Posted on Leave a comment

ماذا بعد شهر رمضان؟

بعد انتظام العبد وتأمله في هذا الدرس العظيم طوال شهرٍ كاملٍ يكتسب ملكة المراقبة لله تعالى واستشعار نظره إليه واطلاعه عليه، وأن الملائكة تسجل عليه كل شيء، فيصبح ضميره هو رقيبه في القيام بواجباته تجاه ربه، وتجاه أسرته، وتجاه مجتمعه، فلا يفرط في عمله، ولا يجترأ على المعصية، وإن وقع في ذنب سارع واستغفر وعزم على التوبة النصوح. وهذا هو تعظيم الحرمات.

 الصيام وكسر الأنا

الإعجاب بالنفس والخيلاء من أدواء العصر، ذلك لأننا نعيش زمان الفردانية وتضخيم الذات.

 لقد غفل الإنسان أنَّه صغير في هذا الكون، وأنَّ كل ذرة في جسده تفتقر لرعاية الله تعالى وحفظه.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) سورة فاطر

وثناء أهل الجنة هو الحمد للواحد ونسبة الهداية إليه سبحانه وتعالى.

قال تعالى: 

وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ ۖ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ ۖ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ ۖ وَنُودُوا أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (43) سورة الأعراف 

مسكين هذا الإنسان حينما يظن نفسه في الكون رقماً صعباً، ونسى أنه لم يكن شيئاً مذكوراً.

وكم كان يكره الرسول ﷺ كلمة (أنا).

عن جابر بن عبد الله رضى الله عنهما قال: أتَيْتُ رسولَ اللهِ ﷺ فدقَقْتُ البابَ فقال: (مَن ذا)؟ فقُلْتُ: أنا فقال: (أنا أنا) – مرَّتَيْنِ – كأنَّه كرِهه.

 صحيح ابن حبان: 5808  

 يمكن للمرء أن يُحرز سبقاً في علمٍ أو فنٍ من الفنون، فهل ذلك يسوغ له أن يمشي في الأرض مرحاً أو يخال أنه سيبلغ الجبال طولاً؟!

لا بأس أن يفرح المسلم بما أنجزه من عمل، كأن يكون كتب مقالاً نافعاً، أو ألف كتاباً ماتعاً، أو علَّم طالباً، أو بنى لله مسجداً، أو نصر مظلوماً، أو قهر ظالماً، أو ساهم في نشر الخير في أي بقعة من الأرض.

هذا الفرح بفضل الله تعالى والرضا عن النفس أن هداها لطريق السعادة، إنما فرحٌ بفضل الله، والصائم يفرح حين فطره، بل إن هذا الفرح هو من علامات الإيمان، إنه انشراح الصدر بالطاعة والقربات.

إنما الفرح المذموم والمهلك هو فرح البطر والخيلاء المصحوب بالمن والأذى ونسبة النجاح والإنجاز للذات والقوة والقدرة والذكاء والمواهب. حينها يهلك المرء.

عن إياس بن سلمة بن الأكوع، عن أبيه قال: قال رسول الله ﷺ: «لا يزال الرجل يذهب بنفسه حتى يكتب في الجبارين فيصيبه ما أصابهم» رواه الترمذي 

ما أهون المرء عند الله عندما يذكر نفسه وينسى فضل ربه.

وما أعظمه حينما يرى أن الصانع في الكون كله هو الله تعالى.

والصيام يعلمنا ويشعرنا بحجمنا وصغرنا، فالفقراء والضعفاء والأغنياء والأصحاء سواء في الشعور بالجوع والعطش والافتقار إلى حاجات الجسد.

 والملوك والسوقة يمتنعون عن المباحات طواعية، فعلام الاختيال والعجب؟!

بل إن كثيراً من العجائز والمرضى يأبون الإفطار ويصرون على الصوم تعبداً وامتثالاً.

فالصوم يكسر النفس ويستل منها الشعور بالاستعلاء على الآخرين.

  إنَّ لحظة انكسار وتذللٍ لله رب العالمين تستخرج منك داءً هو فيك ولا تشعر.

حين ترفع يديك عند فطرك وتدعو متأملاً في القبول وجميل المثوبة والمغفرة.

ومن أسرار الصيام كما يقول الإمام أبو حامد الغزالي: “أن يكون قلبه بعد الإفطار معلقا مضطرباً بين الخوف والرجاء، إذ ليس يدري أيقبل صومه فهو من المقربين؟ أو يرد عليه فهو من الممقوتين؟”

 إحياء علوم الدين ج /1 308

والخوف دون إفراط يُسلم لك عملك، والرضا دون اعتداد يمنعك من اليأس.

