الحديث الخامس: فضل العبادة في وقت الغفلة
عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ» أخرجه مسلم.
المعنى العام للحديث
هذا الحديث يبين فضل الثبات على الدين في زمن غربته وقلة المتمسكين به، وعِظم الأجر والثواب على ملازمة الطاعات في أوقات الغفلة، فالهرج هو الفتن واختلاط الناس وكثرة الكذب وانتشار ترك الطاعات، فمن عبد الله واستمسك بدينه في هذه الأوقات كان كمن هاجر مع النبي صلى الله عليه وسلم من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة وثواب الهجرة عظيم كبير كما في قوله تعالى: {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} [آل عمران: 195]، والعلاقة بين العابد في زمن الغفلة والمهاجر في سبيل الله من وجوه: أن المهاجرين كانوا قلة وكذا العباد في أوقات الفتن والغفلات قلة، ومنها: أن المهاجر يقاوم رغبته في البقاء في وطنه مع أهله وماله ويضحي بتركها لله، وكذا العابد في وقت الغفلة يقاوم رغبته وشهوته في أن يسير مع الناس فيما يفعلون من ترك للطاعات واقتراف للمحرمات فكلاهما فرَّ بدينه من الناس، ومنها: أن الهجرة ومفارقة الأوطان في سبيل الله دليل على حياة القلب وارتفاع منسوب الإيمان، تأمل موقف صهيب الرومي رضي الله عنه حين ترك كل ما يملك ليلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم وبشره النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم بقوله: ربح البيع أبا يحيى ربح البيع. فقلب صهيب الحي التارك للدنيا وراء ظهره هو قلب العابد التارك للشهوات في أوقات الغفلات والفتن.
وهذا الحديث يتنزل على كل مسلم أو جماعة مسلمة تواجه تحديات للالتزام بدينها وتقدم تضحيات للثبات عليه وإعانة الناس على حفظ دينها، كالمسلمين في الغرب حيث يواجهون تحديات وصعوبات في الالتزام بدينهم والبقاء عليه تختلف كثيرا عن غيرهم ممن يعيشون في بلدان أكثريتها مسلمة ونظمها وقوانينها تتوافق مع تعاليم الإسلام، وهو المعنى الذي أشار إليه النبي الكريم صلى الله عليه وسلم حين قال لمهاجري الحبشة: ” ولكم أنتم أصحاب السفينة هجرتان” وذلك جوابا عن سؤال من أسماء بنت عميس رضي الله عنها وهي إحدى المهاجرات للحبشة حيث عارضها عمر بن الخطاب قائلا لها: سبقناكم بالهجرة فنحن أحق برسول الله صلى الله عليه وسلم منكم؟ وإنما ضاعف النبي صلى الله عليه وسلم الأجر لمهاجري الحبشة عن المهاجرين معه إلى المدينة؛ لأن جهادهم للثبات على الدين مع أولادهم أعظم ممن هاجروا معه.
وتظهر قيمة العبادة في وقت الغفلة في مواسم الغفلات والفتن في الغرب كاحتفالات رأس السنة وغيرها، وحين يجد الشاب أو الفتاة نفسه أمام طوفان من المغريات والفتن فيعتصم بالله ويذهب إلى محرابه ومصحفه.
رسائل الحديث
- الثبات على الدين في زمن غربته والتشكيك في قطعياته وثوابته أجره يعدل أجر المهاجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
- بلوغ رتبة العبَّاد في أوقات وأزمنة الفتن والغفلة يكون بتعهد القلب وتزكية النفس في أوقات الرخاء ولزوم الأوراد العبادية من ذكر وتلاوة للقرآن وصيام وقيام نفلا وفرضا.
- الصلاح عند فساد الناس وإصلاح ما أفسد الناس والأخذ بيد الناس للثبات على الدين مما يبلغ به المرء درجة المهاجر إلى الله ورسوله.
- قبل النظر إلى كثرة الفتن والتحديات علينا أن ننظر إلى عظم الأجور والمثوبات، فمن لمح فجر الأجر هان عليه ظلام التكليف.
- القلة العابدة العاملة خير من الكثرة المنحرفة العاطلة، فهنيئا لشاب أجلبت عليه الشهوات والفتن بخيلها ورجلها فاستعصم بربه ولاذ إلى مصحفه ومحرابه، وأنعم بفتاة تمسكت بلباسها واحتشامها رغم كثرة نداءات النفس وضغوط الصحبة بين شهوة وشبهة قالت: معاذ الله.
الحديث السادس: حلول نبوية لمشكلة اجتماعية
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَمْ نَرَ – يُرَ – لِلْمُتَحَابَّيْنِ مِثْلُ النِّكَاحِ» ابن ماجة والبيهقي بسند صحيح.
