Posted on Leave a comment

تذكرة الآخرة ورفاهية الروح

  جاء الوحي لتهذيب شراسة الطباع والرشد في تلبية حاجاتها دون إرهاق لجانب على حساب الآخر، فإنك أتعبتَ البدن وحرمتَه حقه بغية إشراق الروح خسرتَ الجسد وأهلكتَ الروح، وإن غفلتَ عن الروح وغذائها ودوائها وآثرتَ الجسد خسرتَ الاثنين معاً.

لذلك جاءت الشريعة الإسلامية بميزان دقيق يوازن بين الروح والجسد، والعقل والقلب، والدنيا والآخرة، ونطقت نصوص الكتاب والسنة بذلك.

إن التعلق بالآخرة والنظر لما أعده الله للمتقين ليخفف من غلواء المادة وشراهة الطباع والتطلع إلى زهرة الحياة الدنيا، وكلما عظم مطلوب المرء في قلبه رأى غيره على حقيقته بحجمه الطبيعي.

وشهر رمضان المبارك يعلق قلوبنا بالآخرة وما أعده الله تعالى للصائمين القائمين المحتسبين وتلك جملة من الأحاديث تربط المسلم بثواب الآخرة، وتَعدُه بمغفرةٍ من الله ورضوانٍ وجناتٍ يتقلب فيها وأبوابٍ موسومةٍ باسم الصائمين وغرفٍ من فوقها غرف في الجنة.

وتأمل معي الأحاديث التالية:

عن أبي هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً، غُفر له ما تقدم من ذنبه) رواه الشيخان

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه) متفق عليه.

عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً، غُفر له ما تقدم من ذنبه) متفق عليه.

 من صام رمضان، ومن قامه، ومن قام ليلة القدر…تأمل عطاء الله لعباده ورحمته بهم.

أبواب المغفرة لمن صام فمن عجز عن الصيام فليدرك القيام، فمن قصر في القيام فليدرك ليلة القدر في ليال العشر.

وعن سهل بن سعد رضىَ الله عنه أن النبي ﷺ قال: (في الجنّة ثمانية أبواب، فيها باب يُسمى الريّان، لا يدخله إلا الصائمون) رواه البخاري، وزاد النسائي: (فإذا دخل آخرهم أُغلق، من دخل فيه شرب، ومن شرب لم يظمأ أبداً.

عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: (إن في الجنة غرفاً تُرى ظهورها من بطونها، وبطونها من ظهورها)، فقام أعرابي فقال: لمن هي يا رسول الله؟ قال: (لمن أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وأدام الصيام، وصلى لله بالليل والناس نيام) رواه الترمذي.

 إنَّ التعلق بالآخرة باب كل خير ومفتاح كل سعادة وطوق للنجاة من الهموم والكربات التي يواجهها الإنسان في حياته. 

 لأن قيمة الدنيا في الآخرة زهيدة الثمن متأخرة الرتبة منخفضة المكانة.

 قال تعالى:” اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۚ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20) {سورة الحديد} 

وتلك هي قيمة الدنيا في جنب الآخرة كما قال ﷺ:

واللهِ ما الدنيا في الآخرةِ إلا مثلَ ما يجعلُ أحدُكم إصبعَه في اليمِّ، فلينظر بم يرجعُ

 رواه مسلم 

الربح والخسارة بين التصور المادي والتصور القرآني

إن حرص التاجر على الأرباح حاكمة على تحركاته ومحركة لصفقاته ومفاوضاته، ومن قدر أن يربح ثلاثة أضعاف فلماذا يقنع بما هو أقل من ذلك؟

ولأن الله خالقنا وصانعنا فهو أعلم بخلجات النفوس وخفايا الأسرار وطبيعة النفس العجيبة، فيعرض علينا ألواناً من التجارات الرابحة أضعافاً مضاعفة، فينادي:    

” مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً ۚ وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245) سورة البقرة

وقال تعالى:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10)

تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (11)

يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) سورة الصف

حينما يؤمن الإنسان بالمادة فقط تنقلب عنده الموازين، فإن خسر مالاً فلا عوض له، وإن تلف بدنه فقد ضاعت الفرصة الوحيدة للاستمتاع بالحياة، وقد يضحى بما يؤمن به من أجل لعاعة من الدنيا سيخسرها إن هو أصر على مبدأ ثابت.

أما من يؤمن بالآخرة فتهون عنده التضحيات.

قد يخسر المسلم ماله من أجل ما يؤمن به، وقد لا يساوم على كرامته وحريته بمنصب زائل أو مال فان، وقد يضطر لترك وطنه ومفارقة أحبابه لعيش لمبادئه ورسالته. ثم إنَّ رحلتنا في هذه الفانية قصيرة.

 وأورد الإمام أبو حامد في الإحياء تلك الأقوال:

ومن يحمد الدنيا لعيش يسره فسوف لعمري عن قليل يلومها

إذا أدبرتْ كانت على المرء حسرةً وإن أقبلتْ كانت كثيراً همومها

قال أبو سليمان الداراني: من طلب الدنيا على المحبة لها لم يعط منها شيئا إلا أراد أكثر. ومن طلب الآخرة على المحبة لها لم يعط منها شيئا إلا أكثر.

قلت: إنَّ حب الدنيا يجعل يدك سفلى، فتأخذ ولا تقنع، وتأكل منها ولا تشبع، وأما حب الآخرة فترفعك وتدفعك للعطاء، فتكون يدك هي العليا.

