لماذا تغير معي؟! لماذا يعاملني هكذا؟! سؤال مُلِحٌ في دنيا العلاقات

دكتور أحمد طه

دكتور أحمد طه

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ﷺ وبعد:

فإن مواقع الناس في قلوبنا متفاوتة، وتقاربهم من حركة حياتنا متباين، فليس الجميع على درجة واحدة لعلل كثيرة وأسباب متعددة، سأذكرها لاحقا، فهناك في المقدمة الأبوين، والزوجة والأولاد والإخوة والأخوات … حتى الإخوة في الله، والأصدقاء، والأحباب، كل له موقعه في القلب، ومكانته من التعهد، وقد صرح القرآن الكريم في بعض آياته لهذا التفاوت المترتب عليه أولويات المصاحبة والمعاملة والإحسان والبر مع هؤلاء الناس تقديما وتأخيرا قال تعالى: “واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم … الآية” 

وهو إجابة النبي التي برزت للسائل الذي سأله عن مثل هذا الأمر، في ترتيب الأولويات في البر والمعاملة؟ كما عند مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ الصُّحْبَةِ؟ قَالَ: «أُمُّكَ، ثُمَّ أُمُّكَ، ثُمَّ أُمُّكَ، ثُمَّ أَبُوكَ، ثُمَّ أَدْنَاكَ أَدْنَاكَ» وعند أحمد عَنْ أَبِي رِمْثَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ” يَدُ الْمُعْطِي الْعُلْيَا، أُمَّكَ وَأَبَاكَ، وَأُخْتَكَ وَأَخَاكَ، ثُمَّ أَدْنَاكَ أَدْنَاكَ” أي: قدم الأقرب على قدر قرابته منك.

وهذا الأمر بين القريب والغريب – تقديما للقريب – في الغالب له أسباب متعددة تكمن في: (درجة القرابة – وطول الملازمة – والالتزام بالأمر الإلهي– وتماسك لحمة النسب – ووجود موقع المسئولية – وحسن العشرة – وشدة الحب والتعلق-  والمعايشة شبه الدائمة للمواقف والأحداث – والخوف الحقيقي عليك – والاهتمام الكامل بك – والدعاء المعلن والخفي لك… وغير ذلك)  ويمكن ان يكون جواب النبي لعمرو بن العاص من هذا المنطلق كما جاء في السنن الكبرى عن أبى عثمانَ أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بَعَثَ عمرَو بنَ العاصِ على جَيشِ ذاتِ السَّلاسِلِ قال: فأتَيتُه فقُلتُ: أىُّ النّاسِ أحبُّ إلَيكَ؟ وفِى حَديثِ يَحيَى: فقُلتُ: يا رسولَ اللهِ، مَن أحَبُّ النّاس إلَيكَ؟ قال: “عائشَةُ”. قُلتُ: مِنَ الرِّجالِ؟ قال: “أبوها”. قُلتُ: ثُمَّ مَن؟ قال: ثُمَّ عُمَرُ”. فعَدَّ رِجالًا… الحديث”

لكن تبقى قضية التفاوت في مواقع القلب بين غير الأهل من علماء وخلان وأحباب لها عند كل فرد تقديم وتأخير على حسب الأشخاص والسلوكيات والمواقف، وأسباب ذلك أيضا كثيرة من ذلك: ” الحب الصادق – التعلم النافع – المواقف المؤثرة – التعهد الدائم – النصح المخلص – درجة الخوف عليك – رؤية النفس فيه تصحيحا وتبسطها معه – لين الجانب – حسن الخلق- تقارب الفكر – الإلف النابع من أسباب متعددة … وغير ذلك كثير” 

ولا يخفى علينا أن هذا التقسيم ليس بالضرورة أن يأتي على هذه الصورة دائما، فقد يتفوق الغريب على القريب ويقدم عليه بسبب تفاوت في الحب، وأسباب في المعاملة، وإقبال منه، وترك من القريب لدور منوط به، وانشغال طويل الأمد بنفسه عن تعهده وبره بأهله.  

ولذلك فالناس معنا قائمون وعابرون على أسس مر ذكرها، والعابرون في حياتنا لهم منا الدعاء، والذكرى الحسنة، والجلسة العابرة، والتعهد الخفيف …، أما القائمون معنا: فالأمر مختلف معهم، والقلب منهم والجوارح في تفقد مستمر، وتحسس دائم لجذوة الحب، وحرارة المشاعر، وتدفق المعاملة الحسنة، واطمئنان ثبات الموقع القلبي لنا منهم ومنهم فينا.

ولذلك تأتي دائما هذه الأسئلة التي تترتب عن خلل في أي من هذه الثوابت، أو تخف معها شعلة المشاعر، أو تتغير في المواقف ردّات الأفعال من المقربين عندنا، القائمين على أرض محبتنا، وخاصة عند عدم معرفة الأسباب إذ قد يحدث هذا ويكون السبب أنت سواء كنت تعلم أو لا.

