Posted on Leave a comment

احذر أن يمتزج إيمانك بالظلم

يقول الحق تبارك وتعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} (الأنعام: 82).
ذهبت أغلب الروايات إلى أن المراد بالظلم هنا الشرك، لقرينة الحديث النبوي الشريف عند نزول هذه الآية. ولكن البعض توسّع، ومن ألطف ما ورد، ما ذكره القاضي عياض رحمه الله تعالى “الظلم في كلام العرب: وضع الشيء في غير موضعه، ثم استعمل في كل عسف” ثم يقول ” والأظهر من مفهومه إطلاقه في العسف والتعدي والعدول عن الحق في غير الكفر”.
وكتوجيه تربوي، فإن حياة المؤمن، رغم صدق إيمانه وحرصه، فلا يخلو الأمر من نقصان واضطراب وتعثّر، ويعتري النفس ضعفا أمام الشدائد والصعوبات، وتضطرب الرؤى والتقدير مما يسقطها في ظلم نفسها وظلم غيرها.
وهذه الآية إنما هي تذكير وجرس يرن في آذان المؤمنين: احذروا الظلم. احذروا أن تظلموا أهليكم وأنفسكم وذويكم ومن حولكم!.
فهو يقرع آذاننا ليكون إيماننا خالصا لوجهه الكريم ولا تشوبه شائبة مما يُنقصه ويخدش صورته.
فالتعدي على حقوق الناس ظلم، والحديث في أعراضهم ظلم، وتعطيل قوى الانتاج ظلم، والركون إلى الظلم ظلم، وتشويه القيم ظلم، والتقصير المتعمّد في أداء الأمانة ظلم. فكل ما فيه عسف ظلم.
وكلّما تحرّرت النفس من هذه الالتباسات، كانت أنقى وأجمل وأكثر فاعلية وإنتاجية، والإيمان بطبعه نقي وجميل وقوة فعل وزيادة في الانتاجية. وإذا حاد الإيمان عن ذلك، فما عقلنا الإيمان، وما ذقنا حلاوته، ولا تمتّعنا بفيوضه وأنواره.
فالأمن والهداية نتيجة طبيعية لنقاوة الإيمان وطهره، وهي بين أيدينا ونحن من نصنعها، فكل ترقّي ذاتي وجماعي يجعل من العدل نقيض الظلم هو السائد، نكون قد حقّقنا مقاصد الإيمان وجعلنا من الإيمان وسيلة أمن وهداية، وما عداها فقد انحرفنا بالإيمان وذلك هو الظلم الحقيقي، ونتيجته لا أمن ولا هداية. وتتحول حياتنا إلى ظلم وظلام.

Posted on Leave a comment

كيف كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتعامل مع الأطفال؟

مقدمة

أما بعد، زينة الحياة الدنيا وعدّة الزمان بعد الله هُم شباب الإسلام والناشئون في طاعة ربهم، لا تكاد تعرف لهم نزوة أو يعهد منهم صبوة، يتسابقون في ميادين الصالحات، أولئك لهم الحياة الطيبة في الدنيا والنعيم المقيم في الآخرة، يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله سبحانه. في الحديث: ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله))، وذكر منهم: ((شابًا نشأ في طاعة الله)).

إن العناية بالنشء مسلك الأخيار وطريق الأبرار، ولا تفسد الأمم إلا حين يفسد أجيالها الناشئة، ولا ينال منها الأعداء إلا حين ينالون من شبابها وصغارها

لهذا كان محمد هو القدوة في هذا الباب، فقد راعى الأطفال واهتم بأمرهم. فلم يكن يتضجر ولا يغضب منهم، إن أخطؤوا دلهم من غير تعنيف، وإن أصابوا دعا لهم. وإليكم ـ يا عباد الله ـ نماذج من معاملته للأطفال :

نماذج من معاملة الأطفال في السنة

 روى الإمام أحمد في مسنده أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: كنا نصلي مع النبي العشاء، فإذا سجد رسول الله وثب الحسن والحسين على ظهره، فإذا رفع رأسه أخذهما من خلفه أخذًا رفيقًا ووضعهما على الأرض، فإذا عاد إلى السجود عادا إلى ظهره حتى قضى صلاته، ثم أقعد أحدهما على فخذيه، يقول أبو هريرة: فقمت إليه، فقلت: يا رسول الله، أردهما؟ فبرقت برقة في السماء، فقال لهما: ((الحقا بأمكما))، فمكث ضوؤها حتى دخلا.

