.. أمّا بعد،،
فقد قال تعالى في محكم التنزيل .. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ سورة الجمعة 9
فقد رُفِع الأذانُ في مسجدنا .. وارتقيتُ مِنْبَرَه .. وهممتُ بإلقاءِ الخُطبة .. وأجِدُ المصاحِفَ الشريفةَ متاحةً للمصلِّين .. الذين يجتمعون اليوم في صلاةِ الجمعة في أمانٍ واطمئنان .. سائلاً اللهَ تعالى أن يتقبّلها منّا جميعاً ..
إنّ هذا المشهدَ الوقور .. الذي ينتظره الواحدُ منّا أسبوعاً بعد أسبوع .. ما عاد مُتاحاً هنالكم .. في تلكم البقعةِ من الأرض .. التي دمّر الغزاةُ مساجدها .. وأطاحوا بمآذنها .. وفجّروا قِبابَها .. إنها قطاعُ غزة .. التي حرمها المحتلّون من المساجدِ ومن إقامة الصلاة الجامعة .. منذ خمسِ عشرة جمعةٍ خلت ..
شنّ جيشُ الإبادةِ حربه على بيوتٍ أذِن الله أن تُرفَع ويُذكَر فيها اسمه .. فدمّر مساجدَ قطاع غزة عن آخرِها إلاّ قليلا .. واتّخذ من بعضها حصوناً للحرب والإغارة على الأهالي .. وأحال آلافاً مؤلّفةً من المصاحِفِ الشريفة إلى أوراقٍ ممزّقةٍ محترقة .. بين الأنقاض والأشلاء .. ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله!.
ومن شواهِدِ الحربِ الشعواءِ على المساجدِ والمصاحِفِ .. أن يُقتَل إخوانُنا العلماءُ والأئمةُ والخُطباءُ والمؤذِّنون ومحفّظو القرآن الكريم .. ومنهم قاماتٌ معروفة في مراتبِ العِلمِ والفضلِ والعمَل .. قُصِفوا وأبيدت أُسَرُهُم معهم عن آخرِها .. وإن سألتَ في غزةَ اليوم عن إمامِ مسجدٍ أو خطيبِ منبر .. أجابوكَ بأنّه ارتقى مَع مَن ارتقوا .. وتقدّم المصلِّين في قافلةِ التضحيات .. التي نشاهدُها جميعاً يوماً بيوم وساعةً بساعة .. عبر البثّ المباشر.
ثمّ إنّ هذه الحربَ التي تحرقُ المصاحفَ وتمزِّقها .. لا تتوانَى عن إبادة حُفّاظِ كتابِ الله تعالى وإيقاع القتل والإصابة بهم .. فهي غزة .. أرضُ الحفّاظ .. الذين يحملون كتابَ الله تعالى في صدورهم وقلوبهم ..
لا يُرفَع الأذانُ في أرجاءٍ واسعةٍ من قطاع غزة .. منذ أكثر من مائة يوم .. فلا مآذنُ ولا قِبابٌ ولا منابِر.. أبقاها أولئكم المعتدون على البشرِ والحجرِ والشجر .. على أنّهم إذ فعلوا فَعْلَتهم الشنعاءَ هذه ولا زالوا يفعلون .. عجزوا عن المساسِ بإيمانِ القوْم الصابرين المحتسبين .. ولم ينجحوا في تقويضِ مكانةِ المسجدِ ودوره في مجتمعهم .. فقد تتهاوى جدرانُ المساجدِ حقّاً كما نشهد .. دون أن تتقوّض رسالتُها في الواقع .. فهي رسالةٌ حيّةٌ متحرِّكةٌ بين الناس .. نجدُها في صبر المكلومين .. وفي احتسابِ المفجوعين .. وفي ثباتِ الصامدين .. وفي عِزّةِ المؤمنين .. وفي إيمانٍ تُرى أماراتُه ويقينٍ تُبصَر علاماتُه ..
يُطاحُ بالمآذنِ بقصفٍ همجيّ .. وتبقى أطيافُها مناراتٍ شامخةً في وجدانِ المصلِّين أو مَن تبقّى منهم في دنيا الناس .. تبقى شامخةً في الوعي .. بانتظار أن تُبتَنَى من جديد .. أن تنهضَ من جديد .. أن تعلُوَ من جديد ..
إنّ ما يجري في غزةَ اليوم .. من تدميرٍ وإبادة .. بحقِّ المساجدِ والمصاحفِ والأئمّةِ والخطباءِ والمؤذِّنين وحفظةِ كتابِ الله تعالى .. هو مسلَكُ العدوانِ والحقد ذاته الذي دأب عليه جيشُ الغزاة .. في جولاتِ عدوانِه التي أعقبَ بعضُها بعضا .. منذ أن دمّرت عصاباتُهُ الأولى مساجدَ فلسطينَ في المدن والقرى والبلدات .. خلال نكبةِ ثمانيةٍ وأربعين .. واقترفت في بعضها المجازرَ الجماعية .. ثمّ أحالت عدداً من المساجدِ إلى متاحفَ وخمّاراتٍ وأماكنَ للمُنكَر .. وإلى اسطبلاتٍ وغير ذلكم. إنّه المسلكُ الذي شهدناهُ جميعاً قبل أسابيع .. مع الجامعِ العُمَريِّ الكبيرِ في غزّة .. وهو أعرقُ مساجدِ القطاع وأكبرُها .. وهو مَعلَمُ غزّةَ التاريخيُّ أيضاً .. صار الجامعُ الكبيرُ أطلالاً وأنقاضاً .. في عدوانٍ على الدين وعلى التراث وعلى التاريخ وعلى الحضارة ..