يقول ابن عطاء الله السكندري:

” أصل كل معصيةٍ وغفلةٍ وشهوةٍ الرضا عن النفس، وأصل كل طاعةٍ ويقظةٍ وعفةٍ عدم الرضا منك عنها، ولأنْ تصحب جاهلاً لا يرضى عن نفسه، خير لك من أن تصحب عالماً يرضى عن نفسه..”

وحين تأتي ليال العشر وتشمر عن الجد وتترقب ليلة الغفران وتذرف دموع الندم على ذنبك وتقصيرك.

والتذلل لله تعالى هو عين العز والحرية، وكلما زدتَ إليه افتقاراً زادك الله غنى.

ويعجبني أن نعود سريعاً لإحدى الحكم العطائية:

“تحقَّق بأوصافك يمُدك بأوصافه، تحقَّق بذُلك يمُدك بِعِزه، تحقَّق بعجزك يمُدك بقدرتك، تحقَّق بضعفك يمُدك بحوله وقوته “

 فإذا انسلختَ من شهر رمضان وقد أقبلتَ فيه صادقاً على مولاك عدتَ لفطرتك الطيبة النقية التي تعرف نفسها بالافتقار في كل لحظة للخالق جل في علاه.

وأختم هنا بأبيات لأبي العتاهية:

خانك الطرف الطموح    أيها القلب الجموحُ

لدواعي الخير والشر      دُنوٌ ونزوحُ

هل لمطلوبٍ بذنبٍ     توبةٌ منه نصوحُ

كيف إصلاح قلوبٍ    إنما هنَّ قروحُ

أحسن الله بنا      أنَّ الخطايا لا تفوحُ

فإذا المستور منا    بين ثوبيه فضوحُ

كم رأينا من عزيزٍ    طُويت عنه الكشوحُ

صاح منه برحيلٍ   صائح الدهر الصدوحُ

سيصير المرء يوماً   جسداً ما فيه روحُ

بين عيني كل حي   علم الموت ينوحُ

نح على نفسك يا  مسكين إن كنت تنوحُ

لست بالباقي لو   عمرتَ ما عمر نوحُ

الصيام والمواساة

  إنًّ عالمنا المعاصر عاكف على نفسه مشغول بهمومه متشوف في غده لمتعٍ جديدةٍ. قد استغنى كثيرٌ من الناس بأنفسهم عن غيرهم وتوارى الاهتمام بضعفاء الناس خلف حُجُب كثيفة.

إلى متى يبقى العالم في هذا الشرود والصدود؟ ومن للضعفة ومن ألمَّت به الأوجاع وخيَّمت على قلبه الأحزان؟

ويأبي الله تعالى الرحمن الرحيم إلا أن يجعل للعبادات في الإسلام أبعاداً خيريةً إنسانيةً، وبقدر احتراق العبد في محاريب العبادات بقدر ما يقطر قلبه رقَّة للفقراء والمساكين، ويده نداوةً للمحتاجين وأخلاقه ليناً وسِعة لكل عباد الله.

لهذا رغب الإسلام في الصدقة بوجه عام وفي شهر رمضان بوجه خاص، وفرض كذلك صدقة الفطر.

 ويأتي شهر رمضان ليذكرنا بأن هناك من لا يجد قوتاً ولا يملك من متاع الحياة شيئاً، روى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: ” كان رسول الله ﷺ أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيُدارسه القرآن، فَلَرسول الله ﷺ أجودُ بالخير من الريح المُرسَلة”.

 وتتدفق أيدي المؤمنين بالخير حتى بعض عُصاة المسلمين يبادرون في تفطير الصائمين حول العالم، وترى كثيراً من المسلمين حول العالم يسارعون في الإطعام وإخراج الصدقات في وجوه الخير.

 شهر رمضان شهر المواساة والإحساس بمن سيقضي شهر رمضان وحيداً لا أنيس له، غريباً لا صديق له، شريداً لا مأوى له، حزيناً يحتاج إلى من يخفف ألمه ويذهب وحشته ويواسيه في محنته.