روى البخاري/ عن أم خالد رضي الله عنها قالت: أتيت رسول الله مع أبي وأنا صغيرة، وعلي قميص أصفر، فقال رسول الله: ((سنه سنه))، أي: حسن حسن، قالت: فذهبت ألعب بخاتم النبوة على ظهر رسول الله، فزبرني أبي، فقال رسول الله : ((أبلي وأخلِقي، ثم أبلي وأخلقي))، فعمرت أم خالد بعد ذلك.


عباد الله، لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يلاعب الأطفال، ويمشي خلفهم أمام الناس، وكان يقبلهم ويضاحكهم، ويقول أبو هريرة رضي الله عنه: سمعت أذناي هاتان وبصر عيناي هاتان رسول الله أخذ بيديه جميعًا بكفي الحسن أو الحسين، وقدماه على قدم رسول الله، ورسول الله يقول: ((ارقه ارقه))، قال: فرقى الغلام حتى وضع قدميه على صدر رسول الله، ثم قال رسول الله: ((افتح فاك))، ثم قبله، ثم قال: ((اللهم أحبه فإني أحبّه)) رواه البخاري في الأدب المفرد والطبراني في معجمه.


وجاء الأقرع بن حابس إلى رسول الله  فرآه يقبّل الحسن بن علي، فقال الأقرع: أتقبّلون صبيانكم؟! فقال رسول الله: ((نعم))، فقال الأقرع: إن لي عشرةً من الولد ما قبلت واحدًا منهم قط، فقال له رسول الله : ((من لا يرحم لا يرحم)) متفق عليه.


وكان رسول الله يخطب ذات يوم فجاء الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران، فنزل رسول الله من المنبر فحملهما فوضعهما بين يديه، ثم قال: ((صدق الله ورسوله: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ [التغابن:15]، نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان فيعثران، فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما))، ثم أكمل خطبته. رواه أهل السنن.


عباد الله، هذا رسول الله، وهذه معاملته لأطفاله، أترونه يهمل تعليمهم؟! روى البخاري ومسلم أن عمر بن أبي سلمة قال: كنت غلامًا في حجر رسول الله، وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي رسول الله : ((يا غلام، سمِّ الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك)).

ولما أراد الحسين أن يأكل تمرة من تمر الصدقة قال له الرسول : ((كخ كخ، أما علمت أنا لا تحل لنا الصدقة؟!)). وروى البخاري أن النبي كان يعوّذ الحسن والحسين فيقول: ((أعيذكما بكلمات الله التامة من كلّ شيطان وهامة، ومن كل عين لامة))

عباد الله، أن ثمة أمورًا جعلها الله من فِعل الأب وتنفع الابن من بعده، ومن أهمّ هذه الأمور صلاح الوالد في نفسه، فإنه سبب لحفظ الله عز وجل لأبنائه من بعده، يقول الله سبحانه: وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ[الكهف:82]،

يقول ابن عباس رضي الله عنهما: (حفظهما الله بصلاح والدهما ولم يذكر الله للولدين صلاحًا). وإن الله بفضله وكرمه إذا أدخل المؤمنين الجنة يلحِق بالآباء أبناءهم وإن كانوا دونهم في العمل، يقول الله سبحانه: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ [الطور:21]، يقول ابن عباس رضي الله عنهما عند هذه الآية: (إن الله ليرفع ذرية المؤمن في درجته وإن كانوا دونه في العمل كي تقرّ بهم أعينهم).

عباد الله، لا يغلبنّكم الشيطان على باب آخر مفتوح للمؤمنين وهو دعاء الوالد لولده، فقد صحّ عنه من حديث أبي هريرة أنه قال: ((ثلاث دعوات مستجابات لا شكّ فيهن))، وذكر منهن: ((دعوة الوالد لولده)).

