Posted on Leave a comment

مختارات نبوية | حرمة دم ومال المعاهد غير المسلم

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: “مَنْ قَتَلَ نَفْسًا مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا” البخاري. 

المعنى العام للحديث 

المعاهد هو هو غير المسلم إذا دخل دار الإسلام بأمان أو عهد أو هدنة إذا كانت هناك حرب، ويحرم على المسلم بهذا العهد أن يتعرض لغير المسلم بأي لون من ألوان الأذى فضلا عن قتله أو أخذ ماله، فإن فعل شيئا من ذلك فحرام عليه أن يشم رائحة الجنة فضلا عن أن يدخلها، وأوضح وأصرح من هذا الحديث ما روي عن عَمْرُو بْنِ الْحَمِقِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا أَمِنَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ عَلَى نَفْسِهِ ثُمَّ قَتَلَهُ فَأَنَا بَرِيءٌ مِنَ الْقَاتِلِ وَإِنْ كَانَ الْمَقْتُولُ كَافِرًا» أبو داود. فالنبي صلى الله عليه وسلم يعلن براءته من مسلم يقتل كافراً بعد أن أعطاه الأمان على نفسه. والحكم ينطبق بصورة أشد على المسلمين في أوروبا وعلى كل مسلم دخل أوروبا بتأشيرة مؤقتة للسياحة أو العلاج أو الدراسة أو غير ذلك، أو تأشيرة دائمة، والمسلمون المتجنسون أولى أيضا بهذا الحكم والتشديد عليهم فيه، فكل مسلم يقيم في أوربا دخلها بعقد وعهد بينه وبين الدولة بموجب التأشيرة التي مُنحها يجب عليه أن يلتزم بقوانينها وأن يحترم نظامها وأن يؤمن أهلها وأن لا يتعرض لهم بأذى أو قتل، بل يتعين على المسلمين كمواطنين أوربيين الدفاع عن أوطانهم الأوروبية أمام أى اعتداء يقع عليها أو على أهلها، وهذا الحديث يبطل ويجرم عمليات القتل والدهس التي وقعت في أوروبا ونسبها البعض زوراً للإسلام، ففاعلها ناقض للعهد لا يجد ريح الجنة ولا يدخلها. وكذلك ما يردده البعض من استحلال لأموال غير المسلمين وسرقتها، وكل صور أخذ مال من الدولة دون حق للمسلم فيه بالغش أو الكذب أو التدليس أو ادعاء غير الحقيقة كل ذلك حرامٌ شرعاً على المسلم أن يقع فيه. 

وقد أمرنا الله عزو وجل بالوفاء بالعهود والمواثيق بيننا وبين المسلمين وغير المسلمين فقال: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء: 34]، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] ومن صفات أولي الألباب أنهم يوفون بالعهود قال تعالى: {أُولُو الْأَلْبَابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ} [الرعد: 19، 20] وتوعد الله ناقض العهد بقوله: {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [الرعد: 25]

ومما يؤسف له أن بعض المسلمين يريد نقض العهد بينه وبين غير المسلمين بحجة أن أوروبا تشارك بجيوشها وأموالها في قتال المسلمين في مناطق متفرقة من العالم، أو باستدعاء أحداث تاريخية سبقت كاحتلال فرنسا للجزائر وقتلها من المسلمين في الجزائر ما قتلت واعتبار ذلك مسوغاً يبيح الاعتداء على الفرنسيين اليوم، وهذا الفهم منقوض ومرفوض بهذا الحديث وبقوله تعالى: {وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] فما ذنب الأنفس البريئة المطمئنة اليوم لنحملها أوزار أمم سبقت بالترويع أو التهديد أو القتل؟ 

رسائل الحديث

  1. خطر الدماء وصيانة الأنفس والعهود في الإسلام دون تفريق بين مسلم وغير مسلم ما لم يكن محارباً، ومن خطرها أن المستهين بها لا يشم ريح الجنة.
  2. دماء وأموال وأعراض غير المسلمين في الغرب مصونة بموجب العهد المتمثل في تأشيرة دخول البلاد أو التجنس بجنسيتها، والمعتدي عليهم لا يدخل الجنة ولا يشم ريحها بمنطوق الحديث النبوي الصحيح. 
  3. الوفاء بالعهد مع غير المسلمين واجب ونقضه حرام وصورته في أوروبا، أن المسلم الأوروبي أعطى الدولة عهدا بالتزام قوانينها وتأمين أهلها فلا يجوز له نقض عهده تحت أي ذريعة. 
  4. تأمين أوروبا وأهلها والدفاع عنها ضد أي عدوان واجب على كل مسلم اتخذها وطنا له ينعم بأمنها وخيرها. 
  5. تبرير العنف في الغرب بأحداث تاريخية سبقت لا يصح عقلا ولا شرعا ويتعارض مع المبدأ القرآني: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الإسراء: 15]
  6. وصية النبي صلى الله عليه وسلم بالمعاهدين والمستأمنين وحرصه على تأمينهم وعدم إخافتهم يدل على كمال رأفته ورحمته بالخلق مسلمهم وكافرهم؛ لعموم رحمته وعالمية رسالته قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]

بقلم الدكتور: خالد حنفي.

Posted on Leave a comment

كيف نصوم صيام الصالحين؟ – الشيخ طه عامر

حينما تحدث الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى في الإحياء عن أسرار الصيام تكلم عن صوم العوام وصوم الخواص، وذكر أن صوم العوام هو صيام عن الطعام والشراب والشهوة فقط، أما صوم الخصوص فهو صوم الصالحين، ونرجو أن نعزم على الوصول لدرجته في عامنا هذا.

 وذهب الإمام بأن تمام صوم الخصوص يكون بستة أمور، نذكرها باختصار، والعودة إلى الإحياء فيه للقلوب إحياء.

الأول: غض البصر عن كل ما يُذَم ويُكرَه، وكل ما يشغل عن ذكر الله.

الثاني: حفظ اللسان عن آفاته.

الثالث: كف السمع عن كل مكروه.

الرابع: كف بقية الجوارح عن الآثام.

الخامس: ألا يستكثر من الطعام الحلال وقت الإفطار.

السادس: أن يكون قلبه معلقاً بعد الإفطار بين الخوف والرجاء، هل قَبِل الله صومه أم رده عليه.

{للاستزادة: راجع الإحياء ج1 ص 306 -309}

ومما استرعى انتباهي شكوى الإمام أبي حامد الغزالي رحمه الله من ظاهرة الإكثار من الطعام في شهر رمضان يقول: ” واستمرت العادات بأن تُدخر جميع الأطعمة لرمضان فيؤكل من الأطعمة فيه ما لا يؤكل في عدة أشهر..”.

قلت: لقد ظننت أنَّ زماننا هو المتفرد بالإكثار من الإنفاق في شهر رمضان وإذا بها أزمة قديمة تضيق قليلاً أو تتسع بحسب عوامل اقتصادية واجتماعية وثقافية، وحتى نكون واقعيين لا يصح أن ندعو الناس أن ينصرفوا بالكلية عن تلك العادات، لكننا نريد الترشيد، فلينتبه المسلم وليتوسط في الأمر فلا يُضْعِف أثر صومه بكثرة طعامه بعد الإفطار.

 وإنَّنا يُعاين من نفسه الفارق الكبير بين أن تقوم للصلاة بعد الإفطار وأنت خفيف من الطعام وضده.

بين الإفراط والتفريط تضيع الحقوق وتفسد الحياة ويختل الميزان. وحينما أتتبع لوناً من الخطاب الذي ينعي على المسلمين الإسراف في الطعام والشراب في شهر رمضان أجد مبالغة وشططاً ومجافاة للواقعية، والمسألة تتطلب توسطاً في النظر والمعالجة، فلا نجلد الناس ونقسوا عليهم فينفروا من الدين وأهله، ولا نسكت على بعض مظاهر الاستهلاك المجنون، دون توجيه حكيم.

لا بأس أن يوسع المرء على نفسه وأهل بيته في المناسبات الدينية وغيرها بقدر وسعه دونما إسرافٍ أو تضييعٍ للحقوق أو أصحاب الحاجات.

وعلينا أن نضع في اعتبارنا عدة أمور:

– أنَّ الزمان قد تغير وأن الناس يختلفون في حاجاتهم وقدراتهم، فلا تصلح بعض مضامين خطاب الأجيال القديمة للأجيال الجديدة.

–  حينما ترتبط المناسبات بالطيبات من الرزق- في غير إسراف – فهذا مما يزين الطاعة لقلوب أولادنا.

– الموازنة بين مطالب الروح ومطالب الجسد دون بخس أو شطط.

– لا بأس بالتقشف التربوي المقصود – بعض الأيام -، تربيةً للإرادة، وتعزيزاً لسلطان الروح، وتنميةً للشعور بالفقير، وتقويةً لملكة المجاهدة. فيمكن أن تصوم الأسرة وتفطر على طعام الفقير، ولو كانت تلك الأسرة من ساكني القصور، أو تتصدق بثمن وجبة الإفطار لصالح من يَعضهم الجوع.

بقلم الشيخ: طه عامر

Posted on Leave a comment

مختارات نبوية | سفينة المجتمع

سفينة المجتمع

عن النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:” مثَلُ القَائِم على حُدُودِ اللَّه والْوَاقِع فيها، كَمثل قَومٍ اسْتَهَموا على سَفِينَةٍ، فَأَصابَ بَعْضُهم أعْلاهَا، وبعضُهم أَسْفلَهَا، فكان الذين في أَسفلها إذا استَقَوْا من الماء مَرُّوا على مَنْ فَوقَهمْ، فقالوا: لو أنا خَرَقْنا في نَصِيبِنَا خَرقا ولَمْ نُؤذِ مَنْ فَوقَنا؟ فإن تَرَكُوهُمْ وما أَرَادوا هَلَكوا وهلكوا جَميعا، وإنْ أخذُوا على أيديِهِمْ نَجَوْا ونَجَوْا جَميعا”. أخرجه البخاري في صحيحه. 

 المعنى العام للحديث

هذا حديث عظيم يشبه فيه النبي صلى الله عليه وسلم المجتمع أو الدنيا كلها بسفينة، أقامت مجموعة من الناس في طابقها الأول، ومجموعة في طابقها الثاني بعد أن استهموا يعني: اتخذ كل واحِد منهم سَهْما، أَي: نصيبا من السَّفِينَة بِالْقُرْعَةِ، ثم وجدت المجموعة التي في الطابق الأرضي أنهم كلما أرادوا الماء اضطروا للمرور على من فوقهم فيؤذونهم، ففكرت تلك المجموعة لقربها من الماء أن تختصر الجهد والوقت ولا تزعج مجموعة الطابق الثاني في خرق السفينة للحصول على الماء، ويوجه النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم إلى أن الواجب على الجميع في هذه الحالة هو: منع خرق السفينة؛ لأنها إن غرقت فسيغرق الجميع ولن يقتصر الهلاك على الذين قاموا بفعل الخرق دون غيرهم وهو ما عبر النبي صلى الله عليه وسلم عنه بقوله:” فإن تَرَكُوهُمْ وما أَرَادوا هَلَكوا وهلكوا جَميعا، وإنْ أخذُوا على أيديِهِمْ نَجَوْا ونَجَوْا جَميعا” وما أكده القرآن الكريم من أن العقوبة لا تنزل فقط بمن ظلم بل بمن صمت على الظلم ولم ينكره حسب قدرته قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 25]، وهكذا القائم على حدود الله والواقع فيها، أي المستقيم على كل شيء منع الله مجاوزته، أو الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، فالنبي صلى الله عليه وسلم يشبه من يرى المنكر ولا ينكره بحجة أن ضرره لا يصله بشكل مباشر، بمن يرى سفينة هو على ظهرها تخرق وستغرق ولا يتحرك لمنع خرقها لأن خارقها يتصرف في سهمه ويخرق في حقه، وكما أن النتيجة في مشهد السفينة ستكون هلاك الجميع فكذلك هلاك المجتمع إذا ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 

وقد جسد المسلمون الذين هاجروا إلى الحبشة نموذجا مثاليا في حراسة السفينة من الخرق والغرق رغم أنهم كانوا أقلية مستضعفة غريبة على المجتمع تخشى على نفسها من الهلاك بالترحيل والتسليم لقريش ليفتكوا بهم، فعندما قامت ثورة داخلية مسلحة ضد النجاشي ملك الحبشة العادل ذهب إليه جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وعرض عليه أن يقاتلوا معه فرفض، فنفخوا قربة للزبير بن العوام ليعوم عليها ويراقب أجواء المعركة ليتدخل المسلمون بالإغاثة إذا لزم الأمر، وذكرت الروايات عن السيدة أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت: فقمنا بالليل نصلي وندعو الله أن يظهر النجاشي على من خرج ينازعه في ملكه. ولما سلم الله سفينة مجتمع الحبشة من الخرق والغرق فرح الصحابة فرحا عظيما عبرت عنه السيدة أم سلمة رضي الله عنها بقولها: فما فرحنا فرحا قط بشيء منذ هاجرنا كفرحنا بظهور النجاشي على من خرج ينازعه في ملكه.