بقلم الشيخ: طه عامر

Posted on Leave a comment

مختارات نبوية | فقه التعامل مع الإساءة للمقدس

مختارات نبوية | فقه التعامل مع الإساءة للمقدس

عن أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَال: كُنْتُ أَدْعُو أُمِّي إِلَى الْإِسْلَامِ وَهِيَ مُشْرِكَةٌ فَدَعَوْتُهَا يَوْمًا فَأَسْمَعَتْنِي فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَكْرَهُ فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أَبْكِي قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي كُنْتُ أَدْعُو أُمِّي إِلَى الْإِسْلَامِ فَتَأْبَى عَلَيَّ فَدَعَوْتُهَا الْيَوْمَ فَأَسْمَعَتْنِي فِيكَ مَا أَكْرَهُ فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَ أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُمَّ اهْدِ أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ فَخَرَجْتُ مُسْتَبْشِرًا بِدَعْوَةِ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا جِئْتُ فَصِرْتُ إِلَى الْبَابِ فَإِذَا هُوَ مُجَافٌ فَسَمِعَتْ أُمِّي خَشْفَ قَدَمَيَّ فَقَالَتْ مَكَانَكَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ وَسَمِعْتُ خَضْخَضَةَ الْمَاءِ قَالَ فَاغْتَسَلَتْ وَلَبِسَتْ دِرْعَهَا وَعَجِلَتْ عَنْ خِمَارِهَا فَفَتَحَتْ الْبَابَ ثُمَّ قَالَتْ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ قَالَ فَرَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَيْتُهُ وَأَنَا أَبْكِي مِنْ الْفَرَحِ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَبْشِرْ قَدْ اسْتَجَابَ اللَّهُ دَعْوَتَكَ وَهَدَى أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ خَيْرًا قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يُحَبِّبَنِي أَنَا وَأُمِّي إِلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَيُحَبِّبَهُمْ إِلَيْنَا قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُمَّ حَبِّبْ عُبَيْدَكَ هَذَا يَعْنِي أَبَا هُرَيْرَةَ وَأُمَّهُ إِلَى عِبَادِكَ الْمُؤْمِنِينَ وَحَبِّبْ إِلَيْهِمْ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا خُلِقَ مُؤْمِنٌ يَسْمَعُ بِي وَلَا يَرَانِي إِلَّا أَحَبَّنِي. صحيح مسلم

مفردات الحديث 

 فَخَرَجْتُ مُسْتَبْشِرًا: مَسْرُورًا مُنْشَرِحًا.

 مُجَافٍ: أَيْ مَرْدُودٌ. 

خَشْفَ قَدَمَيَّ: صَوْتَهُمَا، وَقِيلَ: حَرَكَتَهُمَا وَحِسَّهُمَا 

خَضْخَضَةَ الْمَاءِ: أَيْ تَحْرِيكَهُ، وَقِيلَ: صَوْتُهُ

 لَبِسَتْ دِرْعَهَا: أَيْ قَمِيصَهَا 

وَعَجِلَتْ عَنْ خِمَارِهَا أَيْ: تَرَكَتْ خِمَارَهَا مِنَ الْعَجَلَةِ

المعنى العام للحديث

هذا الحديث أصل في فقه الدعوة إلى الله والتعريف بالإسلام وأفضل السبل للتعامل مع الإساءة للمقدس، والمسلمون في الغرب اليوم هم أحوج الناس إلى مدارسة هذا الحديث والعمل بفقهه ورسائله؛ لكثرة وتعدد صورة الإساءة لمقدساتهم ونبيهم، فسيدنا أبو هريرة رضي الله عنه توجه بدعوة أمه إلى الإسلام فأسمعته في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يكره لعلمها بحبه له فكان يبكي لفعل أمه وفرط حبه لنبيه، فلم يرد على إساءتها بإساءة وإنما طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو لها فدعا لها فأجاب الله دعاءه، وأسلمت فور دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لها فطلب أبو هريرة من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له ولأمه أن يحببهم في عباده الصالحين فدعا له فما سمع به مسلم إلا وأحبه. 