دأب الأنبياء

ولقد كان دأب الأنبياء عليهم السلام الدعوة لأبنائهم،

  • يقول إبراهيم: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ [إبراهيم:35]، رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [إبراهيم:40]،
  • وقال هو وولده إسماعيل: رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ [البقرة:128].
  • وقال زكريا: رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ [آل عمران:38].

ألا فاتقوا الله عباد الله، وراقبوه فيما تحت أيديكم وما استرعاكم ، فإنه سائل كل راع عن رعيته . والحمد لله رب العالمين .

Posted on Leave a comment

الإمام الأوروبي: «12» الإمام عارفٌ بزمانه

القرآن الكريم

 يعلّم الناس الاهتمام بزمانهم والانفتاح على الناس، ولذلك نزلت سورة الرّوم المكية( الم ۝ غُلِبَتِ الرُّومُ ۝ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ) [الروم:1- 3[ 

نزلت تُعزّي المسلمين وفيهم نبيهم عليه السلام أنّ إخوانهم من أهل الكتاب(الرّوم) أصيبوا بقرح الغلبة من لدن غير أهل الكتاب، سمع المسلمون بتلك الهزيمة فحزنوا فجاء القرآن يعزّيهم ويسلّيهم ويعدهم أنّ الرّوم المغلوبة ستغلب بعد سنوات قليلات.

أيّ فرق نوعيّ بيننا نحن اليوم؟

و كيف نفكّر وبين الأصحاب؟، أيّ شانئات علقت بنا حتى أضحت مسَلّمات هنّ أمّ الكتاب؟ أيّ علاقة تصل المسلمين المقهورين في مكة بالرّوم الذين يبعدون عنهم آلاف الأميال حتى يحزنوا على هزيمتهم؟ ألسنا أحكم منهم إذ نقول بما لا يجد منّا جميعا -إلاّ قليلا من قليل ممّن رحم الله بمنهاج تفكيريّ إسلاميّ صحيح- إلاّ الارتياح والابتهاج ،اذ نقول:( الكفر ملّة واحدة –  واللهمّ إضرب الظالمين بالظالمين وأخرجنا من بينهم سالمين).

 نزل عليهم ذلك وهم بين فكّي رحى القهر والقمع من لدن قريش وليس وهم آمنون في المدينة، ألا يعني ذلك أنّ المسلم – بل المسلمين كلّهم- مدعوّون إلى الانفتاح تفكيراً واهتماما على الناس من غيرهم بغضّ النّظر عن وضعهم أمنا أو خوفا؟

رحم الله إمرأً عرف زمانه

جاء في أثر صحيح وليس هو حديث نبويّ  (رحم الله إمرأً حفظ لسانه، وعرف زمانه، واستقامت على الله طريقته) هذا المعنى صحيح قطعاً، فهذه القيمة هي التي ثبّتها القرآن الكريم إذ جمع في أكثر من موضع منه بين قيمتي الكتاب أي القرآن الكريم والميزان الذي يسمّيه أحيانا حكمة المسلم ،فما بالك بالإمام المصلح ـ لا يفرّق بين ظالم وظالم إهتماماً.

أمّا الإصلاح والانخراط فيه فذاك ميزان أو حكمة تقدّر بقدرها، إذا كان الإسلام لم يتردّد أن قصّ علينا قصّة بطلتها هرّة أدخلت صاحبتها النّار، وأخرى بطلها كلب أدخل صاحبته الجنّة، وثالثة بطلتها ناقة لعنت فحرّرت، ورابعة بطلتها نملة أحرق نبيّ منها آلافا مؤلفة إذ قرصته واحدة منهنّ فحسب .. 