والحديث أصلٌ في الدور الإصلاحي للمسلم في أي مكان ينزل به وأن لا يكون همه أن يحفظ نفسه ولا يلتفت لغيره أو يصون جماعته المسلمة ولا ينظر إلى المجتمع أو الأمة، ولهذا شُغل إبراهيم عليه السلام بهذه المهمة الإصلاحية حين جاءته الملائكة تبشره بالولد الذي انتظره طويلا وجاءه على كِبر فجادل الملائكة في منح قوم لوط فرصة أخرى علهم يتوبوا إلى الله مما وقعوا فيه قال تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} [هود: 74] وقد جسد هذه المهمة الإصلاحية نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم حين سألته السيدة عائشة رضي الله عنها قائلة: يَا رَسولَ اللهِ، هلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كانَ أَشَدَّ مِن يَومِ أُحُدٍ؟ فَقالَ: لقَدْ لَقِيتُ مِن قَوْمِكِ وَكانَ أَشَدَّ ما لَقِيتُ منهمْ يَومَ العَقَبَةِ، إذْ عَرَضْتُ نَفْسِي علَى ابْنِ عبدِ يَالِيلَ بنِ عبدِ كُلَالٍ فَلَمْ يُجِبْنِي إلى ما أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ علَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إلَّا بقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بسَحَابَةٍ قدْ أَظَلَّتْنِي فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، فَنَادَانِي، فَقالَ: إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَما رُدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إلَيْكَ مَلَكَ الجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بما شِئْتَ فيهم، قالَ: فَنَادَانِي مَلَكُ الجِبَالِ وَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قالَ: يا مُحَمَّدُ، إنَّ اللَّهَ قدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَأَنَا مَلَكُ الجِبَالِ وَقَدْ بَعَثَنِي رَبُّكَ إلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بأَمْرِكَ، فَما شِئْتَ، إنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عليهمُ الأخْشَبَيْنِ، فَقالَ له رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِن أَصْلَابِهِمْ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لا يُشْرِكُ به شيئًا. أخرجه مسلم في صحيحه. 

 وما أكثر خُرَّاق السفينة اليوم الذين يفسدون في الأرض وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، بل وما أكثر من يتابعون بصمت ويرون بأعينهم السفينة التي تحملهم تغرق ولا ينكرون خرقها بكلمة. والأخذ على يد من يخرق السفينة لابد أن يتم بحكمة وفقه وفي إطار القانون والنظام العام وإلا أدى إلى فساد أكبر. 

 رسائل الحديث

  1. استحقاق العقوبة العامة بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: الصورة البيانية التي رسمها هذا الحديث النبوي الشريف توضح أن العقوبة الإلهية أو السننية الأرضية حين تصيب الناس لا تقتصر على المفسدين وحدهم ولكنها تنزل بالجميع ومن بينهم الصالحين الذين لا يتورطون في خرق السفينة لكنهم لم ينكروا الخرق ولم يتحركوا لإيقافه؛ وذلك لبيان خطر الصمت على الخطأ وتحميل المسؤولية العامة للمجتمع كله عن حماية النظام العام وقيم المجتمع، وعلى المسلمين في الغرب أن يقوموا بواجبهم في حراسة القيم العامة الأصيلة في الإسلام وسائر الأديان إذا وقع التغول والعدوان عليها، كالحرية والعدل والمساواة والشورى والديمقراطية، وأن تكون حركتهم لحماية القيم حركة مبدئية يدفعهم إليها الإيمان بها لا المصلحة المحدودة المتعلقة بالمسلمين فيثورون ويحتجون فقط إذا كان غرقى السفينة من المسلمين، أو كان القانون الجديد يضر بالحريات الدينية للمسلمين، بل عليهم أن يرفضوا كل توجه يتفق العقلاء على أنه خرق للسفينة؛ لأنه حتما سيصلهم شرره ولو بعد حين.
  2. امتناع بعض المسلمين عن المشاركة السياسية خرقٌ للسفينة: تعتبر المشاركة السياسية في عالم اليوم هي أحد أهم الوسائل الحديثة في العالم المتحضر للتغيير وحفظ قيم المجتمع وحرياته العامة، وبعض المسلمين يشكك في مشروعية تلك المشاركة بل يبلغ به الحد إلى تحريمها، والواقع يحتمها ويفرضها؛ لأنها السبيل الأمثل لمنع القوانين المقيدة للحريات، ومنع وصول الأحزاب الشعبوية المتطرفة التي تخرق سفينة المجتمع بخطابها وتوجهها وتطرفها، فهي أفضل وسيلة سلمية آمنة للتغيير والوقاية والإيجابية.
  3. خرق سفينة الأسرة: ارتفعت نسب الطلاق بشكل مخيف في عالم اليوم، والإشكال الأكبر هو أن أسباب هدم الأسرة في أغلب الحالات يمكن الصبر عليها وتجاوزها بشيء من الحكمة والتغافل والنظر إلى الإيجابيات الأخرى في كل من الزوج والزوجة، إن هدم الأسرة بالطلاق هو خرق لسفينة الأسرة وخطوة في هدم سفينة المجتمع، فيجب أن لا يصار إليه إلا إذا تعين سبيلا لحماية سفينة الأسرة بإعادة بنائها أو استبدالها بأفضل منها، وعلى الزوجين وعائلتها والمؤسسة الدعوية في الغرب بذل الجهد لحماية سفينة الأسرة وصيانتها بالتأهيل قبل الزواج وحسن المتابعة بعده؛ فإن التحديات التي تواجها الأجيال الجديدة في الغرب لابد لها من أسرة متعاونة متماسكة، وأكثر من يدفع ثمن الطلاق والشقاق في الغرق هم الأولاد. 
  4. تقديم المصلحة العامة على الخاصة: فإن أهل الطابق الأرضي القريبون من الماء أصحاب مصلحة في خرق السفينة للحصول على الماء وتوفير الوقت والجهد لكنهم إن فعلوا أضروا بالمصلحة العامة للمجتمع بإغراق السفينة كلها؛ ولهذا فعلى المسلمين في الغرب أن يقدموا دائما مصلحة المجتمع والأمة الأوربية على مصالحهم الخاصة الجزئية حالة التعارض، فإذا كنا مثلا أمام حزبين سياسيين متنافسين: أحدهما برنامجه يحمي المصالح العامة كالبيئة لكنه يضيق على حريات المسلمين الدينية، والثاني يحقق ببرنامجه مصلحة للمسلمين لكنه يضر بالشأن العام فيجب دعم الأول على الثاني؛ لأن دعمه يمثل حماية السفينة من الغرق.
  5. فقه ” أخذوا على أيديهم”: إنكار المنكر والتصدي لمحاولة خرق السفينة يحتاج إلى فقه وحكمة؛ لأن منع الخرق بغير فقه ودون حكمة ربما أدى إلى منكر أعظم أو اتساع الخروق في السفينة، لهذا تدرج النبي صلى الله عليه وسلم في إنكار المنكر ومنع خرق سفينة المجتمع ووضع جملة من الخيارات كالإنكار اللساني والقلبي والإنكار باليد، وربما كان الاكتفاء باللسان هو عين الحكمة، ومنع الخرق باليد يحتاج أعلى درجات الفقه، وفي حالة العجز التام ليس أقل من الإنكار اللساني ليبقى المسلم متحفزا رافضا لخرق سفينة المجتمع فمتى سنحت الفرصة للمنع بغير القلب انتقل إليه. وفقه منع الخرق يؤكد على رفض العنف بكل صوره وأشكاله سبيلا إليه في دولة القانون والمؤسسات.
  6. جواز القرعة وضرب المثل: فالنبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر استهامهم واقتراعهم لوصول كل فريق إلى قسمه ونصيبه في السفينة، فيجوز استعمال القرعة في مختلف مجالات الحياة، كما يفيد الحديث أهمية ضرب المثل في التوجيه والتعليم.

بقلم الدكتور: خالد حنفي.

Posted on Leave a comment

القرآن ونجاح دعوة النبي عليه الصلاة والسلام .. آراء علماء أوربا في ذلك | العلّامة: محمد رشيد رضا

ألّف القسيسون وأعوانهم من المتعصبين للنصرانية كتبًا في القرون المتوسطة يمثلون بها الإسلام في أقبح صورة ينتزعها خيال الكاتب منهم على حسب تمكنه في الكذب والبهتان، ولما ارتقت العلوم والفنون في أوربا وضعف التعصب الأعمى على المخالف بقدر ذلك كثر الباحثون من علماء الإفرنج في شئون الشرق بالإنصاف، فتغير لذلك اعتقادهم في الإسلام والمسلمين، وألفوا في بيان مزايا هذا الدين التي كانت مجهولة، وفضائل أهله التي كانت مهضومة كتبًا كثيرة. ومن هؤلاء المؤلفين: البرنس كايتاني الإيطالي فإنه ألف كتابًا في تاريخ الإسلام يقال إنه كتبه بحرية وإنصاف بحسب ما وصل إليه علمه.

وقد زار مصر في هذا الشتاء فاحتفى به نادي المدارس العليا، وأكرم مثواه، وأثنت عليه جرائد المسلمين ثناءً حسنًا. وقد ترجم المؤيد في أوائل هذا الشهر تقريظ جريدة التيمس لتاريخ البرنس كايتاني ومنه هذه العبارة:

( ومن رأي المؤلف على إعجابه الفائق بصاحب الشريعة الإسلامية أن مزية النبي هي كفاءته العجيبة كسياسي محنك أكثر منه كنبي موحى إليه. ويؤيد قوله بدليل سبق إهماله حتى الآن، وهو أن حنكته وحسن سياسته أفادا في تأييد سلطته أكثر من إفادة القرآن أو أي حمية دينية ) اهـ نص ترجمة المؤيد لعبارة التيمس.

وهذا الذي قاله هو اعتقاد الإفرنج العارفين بنشأة الإسلام، وسيرة النبي عليه الصلاة والسلام؛ أي إنهم يعتقدون أن النبي – ﷺ – قام بما قام به بحنكته وسياسته، لا بتأييد الله تعالى له بوحيه وعنايته، ولولا هذا لما كان لهم مندوحة عن الدخول في الإسلام، ومثل الإفرنج في هذا الرأي كل من لا يدين بالإسلام من علماء المشرق. فدعوى أن نجاح النبي ﷺ كان بسياسته وحنكته – أي تجاربه – هي أكبر شبههم على الإسلام.

ومن الشواهد على ذلك من كلام علماء بلادنا غير المسلمين الأسطر والأبيات الآتية التي كتبها إليّ الدكتور شبلي شميل الفيلسوف المشهور بعدم التدين. حمله عليها قراءة المنار، وهي:

إلى غزاليّ عصره السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار:

أنت تنظر إلى محمد كنبي وتجعله عظيمًا، وأنا أنظر إليه كرجل وأجعله أعظم، ونحن وإن كنا في الاعتقاد (الدين أو المبدأ الديني) على طرفي نقيض، فالجامع بيننا: العقل الواسع، والإخلاص في القول، وذلك أوثق بيننا لعرى المودة.

من صديقك الدكتور شميل

الحق أولى أن يقال

دع من محمد في سدى قرآنه ** ما قد نحاه للحمة الغايات [1]

إني وإن أك قد كفرت بدينه ** هل أكفرنَّ بمحكم الآيات

أو ما حوت في ناصع الألفاظ من ** حكم روادع للهوى وعظات

وشرائع لو أنهم عقلوا بها ** ما قيدوا العمران بالعادات

نعم المدبر والحكيم وإنه ** رب الفصاحة مصطفى الكلمات

رجل الحجا رجل السياسة والدَّها ** بطل حليف النصر في الغارات

ببلاغة القرآن قد خلب النهى ** وبسيفه أنحى على الهامات

من دونه الأبطال في كل الورى ** من سابق أو لاحق أو آت

( المنار )

كتب الدكتور إليَّ بهذا لا لينشر بل ليقرأ على أنه خواطر جاشت في صدره، ثم بعد أن نشر المؤيد ما نشره عن التيمس، ورددت عليه في الجريدة استأذنت الدكتور بنشر ما كتبه فأذن، وهو كما يرى القارئ أكثر من البرنس كايتاني تعظيمًا للنبي ﷺ، وكذا للقرآن الحكيم الذي لم يدرك البرنس كايتاني تأثيره؛ لأنه لا يفهمه كالدكتور شميل.

ونحن-على كوننا نشكر لشميل ما اعترف به من مزايا نبينا وكتابنا، ونسأل الله أن يهديه للباقي منها وهو المهم الأعظم – لا نقول: إنه اعترف بنبوته ولا بحقية كون كتابه إلهيًّا. وننكر عليه أشد الإنكار قوله: إن النبي ﷺ من حيث كونه رجلا أعظم منه من حيث كونه نبيًّا على أنهم لا يعنون بمثل هذا التعبير الذي قاله شميل وكايتاني أنه نبي وسياسي وأن نبوته أقوى من سياسته. بل يعنون أنه نجح بسياسته لا بنبوته التي ادعاها، ولكن المؤيد غفل عن هذا وادعى أن ما قاله كايتاني حق، ولو كان حقًّا لكان هو وجميع علماء أوروبا وعلماء أهل الكتاب والوثنيين العارفين بتاريخ الإسلام كلهم على الحق، واستلزم ذلك كون المسلمين على غير الحق فيما يتعلق بأصل دينهم؛ لأنهم يقولون بخلاف هذا القول!!

