِه فتَضَاءلتْ مواهبُه. وكذلك القناعة المحمودة لا يحسُن أن يذكرَها أو يدعوَ إليها مَنْ يخطُبُ في قومٍ تكاسلوا عن التِّجَارة وفشا فيهم الفَقْر، فإن جاء يخطُب فيمن أعرضوا عن تعاطي العِلْم، أو عن تهذيب النَّفْس لشِدَّة التعلُّقِ بالدنيا حَسُنَ أن يتعرَّض حينئذٍ لمحامد القناعة وأنها أكبرُ غِنًى.

وعلى هذا فالخطيب يُخاطِبُ السَّامعين بمقدار ما يَعْلَمُ من رُتْبَةِ انفعالهم بكلامه؛ فتَارةً يتوجَّه إلى ابتداء المطلوب منهم مِنْ غير طَلَبٍ لوسائلِه، ويَكِلُ لهم السَّعْيَ في وسائل تحصيله، وذلك إنْ عَلِم أن لا نُشُوزَ منهم. وتارةً يتطلَّب منهم تحصيلَ الأسبابِ والوسائل إن عَلِمَ منهم نُشُوزًا عن المطلوب لِيَقَعُوا في الأمر المطلوب بعد ذلك على غيرِ تَهَيُّؤٍ إليه، مثال ذلك: لو أراد أن يدعوَ إلى أَمْرٍ فيه صَلاحٌ عامٌّ مثل تكثير سَواد الأمة بالتَّنَاسُل، ويعلمُ من المخاطَبين بعض الإِجْفَال عن ذلك لِمَا يتوقَّعون من متاعب تربية البنينَ والبنات، فيقتضي الحالُ أن يدعوَهم إلى وسيلة ذلك وهو الحَثُّ على التَّزَوُّجِ مُظْهِرًا له في صفةِ السَّعْي لمنفعةٍ شخصيةٍ، مُرَغِّبًا فيه بما يعودُ من حُسْنِ الأُحْدوثَةِ أو بما يحصُل مِنْ أجر عاجل أو آجل.

وكذلك القولُ في حَمْلِ المخالفين على الشيء بالرَّغبة والرَّهبة، فإذا كان الخطيب معتمِدًا على قُوَّة، وعَلِم أنَّ للمخاطَبين من الحِدَّة والعصيان ما يُحبِط سعيَ الخطيب، فعليه أن يتَظاهرَ بقُوَّتِه بَادِئَ الأمر؛ ليَفُلُّ من تلك الحِدَّة، كما فعل الحَجَّاج يوم دخوله الكوفة بعد وقعة دَيْر الجَماجِم.

هذا وقد يجهل المتكلِّمُ في غرضٍ ضمائرَ الناس، ولا يَزِنُ مراتبَ عقولهم، فينبغي له أن يتفطَّن لِمَا يلوحُ عليهم من الانفعال، فيفاتحُهم بما يُثير انفعالَهم مِن أمورٍ صالحة لأغراض مختلفة، حتى يرى أَمْيَالَهم إلى أيَّةِ وِجْهَةٍ تُولِّي، فيعلم من أيِّ طريق يسلك إليها، ولا بد في هذه المُفَاتَحة من جَلْب التَّوْرِيَات والتَّوجيهات ونحوها، مما يمكن تأويلُه ويتيسَّرُ له عند إجفالِهم تحويلُه، حتى لا يَسترسِلَ في موضوعه فيعسُرَ عليه الرُّجوع إلى تعديله، وانظر ما قصَّه الله تعالى في كتابه الحكيم عن مؤمن آل فرعون: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} فوَرَّى في اللَّوْمِ، أي كيف تفعلون هذا بِمَنْ يختارُ لنفسِه ربًّا. {وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} وهذا ارتقاءٌ في الحُجَّةِ. {وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ} وهذا تزهيدٌ لهم في قتلِه، بتقديم احتمال الكذب ليظهر أنه قَصَد الإنصاف. {وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} وهذا تحضيرٌ لنفوسهم إلى تَرَقُّبِ صدق مُعجِزَتِه ووعدِه. {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28)} وهذا تَوْرِيَةٌ أيضًا، أي إنكم تنتظرون ما يتبيَّنُ من أَمْرِه، فإنَّ الله لا يُصدِّقُ الكاذبَ بخارِقِ العادة. {يَاقَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا} [غافر: 29]

وهذا توبيخٌ وتقريعٌ؛ لأنَّه قد أوجب بما تقدَّم انفعالَ نفوسِهم لِقَبوله، أي لا تكونوا سببًا لزوال سُلْطانِكم بالتعرُّضِ لسَخَط الله.