المعنى العام للحديث
رُوي هذا الحديث بثلاث صيغ: لم نر، لم ير، لم تر، فالأولى: لم نر: أي نحن، والثانية: لم يُر أي العقلاء، والثالثة لم تر: أيها السامع، والحديث يؤسس لكيفية التعامل مع حالات الحب والعشق بين رجل وامرأة قبل الزواج وكثيرا ما لا يكون هناك توافق أو تكافؤ بين المتحابين أو يكون العشق بينهما خارج عن الأطر المتعارف عليها مجتمعياً، كأن يكون فارق السن بينهما كبيراً، أو المستوى التعليمي أو المالي، أو شاب صغير السن يحب مطلقة أو أرملة، أو مسلم يتعلق قلبه بكتابية غير مسلمة وغير ذلك من الصور التي يغلب على الظن عدم نجاح الزواج فيها، وهو ما يؤيده سبب ورود الحديث فعن ابن عباس أن رجلا قال: يا رسول الله، في حجري يتيمة وقد خطبها رجل موسر، ورجل معدم، فنحن نحب الموسر وهي تحب المعدم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” ليس للمتحابين مثل النكاح “.
فالحديث يرشد الأولياء والمجتمع إلى التعامل الأمثل مع هذه الحالات التي تعتبر حالة مرضية بأن الزواج والتعجيل به هو الحل الذي يحميهما من الوقوع في الفاحشة المحرمة. فالحديث لا يؤسس للحب قبل الزواج وإنما يرشد لكيفية التعامل معه إذا وقع وتلك أمور اجتماعية وقلبية ونفسية واردة الحدوث في أي مجتمع، والنبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث يدعو الأولياء إلى عدم التفريق بين المتحابين بمنعهم من الزواج، أو حملهم على الوقوع في المحرمات، أو الزواج بعيدا عن المحيط الاجتماعي للأسرة، فالزواج للمتحابين خير علاج ووقاية وحماية وتقليل للمخاطر والأضرار التي يمكن أن تقع إذا منع المتحابان من النكاح.
وهذا المنهج النبوي مهم جدا للمسلمين في الغرب حيث يقع كثيرا أن تتعلق فتاة مسلمة بشخص لا يتوافق مع تفكير عائلتها وقد يكونوا على حق في عدم مناسبته لها، لكنها تصر على الارتباط به ويصر الأهل على الرفض مخالفين بذلك هذا الحديث النبوي الشريف فينتهي الأمر بهم إما إلى إكراهها على الزواج بغيره فلا تنجح الأسرة، أو تنتهي إلى رفض فكرة الزواج بالكلية، أو تترك البيت وتتزوج بعيدا عن أهلها، أو تقع فيما حرم الله، وما يجري على الفتيات يجري على الشباب وربما أكثر.
والمنهج النبوي هنا يقتضي المسارعة إلى تزويجهما مع الاستمرار في التوجيه والرعاية، ومن المعاني التي أشار إليها بعض العلماء استنباطا من هذا الحديث: أن الزواج يثمر وينمي الحب وإن لم يكن هذا الحب موجوداً قبل الزواج.
رسائل الحديث:
- الإسلام راعي الحاجات البشرية والميول القلبية للناس وتعامل معها بعملية وواقعية لا بمثالية وهمية.
- حركة المسلم تنضبط بضوابط الشرع، والشرع يفتح الطريق واسعا للحلال الطيب قبل أن يمنع الحرام الضار.
- الأصل أن يختار الشاب والفتاة عند الزواج من يتوافق معه ويغلب على ظنه حسب صفاته أنه سيُكِّون معه أسرة مستدامة ناجحة، وأن الزواج المبني على التقارب والتكافؤ سيثمر الحب والمودة الدائمة.
- التوجيه بتزويج المتحابين لا يعني الدعوة إلى الحب قبل الزواج، وإنما الإرشاد إلى تقليل الضرر في التعامل مع حالات العشق بين شخصين غير متكافئين بتزويجهما.
- الأسرة المسلمة في الغرب أهم كيان يجب صيانته وحمايته بتحمل كل الأطراف المسؤولية عنه.
- قبل دعوة الأولياء إلى الالتزام بالمنهج النبوي في تزويج المتحابين لابد من دعوة الأبناء والشباب المسلم في الغرب إلى البر بآبائهم وعدم عقوقهم وإدارة الخلافات الأسرية بالحوار والتعاون والموازنة بين المصالح والمفاسد إذا تعارضت.
بقلم الدكتور: خالد حنفي.