نبهت ( الجريدة ) المؤيد إلى هذه الهفوة، وقالت: إن ما ترجمه عن التيمس من قول كايتاني كفر ما كان لصاحب جريدة تفتخر بأنها إسلامية أن ينقله ويقره. فرد عليها صاحب المؤيد بقوله الآتي نقلا عن عدده الذي صدر في 3 المحرم، والعنوان منا فقط:

رأي المؤيد في القرآن

أمّا نحن، فنقول للجريدة: إننا نقلنا عبارة البرنس كايتاني عن التيمس، ونحن نعتقد أنها ليست كفرًا فلا نلام إذا لم نرد عليها، وأمّا الجريدة فقد نقلتها وهي تعتقدها كفرًا، ولم ترد عليها فهي المقصرة والملومة.

إن غرض البرنس كايتاني من عبارته ظاهر، وهو الإعجاب بأخلاق النبي ﷺ، واعتبارها فوق كل قوة دينية أخرى كانت له.

والله تعالى يقول في كتابه الكريم: { وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ } ( القلم: 4 )، فلم يُرد البرنس كايتاني بقوله هذا حطًّا من شرف الدين الإسلامي ولا تحقيرًا للقرآن الكريم، وماذا يفعل القرآن وحده إذا كان الداعي به على أخلاق غير الأخلاق العالية التي اشتهرت عن النبي ﷺ، بل القرآن نفسه يقول: { وَلَوْ كُنتَ فَظا غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ } ( آل عمران: 159 ) فجعل مناط قوة ارتباط المؤمنين به والتفافهم حوله وانتصارهم له وفدائهم إياه بالنفس والمال سلامة أخلاقه من العيوب المنفرة.

فلو كان فظًّا غليظ القلب ما نفعه قرآن، ولا حمية دينية. وهذا كلام يقوله كل مسلم يعقل، ويعرف ما هو الإسلام الذي جاء به النبي ﷺ وروحه الأخلاق الشريفة التي أعجب بها البرنس كايتاني.

( وليس المقام مقام مقارنة بين القرآن والنبي صلى الله عليه، وأيهما أفضل؛ لأن هذا لا يؤخذ من عبارة البرنس كايتاني ولا هو غرض مؤرخ كبير كهذا، بل هذه المباحث العقيمة الآن تليق بجريدة مثل ( الجريدة ) لا يذوق محررها طعمًا لكلام مؤلف، ولا يعرف وزنًا لقيمة رأي مؤرخ ).

أليس القرآن بيننا الآن كما هو بين المسلمين منذ وفاة النبي ﷺ حتى الآن؟ فهل يستطيع مسلم أن يقول: إن قوة الإسلام الحقيقية كانت في عهد النبي ﷺ. وهل لذلك سبب سوى الأخلاق العالية التي وهبها الله عز وجل للنبي ﷺ، وهل أخلاقه الفائقة إلا موهوبة من عند الله، وهي معجزة من معجزاته؟ فهل يكون كافرًا بالله من قال: إن قوة هذه المعجزة بخصوصها كان لها دخل في فتوحات الإسلام على عهد النبي ﷺ أكثر من كل معجزة دينية أخرى.

إن للقرآن الكريم وظيفة أخرى لا يشاركه فيها مشارك وهي كونه شريعة إلهية، جمعت بين مصالح الدين والدنيا، ففاق بهذه المزية كل الكتب الإلهية الأخرى كما فاقها في الأسلوب والبيان، فهل ينقص من فضل القرآن ومزيته أن يقال: إن أخلاق النبي ﷺ كانت فوقًا تأثيرًا في فتوحاته وبسطة سلطانه.

هذا ما أردنا بيانه، ونترك للجريدة المشاغَبة واللغط والوثوب من خطأ إلى غلط ). اهـ كلام المؤيد.

( المنار )

إن المؤيد جرى في الرد على الجريدة في هذه المسألة على طريقة المراء المعتاد في المناقشات السياسية، فحرف كلام كايتاني عن موضعه، وجعله من باب الإعجاب بالأخلاق التي أكرم الله بها نبيه وتفضيل تأثيرها على القرآن، وإنما كلام كايتاني في غير ذلك إذ زعم أن جُلَّ نجاح النبي ﷺ أَوْ كله بسياسته وحنكته – أي تجاربه – لا أخلاقه الموهوبة من الله، كما قال فيه الدكتور شميل: إِنه رب السياسة والدهاء.

وكان للمؤيد مندوحة عن تأييد شبهة كايتاني وتقويتها، بأن يقول للجريدة: إنه سكت عليها؛ لأنه لا يطالب غير المسلم بأن يقول في الإسلام أكثر من ذلك، مع العلم بأن المسلمين لا يأخذون عقيدتهم عن مؤرخ نصراني. ولكنه لم يوفق لذلك؛ فاضطررنا إلى كشف الشبهة بالمقالة الآتية في الجريدة:

رد شبهة المؤيد على القرآن [2]

يقول المنكرون لنبوة نبينا محمد – عليه أفضل الصلاة والسلام – سواء كانوا من الأوربيين أو غيرهم: إن ما تم على يديه من جمع كلمة العرب وكذا وكذا مما ثابت في التاريخ إنما كان بالدهاء والسياسة وسمو الأفكار وعلو الأخلاق الذي يكون عادة لكثير من الرجال كالبرنس بسمارك و نابليون الأول. وإن ما ادعاه من النبوة، وما جاء به من القرآن لا تأثير لهما في نفسهما، وإنما التأثير له هو بنفسه وبهما؛ لأنه استخدمها في تنفيذ سياسته { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبا } ( الكهف: 5 ).

ويعتقد المسلمون أن النبي ﷺ بشر كسائر البشر لا يمتاز على غيره إلا بالنبوة وما تستلزمه كما هو نص قوله تعالى { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ } ( الكهف: 110 ) الآية. وقوله تعالى { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالا نُّوحِي إِلَيْهِم } ( يوسف: 109 ).

ويعتقدون أن النبي ﷺ قضى سن الشباب وبلغ الأربعين ولم يعمل عملا اجتماعيًّا ولا سياسيًّا، وأن ما تم على يديه بعد ذلك إنما كان بالنبوة التي اختصه الله بها وبالقرآن الذي أوحاه إليه، فكان روحًا أحياه به حياة جديدة، وأحيا به من اتبعه فكان اهتداء الجميع بالقرآن لا بتأثير صفات النبي الشخصية كما قال تعالى: { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشاءُ مِنْ عِبَادِنَا } ( الشورى: 52 )، فالله تعالى هو الذي هدى المؤمنين بكتابه، ولم يكن النبي ﷺ هو الذي هداهم بصفاته البشرية وكفاءته الشخصية؛ ولذلك أنزل الله عليه قوله: { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ } ( القصص: 56 )، وقوله: { لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ } ( الأنفال: 63 ).

بل يعتقد المسلمون أن النبي ﷺ كان يرتقي في أفكاره وأخلاقه بالقرآن نفسه فكلما أنزل الله عليه شيئًا منه ازداد كمالا به؛ ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها لِمَنْ سألها عن أخلاقه: ( كان خلق رسول الله ﷺ القرآن ) رواه مسلم في صحيحه وأحمد في مسنده وغيرهما.

ومما هَدَاه الله تعالى إليه بكتابه مشاورة أصحابه في الأمر، فكان يستشيرهم، ويعمل برأي الجمهور وإن خالف رأيه كما فعل في غزوة أحد، وكانوا يسألونه إذا أشار بأمر: هل هو وحي فيُطاع بلا بحث ولا تردد أم هو الرأي؛ ليذكروا ما عندهم، فإذا قال: هو الرأي. ذكروا ما عندهم كما كان يوم بدر. وقد ترك ﷺ رأيه إلى رأيهم.

فمن هذه العجالة يعلم أن القرآن هو الأصل في هداية الرسول ﷺ وهداية أصحابه عليهم الرضوان إلى ما تم على يديه وأيديهم معه وبعده مما أدهش التاريخ إذ لم يجد له نظيرًا، ولو شئنا لأتينا بأكثر مما أتينا به من الشواهد على ذلك من الآيات والأحاديث، ووقائع السيرة النبوية، وتاريخ الراشدين، ولكن ما جئنا به كافٍ في التذكير بما يؤمن به كل مسلم.

هذا هو اعتقادنا نحن السلمين، وذلك الذي ذكرنا في أول المقال هو اعتقاد من ينكر صحة ديننا ونبوة نبينا ﷺ، ويزعمون أن الإسلام وما فيه من المزايا، وما تم له من النجاح كان منشؤه سياسة النبي ﷺ وحنكته كما يعهد من الرجال العظام عادة.

وقد نقل المؤيد في يوم الأحد الماضي عن جريدة التيمس عبارة للبرنس كايتاني الإيطالي مؤلف تاريخ الإسلام في ذلك الاعتقاد الذي يراد به هدم الإسلام، وهي: ( ومن رأي المؤلف على إعجابه الفائق بصاحب الشريعة الإسلامية أن مزية النبي هي كفاءته العجيبة كسياسي محنك أكثر منه كنبي موحى إليه. ويؤيد قوله بدليل سبق إهماله حتى الآن وهو أن حنكته وحسن سياسته أفادا في تأييد سلطته أكثر من إفادة القرآن وأي حمية دينية ).

نقل المؤيد هذه العبارة وأقرها فأنكرت عليه الجريدة أن ينقل الكفر ويقره على فخره بكون جريدته إسلامية وكونه من أبناء الأزهر. فبماذا أجاب المؤيد على هذا الإنكار؟

أجاب بأنه يعتقد أن تلك العبارة ( التي تنيط نجاح عمل النبي ﷺ بالحنكة والسياسة لا بالنبوة ) ليست كفرًا وبين ذلك بما هو العجب العجاب. قال في العدد الذي صدر أمس ( يوم الأربعاء ثالث المحرم ) ما نصه:

( إن غرض البرنس كايتاني من عبارته ظاهر، وهو الإعجاب بأخلاق النبي ﷺ، واعتبارها فوق كل قوة دينية أخرى كانت له والله تعالى يقول في كتابه الكريم: { وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ } ( القلم: 4 ) فلم يرد البرنس كايتاني بقوله هذا حطًّا من شرف الدين الإسلامي ولا تحقيرًا للقرآن الكريم، وماذا يفعل القرآن وحده إذا كان الداعي به على أخلاق غير الأخلاق العالية التي اشتهرت عن النبي ﷺ، بل القرآن نفسه يقول: { وَلَوْ كُنتَ فَظا غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ } ( آل عمران: 159 )، فجعل مناط قوة ارتباط المؤمنين به والتفافهم حوله وانتصارهم له وفدائهم إياه بالنفس والمال سلامة أخلاقه من العيوب المنفرة، فلو كان فظًا غليظ القلب ما نفعه قرآن ولا حمية دينية، وهذا كلام يقوله كل مسلم يعقل ويعرف ما هو الإسلام الذي جاء به النبي ﷺ وروحه الأخلاق الشريفة التي أعجب بها البرنس كايتاني ).

ونحن نقول له: إنه لا يوجد مسلم يعقل ويعرف ما هو الإسلام يقول ما يزعم صاحب المؤيد أن كل مسلم يقوله. وإنما يقول كل مسلم: إن روح الإسلام هو القرآن الذي به بلغت أخلاق من أنزل عليه تلك الدرجة العالية – كما قالت عائشة – وهذه هي العقيدة التي صرح بها القرآن في الآية التي أوردناها آنفًا وهي: { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحا مِّنْ أَمْرِنَا } ( الشورى: 52 )، ولولا القرآن لَمَا اجتمع حوله ﷺ أحد، وَلَمَا فعل شيئًا، ولَمَا فداه المؤمنون بالنفس والمال، فقد صرح الله تعالى بأن كل عمل له كان بالقرآن، فهل نتبعه أم نتبع كايتاني وأضرابه الذين يقولون: إن كل ذلك كان بمزاياه الشخصية البشرية؟

كاد يقع بين الأوس والخزرج العدوان وتصلى نار الحرب لِمناظرة وقعت؛ فنزل قوله تعالى: { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانا } ( آل عمران: 103 ) الآيات، فرجعوا وتابوا وأنابوا، وحبل الله هو القرآن، ولم يقل: إن سياسة النبي وحنكته وأخلاقه هي التي ألفت بين قلوبهم. على أن أخلاقه هي القرآن فهو أصل كل شيء.

قال صاحب المؤيد بعد ذلك في الاستدلال على عدم كون القرآن هو منبع قوة المسلمين: ( أليس القرآن بيننا الآن كما هو بين المسلمين منذ وفاة النبي ﷺ حتى الآن؟ فهل يستطيع مسلم أن يقول: إن قوة الإسلام كانت في عهد النبي ﷺ؟ وهل لذلك سبب سوى الأخلاق العالية التي وهبها الله عز وجل للنبي ﷺ؟ ).

ونقول في دفع هذه الشبهة: إن المسلمين كانوا في قوة وعزة ما كانوا عاملين بالقرآن، ففي عهده ﷺ كانوا أشد استمساكًا بحبله المتين وعُرْوَته الوُثْقَى لا لصفات النبي الشخصية البشرية، بل لنبوته وما لها من المزايا، وللقدوة به قي تَمَسُّكهِ بالقرآن التي عاتبه الله تعالى على مبالغته فيها بمثل قوله: { طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ القُرْآنَ لِتَشْقَى } ( طه: 1-2 )، ثم كانوا في زمن أبي بكر وعمر مقربة من ذلك، ثم صاروا يتدلون بترك القرآن. ويعتقد كل مسلم عاقل عارف بحقيقة الإسلام أنهم إذا عادوا إلى الاعتصام به تعود إليهم قوتهم وعزتهم فهم ليسوا حجة على الإسلام ( يا صاحب السعادة ) بل القرآن حجة عليك وعليهم.

