الصوم والأمن والسلم المجتمعي

دكتور أحمد طه

دكتور أحمد طه

أخرج البخاري ومسلم واللفظ له عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ رِوَايَةً، قَالَ: ” إِذَا أَصْبَحَ أَحَدُكُمْ يَوْمًا صَائِمًا، فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَجْهَلْ، فَإِنِ امْرُؤٌ شَاتَمَهُ أَوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ، إِنِّي صَائِمٌ “

وفي رواية: “وَإِنْ شَتَمَهُ إِنْسَانٌ فَلَا يُكَلِّمْهُ” وَلِابْنِ خُزَيْمَةَ أيضا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: “فَإِنْ سَابَّكَ أَحَدٌ فَقُلْ إِنِّي صَائِمٌ وَإِنْ كُنْتَ قَائِمًا فاجلس” وعند التِّرْمِذِيّ: “فَإِنْ جَهِلَ عَلَى أَحَدِكُمْ جَاهِلٌ وَهُوَ صَائِمٌ”.

لغة الحديث: 

الرَّفَثِ: بِفَتْحِ الْفَاءِ وكسرها قال النووي: وَهُوَ السُّخْفُ وَفَاحِشُ الْكَلَامِ.

وَالْجَهْلُ: قَرِيبٌ مِنَ الرَّفَثِ وَهُوَ خِلَافُ الْحِكْمَةِ وَخِلَافُ الصَّوَابِ مِنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ.

المعنى العام للحديث:

يرشدنا هذا الحديث الرائع المتكلم عن الصائم وما يتعلق بضوابط صومه وكيفية أدائه على الوجه الأتم، كيف أن الصوم ليس عبادة مجردة آلية تتعلق بالله تعالى فقط؛ بل إن له قيما وأخلاقا تفرزها هذه العبادة تتعلق بالمسلم في معاملاته بين أهله وبين إخوانه، إن هذا الحديث القليل المباني العظيم المعاني ليدلنا على أمر مهم ينطلق من ربط العبادات بالقيم والأخلاق نشأة واستمرارا ليدهشنا في فهم مقاصد العبادات وإدراك جمال فرضيتها، ما يدفعنا لحب ديننا ولحمد ربنا وشكره أن أكرمنا بمثل هذا العبادات قربة له وارتقاء بإنسانيتنا، ولينقل المسلم من دائرة المادة في تقديم العبادة وأدائها إلى تفعيل روحانياتها وتحقيق أجوائها وكيفية معايشتها، التي توضح جمال الفرض وقوة الركن.

الأمن والسلم في القرآن الكريم:

قد تنوع عرض القرآن الكريم لقضية الأمن والسلم المجتمعي بكثير من الآيات المباشرة في بيانها والدالة على ذلك بمضمونها، وهذا التنوع منه ما يتعلق بالمكان ومنه ما يتعلق بالعباد على اختلاف مشاربهم وعقيدتهم، ومنه ما يتعلق بالعبادات من هذا قوله تعالى

(رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا بَلَدًا آمِنًا)، (ادْخُلُوا مِصْرَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ).

والآيات في هذا الشأن كثيرة وعظيمة وتعددها يؤكد هذه القضية فالأمن رفيق في كل شيء في تعاليم الإسلام مناديا به مكانا وعبادة ومعاملة وعبادا، وليأتي أيضا الصوم يؤسس جزءا من منظومة الأمن والسلم المجتمعي ربطا للعبادات والأركان الدينية بالقيم المجتمعية.

العبادات والأمن المجتمعي:

جاءت الشريعة الإسلامية في أركانها وفرائضها لربط العبادات جميعها بالأخلاق وفي الصدارة منها هذه الرؤية التي تحدث عنها حديث الصوم.

فالعقيدة: وهي الركن الأول المتمثل في الشهادتين في ثناياها وفهمها اعلان لحالة المعتقد المسلم بأنه يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وهذا لا يخرج معلنها من دائرة الاتباع إلى دائرة الاعتداء أبدا كما يقول البعض أو يظن بل إن من تمام المعتقد تقديم سوق الأمن مع الشهادة لمن خالف ما لم يكن منه اعتداء أو بغي والأدلة على هذه كثيرة في كتاب الله سبحانه وتعالى منها قوله تعالى: وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ۚ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ۚ وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ۚ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (الكهف: ٢٩).