إذ لا شك أن هذا المؤمنَ الصَّالحَ كان يتَرقَّبُ مِنْ قومِه الإجْفَالَ والتَّكَشُّفَ على إيمانِه، فأظهَرَ لهم الكلامَ في مَظهِر المُتَرَدِّدِ الخائف مِنْ حُلُول المصائب به وبقومه، لا المُنتَصِر لموسى – عليه السلام -.

وإنما تظهرُ مَواهِب الخطيب وحِكْمتُه وبلاغتُه في هذا المقام؛ لأنَّ مَنْ تكلَّم عن احتراسٍ وسوءِ ظَنٍّ بسامعيه حَاطَ لِنَفْسِه من الغَلَط؛ لأنَّ شِدَّة الثِّقَةِ بالنَّفْس تُغَطِّي على عَوارِها فلا يَتَّقِيه ربُّها.

ومن هذا أن يتركَ لنفسه بابًا لتَدارُك فائت، كما قال الحريريُّ في المقامة الثانية والعشرين -بعد أن ذكر استرسال أبي زيد السَّروجِيِّ في تفضيل كتابةِ الإنشاء على كتابة الحِسَاب-: “فلما انتهى في الفَصْل، إلى هذا الفَصْل، لَحَظ من لمَحَات القوم أنَّه ازْدَرَع حُبًّا وبُغْضًا، وأرضَى بعضًا وأَحْفَظَ بعضًا، فعَقَّب كلامَه بأن قال: ألا إنَّ صِنَاعة الحساب موضوعةٌ على التَّحقيق، وصناعة الإنشاء مَبنِيَّةٌ على التَّلفيق”. هذا إن كان المتكلِّم مُفَاتِحًا بالكلام، فأما إن كان مُجِيبًا فقد يلاحظ من أصول المُجَادَلة ما يطول بسطُه هنا، وعلى كلِّ حال فعليه أن يَخْتَبِئ للمعترضين من الرُّجُوم، ما يَقِيه وَصْمَة الإرْتَاج عليه أو الوُجُوم.

وأما الأمر الرابع وهو قوَّة البَدَاهَة في استحضار المعاني وسماه أبو هلال في الصناعتين بـ (انتهاز الفرصة) فهي من أهمِّ ما يلزم

الخطيب؛ إذ ليس يخلو من سامعٍ يدافع عن هواه، أو عدوٍّ يترصَّدُ سَقَطات الخطيب ليُري الحاضرين أنه ليس على حقٍّ فيما قال، أو مُجيبٌ يُجيبُ عن تَقْريع الموعظة.

فإن لم يكن الخطيبُ قويَّ البَداهَة أَسْكَتَه المعترِضُ أو المجيبُ، وقد كان عمرُ – رضي الله عنه – مرَّةً يخطُب يوم الجمعة فدخل عثمان – رضي الله عنه – فقال له عمر: “أيَّةُ سَاعةٍ هذه؟ ! ما بالُ أقوامٍ يسمعون الأذان ويتأخرون. فقال عثمان: ما زِدْتُ على أن سمعتُ الأذان فانقلبتُ فتوضَّأت. فقال له عمر: والوضوءَ أيضًا! وقد علمتَ أنَّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كان يأمرُ بالغُسْل”. ويُعين على ذلك تنبُّهُه لِمَا في كلام المجيب من مَجَاري الخَلَل ومواضع النَّقْد.

وأما شروطُ الخطيب في ذاتِه:

فمنها: جَوْدَةُ القَرِيحة، وهي أمرٌ غيرُ مُكتسَب، وقد قال موسى – عليه السلام -: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28)} [طه]، وسيأتي

لذكر اكتسابها كلامٌ في عيوب الخطباء. قال أبو هلال: “مِن الناس مَن إذا خلا بنفسه وأَعْمَل فِكْرَه أتى بالبيان العجيب، واستخرجَ المعنى الرَّائق، وجاء باللفظ الفائق، فإذا حاوَر أو ناظَر قَصَّر وتأخَّر، فخَلِيقٌ بهذا ألا يتعرَّض لارتجال الخُطَب. ومنهم مَن هو بالعكس.