إذا كان ذلك كذلك فلا شكّ أنّ الإسلام يغذونا بقيمة الرحمة والعدل والإحسان والرّفق غذواً عجيبا دون تمييز بين كائن وكائن إذ قال عليه السلام( في كلّ ذات كبد حرّى أجر) [صحيح البخاري[ 

الإمام عليه أن يعرف زمانه قبل أن يعرف زمان غيره

الإمام عليه أن يعرف زمانه قبل أن يعرف زمان غيره كائناً من كان غيره، إذ أنّ العصمة العظمى للوحي الكريم وهو الذي يحقن الناس بالقيم التي بها يصلحون، ولو شهد زماننا هذا رجالاً نتعلّم منهم وقد ماتوا منذ قرون طويلات لفعلوا مثل ما فعل أحدهم أي الإمام الشافعي الذي إشتهر بمذهبيه : مذهب العراق ومذهب مصر والمسافة بينهما مسيرة أسابيع في تلك الأيام. فكيف إذا كان المسير بيننا وبينهم سنوات ضوئية؟

 أليست قصّة (بيع السّلم) إلاّ مشهداً من مشاهد معرفة الزمان وحسن معالجته؟ إذ جاء عليه السلام إلى المدينة ناهيا عن بيع السّلم (وبيع السلم هو حضور الثمن وغياب المثمون) أي على الضدّ من بيع الأجل فما إن علم بأنّ بيع السلم حاجة للناس انتظمت بها معاملاتهم (والحاجة تنزل منزلة الضرورة) حتى أباحه بالقيود التي ذكرها في الحديث الصحيح. 

ومثل ذلك عقد (الاستصناع) في زمن عليّ عليه الرّضوان، والتضمين على خلاف الأصول،إذ لا مناص للإمام من التمييز بين الأصل المعصوم الحاكم وهو الشريعة وبين الفقه الذي تختلف أحكامه الظنّية وفتاواه من زمان لزمان ومن مكان لمكان.

فعلى الإمام اليوم أن يلتقط بحكمة وذكاء المشكلات التي تطحن الناس بغض النظر عن دينهم طحنا فهي المقدّمة درسا ومعرفة وبحثاً.

 وهو الذي سمّي قديما وحديثا : فقه المحلّ أو فقه المآل أو فقه الواقع،إذ على الإمام أن يدرك المقصد الأعلى الأسنى الأعظم الذي ما تنزلت شريعة الرحمان سبحانه إلاّ لتحققه ولقد أجمع الناس غابرهم وحاضرهم أنّ ذلك ليس سوى نُشدان مصلحة الإنسان من حيث أنه نوع أو جنس، ولا يعني ذلك مداراة أهوائه كما يريد الذي يشغبون على ذلك عندما لا يوافق ذلك أهواءهم.

قائد رحلة الفقه المقاصديّ

الإمام الشاطبيّ عليه الرّحمة إذ أفاض في ذلك بما لم يكد يترك لغيره موضع سمّ خياط فيه هو نفسه القائل أنّ الشريعة إنما جاءت لقمع الأهواء، أظنّ أنّ تحديات زماننا معلومة منا معروفة لفرط استبدادها بنا، ومنها أنّ الناس بعضهم لم يفقه من رسالة الدين إلاّ قليلا لا يكاد يسمن من جوع ولا يغني، وبعضهم أغوته الدنيا ببريقها وبما تجنّد لها من سراب الحضارة الغربية. وبعضهم أختلط الذلّ بعصبه ولحمه وشحمه اختلاطاً عجيبا فأعماه، فهو لا يرى عدا منفعته العاجلة، وللذلّ سلطان لا يقاوم.

 كما حقّق ذلك صاحب  (طبائع الاستبداد) أي الكواكبيّ، غرضي هنا هو أن أذكّر نفسي وإخواني الأئمة أنّ عصرنا أولى بالمعالجة،أما ابتلاع بطون الكتب وما روت من تحديات تصدّى لها رجال ذلك الزمان فهو حفظ، والإمام مدعوّ إلى العلم ثمّ إلى الفقه والإصلاح وليترك الحفظ لأهله.