فأدعوك إلى التوبة والرجوع عمّا كتبت في تأييد أقوى الشبهات على الإسلام والقرآن والنبوة، وأن تعلن توبتك في جريدتك، وتصرح بأنك تؤمن بأن القرآن هو روح الإسلام وبوحيه إلى النبي ﷺ واهتدائه به عمل بعناية الله ما عمل، وبرد قول كايتاني إن حنكته وسياسته أكثر فائدة من القرآن ومن كل حمية دينية. حباه الله هو ومن اتبعه إياها فإن ذلك كفر وهدم للإسلام. السيد محمد رشيد رضا د رضا صاحب المنار

وقد أجاب المؤيد عن هذه المقال بما يأتي بنصه نقلا عن عدد المؤيد الذي صدر في سادس المحرم وهو: ماعدا مما بدا

قال اللورد كرومر أمس: ( إن الجامعة الإسلامية تستلزم السعي في القرن العشرين في إعادة مبادئ وضعت منذ ألف سنة هدى لهيئة اجتماعية في حالة الفطرة والسذاجة، وهذه المبادئ منها ما يجيز الرق، ومنها ما يتضمن سُنَنًا وشرائِعَ عن علاقات الرجال والنساء مناقضة لآداب أهل هذا العصر، ومنها ما يتضمن أمرًا أهم من ذلك كله وهو إفراغ القوانين المدنية والجنائية والملية في قالب واحد لا يقبل تغييرًا ولا تحويرًا وهذا ما وَقَّفَ تَقَدُّمَ البلدان التي دان أهلها بدين الإسلام ).

وقال البرنس كايتاني اليوم: ( إن مزية النبي هي في كفاءته العجيبة كسياسي محنك أكثر منه كنبي موحى إليه! إن حنكته وحسن سياسته أفادا في تأييد سلطته أكثر من إفادة القرآن أو أية حمية دينية ).

فلماذا اتسع صدرنا لعبارة اللورد، ورأينا من اللياقة وحسن الأدب تأويلها – مع أنها كادت تكون صريحة في أن الدين الإسلامي دين وضعي – ولم يتسع صدرنا لما قاله البرنس، مع أن عبارته تُشْعِر بأنه معترِف للنبي ﷺ بأنه نبي موحى إليه وأن قرآنه مفيد؟

إذا كان هناك بواعثُ حملت الشيخ رشيد على التفرقة بين الاثنين، وتشنيع إحدى العبارتين، فإن الحق الذي لا تتلاعب به البواعث يشهد بأن عبارة البرنس لا توجب اللوم ولا التعيير بله التضليل والتكفير!!

بل الإنصاف يتقاضانا الثناء على جناب البرنس والإعجاب بحرية ضميره؛ لاعترافه بصدق النبوة كما أشرنا إليه آنفًا.

أمَّا كون البرنس جعل التأثير في تأييد سلطة النبي ﷺ للمزايا التي انطوت عليها نفسه الشريفة أولا، ثم القرآن ثانيًا كما هو نص عبارته، فهذا لا يقدح في قوله ولا يجعله من باب الكفر. نعم إذا كان للبرنس رأي خاص في النبي ﷺ كآراء بعض رجال أوربا فيه على ما أشار إليه الشيخ رشيد في مقدمة كلامه فهذا لا يلزمنا مناقشته فيه ما دام أنه مستور في نفسه، بل نراه قد صرح بِضِدِّهِ في عبارته حيث قال: إنه ( نبي موحى إليه ) فهل لا تكون تلك العبارة قرينة على أن البرنس ليس على رأي أولئك المُنْكِرينَ لنبوته ﷺ؟.

وإذا راجعنا ما قاله المفسرون في تفسير آية { وَلَوْ كُنتَ فَظا غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ } ( آل عمران: 159 ) رأيناهم يفسرونها بكلام يأتلف مع ما قاله البرنس كايتاني. فلم تكن عبارة البرنس إذًا كُفْرًا بل هي الحقيقة الدينية التي علم بها القرآن الكريم.

( قال الطبري في تفسير هذه الآية: احتملت يا محمد أذى من نالَكَ منهم أذاه، وعفوت عن ذي الجُرْم منهم جرمه، وأغضيتَ عن كثير ممن لو جفوته وأغلظت عليه لتركك فيفارقك ولم يتبعك. ولا ( أي ولم يتبع ) ما بعثت به من الرحمة ) فقوله الأخير نص في أن مزايا النبي الذاتية كانت السبب في أن يتبعه العرب ويصدقوا بالقرآن الذي أتى به. وقال الألوسي: ( لانفضوا مِن حولك ) أي: لتفرقوا عنك، ونفروا منك، ولم يسكنوا إليك، وتردوا في مهاوي الرَّدَى، ولم ينتظم أمر ما بعث به من هدايتهم وإرشادهم إلى الصراط ) فعدم فظاظته وغلظته اللتين لو كانتا فيه لَذَهَبَتَا بكفاءته وحنكته وسياسته هو السبب الأول في انتظام أمر بعثته.

وقال بعض المفسرين ما هو أصرح من كل ذلك كله قال: ( وكل واحد من الأمرين ( أي: الفظاظة والغلظة ) لا يليق بمنصب النبوة؛ لأن المقصود من البعثة أن يبلغ الرسول تكاليف الله إلى الخلق، وذلك لا يتم إلا بميل قلوبهم إليه، وسكون نفوسهم لديه، وهذا لا يتم إلا إذا كان رحيمًا بهم كريمًا يتجاوز عن ذنوبهم ويعاملهم بالبر والشفقة )، فلولا كفاءته الذاتية التي هي عبارة عن مجموع مواهبه ومزاياه وَخِصاله الكريمة لَمَا تَمَّ أمْر البعثة، فلم يلتفوا حَوَالَيْهِ ﷺ، ولم يَعُوا القرآن الكريم الذي أنزل عليه؛ فالكفاءة إذن هي العامل الأول في تأييده أو تأييد سلطته الذي أراده البرنس.

فهل تكون بعد هذا كله عبارة البرنس كفرًا وطعنًا في الدين إلى حد لا تَسعه صدورنا كما وسعت كلام اللورد، ويكون المصريون مخطئين في إقامة الاحتفال له وإعلان الثناء عليه، أم لا يكون شيء من ذلك وإنما للشيخ رشيد حكمة من وراء صنيعه هذا يعلمها هو والواقفون على أطواره وخفي أسراره. اهـ كلام المؤيد.

وقد رددنا هذا التمويه والمغالطة بمقالة أخرى نشرناها في عدد الجريدة الذي صدر في اليوم السابع من المحرم وهي:

جواب المؤيد عن شبهته (على القرآن )

لا يترك المؤيد شنشنته في الجدال، فهو يشاغب ويكابر في أصول الدين وعقائده كما يفعل في المناقشات السياسية والشخصية، فقد أنكرنا عليه ما كتبه في قيام الإسلام وثبات سلطته، وعزوه إياه إلى المسلمين، وقوله: إنه اعتقادهم. وهو أن السبب الأول والعُمْدة فيه هو – كما يقول البرنس كايتاني – سياسة النبي ﷺ وحنكته، أي ما أفادته إياه التجارب. أنكرنا عليه هذه الدعوى، وَبَيَّنَا له بالآيات البَيِّنات أن ذلك كان بما آتاه الله من النبوة، وأنزل عليه من القرآن.

فرد علينا أمس بأننا أَوَّلْنَا طعْن لورد كرومر في الإسلام، فلماذا ننكر على البرنس كايتاني، ونشنع عليه ونُخَطِّئ المصريين الذين قاموا له بالاحتفال، فحاصل جواب الشيخ علي يوسف عما أنكرناه عليه هو أننا فعلنا فيما مضى فعلا كان يجب علينا أن نعيده الآن، وأننا شنعنا على البرنس كايتاني وذلك يتضمن تخطئة المصريين الذين احتفلوا به.

ولقد رأى القراء أنه ليس في عبارتنا تشنيع على كايتاني، وأكثر ما يفهم من ردنا على صاحب المؤيد أن ما قرره عن البرنس كايتاني مخالف لعقيدة المسلمين في القرآن والنبي عليه الصلاة والسلام، وليس هذا بتشنيع عليه؛ لأنه ليس بمسلم، فيطالب بأن يكون كلامه مُطابقًا لعقيدة المسلمين.

وأمَّا احتفال المصريين به فلم يَأْتِ له ذكر في كلامنا لا تصريحًا ولا تلويحًا، وهم لم يحتفلوا به لأنه مسلم؛ بل لأنه كتب تاريخًا صرح فيه باعتقاده من غير تحامل ولا تعصب. وقد صرح لورد كرومر بانتقاده، فرأيت كما رأى المؤيد أن كلامه كاد يكون طعنًا في أصل الإسلام فكتبت إليه كتابة كان أثرها أنه كتب يبرئ القرآن والسنة من الطعن. وقد صرح صاحب المؤيد يومئذ بأن ما كتبه لي اللورد هو رجوع عما كتب في تقريره. فأنا الآن أطلب من صاحب المؤيد كما طلبت من اللورد تبرِئة القرآنَ مما كتبه؛ فعسى أن لا يكون لورد كرومر خيرًا منه في الرجوع إلى الحق بعدما تبين له.

وغرض صاحب المؤيد مما كتبه ظاهر وسببه بين وهو أنه عجز عن رد الحجج التي دمغنا به دعواه في القرآن وصعب عليه الاعتراف بالحق الذي طالبناه به، فانتقم منا بتحريض من احتفلوا بالبرنس علينا، وهم أعلى فَهْمًا وآدابًا من أن ينخدعوا بمثل ما كتب. ولم يذكر إنكارنا عليه حتى لا يدري به من يقرأ المؤيد ولم يكن اطلع على الجريدة يوم الخميس الماضي.

تلك شنشنته، وذلك مبلغه من العلم ولولا أنه عاد إلى تأييد قوله الأول بأن أخلاق النبي ﷺ فوق كل قوة دينيه كانت له؛ أي: فوق اصطفاء الله له بالنبوة وتأييده بالقرآن، وأن العُمْدة في نفوذه هي السياسة والحنكة، واحتج بقوله تعالى: { وَلَوْ كُنتَ فَظا غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ } ( آل عمران: 159 ) لَمَا كتبنا اليوم شيئًا في إعادة دعوته إلى التوبة مما كتب والرجوع عنه كتابة في المؤيد.

أقمنا الدليل في المقالة الأولى على ما قلنا: إنه اعتقاد المسلمين. وأيدناه بالآيات والأحاديث، ومنه أن أخلاق النبي ﷺ العليا وسياسته المثلى مستمدة من القرآن، فصرف الشيخ علي نظره عن ذلك، وعاد ينقل لنا ما قاله بعض المفسرين في قوله تعالى: { وَلَوْ كُنتَ فَظا غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ } ( آل عمران: 159 )، ولم يذكر الآية بتمامها؛ لأنها حجة عليه فكان مَثَلُهُ كَمَثَلِ مَنِ استدل على تحريم الصلاة بقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ } ( النساء: 43 ) وسكت عن قوله: { وَأَنْتُمْ سُكَارَى } ( النساء: 43 ) إلخ. هذا نص الآية: { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظا غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ } ( آل عمران: 159 )، فهل تدل هذه الآية على أن تلك الأخلاق العالية والمعاملة الحسنة كانت بتأييد الله إياه وتأديبه له بالقرآن كما نعتقد نحن المسلمين أم كانت بسياسته وحنكته؛ أي: تجاربه ﷺ كما يقول الشيخ علي يوسف تأييدًا لكلام البرنس كايتاني؟.

ألم يصرح جهابذة المفسرين بأن قوله تعالى: { فَبِمَا رَحْمَةٍ } ( آل عمران: 159 ) يفيد أن هذا كان برحمة الله وتوفيقه إياه، وأن تأكيد السببية هنا بلفظ ( ما ) يدل على الحصر كما في الكشاف، ومعنى هذا أنه لم يكن ذلك بكسبه واجتهاده ولا سياسته وتجاربه وإنما هو بتأييد الله وتوفيقه. وذلك من آثار النبوة التي هي غير مكتسبة بالتجارب والسياسة؟ ويؤيد ذلك بقية الآية وبامتثالها بمعونة تلك الرحمة كان رءوفًا رحيمًا لا فظًّا ولا غليظًا. ويدعم ذلك قوله في آخرها: { فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ } ( آل عمران: 159 ) ولم يقل: توكل على سياستك وتجاربك.

ومن أمثلة هذا في القرآن قوله تعالى: { عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَن جَاءَهُ الأَعْمَى } ( عبس: 1-2 ) الآيات وسببها معروف ملخصه أن النبي ﷺ كان يدعو عظماء قريش إلى الإسلام في أول الإسلام فجاءه عبد الله بن أم مكتوم الأعمى – وهو من السابقين الأولين – يسأله أن يعلمه، فعبس ﷺ، وأعرض عنه؛ لئلا ينفر من إقباله عليه أولئك الكبراء، وكان من اجتهاده ﷺ يومئذ أن الكبراء إذ دخلوا في الإسلام أولا لا يلبث أن يتبعهم الناس، فعاتبه الله على ذلك عتابًا شديدًا، ونهاه عن مثل ما فعل فقال: { عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَن جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى * كَلاَّ } ( عبس: 1-11 ) فعمل ﷺ بهذا التأديب والتعليم الإلهي من أول الإسلام، فكان ذلك عونًا على استمرار دعوته التي كان روحها والمؤثر الأكبر فيها هو القرآن لا السياسة والحنكة كما يَدِّعِي الشيخ علي يوسف.