والحديث أصلٌ في عدم جواز الاعتداء على ساب النبي صلى الله عليه وسلم أو قتله؛ إذ لو صح لأمر النبي أبا هريرة به أو لفعله أبو هريرة ابتداءً، وأصرح في الدلالة عليه حديث سلمة بن الأكوع قال: فَلَمَّا اصْطَلَحْنَا نَحْنُ وَأَهْلُ مَكَّةَ، وَاخْتَلَطَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ، أَتَيْتُ شَجَرَةً فَكَسَحْتُ شَوْكَهَا فَاضْطَجَعْتُ فِي أَصْلِهَا، قَالَ: فَأَتَانِي أَرْبَعَةٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، فَجَعَلُوا يَقَعُونَ فِي رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَبْغَضْتُهُمْ، فَتَحَوَّلْتُ إِلَى شَجَرَةٍ أُخْرَى، وَعَلَّقُوا سِلَاحَهُمْ وَاضْطَجَعُوا، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ نَادَى مُنَادٍ مِنْ أَسْفَلِ الْوَادِي، يَا لَلْمُهَاجِرِينَ، قُتِلَ ابْنُ زُنَيْمٍ، قَالَ: فَاخْتَرَطْتُ سَيْفِي، ثُمَّ شَدَدْتُ عَلَى أُولَئِكَ الْأَرْبَعَةِ وَهُمْ رُقُودٌ، فَأَخَذْتُ سِلَاحَهُمْ، فَجَعَلْتُهُ ضِغْثًا فِي يَدِي، قَالَ: ثُمَّ قُلْتُ، وَالَّذِي كَرَّمَ وَجْهَ مُحَمَّدٍ، لَا يَرْفَعُ أَحَدٌ مِنْكُمْ رَأْسَهُ إِلَّا ضَرَبْتُ الَّذِي فِيهِ عَيْنَاهُ، قَالَ: ثُمَّ جِئْتُ بِهِمْ أَسُوقُهُمْ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: وَجَاءَ عَمِّي عَامِرٌ بِرَجُلٍ مِنَ الْعَبَلَاتِ، يُقَالُ لَهُ: مِكْرَزٌ يَقُودُهُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى فَرَسٍ، مُجَفَّفٍ فِي سَبْعِينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «دَعُوهُمْ، يَكُنْ لَهُمْ بَدْءُ الْفُجُورِ، وَثِنَاهُ»، فَعَفَا عَنْهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنْزَلَ اللهُ: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} [الفتح: 24] الْآيَةَ كُلَّهَا. صحيح مسلم (3/ 1434) 

فلو كانت عقوبة ساب النبي صلى الله عليه وسلم هي القتل لقتلهم سلمة ولم يذهب بهم للنبي صلى الله عليه وسلم، ولما عفا النبي صلى الله عليه وسلم عنهم؛ لأن الحد لا يسقط إذا بلغ الحاكم لقوله صلى الله عليه وسلم: “تَعافُوا الحُدُودَ فِيما بَينَكمْ، فمَا بَلغَنِى من حَدٍ فقدْ وجَبَ”

رسائل الحديث

  1. أولى الناس بالدعوة إلى الإسلام والحرص على هدايتهم هم الأقربون وفي مقدمتهم الأم؛ لذا حرص أبو هريرة على دعوة أمه وتحبيبها في الإسلام. 
  2. وجوب استمرار الأبناء في البر بوالديهم بعد إسلامهم وإن بقوا على الكفر، فأبو هريرة لم ينقطع عن أمه بعد إسلامه ولم يعاديها رغم سبَّها لأحب الناس إليه. 
  3. للدعاء أبلغ الأثر في الهداية وتقليب القلوب على ما يحبه الله، فلنكثر من الدعاء لأولادنا ليثبتوا على الإسلام، ولنكثر من الدعاء لمن ندعوهم للإسلام من غير المسلمين. 
  4. مشروعية طلب الدعاء من الصالحين فلم يكتف أبو هريرة بدعائه هو وإنما طلب الدعاء من النبي صلى الله عليه وسلم. 
  5. من فقه التعامل مع الإساءة للمقدس تجاهل الإساءة ومقابلتها بالإحسان ورجاء الهداية للمسيء، وعدم توسيع نشر وإذاعة إساءته فلعله يهتدي يوما ما؛ قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 112]، وقال: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} [المزمل: 10]
  6. من فقه التعامل مع الإساءة للمقدس عدم سب أو إيذاء أو قتل المسيء، فلم يفعل شيئا من ذلك أبو هريرة وقد أقره النبي صلى الله عليه وسلم على فعله واستجاب لطلبه داعياً لأمه. 
  7. على المسلمين في الغرب أن يتحلوا بأعلى درجات الرفق والحكمة والرحمة بمن يتعرض لمقدساتهم بالإساءة وأن يأخذوا على أيدي إخوانهم من المسلمين حول العالم في توجيه وترشيد غضبهم وغيرتهم لنبيهم إذا أسيء إليه ودراسة أي سلوك أو توجه في الرد على الإساءة حتى لا تأتي بعكس مرادهم. 
  8. لا تستبعد الهداية والاستقامة على أحد مهما اشتدت عداوته للإسلام ونبيه فقد يصبح الرجل كافراً ويمسي مؤمنا، فبين إسلام أم أبي هريرة وكفرها لحظات ودعوات، وقد رأينا هذا في عدد من المسيئين للنبي صلى الله عليه وسلم بالرسم كيف اهتدوا وأسلموا وحسن إسلامهم وبكوا حبا وندما على ما كان منهم تجاه نبيهم قبل إسلامهم.  
  9. اغتسال أم أبي هريرة قبل إسلامها لا يدل على وجوب الاغتسال للكافر قبل إسلامه كما هو رأى الجمهور، والذي نرجحه أن يسلم الكافر مباشرة دون غسل وأنه مستحب لا واجب كما هو رأي أبي حنيفة، وهو الأنسب للتيسير على الداخل في الإسلام ولقوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38]
  10.  فضل أبي هريرة رضي الله عنه ومكانته في قلوب المسلمين، فقد استجاب الله دعوة نبيه صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة وأمه، فأحبه كل من سمع به، وهو صاحب فضل في نقل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلينا، وقد قيَّض الله له من يدافع عنه ضد أي افتراء عليه بتصنيف المصنفات والكتب. 