ومنها: أن يكون رابط الجَأْش، أي غير مُضطَرِبٍ في فَهْمِه ولا مندَهِش؛ لأنَّ الحَيْرة والدَّهَشَ يصرِفان الذِّهْنَ عن المعاني فتجيءُ الحُبْسَة ويُرتَج على الخطيب”.

ومنها: أن يكون مرموقًا من السَّامعين بعين الإجلال؛ لِتُمْتَثَلَ أوامرُه، ويحصلُ ذلك بأمور كثيرة:

منها: شَرَفُ المَحْتِد، قال الشاعر:

لَقَدْ ضَجَّتِ الأرْضُونَ إِذْ قَامَ مِنْ بِني بني … سَدُوسٍ خَطِيبٌ فوقَ أَعْوَاد مِنْبَر

وكذلك: حفظ العِرْض؛ بحيث لا تُحفَظ له هَنَةٌ أو زَلَّةٌ، وقد رُوي عن عمر – رضي الله عنه – أنه قال: “احذر من فَلَتاتِ الشَّباب، كُلَّ ما أَوْرَثَكَ النَّبَز وأَعْلَقَك اللَّقَب، فإنه إن يعظُمْ بعدها شَأْنُك يَشتدَّ على ذلك نَدَمُك”. وفي متابعة آداب الإسلام والوقوف عند شرائعه مِلاك ذلك كلِّه.

ومثل ذلك: رَجَاحَة الرأي وقوُّة العِلْم والحكمة، قال أبو واثلة يهجو عبد الملك بن المهلب:

لقد صَبَرَتْ للذُّلِّ أعوادُ مِنْبَرٍ … تقومُ عليها في يديك قَضِيبُ

بكى المِنْبَرُ الغَرْبِيُّ إذ قُمْتَ فوقَه … فكادت مَساميرُ الحديدِ تذوبُ

رأيتُك لمَّا شِبْتَ أَدْرَكَكَ الذي … يُصِيبُ سَرَاةَ الأَزْدِ حين تَشيبُ

سَفاهَةُ أحلامٍ وبُخْلٌ بِنَائلٍ … وفيك لِمَنْ عَابَ المَزُونَ عُيوبُ

فهذه أهمُّ الشروط الذاتية.

ويَعُدُّ علماء الأدب تارةً صفاتٍ أخرى هي بالمحاسن أشبه، مثل سكون البَدَن وقت الكلام؛ لأنه دليلٌ على سكون النَّفْس، ولا يوجد هذا في كل خطيب.

ومثل ما سماه أرسطو بـ (السَّمْت) وهو أن يكون على هيئة مُعْتبَرَةٍ في نفوس الجمهور من لُبْسِه وحَرَكتِه ونحو ذلك، وقد أشار الحريريُّ إلى هذا في المقامة (28) فقال: “برَزَ الخطيبُ في أُهْبَتِه، مُتَهَادِيًا خَلْفَ عُصْبَتِه”. فأشار إلى تصنُّعِه في لباسه ومشيه.

ومثل مناسبة طَبَقَةِ الصَّوْت لموضوع الخطبة وغير ذلك.

وأما شروط الخطيب في نفسه فأهمها:

اعتقادُه أنه على صواب وحقٍّ؛ لأنَّ ذلك يودِع كلامَه تأثيرًا في نفوس السامعين، وأقوى له في الدعوة إليه والدفاع عنه، ويحصُلُ ذلك بالتزامه متابعةَ الحقِّ، وبكونه على نحو ما يطلبُه من الناس. وانظر ما حكاه الله تعالى عن شعيب – عليه السلام -: {قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)} [هود].

ومنها: عِفَّتُه ونزاهتُه.

ومنها: الوَقَار والصَّون عن الابتذال في معاشرة القوم، وعدم الإكثار من الهَزْل والسُّخْف والفُحْش والخِفَّة والطَّيْش.