 من تلك التحديات العظمى التي تأتي اليوم على كثير من الأخضر واليابس مشكلات الأسرة، ولا شكّ أنه ما من إمام من أئمة أروبا إلاّ وقد عرضت عليه قضايا طلاق وخلافات مرّات ومرّات،(رحم الله إمرأً عرف زمانه ثمّ إستقامت على الله طريقته) والله أعلم

Posted on Leave a comment

مالك بن نبي منظر النهوض الحضاري

‎ للكاتب كمال العياشي

عضو إدارة الاتحاد المنظمات الإسلامية في إيطاليا

مولده و نشأته:

ولد المفكر الإسلامي مالك بن نبي بمدينة (تبسة) التابعة آنذاك لمحافظة (قسنطينة) شمال شرق الجزائر في شهر يناير من سنة 1905 لأسرة متواضعة الحال، حيث كان والده عمر يشغل وظيفة بسيطة في إحدى إدارات مدينة (تبسة) بينما كانت والدته زهيرة ربة بيت تعمل في الحياكة ولكن الأسرة كانت عميقة التدين، عزيزة النفس.

ولقد كان لأحاديث جدته عن جرائم الاستعمار الفرنسي بحق الشعب الجزائري وأهمية الاعتزاز بعقيدة التوحيد ودين الإسلام ناهيك عن غرس حب اللغة العربية في نفسه الأثر البالغ في تشكيل وعيه وشخصيته.

كما كانت صلة عائلته بالحركات الإصلاحية والطرق الصوفية آنذاك دافعاً له للاهتمام بقضايا الإصلاح والتجديد والنهضة الحضارية.

ثم كان حرص والدته على تعليمه القرآن الكريم – حتى أنها رهنت سريرها ذات مرة لدفع أجرة معلمه- سبباً إضافيا عمق في مالك بن نبي حب القرآن وحمل راية الدفاع عنه ضد المستشرقين فكان كتابه الرائع الظاهرة القرآنية.

وجمع مالك بن نبي بين الدراسة في الكتاب و المدارس الفرنسية بالجزائر، ثم تخرج من معهد سيدي الجليس الإسلامي ليواصل دراسته العليا بفرنسا لاحقاً.

وقد تلازمت هذه الثنائية الثقافية بين الحضارتين الإسلامية والغربية في التكوين الفكري لمالك، وكانت لها انعكاساتها الواضحة في كتاباته بعد ذلك حيث تميز بالموازنة بين المصدرين، بين الانتماء لحضارة الإسلام والرغبة في النهضة والتطور.

وكان لمالك شغف كبير بالقراءة حيث كان شديد الحرص على تطوير معارفه بشكل لا يضاهى، وصارت المطالعة من أهم مصادر المعرفة لديه.

الرحلة إلى باريس

سافر مالك إلى باريس للمرة الأولى وهو ابن العشرين، ثم عاد إلى الجزائر بعدما عانى البطالة هناك ثم قرر أن يعود مجدداً إلى فرنسا ليواصل دراسته فوصل إلى باريس في جمادى/سبتمبر 1930.

وكان لتلك الفترة الأثر البالغ على فكره و شخصيته، فقد عاش تطورات مختلفة من التجارب كان قوامها المشترك التحصيل العلمي المتعدد المجالات مع بعض الإسهامات في أنشطة علمية وثقافية.

ورغم حرصه على دراسة الحقوق إلا أن طلبه رفض في الالتحاق بمعهد الدراسات الشرقية، فاتجه إلى الدراسة العلمية فتعلم منها الضبط و المنهج التجريبي الاستقرائي في التفكير.

وخاض مالك في باريس نقاشات متعددة في العقائد مع المسيحيين، و تزوج عام 1931 من امرأة فرنسية اسلمت على يديه.

وساهمت زوجته في تنمية ذوقه وحسه الجمالي، وتمكن من توسيع دائرة علاقاته الفكرية والثقافية في باريس، فكانت له فرصة اللقاء بشكيب أرسلان وغاندي.