بقلم الدكتور: خالد حنفي

Posted on Leave a comment

شهر رمضان وتعظيم الحرمات

شهر رمضان وتعظيم الحرمات

ذكر الإمام ابن القيم في تفسير هذا الآية:

ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ ۗ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ ۖ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30)

قال جماعة من المفسرين: حرمات الله ها هنا مغاضبه، وما نهى عنه، و” تعظيمها” ترك ملابستها.

قال الليث: حرمات الله ما لا يحل انتهاكها. وقال قوم: الحرمات هي: الأمر والنهي. وقال الزجاج: الحرمة ما وجب القيام به، وحرم التفريط فيه. وقال قوم: الحرمات ها هنا المناسك، ومشاعر الحج زماناً ومكاناً.

والصواب: أن الحرمات تعم هذا كله.

وهي جمع حرمة. وهي ما يجب احترامه وحفظه من الحقوق والأشخاص والأزمنة والأماكن.

فتعظيمها: توفيتها حقها، وحفظها من الإضاعة، والخروج من حرج المخالفة وجسارة الإقدام عليها، بتعظيم الأمر والنهي، خوفاً من العقوبة، وطلباً للمثوبة.

تهذيب مدارج السالكين/ عبد المنعم صالح الغزي ص 286

  إن نعيش زماناً يُغرق أهلَه بالغفلة، ويغريهم بتجاوز حدود الله، ويوقعهم في مقارفة الإثم، إلا من رحم الله.

ورحم الله شيخنا محمد الغزالي، كان يقول: “ما كان قاصراً على الملوك أصبح ميسوراً لكل صعلوك”.

وللشيطان على المرء مسالك ومداخل، فإن وجده مستعصياً أبيَّاً على الكبائر أغراه بالصغائر وزينها له وهون منها في نظره، كما في رواية أنس بن مالك رضى الله عنه:

 إنَّكُمْ لَتَعْمَلُونَ أعْمالًا، هي أدَقُّ في أعْيُنِكُمْ مِنَ الشَّعَرِ، إنْ كُنَّا لَنَعُدُّها علَى عَهْدِ النَّبيِّ ﷺ مِنَ المُوبِقاتِ.

رواه البخاري.

بل إن التوسع في المباحات أضعف من همة الناس في الطاعات والإقبال على العبادات.

فنحن بحاجة أن نعظم حرمات الله تعالى في القلوب وهذا هو السائق لاهتبال نفحات أيام الله ومجانبة السوء.

لذلك قال تعالى:” ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) سورة الحج.

فالقلب هنا هو المحور في شأن تعظيم الأمر والنهي.

وشهر رمضان يعلمنا ويدربنا على تعظيم الحرمات من خلال جملة من الأمور، منها: 

– تترقب الأمة كلها قدوم الشهر الكريم في أنحاء العالم الإسلامي عبر العصور، عبر مؤسساتها الدينية والشعبية.

– الاحتفال والاحتفاء بقدوم شهر رمضان بكل مظاهره سِيمَّا في البلاد الإسلامية.

وما أحوج المسلمين في الغرب أن يبدعوا في وسائل الاحتفال والابتهاج بهذا الشهر العظيم حتى تتعلق الأجيال قلبياً بشهر رمضان.

 – ترقب ساعة الإفطار، واحتياط المسلم في وقت الإفطار، وقد نجد من يقول لأخيه باقي دقيقة على الإفطار.

كذلك يمتنع ويحذر المسلم قبيل الفجر عن المفطرات. وبعضهم يمسك قبل الوقت بخمس عشرة دقيقة أو أقل أو أكثر

– إذا أتى رمضان وجدنا كثيراً ممن لا يصلون سائر العام يهدى الله قلوبهم للانتظام في المساجد.