ومنها: النَّزَاهة عن الطَّمَع في جَرِّ نَفْعٍ من كلامه؛ فإنَّ في ذلك نُفْرَةً عن اتِّعَاظ الناس بقوله، وظِنَّةً في صِدْق دَعْوتِه، وقد قال السَّروجيُّ بعد أن قام خطيبًا:

لَبِسْتُ الخَمِيصَةَ أبغي الخَبيصَهْ … وأَنْشَبْتُ شِصِّيَ في كُلِّ شِيصَهْ

ولقد يجدرُ بنا إذ بَلَغْنَا هذا الموضعَ أن نختِمَه بذِكْر بعض عيوبٍ يكثُر عُروضُها للخُطَباء ليتنبَّه المُطَالِعُ إلى تجنُّبِها.

واعلم أنها تنقسم إلى فطري وإلى مكتسب:

فأما الفِطْريُّ فمنه ما يمكن تجنُّبُه بكثرة الممارسة، نحو: الحُبْسَة عند التكلُّم، فقد كان عمرو بن سعد بن أبي العاص -البليغ الخطيبِ- في أول أمره لا يتكلَّم إلا اعْتَرَتْه حُبْسَةٌ في مَنْطِقِه، فلم يزل يَتَشَادقُ ويُعَالِجُ إخراج الكلام حتى مال شِدْقُه مِنْ كثرة ذلك، ولُقِّب لذلك بـ (الأشدق) فقال فيه الشاعر:

تَشَادَقَ حتى مَالَ بالقَوْلِ شِدْقُهُ … وكلُّ خطيبٍ لا أبا لكَ أَشْدَقُ

وقد اعتقد الناس فيه حين انتقل من الحُبْسَة إلى الفصاحة أن الجِنَّ لطَمَتْهُ على وجهِه ليتعلَّم الفصاحة، وكذلك كان اعتقادهم في الشُّعراء أن الجن تَتَراءى لهم وتُمْلِي عليهم، فقال في ذلك الشاعر:

وعمرٌو لَطِيمُ الجِنِّ وابنُ محمَّدٍ … بأسوأ هذا الرأيِ مُلْتَبِسَان

وسبَّه رجلٌ يومًا فقال له: “يا لَطِيم الشيطان، ويا عاصي الرحمن”.

ومِنْ قَبْلُ حُكِي مثل هذا التدرُّب عن ديموستين خطيبِ اليونان في عهد الإسكندر الأكبر، وقد تقدم ذلك في مقدمة قسم الإنشاء.

ونحو سقوط الأسنان، وكان عبد الملك بن مروان رحمه الله قد شَدَّ أسنانه بالذهب لما كبِرت سِنُّه وقال: “لولا المنابرُ ما باليتُ متى سَقَطَتْ”.

ومن العيب الفِطْري ما لا يمكن تجنُّبُه كبُحَّةِ الصوت، والفَهَاهَةِ، واللُّثْغَةِ ببعض الحروف وضِيق النَّفَس فجديرٌ بصاحبها أن يتجنَّب هذه الصِّنَاعة.

وأما العيب المكتسب فهو أشياء تعرِض للخطباء في أول اشتغالهم بالخطابة من أفعالٍ تصدُر عن غير اختيار، فإن هم غفلوا عن مراقبة أنفسهم لإزالتها صارت لهم عوائدَ سيئةً، وقد نَهى الأدباءُ عن أمورٍ من ذلك، كالتَّنَحْنُح، ومَسْح اللِّحْية في أثناء الخطبة لا عند الشروع -على أنه يُغتفَر منه ما لا يَكثرُ، إذا طال الكلامُ جدًّا- وحكُّ الجِلْد، وفَتْلُ الأصابع، وكثرةُ حَرَكة الأيدي والبَدَن، والتمخُّط، وغيرُه. قال مَنْ ذمَّ خطيبًا:

مليءٌ بِبُهْرٍ والتفاتٍ وسَعْلَةٍ … ومَسْحَةِ عُثْنُونٍ وفَتْلِ الأصابع

من كتاب: أصول الخطابة والإنشاء

بقلم: محمد الطاهر ابن عاشور (1296 – 1393 هـ = 1879 – 1973 م) رئيس المفتين المالكيين بتونس وشيخ جامع الزيتونة وفروعه بتونس.