قد سأل المغيرة بن شعبة رضي الله عنه نفسه هذا السؤال لما  وجد ردة فعل المصطفى متغايرة معه، فعند أحمد عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ، أَكَلَ طَعَامًا، ثُمَّ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فَقَامَ، وَقَدْ كَانَ تَوَضَّأَ قَبْلَ ذَلِكَ، فَأَتَيْتُهُ بِمَاءٍ لِيَتَوَضَّأَ مِنْهُ، فَانْتَهَرَنِي وَقَالَ:  “وَرَاءَكَ”، فَسَاءَنِي وَاللهِ ذَلِكَ، ثُمَّ صَلَّى، فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إِلَى عُمَرَ، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ إِنَّ الْمُغِيرَةَ قَدْ شَقَّ عَلَيْهِ انْتِهَارُكَ إِيَّاهُ، وَخَشِيَ أَنْ يَكُونَ فِي نَفْسِكَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: “لَيْسَ عَلَيْهِ فِي نَفْسِي شَيْءٌ إِلَّا خَيْرٌ، وَلَكِنْ أَتَانِي بِمَاءٍ لِأَتَوَضَّأَ، وَإِنَّمَا أَكَلْتُ طَعَامًا وَلَوْ فَعَلْتُ فَعَلَ ذَلِكَ النَّاسُ بَعْدِي” حسن

ولنا في هذا الحديث دلالات وأجوبة على سؤال المقال:

– سؤالك هذا الداخلي النابع من إحساسك بجفوة أو تغيير من محبك في معاملة؛ هو دلالة القلب النابض المحب الذي يهتم بمحبوبه ومن له موقع في قلبه، وهو في حد ذاته دليل على جميل فطرتك، وجذوة حبك، ووهج مشاعر قلبك التي لا تستطيع أن تعيش مستقرا بغيرها، أو تسعد ببعدها وفتورها، أو يتساوى الأمران عندك معها…”فَسَاءَنِي وَاللهِ ذَلِكَ”

– لا تكتم هذا الإحساس ولا تجعله حبيس قلبك فتتألم معه مرتين، أفصح عنه، تحسسه، ابحث عن سببه، تشاور من أجله، المهم لا تكتمه فلربما أقعدك شعور خاطئ أو استغلك شيطان مارق تَحَيّنَ فرصة التغيير هذه فقواها، أو نقطة الكدر العابرة في بحر محبتك فمزجها وأجراها، تكلم كما تكلم المغيرة رضي الله عنه  “فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إِلَى عُمَرَ رضي الله عنه”

-المعالجة السريعة للأمر باب عظيم في عودة الأجواء، واعتدال المناخ بينكما، فلو كان شيء يتطلب معالجة عولج، وإلا فاطمئنان واستمرار، أو إبراء لحرارة القلب، وتيأس للشيطان.

– اعلم أنه قد يكون التغير الحاصل من محبك من تغيرك انت لخطاء معه، أو نتيجة لبعدك عنه، وأثرا لتباعد خطواتك عن مسيره، ومن رتابتك في المعاملة لملل أصاب قلبك، أو تأخر من سابق العهد منك من محبة وخوف وتعهد، أو سوء ظن لحق بك منه، أو وقيعة ووشاية سيقت من مبغض وحاسد فعكرت الصفائية القلبية منك تجاهه،… أو غير ذلك، وفي هذه الحالة عودة الأمور تكمن عندك وتجيب تساؤلك، فاتهم نفسك أولا

– معرفة الطرف الآخر بشعورك هذا مهم في جميع الأحوال، فمن خلاله يعرف قلبك تجاهه، ومحبتك له، وكدرك في شعور نما إليك من أجله، وحيرة باتت معك لا تقلع عنك بسببه، كلها عوامل تجلي جميل الحب وصفاء الود وتنبه الأخر بقوة الحب وكما أمر النبي بإعلام الحب فهو أيضا على مقياسه مهم في تحسس التغير إن وجد، جاء عند أحمد عن أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ مَرَّ رَجُلٌ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي لَأُحِبُّ هَذَا الرَّجُلَ. قَالَ: ” هَلْ أَعْلَمْتَهُ ذَلِكَ؟ “، قَالَ: لَا. قَالَ: ” قُمْ فَأَعْلِمْهُ “. قَالَ: فَقَامَ إِلَيْهِ فَقَالَ: يَا هَذَا، وَاللهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ فِي اللهِ. قَالَ: أَحَبَّكَ الَّذِي أَحْبَبْتَنِي لَهُ” صحيح

– لا تجعل المواقف العابرة ولا متغيرات الأحوال الطارئة سببا في تعميم حكم، أو تفشي شعور سلبي، فهذا أمر يحدث، وقلم أجري على أفعال الإنسان، فبه يُعذر. 

– أهمية اختيار المستشار المؤتمن والرسول الناصح بينكما في اطلاعه وتدخله، لتقارب المسافات، وعودة العلاقات، وانسجام المزاج، وهذا فقط في حالة رأيت فيها أهمية الواسطة، وإلا فالمباشرة مع طيب الكلمة واختيار الوقت يكفي لعودة الحب.

– لا تستغل ضعف محبك لك إذا وصل إليك عنه هذا الشعور نحوك، ولا تتاجر به، ولا تسوف ردة فعلك وبيان أمر قلبك فقد يضرك هذا ويضره، بإيغار صدر، أو اعتزاز نفس، أو إيثار بُعْدٍ، فتأمل .

– تفاعل مع المحب تفاعلا تجلي فيه الأمر، وتبين فيه السبب، وتؤكد من خلاله بقاء عقدة الحب وميثاق المحبة، فالسكوت مضر، والإجابة المختصرة محيرة” لَيْسَ عَلَيْهِ فِي نَفْسِي شَيْءٌ إِلَّا خَيْرٌ”.

وختاما أقول: إن بيننا نعماً لا يعرف قدرها إلا من خبرها، أو للأسف افتقدها، ومن أهمها هذا القلب الذي يتودد إليك، الذي تهمه وتشغل تفكيره وتحوذ تعهده، نعمة قلت في أرض المحبين لما تعكر من صفو العلاقات وبناءها على المصالح والملذات. فحافظ عليها وتمسك به.

تحياتي:

د. أحمد طه