 وهذه الظاهرة لا يفسرها سبب واحد فقط، إلا أنَّ من أهم عواملها تعظيم حرمة الشهر الكريم في نفوس المسلمين.

 ويقذف الله في قلوبهم محبة العودة إليه والوقوف بين يديه والتماس الرحمات والتعرض في شهر رمضان للنفحات.

ولا شك أن الحالة الإيمانية الجماعية تلعب دوراً كبيراً في الالتزام بالطاعات وتعظيمها.

– تعظيم الحسنة ومضاعفتها وتعظيم الذنب ومضاعفته بحسب شرف الزمان والمكان.

 فالحسنة مضاعفة في المسجد الحرام، وكذلك السيئة كما نص على ذلك العلماء ومنهم الإمام العز في قواعد الأحكام.

لهذا يحترس كثير من الصائمين من الوقوع في المعاصي حتى لا يكون حظهم من الصوم الجوع والعطش كما جاء في الحديث، وما ذلك إلا تعظيما للشهر الكريم.

– كثرة أسئلة المسلمين عن فقه الصيام، وتتكرر الأسئلة كل عام حول سنن الصيام وآدابه ومفطراته إلخ، ويعكس ذلك تعظيم المسلمين للعبادة وحرصهم على صحتها.

– يتسابق كثير من الأطفال في الصيام رغم مشقته عليهم، ونحن ندعو إلى نهج الصحابة الكرام الذين كانوا يأخذون بأيدي أولادهم للطاعات بالترغيب وتزيين العبادات إلى قلوبهم وعقولهم.

– الصيام عبادة سرية فريدة بين العبادات، ولا يمنع المسلم من الإفطار إلا تعظيمه لله تعالى وأنه مطلع عليه وناظر إليه.

وتلك هي التقوى التي يقصدها الصوم. {لعلكم تتقون}.

بقلم الشيخ: طه عامر

Posted on Leave a comment

في ذكرى فتح مكة عِبَرٌ دانية

ماذا يعني أن يُنزل الله سبحانه في واقعة الحديبية سورة من المفصّل. ويسمّيها سورة الفتح. في حين أنّه اختصر فتح مكّة – الذي وقع بعد ذلك بعامين – في سورة من القصار. وهي سورة النّصر؟ وهل يسبق الفتح النّصر؟ ومعلوم أنّ مكّة فتحت في العشرين من رمضان. ولكن هل كان الفتح مقصودا؟

