Posted on

شهر رمضان وإحياء القلوب | الشيخ طه عامر

 أطل علينا شهر رمضان والقلوب في ظمأ أشد من الأرض الهامدة ليحييها بأنواره وفضائله، ويُزيل ما عَلِق عليها من غبار الشهوات، وآثار الغفلات، وقسوة الحياة المادية التي نعيشها، سيما في البيئة الأوروبية.

  وقد اعتنى القرآن الكريم عناية فائقة بالحديث عن القلوب وأنواعها وأمراضها وأغذيتها وأثر صلاحها وفسادها على الفرد والحياة. وعنى العلماء بقضية إصلاح القلوب وفي مقدمتهم علماء السلوك، وللإمام ابن القيم كتابات مهمة في هذا الباب، تجده في إغاثة اللهفان وفي الوابل الصيب وغيرهما مما لا تجده في غيره بهذا التحقيق والنَّفَس.

  ذكر الإمام ابن القيم أن مفسدات القلوب خمسة: ” كثرة الخلطة، والتمني، والتعلق بغير الله، والشبع والمنام “.

 وعن أثر هذه الخمسة على القلب يقول: ” وهذه الخمسة تطفئ نوره، وتُعور عين بصيرته، وتُثقل سمعه – إن لم تُصمه وتُبكمه – وتُضعف قواه كلها. وتُوهن صحته وتُفتر عزيمته، وتُنكسه إلى ورائه، ومن لا شعور له بهذا فميت القلب. وما لجرح بميت إيلام.”

 {تهذيب مدارج السالكين / عبد المنعم صالح العزي/ ص222}

  شهر رمضان منحة إلهية، لطفاً من الله بعباده، فمن أراد أن يُطهر قلبه من غفلات الحياة، ويغسل قلبه من أدران الذنوب، ويزيح عنه هموم الدنيا ومكدراتها، فها هو شهر رمضان مغتسلٌ باردٌ وشرابٌ.

إن أسباب إصلاح القلوب واستنارتها وافرة كاملة في شهر رمضان.

وأعظم وسيلة لتزكية النفس وتطهير القلب وإحيائه وزيادة إشراقه، هو: القرآن الكريم، قراءةً وحفظاً وتدبراً ومعايشةً، قال تعالى:

  
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ (57) سورة يونس

شفاء لما في الصدور من الهموم والغموم، من الشك والأوهام، من القلق والأرق، من اليأس والعجز، من الجهل والحيرة، من الحسد والحقد.

 وهدى ورحمة، فمن أقبل عليه بقلبه يبحث عن دواء لمرض نزل به هداه الله، ومن أشكلتْ عليه الطرق وسأل الله الهداية والنجاة أخذ بيده وأيقظ قلبه ودله على الخير وسبيله، ومن أقبل عليه يطلب العلوم والمعارف أشرق على عقله وقذف في قلبه بالحكمة والمعرفة الربانية.

بالقرآن نزداد إيماناً

 القرآن نور وللإيمان في القلب نور، فإذا قرأ المؤمن القرآن الكريم أضحى نوراً على نور. وآية المشكاة في سورة النور لها إشراقات في هذا المعنى. وأوصي بالاستماع والاستمتاع بتفسيرها للإمام الشعراوي رحمه الله ورضى عنه.

  الحاصل أن تأثير القرآن في القلوب إنما يكون بقدر الإيمان فيها، ونحن نعاين هذا من أنفسنا بحسب الأحوال الإيمانية، والاستعدادات النفسية، والتهيئة القلبية، والبيئة الربانية، وشرف الزمان والمكان.

حين تقوم من الليل فتقرأ القرآن قائماً وساجداً، تجد له لذةً وحلاوةً.

أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ۗ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9) سورة الزمر

فإذا كان وقت الفجر فإن للقرآن هنالك حضوراً وشهوداً.

أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ ۖ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) سورة الإسراء

ولا شك أن حضور القلب أثناء القراءة واستشعار رحمة الله وتعظيم كتابه يفتح للمؤمن أبواب التدبر والفهم ومعايشة المعاني فيزيده الله خضوعاً وخشوعاً وإيماناً.

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) سورة الأنفال

 هل تذكرتَ ليلةً صليت في الحرم المكي أو المدني أو غيرهما من بيوت الله، وقد فتح الله على الإمام في القراءة بصوت شجي وحضور قلبي؟

 كيف كان قلبك ساعتها؟ هل نسيت هذه التلاوة؟ أم أن صداها بقى في أذنيك إلى الآن؟ هل كنت تود ألا يفرغ من التلاوة؟

ما هو السر؟…إنه اجتماع شرف الزمان والمكان وحضور القلب بعد جهد إيماني فزاده القرآن نوراً وإيماناً.

وستجد لقراءة القرآن حلاوةً ونعيماً في شهر رمضان، وخاصة في العشر الأواخر، سِيمَّا التهجد، حيث الرحمات الهاطلة من السماء، والقلوب المتصلة بعلام الغيوب، والمغفرة والعفو منا قريب.

  إذا أردنا أن يعيش أولادنا مع القرآن الكريم بقلوبهم وتتصل به أرواحهم فعلينا أن نصنع لهم بيئة إيمانية، مثل:

مبيت في المسجد يصاحبه برنامج إيماني تربوي، فإذا قاموا بالليل يتلون كتاب الله جلَّ جلاله، حينها تتأثر قلوبهم وتسمو نفوسهم.

وتجربتنا في المخيمات القرآنية التي ننظمها للشباب خير شاهد على إشراق قلوبهم بالقرآن الكريم في تلك الأجواء الفريدة.

الشيخ: طه عامر

إنه القرآن العظيم.

اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23) سورة الزمر