وقوله تعالى: فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ ۗ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ ۚ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا ۖ وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ ۗ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِﱠ (آل عمران: ٢٠)، وقوله تعالى:  قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ ۚ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﱠ (آل عمران: ٦٤)

 وقوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ (107) قُلْ إِنَّمَا يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ (108فَإِن تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنتُكُمْ عَلَىٰ سَوَاءٍ ۖ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ (109) (الأنبياء: ١٠٧ – ١٠٩).

فجميع الآيات تؤكد أهمية توافر الأمن وتحقيقه من خلال المعتقد الركن الأول من الإسلام.

الصلاة: فقد جاءت في أركانها الأساسية “التسليم” وهو دلالة نشر السلام من المصلي وإعلانه لمن يراه ويسمعه أن صلاته التي هي علاقة بين العبد وربه تدفعه أيضا إلى نشر السلام تذكيرا لنفسه وتأمينا للمقبل عليه كما أن الله تعالى أكد على مقاصدها فهي ناهية عن الفحشاء والمنكر ومعينة على الصبر الذي يصيب المسلم وكل ذلك من تأكيد الأمن وعدم خروج مؤديها عن إطارها الأخلاقي والقيمي، قال تعالى يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ ۖ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) (لقمان: ١٧ – ١٨)، وقوله تعالى: اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ۖ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ۗ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (العنكبوت: ٤٥).

الزكاة: فقد جاءت الزكاة تؤكد من مقاصدها نشرا للأمن والسلم المجتمعي بل إن إخراجها وتوزيعها في أصنافها يوقف كثيرا من جرائم المال والسرقات والغصب، كما أنها تنقض كل مرض قلبي دافع إلى تكدير هذا السلم المجتمعي من تحاسد وبغضاء وحقد وكبر، وغير ذلك مما يعد من أولويات تحقيق السلامة والأمن المجتمعي، فالحقوق إذا أوديت على وجهها فستقل معها معدلات الجريمة والطبقية المهيجة على تكدير هذا الأمن وإضعافه ولذلك جعل الله تعالى أخذ الزكاة وتأديتها منوطا بهذا الأمر حيث قال سبحانه

الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى ۙ لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (البقرة: ٢٦٢)، وقال تعالى: الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (آل عمران: ١٣٤)، وقال تعالى: أُولَٰئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (54) وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55) (القصص: ٥٤ – ٥٥).

والحج: أيضا من شرائط اداه ضبط النفس وسوق الأمن والسلم المجتمعي بل يجتمع مع الصوم في نفس التوجيه الرباني والنبوي لا رفث ولا فسوق، كما أن الحج يدفع الجدل الذي هو أول مظان هذا التكدير ودافع كبير من دوافع الكراهية وعدم الأمن، وكل هذا تأكيدا على أن جميع العبادات دعت إلى هذا المن والسلم مع المجتمع، قال تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ۚ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ۗ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ۗ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ ۚ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (البقرة: ١٩٧)

وكل ما سبق يؤكد القضية التي دعا إليها الحديث والتي ينبغي أن تكون جزء من تكوين شخصية المسلم في أي زمان ومكان يذهب إليه أو يوجد فيه.

دلائل الأمن والسلم هذا في الحديث:

  • في الحديث بيان لأهمية الصيام في تهذيب الأخلاق وتوطين القيم.
  • في الحديث تأكيد على ان العبادة الروحية والبدنية من أهم مقاصدها إرساء الأمن والسلم بين الناس في المجتمعات.
  • والحديث أيضا تأكيد أهمية مراعاة أجواء العبادات التي تخرجها في أفضل أداء من العبد لمولاه.
  • وفيه التأكيد على ان الصوم ليس فقط صوما للجوارح عن شهوات البطن والفرج، بل صوم جميع الأركان عن كل ما يضيع جمال فطرتها وتعاليم ربها وخالقها، وهو تأكيد عن صوم النفس عن الدنيا وتقييد دخولها فيما يفسد مزاجها ويضيع جمالها.  
  • التأكيد على طبيعة المجتمعات وأن فيها الصالح والطالح المسالم والمعتدي ومع ذلك فالصوم دافع لتقليل ذلك أفرادا وسلوكا.
  • فيه تعميق الفهم بلفت الانتباه إلى عدم تضييع العبادة بما يدخل عليها من نزغات الشيطان والإنسان، فيخسر المسلم من ثوابها ويفقد من جمال تعايشها وثمراتها.
  • الحديث قاعدة أساسية في كيفية ضبط السلوك وتقليل التنازع والصوم من أساسيات ذلك.
  • في الحديث إعلان المرء بصومه تعريفا وردءا مما يساعد في نشر العبادة والدخول في تفعيلها وكذلك يساعد في إعادة القيم والأخلاق وتخفيف حدة الاعتداء قال النووي: “وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهُ فَقِيلَ يَقُولُهُ بِلِسَانِهِ جَهْرًا يَسْمَعُهُ الشَّاتِمُ وَالْمُقَاتِلُ فَيَنْزَجِرَ غَالِبًا وَقِيلَ لَا يَقُولُهُ بِلِسَانِهِ بَلْ يُحَدِّثُ بِهِ نَفْسَهُ لِيَمْنَعَهَا مِنْ مُشَاتَمَتِهِ وَمُقَاتَلَتِهِ وَمُقَابَلَتِهِ وَيَحْرِصُ صَوْمَهُ عَنِ الْمُكَدِّرَاتِ وَلَوْ جَمَعَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ كَانَ حَسَنًا” (شرح مسلم للنووي 8/ 29).
  • وفيه أيضا من قواعد إرساء الأمن عدم معاملة المسيء بنفس معاملته من باب قوله تعالى : ” واعرض عن الجاهلين ” قال ابن حجر: ” فَالْمُرَادُ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَا يُعَامِلُهُ بِمِثْلِ عَمَلِهِ بَلْ يَقْتَصِرُ عَلَى قَوْلِهِ إِنِّي صَائِمٌ ” فتح الباري 4/ 105.
  • وفي الحديث تذكير الإنسان نفسه بعبادته بمخاطبة نفسه دفعا للذنوب قد يقبل عليها أو تمزيق جهد في تحصيل طاعة من الطاعات، مما يعينه على استكمال عبادته والوصول لغايته.
  • وفي الحديث أن إرساء الأمن والسلم المجتمعي يبدأ منك أنت بعدم الرد والتذكير بالأجر وإمرار الموقف.
  • في الحديث أن إرساء الأمن والسلم المجتمعي يبدأ من حفظ اللسان فلا وجود لفحش الكلام ولا لغلظ القول المفضي إلى ما هو أكثر منه.
  • –         وفيه إن الصوم مدعاة إلى التعقل ومورث للحكمة وإصابة القول والعقل.
  • وفي إحدى روايات الحديث “وَإِنْ كُنْتَ قَائِمًا فاجلس” دعوة لتغيير الهيئة دفعا للغضب وجمعا لأسباب ضبط النفس لعدم خسران الصوم.
  • وأخيرا هذا الحديث في نافلة الصوم فكيف بفريضته بل إن هذا أدعى وتأكيده الحضوري موجود في أيام رمضان.

ما يتعلق بالواقع الأوربي: الحديث من هذه الزاوية يؤكد ويرسخ ثلاث نقاط مهمة.

  • التعريف بالصوم من هذه الناحية التي جاءت بها الشريعة وأكدها حديث رسول الله ﷺ وخاصة للآخر الذي لا يفقه من معاني الصوم إلا الشدة – في وجهة نظره – بالامتناع عن الطعام والشراب وشهوة الفرج.
  • التأكيد على تفعيل هذا الحديث في جميع مناحي الحياة في شهر رمضان في العمل والجوار والشارع والمواصلات العامة والتعامل اليومي الذي يؤكد التزام الصائم بتعاليم دينه ونبيه ﷺ.
  • الكلام مع أبناء الوجود الإسلامي في الغرب عن الصوم من هذه الناحية تحبيبا وتعريفا

تحياتي

الدكتور: أحمد طه