الحقّ أنّ مكّة فتحت بالقوّة (بتعبير الفلاسفة) يوم وقّعت قريش على مصالحة مثيرة للجدل بين الصّحابة أنفسهم. إذ عدّوها دنيّة في الدّين بتعبير الفاروق عمر عليه الرّضوان وإيّاهم جميعا. بل فتحت مكّة يوم أخفق حصار قريش وغطفان للمدينة – وبعد زهاء شهرين كاملين – من اجتياز الخندق. لم يكن خندقا غائرا في الأرض تهابه خيولهم فحسب. بل كان خندقا ظاهره نيران الخيبة تؤجَّج في صدور الغزاة وباطنه رمز لصفّ إسلاميّ واحد معبّإ بالأمل. كان الخندق مقبرة جماعية لمكوّنات الجبهة العربية التي سمّاها القرآن (الأحزاب). كان خاتمة ملحمة ثأرية فاشلة بدأت بواقعة بدر وثنّت بواقعة أحد. وممّا يسّر عليه (عليه السّلام) تغيير عنوان المقاومة (من التّحصين الدّاخليّ إلى ملامسة تخوم الشّاهد الدّوليّ) انهيار مكوّنات الجبهة الإسرائيلية وبالسّرعة ذاتها التي انهارت بها الجبهة العربية (من بني قينقاع حتّى خيبر مرورا ببني النّضير وبني قريظة وبني المصطلق). ولم يكن الخيط النّاظم لانهيار الجبهة الإسرائيلية في غضون سنوات خمس فحسب سوى عنوان الخيانة لدستور المدينة الذي اعترف بوجودهم ومنحهم حقّ الحياة ضمن نظام إداريّ يحلو لي أن أخلع عليه الصّفة الفدرالية التي تتيح للأقلّيات أكثر الحرّيات في إدارة شؤونها الداخلية. كانت واقعة الخندق إذن تأشيرة عبور إلى المناطق المجاورة فكانت (الحديبية) محطّة أولى على درب ذلك العبور. ولم تكن (الحديبية) إلاّ محطّة سياسية أولى مع الجبهة العربية. وكانت حصيلتها الكبرى: تمزّق تلك الجبهة لأوّل مرّة. إذ التحقت قبيلة عربية مشركة مهمّة بمعسكر الإسلام تحالفا عسكريا وسياسيا (قبيلة خزاعة التي ستكون هي السّبب المباشر لفتح مكّة). وهو أوّل متغيّر سياسيّ عسكريّ في العلاقة بين الوجود الإسلاميّ والجبهة العربية. وهو ثمرة من ثمرات الفشل المدوّي لتلك الجبهة في غارة الخندق. لا يعنيني كثيرا إن كانت إدارة ملفّ الحديبية وحيا يوحى أم تدبيرات نبوية. والرّأي عندي أنّه تدبيرات نبوية تربّعت على عرش الذّكاء السّياسيّ الوقّاد من عقل نبيّ لم تبخل عنه الجبهة العربية نفسها بعنوان الصّدق والأمانة طيلة أربعة عقود. فكيف وقد تقلّد بعد ذلك وسام النّبوّة؟ لماذا نبخل عنه بأنّه قائد عسكريّ سياسيّ من طينة لا عهد للبشرية بها؟ وثيقة الحديبية وحدها كافية وزيادة شهادة على ذلك. وفي إثر ذلك التّدبير الموغل في الرّجحان والحصافة نزل الوحي وهو يخلع عليه عنوان الفتح المبين. أيّ فتح والمسلمون أعيدوا من حيث جاؤوا ولم يكحّل المهاجرون منهم أعينهم بأطلال مهدهم؟ أيّ فتح والقارئ المتعجّل لوثيقة المصالحة يرى دنيّة ظاهرة؟ أليس عليه (عليه السّلام) ألاّ يحول دون مرتدّ عنه إلى قريش؟ أليس عليه ألاّ يستقبل مؤمنا جديدا فارّا إليه من فتنة قريش؟ لا أستطيع خلاصة من ذلك إلاّ أن أضيف إلى علمي لبنة جديدة عزيزة محكمة هي: كلّ علم شرعيّ لا يرتقي إلى موقف شرعيّ استقراء لموازين العمران والاجتماع من مصالح ومفاسد هو علم فاسد لا ينفع بل يضرّ. فساد العلم معناه فساد منهاج صاحبه في توظيفه وتصريفه. بتعبيرنا المعاصر: فتحت مكّة بالقوّة يوم أحسن (عليه السّلام) قراءة المشهد الدّوليّ النّافذ. فعلّمنا أنّ الفتح الذي يعقبه النّصر إنّما هو فتح حقوق الانتماء والولاء في وجه كلّ إنسان دون خوف من أيّ إكراه. ثمّ يتنزّل الوحي ليعلّمنا أنّ الفتح في القاموس الإسلاميّ يعني هدم حواجز الخوف واندياح الحرّيات وفق قوله سبحانه (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر). وأنّ الفتح هو فتح طريق الحوار. وأنّ كلّ فتح بهذا المعنى معقوب بنصر فوق الأرض. لذلك توسّع الوحي في ثقافة الفتح وفقه الحوار في سورة الفتح ولم يفعل مثل ذلك في النّصر. لأنّ النّصر ثمرة لفتح. السؤال المعاصر المحرج هو : أنّى لنا بنصر ونحن غير واعين بضرورة فتح سابق له؟ خلاصة إذن: فتحت مكّة بالقوّة يوم الأحزاب أوّلا ثمّ يوم الحديبية ثانيا.

بخزاعة فتحت مكّة:

خزاعة التي أحسنت قراءة التّوازنات الدولية في الحديبية وانتمت سياسيا وعسكريا إلى أمّة الإسلام (في فارقة مغامرة غير معهودة ولكنّها محسوبة) كانت هي السّبب المباشر في فتح مكّة. إذ استنجدت بحليفها محمّد (عليه السّلام) لمّا تعرّضت لعدوان أحمق من قريش. وكذلك ترتّب أقدار الله الغلاّبة الماضية تدبيراتها: يُسدّد (عليه السّلام) في إدارة مرحلة مدنية ملغومة من كلّ الجوانب والجهات تسديدا عسكريا وسياسيا. وتتراكم حماقات قريش لتكون في نهاية المطاف عدوانا على حليف لمن وقّعت معه قبيل شهور فحسب مصالحة لعشر سنوات كاملات. وتكون الفرصة مواتية لتأديب قريش التي أثخنتها الحروب الفاشلة. وكان فتح مكّة باستسلام جامع من قريش التي تقود الأمّة العربية. لا أجد عبرة أعظم من هذه (ومن يتّق الله يجعل له مخرجا). هو قانون مطّرد لا يتخلّف. ومن التّقوى الاستقامة للعهود ورعاية المواثيق. ويتحقّق وعده سبحانه إيّاه في الرّؤيا ويدخل المسجد الحرام آمنا. ولو دخله في الحديبية ولمّا يتزيّل المؤمن عن المشرك لكانت فتنة. هي تدبيرات قدرية وترتيبات من الذي يعلم سبحانه. ولكلّ أمر أوانه الأنسب لولا الاستعجال البشريّ. فتحت مكّة بداية بتقهقر الجبهة العربية وبإدارة نبوية حسنة للحديبية ثمّ بوفائه لعهده مع قبيلة مشركة هي خزاعة. وبحماقة قرشية سرعان ما انهارت بها الهدنة من سنين عشر إلى عامين فحسب.