وقال الفضيل: لو كانت الدنيا من ذهب يفنى والآخرة من خزف يبقى لكان لنا أن نختار خزفاً يبقى على ذهبٍ يفنى.

 قيل لبعض العباد: قد نلت الغنى، فقال: إنما نال الغنى من عتق من رِق الدنيا.

وقال أبو سليمان: لا يصبر عن شهوات الدنيا إلا من كان في قلبه ما يشغله بالآخرة.

الصيام وضبط الموازين

 ما أشد حاجة المسلمين في عصرنا إلى الموازين القرآنية والنبوية التي تعصمهم من الاضطراب في الرؤى والخلل في التفكير والسيولة التي تعيشها القيم، فإننا نعيش في زمان اختلطت فيه المفاهيم وتناقضت فيه الأحكام والآراء وأصبح كل شيء خاضع للتغيير، فلا قدسية لشيء ولا ثبات لشيء ولا دوام لقيمة، ومعظم ما حولنا يجوز عليه التناقض، فيمكن أن يكون صحيحاً كما يمكن أن خاطئاً، فيوماً يراه الناس حسناً ويوماً يرونه قبيحاً، وذلك هو طريق صناعة العدمية والعبثية الأخلاقية الذي يقضي إلى نَسبنة كل شيء لحد إنكار الحقائق الكبرى للوجود التي نزلت بها الكتب وأُرسل الرسل لبيانها ودعوة الناس على الإيمان إليها وتطبيقها في حياتهم.

لم تتعرض القيم في عص لقصف شهواني مثل ما تواجهه في زماننا، الأمر الذي جعلها في حالة هشاشة وضعف مخيف.

فكل ما يقف في طريق إشباع رغبات الإنسان يجب أن يُزاح من طريقه ليسد جوعته ويروي غلته، من حلالٍ أو حرام.

إن قضية الدين والحلال والحرام أصبحت مزعجة لكثير من البشر في عالمنا، كأنها شبح يريدون الهروب منه حتى لا يقطع عليهم لذة الساعة، ولسان حالهم: {وليكن بعد ذلك ما يكون}.

 وهذا من شأنه أن نعمل على ترسيخ القيم في نفوسنا وإبراز العلاقة بين العبادات في الإسلام والقيم الأخلاقية والتربوية والإنسانية، وتربية أولادنا عليها، والتعريف بها في واقعنا الأوروبي في صورة بيانية نظرية، وتجسيدها في صورة عملية تطبيقية.

القيم في ضوء الصيام

عجيبةٌ فريضة الصيام، تتغير في ظلها كثير من المفاهيم فتنضبط الموازين وتعتدل المعايير، وتتغير نظرتنا للأشياء، فما تنفر منه النفس في وقت، تحبه وتنسجم معه في وقت آخر.

ولنتأمل هذا الحديث الشريف الذي يتضمن كثيراً من الفوائد، ولا يتسع المقام للوقوف عليها، لكننا نستخرج منه، ومن بعض الأحاديث الأخرى ما يفيدنا في ضبط الموازين:

يقول الرسول ﷺ فيما يرويه عن ربه: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: (قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام؛ فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جُنّة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث، ولا يصخب، فإن سابّه أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح، وإذا لقي ربه فرح بصومه) رواه البخاري ومسلم.

في الحديث كثير من القيم المعيارية، منها:  

– التدريب على تخليص حظوظ النفس {كل عمل ابن آدم له إلا الصوم}.

– احتساب الطاعة مع الاستسلام لأمر الله جزاؤه ثواب غير محدود.

– الصوم وقاية من الشرور ومساوئ الأخلاق.

– ما عند الله خير…هذا هو المعيار الذي يجب أن نستحضره ونقدمه في قلوبنا وعقولنا، ما عند الله أعظم من الدنيا وما فيها، {لخلوف فم الصائم أطيب عند الله…}.

وهكذا يمضي المسلم في حياته لا يقدم شيئاً على مراد الله تعالى وجميل مثوبته.

قد يتألم من المرض لكنَّ أجر الآخرة يخفف عنه. قد يتأوه من الغربة لكن أجر المهاجر في سبيل الله يهون عليه. قد يعاني من أذى نفسي لكنه يحتسب عند الله تعالى، فيقوى فؤاده وتشتد عزيمته.

 عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله ﷺ قال: «والذي نفسي بيده لا يُكْلَم أحد في سبيل الله، والله أعلم بمن يكلم في سبيله إلا جاء يوم القيامة، واللون لون الدم، والريح ريح المسك. رواه البخاري.

فرائحة فم الصائم أزكى وأعطر من رائحة المسك، ويأتي الشهيد يوم القيامة وجرحه ودمه ريحه ريح المسك.

حينما يستشعر المسلم دوما أن الله هو الغاية وأنَّ إليه الرجعى، وأنَّ الحسن ما رآه الشرع حسناً، وأنَّ القبيح ما قبحه الشرع فسيبقى ثابتاً على عقيدته مرابطاً على مبادئه. لن يكون إمَّعةً يميل مع الريح أينما مالت به.

والشباب المسلم في الغرب يواجه تحديات كثيرة، حينما تقرر الفتاة المسلمة ارتداء الحجاب ستواجه – غالبا – صعوبات متنوعة، وحينما تستحضر ما عند الله والفوز برضاه ستكون أقدر الصبر والثبات. وهكذا كل اختيار وقناعة تتصل بالهوية الإسلامية.

بقلم الشيخ: طه عامر.