أما الدلائل النقلية على تأثير القرآن في جذب العرب إلى الإسلام فهي كثيرة، وأذكر لسعادة صاحب المؤيد منها إسلام عمر رضي الله عنه، وهو الذي أعز الله به الإسلام كما ورد. كان عمر في الجاهلية فظًّا غليظًا، ولمَّا سمع بإسلام أخته وختنه ( زوجها ) عظم عليه الأمر، فجاءها وضربها حتى أَدْمَاهَا، وكانت تقرأ هي وزوجها صُحفًا من القرآن الكريم، فأخفتها عنه فما زال حتى أخذها وقرأها فجذبته إلى الإسلام جذبًا، وكان بعد ذلك من رحمته أنْ كان يطوف بالليل يتفقد المحتاجين؛ وقصته في حمل الدقيق ليلا إلى موضع تلك المرأة البائسة وطبخه مشهورة.

وحَسْبُك من تأثير القرآن أن كان الغالون في العناد والجحود من كفار قريش يهربون من سماعه لئلا يجذبهم إلى الإسلام بقوة تأثيره { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا القُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } ( فصلت: 26 ).

فأدعو سعادة الشيخ علي يوسف بعد هذا البيان إلى الرجوع عما كتبه مِن قَبْلُ والتصريح بأن قوة النبي الدينية كانت فوق كل قوة له بشرية، وكل سياسة وحنكة عادية، وأن القرآن الحكيم هو منشأ آدابه وأخلاقه وسياسته عليه الصلاة والسلام، وأن سيادته ونجاحه كانا بذلك قبل كل شيء وفوق كل شيء والسلام على من اتبع الهدى.

السيد محمد رشيد رضا

منشئ المنار

وبعد أن نشرنا في الجريدة ما تقدم رأينا كثيرًا من أهل العلم والغيرة مرتاحين مسرورين مما كتبناه، وقالوا: إن هذا الرد من فروض الكفاية قمت به فسقط الحرج عن كل عالم قادر عليه. وكتب إلينا عبد الله أفندي الأنصاري مدرس العلوم العربية في المدرسة التوفيقية ما يأتي:

حضرة العلامة المفضال صديقنا الصادق في الله تعالى السيد محمد رشيد رضا:

السلام عليكم ورحمة الله. أما بعد، فلقد اطلعت في صحيفة المؤيد على ما نشرته من رأي البرنس كايتاني في محمد ﷺ، ومجادلتها عنه، وعلى ما جاء في الجريدة عن ذلك، وردكم هو الحق الصراح، والنور الوضاح، والبيان الفضاح لدسائس الملحدين لنور رب العالمين، فجزاكم الله خيرًا عن الإسلام وأهليه، والشرع وحامليه، ولما رأيت مجادلة صاحب المؤيد عن ذلك الرأي، وإصراره على عدم رَتْقِ هذا الفَتْقِ، والانصياع إلى سلطان الحق محاباة في الرد، ومداراة للقصد اختلست ساعة من أوقاتي المملوءة بالأشغال المدرسية – كما لا يخفى – لتحرير هذه المقالة تأييدًا لِرأيكم الأصيل، وتسديدًا لقولكم النبيل، فأرجو نشرها إن استحسنتم في مناركم الرفيع، والسلام عليكم أولا وآخرًا وباطنًا وظاهرًا. من أخيكم عبد الله الأنصاري.

وهذه هي مقالة الأنصاري المفيدة بنصها:

لا هوادة في الدين

لقد جاء انتقاد الجريدة وردودها على ما نشرته صحيفة المؤيد من رأي البرنس كايتاني في مبلغ الرسالة الإسلامية، وإعجابها به مطفئًا لِمَا اتَّقَدَ في صدور ذوي الغيرة على الدين بنفثات الذين يريدون المحاباة في الإسلام، والتساهل الذي قد اتخذه كثير من دعاة المدنية العصرية من المسلمين وسيلة إلى إحداث شأن جديد في الدين عِندَ مَنْ أكبرتهم نفوسهم ممن لا تروج لديهم بضائع أهل الملل والأديان، ولا يروق في نظرهم أن ينسبوا ما جاء في الشرائع الإلهية، وعلم من آداب الأديان السماوية، إلا إلى مجرد فطنة ودهاء، واضعها بصفة كونهم ساسة عقلاء لا رُسلا وأنبياء.

ذلك ما يقرع الأسماع كثيرًا من بعض المخالفين في كنه العقيدة الإسلامية، وما القصد من ذلك إلا أن يغيض اعتقاد المسلمين في قرآنهم القائم بين أيديهم إلى الآن، وتنفصم عراه من قلوبهم فلا يتمسكون به حتى يضعوا أيديهم في يد أهل المدنية الغربية، ولو آلَ الأمْرُ إلى المجازاة في مثل ذلك الرأي ونبذ عقيدة أن الدين وضع إلهي وأن الكتاب وحي سماوي لم يكن للرسل فيه ولا للالتفاف الناس حولهم إلا التبليغ والتبيين { وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنا عَرَبِيا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرا } ( طه: 113 ) هوَّن ذلك التساهل على سعادة صاحب المؤيد أن ينشر على ملأ المسلمين ذلك الرأي بصورة رائقة ويجادل عنه وكله كما لا يخفى على بصير مغامز مخالفة لصريح القرآن، هادمة لمبنى الإيمان، إذ يجعل نجاح الدعوة المحمدية بما كان له ﷺ من كمال الأخلاق البشرية والحنكة – التي ربما يقولون بَعْدُ: ( إنها كما تكون له تكون لغيره من البشر قبله وبعده من العقلاء المجربين، والساسة المحنكين ) أكثر من كونه نبيًّا مرسلا، وصاحب كتاب منزل.

هكذا قال أُبَاةُ الحق من العرب ومكابروهم فيه، وقد خصهم الله وألزمهم الحجة، وانتهى الأمر باعتراف المؤمن وغير المؤمن بسمو مكانة القرآن الكريم عند من يدرك معناه ويتصور مبناه من حين نزوله إلى اليوم. أمّا الآن وقد مضى على التنزيل أكثر من ثلاثة عشر قرنا فقد أصبحنا نُرَوِّج هذه الدعوى ونرضاها على لسان المسيو كايتاني؛ لِيُقالَ إنَّا متساهلون متسامحون، أو متنورون متمدنون.

لست أقصد رمي سعادة صاحب المؤيد بما رمته به الجريدة من المروق لنشر هذا المعتقد وترويجه بين المسلمين، وإنما أقول أولا: لا نصدق أن سعادته لا يصل ذهنه إلى أعماق هذا الرأي وما وراءه، ولا نُسِيءُ الظن فيه بكونه يرضاه عقيدةً له؛ فلم يكن هناك إلا ذلك التساهل الذي ما ساق كثيرًا من الناس إليه الآن إلا إعظام كل ما جاء على ألسنة متنقصينا من موافق ومخالف، والزهد فيما لدينا من تالد وطارف، وإلا فليس ما رضيه الشيخ اليوم عن كايتاني بأهون مسًّا ولا أخف وخزًا في أحشاء الإسلام من ذلك الرأي الغابر الذي أرهف له قلمه وجرده يقطر غيرة وحمية، أم هي الأهواء تقبح وتحسن ما تشاء.

ما أخسرنا وأضيعنا في كل حال لو بذلنا في أغراضنا ومقاصدنا الدنيوية إسلامنا وطوحنا بقرآننا في مهاوي التساهل الماحي، والتسامح الماحق لدرك كلمة تقال فينا، أو جذب عاطفة تشهد لنا بأننا ترقينا وأدركنا من شأو المتقدمين ما تشرئب إليه الأعناق، وما نحن ببالغي ذلك منهم ولو صرنا لعبادتهم خاضعين.

نشأ محمد ﷺ أُميًّا بين أميين ليسوا أهل ملك وسياسة حتى بلغ الأربعين ولم يكن له من شئون دنياه في أكثر حالاته إلا الاشتغال بعبادة ربه، والانقطاع عما فيه الناس حينئذ، فهو إلى ذلك الحين أبعد عن مجاري السياسة، وموالج حيل الرئاسة حتى صدع بالدعوة بلا هوادة فيها، وسار بها من أول أمرها وفي جميع أطوارها برعاية ربه وعناية مُرْسِلِهِ سيرًا حثيثًا كان له فيه الغلب من أوله إلى آخره بين جدال وجلاد، وبلاء واجتهاد، والقرآن لا غير مصدره ومورده، ومرشده ومعتمده في كل شيء.

ولقد كان يُرْجِئ الأمر حتى يتلقى فيه قرآنًا ونحن نخاطب بذلك من يتصورون أطوار الرسالة المحمدية، ويتخيلون حالة الأمة العربية حينئذ، ويمضون في فهم كتاب الله ويقدرونه قدره، وما كان عليه العرب من النزول على حكم البيان الذي بلغ في القرآن مبلغ الإعجاز، فكان عليه وحده في الهداية ونجاح الدعوة المعول أكثر من كونه ﷺ على خُلُق عظيم أو ذا سياسة وحنكة. لى: { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلاَ إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ } ( الشورى: 52-53 ).

لم يَذُقْ أحد من نبغاء المسلمين اليوم ولا قبل اليوم بقرون – فضلا عن المسيو كايتاني حتى سعادة الشيخ علي يوسف – ما ذاق أصحاب النبي في عهده من القرآن. وهم في حجور الوثنية، وأحضان الهمجية، فانتشلهم، وطَهَّرَهم، فكان موقع القرآن منهم موقع الزُّلال من ذِي الغُلَّةِ، والدواء من ذي العِلَّةِ، وإلا فما كان يفعل محمد ﷺ بدون تأييد الوحي المنزل الذي هو حجته الكبرى، وآيته العظمى القائمة عند مَنْ له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد فلا يقال حينئذ: وإلا فالقرآن بين أيدينا ولم يعمل عمله فينا { أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } ( العنكبوت: 51 ).

لم يرتض أصحاب رسول الله ما قاله أبو سفيان، وقد أقبلت جموع الفتح قبيلةً قبيلةً وهو قائم بين جمع من الصحابة وفيهم العباس أحد أعمام النبي ﷺ حتى أقبل مع أبي بكر وعمر في كتيبته الخصراء يقولون: الحمد لله وحده صدق وعده وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده. فقال أبو سفيان لعثمان: صار لابن أخيك مُلْكٌ عظيم. فقال: مَهْ يا أبا سفيان، إنما ذلك الوحي والرسالة. فكيف نرضى أو نقبل أن يكون ما وصل إليه نبينا مِنَ الظَّفَرِ والغَلَبِ في أمْر دعوته إلى الله بسياسته وحنكته أكثر من نبوته ورسالته؟ اللهم إنا نبرأ إليك من هذا براءة الحق من الباطل. فليصن سعادة صاحب المؤيد غيرته على الإسلام من أن يغمض طَرْفه على أَذًى فيه فَرُبَّ تلميح أنكأ من تصريح، ومدح آلم من تجريح، وليحفظ مكانته في قلوب أهل مِلَّته مِن أنْ يُحَابِيَ في دينهم على مرأى ومسمع منهم، فإنه لا هوادة في الدين. أخيكم عبد الله الأنصاري

( المنار )

هذا وإن الموضوع يتسع لإطالة القول وإيراد الشواهد الكثيرة من الآيات الكريمة والسيرة النبوية، وإنما اكتفينا بما كتبناه على عَجَلٍ في إدارة الجريدة؛ لأننا نقصد به تذكير المسلمين، لا إقامة الحجة على المخالفين، وقد سَكَتَ صاحب المؤيد بعد نشرنا المقالة الثانية، ويغلب على ظننا أنه ندم على ما فرط منه، ولكن كان يجب عليه أن ينشر حقيقة العقيدة الإسلامية في ذلك بالمؤيد لِيَطَّلِعَ عليها من قرءوا كتابته الأولى إِذْمَا كُلُّ مَن يقرأ المؤيد يقرأ الجريدة ( وبالعكس ) ولو فعل لَمَا نشرنا شيئًا من هذا البحث في المنار.

هامش

  1.  يريد بالغايات معناها اللغوي، وهي المقاصد، يَعْنِي الدينية، ويعني بالأمر بتركها تركه البحث فيها؛ أي: إنه يبحث في القرآن من حيث هو كتاب اجتماعي لا من حيث هو كتاب ديني كما قال لنا مشافهة
  2.  كتبنا هذه المقالة في إدارة الجريدة على عَجَلٍ، ولم يكن في يدنا مصحف نراجع فيه عدد السور والآيات للشواهد التي أوردناها فيها فوضعنا الأعداد الآن، ولم نَزِدْ في المقالة شيئًا سِوَاهَا، بل نقلت عن الجريدة بحروفها.
Posted on Leave a comment

تأمّل في ترابط الصيام والتقوى

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه.