خلاصة :

ما توسّع الوحي في كلّ ذلك عدا ليكون لنا نحن اليوم من ذلك منهاج قوامه أنّ فتح قنوات الحوار أسبق من النّصر. وأنّ الفتح عند الله أعظم من النّصر. الفتح يدوم والنّصر قد يتعرّض إلى عواصف. منهاج قوامه أنّه علينا تقوى الله تقوى سياسية وعسكرية. إذ لم يتردّد الوحي نفسه في التّصريح بأنّ رعاية قوانين السياسة تقوى (فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إنّ الله يحبّ المتقين). أمّا تقوى الله خلاصا فرديا فحسب بلزوم العبادات وشعائرها وبعض شؤون الأسرة فهي تقوى مغشوشة. منهاج قوامه حسن قراءة المشهد الدّوليّ وحسن تقدير مكوّناته قوّة وضعفا. منهاج قوامه أنّه عندما تكون أرصدة الإسلام في ارتفاع فإنّه علينا تضييق مساحات (الجهاد الفرضويّ) الذي يحمل سمّه النّاقع في دسمه المغري. وتوسيع دوائر التّحرّر والانعتاق والحوار والتّعريف بالإسلام. لا بفرقه ومذاهبه وتيّاراته. منهاج قوامه أنّه لا فتح ولا نصر قبل أن يعود صفّنا الإسلاميّ صفّا واحدا حتّى وهو متنوّع كلّ التنوّع. إرادة ربانية. وليس شغبا منّا. منهاج قوامه فقه سياسيّ معياره المصلحة والمفسدة وليس الحلال والحرام (تحالفه عليه السّلام مع خزاعة لتمزيق الجبهة العربية هو مثال واحد من أمثلة كثيرة). منهاج قوامه الاطمئنان العقديّ على ما نكره. والإيمان كلّ الإيمان بأنّه سبحانه يعلم ونحن لا نعلم. وأنّه لن يطلعنا على الغيب. وأنّه لا فتح ولا نصر حتّى نفتح قلوبنا وعقولنا معا (أجل. معا) للوحي فهما. وليس تباريا في حسن الصّوت فحسب. وحتّى نفتح صدورنا لبعضنا بعضنا حوارا عاقبته ليست إلغاء المختلفات بل شدّ الصفّ ونسج عرى التّآخي. ولولا ذلك المنهاج الذي يحقّق لنا فتحا ثمّ نصرا بإذنه سبحانه ما كان الوحي ليسجّل الحديبية وقبلها الأحزاب ويتوسّع فيهما. ولم يكن ذلك مطلقا لإحسان التّلاوة تعاويذ تقشعرّ منها الجلود والقلوب لاهية عن معانيها والعقول غافلة عن رسالتها. بكلمة واحدة لا ثاني لها: لا فتح ولا نصر حتّى نقرأ القرآن لأجل معالجة تحدياتنا نحن وعلى رأسها المقاومة لتحرير القدس السّليب. ولا فتح ولا نصر حتّى نستنير بالمنهاج النّبويّ في إدارة المعركة مع الجبهة العربية والإسرائيلية والرومية وجبهة النّفاق. مكّتنا المعاصرة التي علينا عبء تحريرها وفتحها هي شقيقة مكّة التي فتحها عليه السّلام. هما شقيقتان صنويان: شقّة في الحرمة وكلاهما محرّم. وشقّة في العبادة وكلاهما مثابة عبادة (تلك بمائة ألف صلاة وهذه بخمسمائة صلاة). أمّا الدّموع التي تذرف حول الكعبة البيت الحرام ولا تتمعّر وجوهها وهي ترى الصّلف الصهيونيّ والنّفاق العربيّ فهي دموع قُدّت من التّماسيح. القدس آية من آيات الكتاب ومن ضيّعها فقد ضيّع الكتاب. كذلك قال أحد المصلحين قبل عقود.

بقلم الشيخ: الهادي بريك