كما كان له حضور متميز في أوساط المغاربة، والجزائريين حتى لقب بزعيم الوحدة المغاربية، كما استطاع أن يقيم جزيلاً من التواصل و التعارف مع أبناء المستعمرات الأخرى

وتخرج مالك بن نبي سنة 1935 مهندساً في الالكترونيات فعاد إلى الجزائر و إذا به يفاجئ بأن المستعمر الفرنسي حول حقول القمح إلى زراعة الكروم لإنتاج الخمور للفرنسيين، وتعجب من بلاده كيف يروى فيها سكارى فرنسا ويحرم فيها الشعب الجزائري من رغيف الخبز.

فما كان منه إلا أن عاد إلى فرنسا ليتفرغ للعمل الفكري، فعمل صحفياً بجريدة لوموند، وأصدر أول كتبه وهو “الظاهرة القرآنية”، ثم توالت كتبه في باريس فكان كتاب “شروط النهضة” سنة 1949، وكتاب “وجهة العالم الإسلامي” الذي عرض فيه مفهوم قابلية الاستعمار، ثم كتاب “لبيك” وكتاب ” الفكرة الافريقية الاسيوية”

الرحلة إلى القاهرة

وكان السفر إلى القاهرة أملاً يراود مالك بن نبي، إذ كانت مصر يومها تحتضن قضايا التحرر والعروبة، ورأى فيها إحدى مناطق الإشعاع الثقافي ومواقع التغيير الهامة في العالم الإسلامي.

وامتدت حياته بالقاهرة من سنة 1956 حتى سنة 1963 نما فيها عطاؤه الفكري في أكثر من اتجاه، واستطاع إتقان اللغة العربية، وحاضر في عديد من الجامعات و المعاهد.

وأصبح بيته أشبه بمنتدى فكري يرتاده العديد من المثقفين وأُصدر له أول كتاب باللغة العربية، وهو “الصراع الفكري في البلاد المستعمرة”.

ثم “تأملات في المجتمع العربي” و كتاب “ميلاد مجتمع” و ” حديث البناء الجديد” إلى أن تم تعيينه مستشارا للمؤتمر الإسلامي بالقاهرة .

وبالقاهرة ترجم له د. عبد الصبور شاهين عدداً من أهم كتبه ترجمة بديعة، فاشتهر ذكر مالك، وتعرف عليه الأكابر بمصر والشام، كما بنى مالك صلة بالرئيس جمال عبد الناصر، وخصصت له القيادة المصرية راتباً شهرياً مكنه من التفرغ للكتابة والمحاضرات خلال سبع سنين.

وأثناء إقامته بالعاصمة المصرية اندلعت الثورة التحريرية المجيدة بالجزائر فجرد مالك قلمه لها وكتب الكثير عنها، معرفاً بمبادئها وأهدافها وفاضحا جرائم المستعمر الفرنسي الذي أحرق الأخضر واليابس وعمل على اقتلاع الشعب الجزائري من جذوره الثقافية و الحضارية.

عودته إلى الجزائر

وبعد الاستقلال عام 1963 عاد مالك إلى الجزائر وتقلد العديد من المناصب الأكاديمية والمسؤوليات الإدارية، منها منصب مستشار للتعليم العالي، ثم مديراً لجامعة الجزائر، ثم مديراً للتعليم العالي.

وكان من بين نشاطاته الهامة بالجزائر ندوته الأسبوعية التي كان يعقدها في بيته وكانت قبلة الشباب المثقف.

ومع استمرار هذه الندوات و نجاحها، وتكريماً لشخصية مالك بن نبي حولتها الدولة الجزائرية إلى ملتقى للفكر الإسلامي يعقد سنوياً، ويحضره نخبة من العلماء ورموز كبيرة في الفكر والثقافة والعلوم الشرعية والانسانية.

وفي سنة 1967 فضل الاستقالة من العمل الوظيفي والتفرغ للعمل الفكري، وكانت آخر محاضرة ألقاها عام 1972 بسوريا تحت عنوان “دور المسلم و رسالته في الثلث الأخير من القرن العشرين”

ويعتبر الكثيرون أن هذه المحاضرة كانت بمثابة وصيته للعالم الإسلامي قبل وفاته في ال 31 أكتوبر 1973 عن عمر يناهز الثمانية والستين سنة.

إلى أن وافته المنية يوم 31 أكتوبر.