سياق التقوى في آيات الصيام

من عظيم رحمة الله على الأمة المسلمة أن فرض عليها الصيام وأنزل فيه آيات تبيينا لما فيه من الأحكام، وتعليلا لها ببلوغ مقصد التقوى الذي هو من أعظم مقامات الإسلام. ويجدر بمن يتدبر آيات الله أن يفقه الحكمة من جعل التقوى المقصد الأسمى للصوم الذي به تبوأ مقاما عليا بين شعائر الدين فصار من أركانه التي عليها يبنى كما صحّ عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، لأن الأعمال تتفاوت في الفضل بتفاوت صحة القصد وبركة الثمرة، وأكرم بالتقوى من ثمرة إذ بها يصحّ القصد إلى الله تعالى.

في بدء سياق الحديث عن الصوم يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة 183) وفي ختامه بعد تفصيل أحكامه يقول سبحانه: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ  (البقرة187 )، وكأن الآيتين تحدّدان للصيام بدءه ومنتهاه فلا يكاد يخرج عن مجال التقوى، فلإن كانت الأولى خطابا من الله للمؤمنين خاصة لرفع هممهم لبلوغ التقوى فإن الأخيرة تقرر لعامة الناس أن بيان الله سبحانه لما سبقها من أحكام يفتح لهم أيضا باب التقوى، لأنه “أتم البيان وأكمله ، ليعدّهم للتقوى، والتباعد عن الوهم والهوى » كما ذكر الشيخ رشيد رضا رحمه الله في تفسير المنار. زاد في ذكر وجوه تفسير الآية الإمام الرازي رحمه الله أنّ “مثل هذا البيان الوافي الواضح الكامل هو الذي يُذكر للناس، والغرض منه تعظيم حال البيان وتعظيم رحمته على الخلق في ذكره مثل هذا البيان». صار بهذا للصيام شأن في الدلالة على التقوى للمؤمن بإتيانه ولعامة الناس بتفصيل أحكامه.

نودّ من أجل هذا أن نعرف ما للصيام من خصوصية جعلته الطريق المباشر لنيل التقوى من بين ما ورد عامّا في معنى العبادة كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة 21).

مناط الكرامة في الدّنيا والفلاح في الآخرة:

قبل البحث عن التناسق المعنوي بين الصيام والتقوى، نعرض بعجالة إلى أهمية التقوى وثمرته في الدنيا والآخرة من خلال آيات الذكر الحكيم.

 في مسرح الحياة الدنيا قد جعل الله سبحانه التقوى معيار التكريم بقوله: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات13 )، واعتبرها أفضل زينة لجوهر الإنسان تفوق زينة ظاهره وذللك في قوله سبحانه: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا ۖ وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ ۚ…} (الأعراف26 ) وقطع بها سبيل الاعتماد على الظاهر من خلال قول ابن آدم عليهما السلام: {قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} (المائدة27 )، بل جعل مدار التزكية عليها في قوله: {فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ ۖ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَىٰ} (النجم32 ).

و بعد الدنيا تظهر ثمرة التقوى في الآخرة حيث ينعم أهلها في العقبى كما في قوله تعالى: {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ} (طه132 ) وقوله: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (القصص83 )، وذلك بالنجاة من النار التي تلظّى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى} (الليل17 )، وبوراثة الجنات العلى: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا} (مريم63 )، حيث يساق إليها أهلها: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا} (الزمر73) ويحشرون إلى ربهم الأعلى: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَٰنِ وَفْدًا} (مريم85 ).

من خلال هذه الآيات البيّنات يظهر جليّا أنّ المعوَّل عليه في الدّنيا والآخرة هو تقوى الله تعالى، فما معناها وما علاقة الصيام بتحقيق التحلي بها؟

الرابط بين الصيام والتقوى:

يعدّ التقوى اسما جامعا للعمل بطاعة الله فيما أمر به أو نهى عنه، وتشهد لهذا التعريف العام نصوص كثيرة من القرآن والسنة. غير أن أصلها اللغوي يرجع إلى الوقاية والحفظ، لذا فقد عرفها الراغب الأصفهاني في مفردات القرآن أنها: ” جعل النفس في وقاية مما يخاف، هذا تحقيقه … وصار التقوى في تعارف الشرع: حفظ النفس عما يؤثم، وذلك بترك المحظور”. من ذلك أنّ الله تعالى قال في اتقاء النار تخويفا منها: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ۖ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} (24 البقرة)، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ…} (التحريم 6) ومنع العدوان وجعله في مقابل التَّقوىٰ في قوله: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (المائدة 2).

 من أجل هذه اليقظة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذراً مما به بأس) رواه الترمذي عن عطية بن عروة السعدي الصحابي رضي الله عنه. وهذا ما فهمه سلف اللأمة رضي الله عنهم، فقد روي أن عمر بن الخطاب سأل أبي بن كعب عن التقوى فقال: هل أخذت يوماً طريقاً ذا شوك؟ قال: نعم. قال: فما عملت فيه؟ قال: تشمَّرت وحذرت. قال: فذاك التقوى. ولهذا الحذر اعتبر عمر بن عبد العزيز أنّ التقي ملجم، لا يفعل كل ما يريد.

هذا مما ورد في التقوى تأكيدا لمعنى الحذر والحيطة واتقاء ما يُخاف حفاظاً على ما يراد. فما علاقة هذا بالصيام؟

يرجع مصطلح الصيام في اللغة إلى الإمساك، ولذلك كان من أعظم مولّدات الصبر الذي هو حبس النفس عن المحظور، فقد قالَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ “الصومُ نِصفُ الصَّبرِ» أخرجه الترمذي عن رجل من بني سليم.

و عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “الصِّيَامُ جُنَّةٌ» رواه البخاري ومسلم. في هذا الحديث تُرك ذكر متعلَّق جُنَّة ليُحمل على كلّ ما يناسبه من أنواع الوقاية المطلوبة، بدءاً من الوقاية من الإفراط في تناول المباحات حتّى اقتضى الصوم تحريم بعضها في وقته تدريبا للنفس على الوقاية من الوقوع في الآثام بل من مجاراة السفهاء، فقد روى النسائي بسند صحيح مرفوعا: “… فمن أصبح صائما فلا يجهل يومئذ وإن امرؤ جهل عليه فلا يشتمه ولا يسبه وليقل إني صائم». ومن أعظم ثمرات الوقاية من الإفراط في المباحات والتساهل في إتيان المحرّمات الوقاية من الوقوع في عذاب الآخرة، فعَنْ أَبي سَعيدٍ الخُدْريِّ رَضيَ اللَّه عنهُ قال: قالَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “مَا مِنْ عبْدٍ يصُومُ يَوماً في سبِيلِ اللَّه إِلاَّ باعَدَ اللَّه بِذلك اليَومِ وجهَهُ عَن النَّارِ سبعينَ خرِيفاً» متفقٌ عليه

بالصوم يسمو العبد في معارج الحرية بأن يتمكن من الإحجام عما يشين كرامته وكرامة غيره، فلا يصير أسير هواه وشهواته وغضبه وطمعه، بل راعيا لحقوقه وحقوق غيره غيرَ معتد عيها لأنَّ {اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (البقرة 190). بل: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} (آل عمران 76).

جعلنا الله وإياكم من المتقين. آمين

أخوكم عبد الجليل حمداوي

Posted on Leave a comment

حال المسلم مع القرآن في شهر رمضان | الشيخ طه عامر

هل تنشغل فقط بكثرة القراءة وعدد الختمات؟ هل الأفضل أن تعكف على تفسير سورة خلال شهر رمضان وتدبر معانيها؟ هل يمكن أن تطالع تفسيراً موجزاً للقرآن الكريم؟ ما هو الأفضل في شهر رمضان؟

يحضرني هنا ما جاء في كتاب الإحياء عن بعض السلف أنه قال:

لي في كل جمعة ختمة {أي: أسبوع}، ولي في كل شهر ختمة، ولي في كل عام ختمة، ولي ختمة لم أفرغ منها منذ ثلاثين عاما.

ما هذا؟

 ربما أراد أنَّ له ختمة مراجعة للقرآن الكريم للتثبت، وهذا مسلك الحفظة، فلا يُشترط فيها حضور القلب وتأمل المعاني.

ثم هناك ختمة شهرية، ربما تكون ختمة قيام، أي: يقوم كل ليلة بجزء من القرآن العظيم، وأما الختمة السنوية ربما تكون ختمة تفسير وتدبر، وأما ختمة العمر فربما تكون ختمة التحقق بالقرآن، أي: التخلق بأخلاقه، وتنفيذ أوامره، والوقوف عند حدوده وزواجره، والترقي في مدارجه.

والحاصل: أن الأمر يختلف بحسب الأحوال والظروف والقدرة والأشخاص، لكن يمكن أن نشير إلى ما يلي:

1- احرص على كثرة قراءة القرآن الكريم واختمه على الأقل مرةً، وإن زدتَ فهو خير لك.

واعلم بأنَّ كثرة القراءة بقصد الأجر فقط لا بأس. والمأثور عن السلف كثرة عدد الختمات، وكان الفقهاء يتركون الانشغال بالفقه ويُقبلون على القرآن الكريم، وذكر ابن رجب الحنبلي في لطائف المعارف طرفاً من أحوالهم، فلنرجع إليه.

2- تخيَّر سورة من القرآن الكريم خلال شهر رمضان وانشغل بتفسيرها وتدبرها والتحقق بمعانيها وإنزالها على قلبك.

3- اجعل لك مع أسرتك كل يوم جلسة تلاوة وتدبر لكتاب الله تعالى.

4- احرض على القيام بالقرآن الكريم مع الجماعة في المسجد، وفي خلوتك.

أهل السلوك وإصلاح القلوب

 وعند قراءة كتب السلوك ومطالعة ما كتبه الصوفية في إصلاح القلوب سنجد أن جوهر ما دندنوا حوله موفور في هذا الشهر العظيم.

 ولعلهم من أبرز الجماعات في تاريخ الإسلام ممن برعوا في تربية النفس وتزكيتها وتصفيتها والأخذ بزمامها إلى الله تعالى، وقد اجتهدوا في وضع طرائق ووسائل منها:

الجوع، والعزلة، والصمت، والسهر، والأوراد. وسنقف مع بعضها وقفات لنرى صلتها بصوم رمضان.

ورغم الانحراف الذي مس كثيراً من تلك الطوائف إلا أنَّ أقطاب الصوفية وعلماءهم الكبار تركوا رصيداً زاخراً عظيماً منضبطاً بأصول الشريعة وقد أطلق شيخ الإسلام ابن تيمية مصطلح علم السلوك على “التصوف”.

 يقول الإمام الجنيد: – وكان يلقبه الإمام ابن القيم ب “سيد الطائفة” – ما أخذنا التصوف عن القيل والقال، ولكن عن الجوع، وترك الدنيا، وقطع المألوفات والمستحسنات، أي: بشدة المجاهدة.

 ولا ريب أن بعض الطوائف أخطأت في اتخاذ طرقٍ لتهذيب النفس والروح وحادت عن الوسط، فجاء الإسلام بتشريع الصوم الذي اجتمعت فيها جميع وسائل التزكية وترقية الروح، فَمن رام مبدأ الحرمان تأديباً للنفس فهاك الصوم.

كتب الإمام أبو حامد الغزالي في أسرار الصوم وشروطه الباطنة:

” ألا يستكثر من الطعام الحلال وقت الإفطار بحيث يمتلئ جوفه، فما من وعاء أبغض إلى الله عز وجل من بطن مليء من حلال. وكيف يستفاد من الصوم قهر عدو الله وكسر الشهوة إذا تدارك الصائم عند فطره ما فاته ضحوة نهاره. وربما يزيد عليه في ألوان الطعام.

ومعلوم أن مقصود الصوم الخواء وكسر الهوى لتقوى النفس على التقوى.

باختصار/ إحياء علوم الدين / 308

ونرى أن الصائم يعاين من نفسه الفارق الكبير حينما يتخفف قليلاً من الطعام عند الإفطار وأثره على قلبه وخفة روحه في صلاة التراويح.

لقد شَقىَ العالم وشقينا معه طويلاً حينما عكفنا على خدمة الجانب المادي وتغافلنا عن روحنا وقلبنا. وقد ظننا أن أقدامنا هى التي تحملنا وتجري بنا كما نبغي نحو مواطن السعادة والرخاء، ونسينا أنَّ قلباً فارغاً من الآخرة عاكفاً على دنياه لاهثاً خلفها سيظل حائراً خائفاً مضطرباً حتى يرتوي من مادة الوحي الأقدس.

وانطلق يَعُبُّ من الشهوات عبَّا، وكلَّما نال حظاً منها سئم وفتَّش عن غيرها لعله يجد فيها الدواء، ولا يدري أنه الداء الذي يجلب أنواع البلاء.

 ووسط هذا الركام من تَزَاحُم الدنيا على القلب والروح يأتي شهر رمضان ليعيد التوازن الروحي للمسلم.

 أثر العزلة في تزكية النفس

   جعل الإسلام العزلة وسيلة للصفاء الذهني والروحي، وقد كان الرسول ﷺ قبل الوحي يعتزل في غار حراء، وسن لنا رسول الله ﷺ الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان، واعتكف الرسول ﷺ عشرين يوماً في آخر حياته.

 على أن مقصود العزلة ليس هروباً من واجب، أو يأساً من الاجتماع البشري، بل هو محطة للتنقية وشحن القلب وتطهيره من غيوم الذنوب، وهموم الدنيا وأشغالها حتى يعود مرة أخرى خَلقاً جديداً في فكره النقي وقلبه التقي وفؤاده الذكي وعمله الرضي.