ومما ينفطر له الفؤاد .. أن يعجزَ الناسُ عن انتشالِ المصلِّين من تحت الأنقاضِ بعدَ قصفِ المساجد .. فيبقى الركّعُ السجودُ عالقين تحت الركام .. شاهدين في موقفهم هذا على بشاعةِ العدوان وجرائمِ حربه ..
إنّ العدوانَ على المسجدِ يبتغي في حقيقته تدميرَ المجتمعِ من الداخل .. وحرمانَه مصادِرَ نمائه .. وإفقادَه منابَعَ قوّته .. عطفاً على تدمير المدارسِ والمعاهدِ والجامعاتِ .. لكنّها حيلةُ العاجزين الذين يحسبون أنّ القصف والهدمَ سيقوِّض إيمانَ المؤمنين وصبرَ الصابرين وعزيمةَ المُقدِمين .. فالمساجدُ بناسِها .. بمن يسبِّحون فيها لله تعالى بالغدوِّ والآصال .. قال عزّ وجل : ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ﴾ سورة النور 36
ومن عادةِ غزّةَ بعد كلِّ جولةٍ من جولاتِ العدوانِ التي تعاقبت عليها .. أن تُسارِعَ إلى تشييد مساجدها المدمّرة .. فترتفع بمآذنها فوق ما كانت عليه .. ويحصُل في فضاءاتها الطاهرة .. اجتماعُ الناسِ من جديد .. لإقامة الصلاة .. ومُدارسةِ العلم .. وحفظِ القرآنِ الكريم .. وتعليمِ الأجيالِ وتربيتها .. وفي هذا ما يؤكِّد انتصارَ الإنسانِ المؤمنِ على المعتدي الذي ينتهكُ حُرماتِ الله تعالى .. وفي هذا ما يُظهِرُ أنّ المساجدَ قد تُدمّر لكنّ مكانتَها لا تزداد بهذا إلاّ رسوخاً في الأفئدةِ والعقول ..
هذا عهدُنا بغزّة وأهلِها .. ولن نتوانى جميعاً بإذن الله .. عن أن نكون من أوائل المبادرين في تعميرِ مساجدها عن قريبٍ بإذن الله .. كي يُرفَعَ الأذانُ من جديد .. وتُقامَ الصلواتُ الجامعة .. وتجتمعَ الأجيال على ذكر الله ..
وسيعلُمَ الذين ظلموا أيّ مُنقَلَبٍ ينقلبون .. وستُعلّق هذه الأوزارُ برقابِ الجُناةِ وداعميهم يومَ العرضِ على الله .. فما يضيعُ عند الناسِ لا يضيعُ عندَ الله .. وهم إن أفلتوا من عدالةِ الأرض فلن يُفلِتوا من عدالةِ الآخرة ..
إنّ من واجبِنا وواجبِ كلّ صاحب ضمير .. أن نساندَ أهلَ غزةَ في هذه المظلمة .. وأن نسعى في التخفيف عنهم بكل ما يمكن تقديمُه لهم .. وأن نرفعَ أصواتَنا لدعم الحقّ والعدلِ وفي مواجهة الظُّلمِ والعدوان .. وأن يدركوا أنّهم ليسوا وحدهم .. وأنّ لهم أمّةً تقف إلى جانبهم .. وضمائرَ حرّة تلتفُّ حول قضيّتهم .. كي لا ينالَهم شعورُ الخُذلانِ المرير .. فالوقوفُ إلى جانبِ فلسطينَ وشعبِها .. ومساندةُ غزّةَ الجريحةَ وآهلَها .. هو من أعظم الواجبات في هذه الأيّام ..
يا أهْلَ غزة .. يا شعبَ فلسطين .. لا تَهِنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون بإيمانكم ..
يا أهل غزةَ الصابرين .. بشراكم اليوم من الله تعالى .. ألم يَقُل عزّ وجلّ في كتابِهِ الكريم: (وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ)؟ سورة البقرة 155
يا أهلَ غزّة .. إن يَمْسَسْكُم قرحٌ فقد مَسّ القوْمَ قَرْحٌ مِثلُه .. وتلكَ الأيّامُ نُداولها بين الناس .. ولِيَعْلَمَ اللهُ الذين آمنوا ويتّخِذَ منكم شهداء ..
يا أهْلَ غزّة .. نسألُ الله تعالى أن يتقبّل تضحياتِكِمُ العزيزة .. وأنْ يَرْبِطَ على قلوبِكُم .. وأن يُؤتِيَكم ثوابَ الدُّنيا وحُسْنَ ثوابِ الآخِرَة ..
اللهم بَرداً وسلاماً عليكم .. اللهم برداً وسلاماً على غزّة .. اللهم برداً وسلاماً على الضِّفة .. اللهم برداً وسلاماً على القُدس .. اللهمّ برداً وسلاماً على فلسطين ..
اللهم رُدّ كيْدَ المعتدين .. وارْبِط على قلوبِ المكلومين .. اللهم ارحم شهداءهم واشفِ جرحاهم واجبُر كَسْرَهم ..
اللهم نسألك صلاةً جامعةً في المسجد الأقصى المبارك .. وقد رُفِع الكرب عن القدس وانجلت الغُمّة عن فلسطين .. ولا تحسبنّ الله غافلاً عمّا يعمل الظالمون ..
(.. استكمال الخطبة .. ثمّ الدعاء)