 ولا ريب أن قلوبنا بحاجة في عصرنا لخلوة من وقت لآخر نرجع فيها لأنفسنا، ونعكف طويلاً على كتاب الله تعالى وتدبره، وعلى النفس وتهذيبها، وعلى ما يُصلح الأمة من أفكارٍ ودراساتٍ ومشروعاتٍ.

 ما أجمل عبارة الإمام ابن عطاء الله السكندري:

“ادفن وجودك في أرض الخمول، فما نبت مما لم يُدفن لا يتم نتاجه. ما نفع القلب شيء مثل عزلة يدخل بها ميدان فكرة. كيف يشرق قلب صور الأكوان منطبعة في مرآته، أم كيف يرحل إلى الله وهو مكبل بشهواته. أم كيف يطمع أن يدخل حضرة الله ولم يتطهر من جنابة غفلاته، أم كيف يرجو أن يفهم دقائق الأسرار وهو لم يتب من هفواته”.

أدعوكم للعودة إلى شروح حكم ابن عطاء الله القديمة، ومنها: شرح الشيخ زروق أو ابن عباد النفري أو ابن عجيبة، أو المعاصرة للشيخ سعيد حوى في كتابه “مذكرات في منازل الصديقين والربانيين”.

وقد تعرض شيخنا الغزالي لعدد من الحكم بأسلوبه الفريد في كتابه “الجانب العاطفي في الإسلام”.

بقلم الشيخ: طه عامر

Posted on Leave a comment

الصوم: حقيقته وتاريخه | الدكتور: علي عبد الواحد وافي

نشر في مجلة “حضارة الإسلام”، العدد السابع، السنة الثالثة
رمضان 1382 هـ – شباط (فبراير) 1963م

1- نشأة الصيام وأنواعه:

لا نعلم على وجه اليقين متى نشأت فكرة الصوم في المجتمعات الإنسانية، ولا نكاد نعرف شيئًا يعتد به عن الأسباب الأولى التي دعت إليه، كما أن ما وصل إلى علمنا عن النظم الدينية للأمم الغابرة لا يرشدنا إلى أول شريعة جاءت به، ولا يقفنا على أول شعب ظهر فيه،وكل ما يذهب إليه بعض الباحثين في صدد هذه الأمور يتألف من آراء خطيرة تعتمد في بعض نواحيها على الحدس والتخمين، وفي نواحٍ أخرى على استنباطات ضعيفة قلقة لا يطمئن إلى مثلها منهج سليم.

غير أنه مما لا شك فيه أن الصوم من أقدم العبادات الإنسانية، ومن أكثرها انتشارًا،فلم يكد يخلو منه دين من الأديان التي أخذت بها المجتمعات، ولم تتجرد منه شعائر شعب من شعوب العالم قديمة وحديثة.

جاء في مِلل التوتميين والمجوس والوثنيين والصابئين والمانوية والبوذيين وعبدة الكواكب والحيوان، كما جاء بشرائع اليهود والنصارى والمسلمين.

وقد اختلفت أشكاله باختلاف الأمم والشرائع، وتعددت أنواعه بتعدد الظروف المحيطة به والأسباب الداعية إليه،فمنه ما يكون بالكف عن الأكل والشراب والاتصال الجنسي والكلام، ومنه ما يكون بالكف عن واحد من هذه الأمور، أو عن بعضها.

ولعل الكف عن الكلام هو أغرب أنواع الصيام،وهو منتشر لدى كثير من الأمم البدائية وغيرها؛فقد ذكر الأستاذان سبنسر وجيلين (B.Spencer and Gillan) في كتابهما عن سكان أستراليا الوسطى حالات كثيرة من هذا القبيل، منها أن المتوفى عنها زوجها يجب عليها أن تظل مدة طويلة، تبلغ أحيانًا عامًا كاملًا، صائمة عن الكلام،ويظهر أن شيئًا من هذا كان متبعًا في ديانة اليهود، بدليل قوله تعالى على لسان مريم: ﴿ إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا ﴾ [مريم: 26]… ﴿ فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ ﴾ [مريم: 29] إلخ.

والإمساك عن الأكل والشرب في الصيام يقع على وجوه كثيرة:

فمنه المطلق الذي يشتمل جميع المأكولات والمشروبات (كصيام الصابئين والمانوية والمسلمين)، ومنه المقيد الذي يتم بالكف عن بعض أنواعها (كبعض أنواع الصيام عند المسيحيين).

وقوام الصيام، كما يظهر من ملاحظة الأشياء التي يقتضي الكف عنها، هو حرمان الجسم والنفس من بعض حاجاتها الضرورية المحببة.

ومن أنواع الصيام ما يقتضي الإمساك عن هذه الأمور اليوم كله، نهاره وليله، ومنه ما لا يقتضي الإمساك إلا نهارًا أو شطرًا من النهار، ومنه ما يبدأ بغروب الشمس ويستغرق اليل كله، أو شطرًا منه.

ومن أنواع الصيام ما يكون متتابعًا يجري في أيام متتالية، ومنه ما يكون مقصورًا على يوم واحد، أو ليلة واحدة، أو جزء من يوم أو ليلة، ومنه ما شرع في أيام غير متتابعة يفصلها بعض فترات معينة.

ومن أنواع الصيام ما هو واجب على جميع الطبقات، أو على بعضها بشروط خاصة، ومنه ما هو مستحب يندب إليه جميع الأفراد أو بعض طوائف منهم.

2- مقتضيات الصيام ومناسباته:

هذا وترجع أهم الحالات والمناسبات التي تقتضي الصوم على وجه الوجوب أو الندب في مختلف الشرائع الإنسانية إلى الأمور الآتية:

1- حلول مواقيت عادية دورية؛ كحلول فصل معين من فصول السنة، أو شهر من شهورها، أو يوم من أيام الأسبوع، أو بلوغ كوكب منزلة خاصة من منازله…وما إلى ذلك،وكثيرًا ما يكون الميقات تاريخًا لحدث اجتماعي خطير وقع فيه، فيتجه الصيام أولًا وبالذات إلى هذا الحدث أو إلى أمور تتصل به: كشهر الصيام مثلًا عند المسلمين؛ فإنه تاريخ لنزول كتابهم الكريم، وهو القرآن، وكاليوم السابع عشر من الشهر العبري عند اليهود، وهو أحد أيام صيامهم؛ فإنه تاريخ لسقوط أورشليم عاصمة ملكهم القديم.

2- حلول ظواهر فلكية غير عادية؛ كالكسوف والخسوف.

3- حوادث الوفاة.

4- بلوغ الشخص سنًّا معينة، أو مجاوزته مرحلة من مراحل حياته.

5- التكفير عن بعض الذنوب المقصودة وغير المقصودة، أو التحلل من بعض الواجبات والالتزامات الدينية، وغيرها.

6- وقد يتخذ الصوم وسيلة للحصول على أعراض نفعية إيجابية (بلوغ منزلة خاصة من المنازل اللاهوتية، صفاء الروح، إشراق الحقائق على النفس وإلهامها المعلومات، الاطلاع على الغيب، الاتصال بعالم السماء، القدرة على الإتيان بأمور خارقة للعادة، تسخير بعض القوى غير المرئية وإرغامها على سلوك معين، إنزال المطر، أو إرغام الهواء على الهبوب…وهلم جرًّا).

7- وقد يلجأ إلى الصوم لدفع ضرر فردي أو جمعي (مرض أو وباء أو طوفان أو قحط… وما إلى ذلك).

8- وقد يتخذ الصوم تمهيدًا لعبادة أخرى، أو وسيلة لجعلها مقبولة، أو عنصرًا هامًّا من عناصرها،ومن ذلك الصوم الذي يسبق أو يصاحب تقديم القربان أو الوفاء بالنذور، أو إتيان الزكاة، أو إخراج الصدقات، أو الاعتكاف، أو الصلاة…وما إلى ذلك.

ولعل أهم أنواع الصيام وأكثرها انتشارًا في مختلف الديانات هو النوع الأول، وهو الصيام في مواقيت معينة تتكرر كل سنة أو كل شهر أو كل أسبوع، وهو الصيام الذي يرتبط في الغالب بتاريخ أحداث اجتماعية خطيرة.

ومن أشهر الديانات التي وجَّهت إلى هذا النوع من الصيام عناية كبيرة، وكثرت فيها مناسباته، وأنزلته منزلة الفروض العينية: ديانات الصابئين والمانويين والبوهميين والبوذيين واليهود والمسلمين.

وسنقصر كلامنا فيما يلي على بيان مظهر هذا النوع من الصيام في بعض هذه الشرائع، والبحث عن الدعائم التي يقوم عليها.

3- الصيام ذو المواقيت الدورية في الديانة اليهودية:

وفي الديانة اليهودية لهذا النوع من الصيام أمثلة كثيرة، من أهمها صيام اليوم العاشر من الشهر السابع العبري (يوم كبور، أو يوم الكفارة)، وقد كتب هذا الصوم على اليهود للاستغفار وطلب العفو عن الخطايا بنصوص صريحة من التوراة نفسها.

ويظهر أن اليهود في عصرهم القديم كانوا يصومون السبت من كل أسبوع، واليوم الأول من كل شهر قمري، فضلًا عن كفهم عن مزاولة الأعمال فيهما، ثم قصر الأمر فيما بعد على الكف فيهما عن مزاولة الأعمال، وهذا ما يستفاد ضمنًا من الآيات التي نُهُوا فيها نهيًا صريحًا عن صيامهما؛ إذ النهي عن صيام هذين اليومين بالذات دليل على أنهم كانوا يصومونهما فيما سبق؛وذلك أن الحظر في الشرائع لا ينصبُّ في الغالب إلا على شيء كان متبعًا معمولًا به.

ولصيام هذين اليومين صلة وثيقة بحركات القمر،أما صيام اليوم الأول فصِلَتُه بذلك واضحة كل الوضوح،وأما صيام يوم السبت فقد قامت أدلة على أن خواتيم الأسابيع كانت توافق في عصورهم القديمة دخول القمر في منازله،فكانت مواقيتهم الفلكية، على ما يظهر، تقسم الشهر القمري أربعة أقسام، يمثل كل قسم منها منزلة من منازل القمر الأربع،وكان كل قسم من هذه الأقسام يسمى أسبوعًا، ويختتم بيوم السبت، على أن التفكير في تقسيم الزمن إلى أسابيع ترجع نشأته الأولى في الإنسانية إلى تعاقب منازل القمر واستغراق كل منزلة منها نحو سبعة أيام،وبذلك يتصل صيام اليهود القديم في سبتهم بالظواهر نفسها التي يتصل بها صيام البوذيين أربعة أيام من كل شهر قمري كما تقدم.

وورد في الآيات الثانية والثالثة والعاشرة من الإصحاح الثامن بسفر نحميا (وهو من الأسفار التاريخية من العهد القديم) ما يدل على أن كثيرًا من اليهود كانوا يصومون اليوم الأول من الشهر السابع، وعلى أن نحميا نفسه أقرهم على ذلك، وأمر أفراد الشعب بأن يبعثوا إلى الصائمين منهم في هذا اليوم بطعام إفطارهم.

وورد كذلك في الآية الأولى من الإصحاح التاسع بسفر نحميا ما يدل على أن اليهود قد صاموا اليوم الرابع والعشرين من الشهر السابع: (في اليوم الرابع والعشرين من الشهر السابع اجتمع بنو إسرائيل مرتدين المسوح ومعفرين جسومهم بالرمال للاحتفال بيوم الصوم).

ويفهم مما ورد في سفر زكريا أنهم بعد الجلاء إلى بابل كانوا يصومون أيامًا أخرى كثيرة دورية لذكرى حوادث مؤلمة في تاريخهم، وأنهم كانوا يسمون كلًّا منها برقم الشهر العبري الذي وقعت فيه الحادثة،فمن ذلك (الصوم الرابع) الذي كان يقع في السابع عشر من الشهر الرابع (تموز، يوليه) لذكرى سقوط أورشليم، و(الصوم الخامس) الذي كان يقع في التاسع عشر من الشهر الخامس (آب، أغسطس) لذكرى خراب أورشليم والهيكل، و(الصوم السادس) وهو صوم أستير الذي كان يقع في الثالث عشر من الشهر السادس (آذار، مارس) لذكرى حادثة هامان وأستير، و(الصوم السابع) في الثالث من الشهر السابع (تشري، سبتمبر) لذكرى قتل جداليا آخر رئيس على اليهود بعد السبي، (والصوم العاشر) الذي كان يقع في العاشر من الشهر (طيبت، كانون الثاني، يناير) لذكرى حصار أورشليم.

ولديهم كذلك أنواع أخرى مستحبة من الصيام تقع في مواقيت دورية، ويقومون بها لذكرى وفاة عظمائهم كموسى وهارون والشهداء، وحوادث أخرى في تاريخهم، ويبلغ عددها خمسًا وعشرين.

ويصوم بعض أتقيائهم اختيارًا الاثنين والخميس من كل أسبوع؛ حزنًا على سقوط أورشليم والهيكل، وأول وثاني اثنين وأول خميس من شهري أيار (مايو) وحزيران (أكتوبر) بعد عيد الفصح والمظال كفارة عن خطاياهم في الأعياد،وقد جرت العادة لديهم كذلك أن يصوم البِكر من كل عائلة اليوم السابق لعيد الفصح لذكرى حادثة قتل الأبكار قبل الخروج من مصر.

4- الصوم ذو المواقيت الدورية عند المسلمين:

شرع الدين الإسلامي أنواعًا كثيرة من الصيام في مواقيت دورية:

بعضها يعود مرة كل سنة، وبعضها مرة كل شهر، وبعضها مرة كل أسبوع،ومن هذه الأنواع ما هو فرض وهو صيام رمضان، ومنها ما هو مستحب، كصيام التاسع والعاشر من المحرم، وستة أيام متتالية من شوال تبدأ من اليوم الثاني منه (من صام رمضان وأتبعه بست من شوال…الحديث)، والتاسع من ذي الحجة (وهو يوم عرفة)، والثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من كل شهر قمري؛ (لقوله عليه السلام: من صام من كل شهر ثلاثة أيام الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، فكأنما صام السنة كلها، وتسمى هذه الأيام بالأيام البيض؛ لبلوغ القمر في لياليها إلى كماله)، وصيام الاثنين والخميس من كل أسبوع.. وهلم جرًّا.

وتحافظ بعض فرق المسلمين على أنواع من الصيام، ترتبط مواقيتها بأحداث اجتماعية ذات بال في تاريخها الخاص؛ كإحياء بعض فرق الشيعة للأيام العشرة الأولى من المحرم بالصيام والقيام وترتيل الأوراد؛ تخليدًا لذكرى من استشهد من آل البيت في هذه الأيام.

5- تعليل الصوم ذي المواقيت المرتبطة بأحداث اجتماعية:

ينتظم الصيام ذو المواقيت الدورية – كما يظهر ذلك مما سبق – مجموعتين مختلفتين؛ إحداهما: أنواع ترتبط مواقيتها بأحداث اجتماعية وقعت فيها، وثانيتهما: أنواع لا تتصل مواقيتها بأحداث اجتماعية، وإنما ترتبط بظواهر فلكية خاصة.

أما الأنواع التي ترتبط بأحداث اجتماعية وقعت فيها – وهي أهم أنواع هذا الصيام، وأكثرها انتشارًا، وأعظمها خطرًا – فيرجع السبب في نشأتها إلى حرص المجتمع على تخليد هذه الأحداث وتجديد ذكرياتها في النفوس، وجعلها ماثلة في أذهان الأفراد، وبالجملة يرجع إلى حرصه على تسجيل تاريخه وإحياء أيامه البارزة.

وتتحقق هذه الأغراض الاجتماعية فيما جاءت به الديانات السماوية نفسها من هذا النوع،غير أن حكمة التشريع في هذه الديانات كثيرًا ما تكون أوسع نطاقًا من ذلك، وقد تتجه أحيانًا اتجاهًا آخر.

6- تعليل الصوم ذي المواقيت المرتبطة بظواهر فلكية:

وأما الأنواع الأخرى من هذا الصيام الدوري، وهي التي لا تتصل بأحداث اجتماعية، وإنما ترتبط بظواهر فلكية خاصة، فقد اختلفت آراء العلماء اختلافًا كبيرًا في تعليلها وتوضيح نشأتها،فمنهم من يرى أنها مظهر من مظاهر عبادة الكواكب، وأن نشأتها الأولى في المجتمعات الإنسانية ترجع إلى رغبة الناس في الظهور بمظهر الضعف والمسكنة والذلة والخشوع أمام الكواكب المقدسة عند بلوغها في سيرها منزلة ذات تأثير يقيني أو معتقد في حياة الحيوان أو النبات أو الطبيعة، فهذا النوع من الصوم لا يختلف في نظر أصحاب هذا الرأي عن الصلاة التي يقيمها عباد الشمس عند شروقها أو زوالها أو غروبها: كلاهما رمز إلى ضعف العابد وذله، وعظمة المعبود وجلاله، وكلاهما يحدث في أوقات تتجلى فيها قدرة المعبود، وتظهر آثاره في حياة العابد، وكلاهما يتضمن اشتراك الجسم في التعبير عما يريد العابد أن يظهر به من صفات الاستكانة والخضوع،وكل ما بينهما من فرق أن الصلاة تعبِّر عن ذلك بتقصير الجسم في الركوع، والعمل على تلاشيه ومساواته بالرغام في السجود، على حين أن الصوم يعبر عن ذلك بطريق إضعافه وحرمانه من بعض ما يحتاج إليه.

ومنهم من يرى أن نشأة هذه الأنواع من الصيام يرجع السبب فيها إلى خوف الإنسان في مراحله الدينية الأولى من بعض ظواهر فلكية، واعتقاده أنها نذير نحس، وحرصه على أن يتقي شرها بالكف في أثناء حدوثها عن كل ما يمكن أن يكون مصدر مكروه؛ كالطعام والشراب، وقد ظهر للقائلين بهذا الرأي من دراستهم لمجموعة المعتقدات التي كان يدين بها معظم الأمم السابق ذكرها أن صيام كل منها كان يقع في الأوقات التي اشتهر عندهم في جميع عصورها أو في بعضها أنها أوقات نحس،ويرون في شرائع البوذيين على الأخص أوضح دليل على صدق ما يذهبون إليه؛ فقد تقدم أن أيام الصيام عند البوذيين لا يجب فيها الكف عن الطعام والشراب فحسب، بل يجب فيها كذلك الكف عن مزاولة أي عمل، وما ذاك إلا لشدة اعتقادهم في نحسها، ومبالغتهم في الحرص على اتقاء شرها، بإحجامهم عن كل ما يمكن أن ينجم عنه مكروه.

وغنيٌّ عن البيان أن هذه الآراء وما إليها لا يمكن أن يصدق شيء منها إلا على شرائع المجوس والوثنيين والصابئين والمانوية ومن إليهم.

أما ما جاءت به شرائع التوحيد من صيام – وإن بدا في ظاهره متصلًا بسير الأفلاك ومنازلها – فتتعالى أغراضه في الحقيقة عن هذه الأمور علوًّا كبيرًا، كما سيظهر لنا في الفقرات التالية:

7- محاولات باطلة لرد الصيام ذي المواقيت عند المسلمين إلى نظيره عند الصائبة والمانويين:

حاول كثير ممن في قلوبهم مرض، وممن وقفوا جهودهم على النيل من الإسلام والكيد له تحت ستار البحوث التاريخية والتحقيقات الاجتماعية: أن يرجعوا أنواع الصيام الدورية عند المسلمين إلى نظائرها عند الصابئة والمانويين، وعلى الأخص صيام رمضان عندنا إلى صيام الثلاثين عندهم، كما حاولوا رجع صلواتنا إلى صلواتهم،فزعموا أن محمدًا (عليه الصلاة والسلام) قد نقل عن هاتين الشريعتين معظم ما جاء به من صلاة وصوم، وأنه كان أمينًا في النقل، فلم يغير شيئًا من أوقات هذه العبادات وتواريخها، وأن كل ما عمله أنه جعلها لوجه الله بعد أن كانت تؤدى للشمس والقمر وغيرهما من الكواكب، وأن هذا القناع لم يستر شيئًا من حقيقتها؛ فإن الأوقات التي شرعها فيها واتصال هذه الأوقات بحركات الشمس والقمر والكواكب كل أولئك ينُمُّ على الأصول التي استمدت منها،وقد ذهب بعضهم إلى أبعد من هذا، فزعم أن محمدًا (صلى الله عليه وسلم) كان يجهل – إذ نقل هذه العبادات – أن الصابئة والمانوية يقصدون منها تقديس الكواكب، وأنه لو كان يعلم ذلك ما جاء بها؛ لتعارضها مع شريعة التوحيد التي أسس عليها دعوته.

ومن هؤلاء الدكتور جاكوب؛ فقد قرر في رسالة كتبها في موضوع صيام رمضان، بعد تحقيقات حسابية طويلة وموازنات بين التواريخ العربي والميلادي والبابلي، أن أول سنة شُرِع فيها صيام رمضان، وهي سنة 623 ميلادية، كان أول يوم من رمضانها يوافق الثامن من شهر آذار؛ أي: إن أول رمضان صامه المسلمون كان موافقًا في مبدئه ونهايته لتاريخ صيام الحرانيين (فقد قلنا: إنهم كانوا يصومون ثلاثين يومًا تبدأ من الثامن من شهر آذار)،وأن في هذا أقطع دليل على أن محمدًا (عليه السلام) قد نقل صومه عن شريعة الصابئين.

وذهب الأستاذ وسترمارك إلى ما يقرب من هذا الرأي مع شيء من الاعتدال والحذر في التعبير؛ إذ يقول: (إن وجوه الشبه بين صيام رمضان وصيام الحرانيين والمانوية لبالغة من الوضوح مبلغًا يحمل الباحث على أن ينظر إلى هذه الأنواع الثلاثة من الصيام نظرته إلى ثلاث شعب متفرعة عن أصل واحد؛ فلا مشاحة إذًا في أن محمدًا قد نقل صيامه عن الحرانيين أو المانوية، أو عنهما معًا).

وهذه لعمري شنشنة عرفناها عن معظم من تصدى من الفرنجة لبحث عقائد الدين الإسلامي وشعائره، فتراهم، قبل أن يفهموا الموضوع الإسلامي الذي يتصدَّوْن لدراسته حق الفهم، يوجهون همهم إلى البحث عن نظير له في الشرائع الأخرى، ولا يكادون يعثرون عليه حتى يوحي إليهم تعصبهم أنه لا بد أن يكون هذا منقولًا عن ذاك، ثم لا تعوزهم الحيل والمنافذ التاريخية لإلباس أهوائهم ثوب الحقائق.

ومع أن المقام لا يتسع لرد مفصل على ما زعموه بصدد صيام رمضان، لا نرى مندوحة عن الإشارة إلى بعض أمور أعماهم تعصبهم عن النظر إليها، وهي خليقة أن تقوِّض مزاعمهم رأسًا على عقب، وهذه الأمور هي:

(أولًا) لم يُعرَف أنه قد حدث في الجاهلية اتصال فكري أو ديني كبير بين قريش التي نشأ فيها الرسول وبين الصابئة أو المانوية،وقد حال دون هذا الاتصال أمور كثيرة،منها اختلاف اللغة والخط والثقافة والحضارة، ومنها بُعد المسافة بين منازل هؤلاء وأولئك؛ فقد كانت بلاد الصابئين والمانوية في حدود فارس من الغرب، على حين أن القرشيين كانوا يقطنون الحجاز والمواطن المتاخمة له، وكانت أسفارهم التجارية لا تتجاوز طريقي الشام واليمن، يسلكون أحدهما في رحلة الشتاء، والآخر في رحلة الصيف،ولم يُعرَف عن الرسول عليه السلام أنه اتصل قبل بعثته بالصابئين والمانوية أو احتك بثقافتهما الدينية، أو عُنِي بدراسة شرائعهم، أو وقف على شيء منها،وظل هذا حاله إلى ما بعد رسالته بأمد غير قصير.

(ثانيًا) أن صوم رمضان يختلف اختلافًا جوهريًّا في شروطه وقواعده ومقاصده ووقته وشكل أدائه وحكمة تشريعه عن صوم الثلاثين عند الصابئين والمانوية؛ فليس بينهما من وجوه الشَّبَهِ إلا الاتفاق في عدد الأيام وتتابعها،وهذه ناحية شكلية من التعسُّف اتخاذُها دليلًا على أن أحدهما منقول عن الآخر،على أنهما في هذه الناحية نفسها يختلفان اختلافًا غير يسير؛فالصيام الإسلامي مدته شهر عربي، على حين أن صيام الصابئين والمانوية مدته ثلاثون يومًا، مبدؤها الثامن من الشهر.

والصيام الإسلامي يبتدئ بابتداء الشهر وينتهي بانتهائه، أما صيامهم فيبدأ من الثامن من الشهر ولا ينتهي إلا في الشهر التالي له.

(ثالثًا) أن اختيار رمضان بالذات ليس سببه اتفاق مبدئه في أول عام شرع فيه الصوم مع مبدأ صيام الصابئين، كما ذهب إلى ذلك جاكوب، وإنما سببه – كما صرح بذلك الكتاب العزيز وكما يدل البحث التاريخي المجرد من الهوى – أنه الشهر الذي أنزل فيه القرآن؛فلا غروَ أن اختصه الله بهذه المزية من بين سائر الشهور.

(رابعًا) هذا إلى أن القرآن الكريم ينص على أن ما سن لنا من الشرائع قد سن مثله لكثير من الأمم قبلنا؛قال تعالى: ﴿ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ﴾ [الشورى: 13]… الآية،وقال عز وجل في صيام رمضان نفسه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ… ﴾ [البقرة: 183]، فمن الممكن إذًا أن يكون صيام الثلاثين عند الصابئين والمانوية مستمدًّا في الأصل من شريعة سماوية تقادم عليها العهد فدخلها التحريف والتبديل، وبعُدت عن غايتها الأولى، وصبغت بصبغة التقديس للكواكب، وأن الدين الإسلامي قد كتب الصوم الذي كتبته هذه الشريعة فأحياها طاهرة، وقضى على كل ما علق بها من أدران الشرك،وما قيل في صيام رمضان يقال مثله في بقية أنواع الصيام الدورية، وفي جميع أنواع الصلاة عند المسلمين.

وقد ذهب بعض المؤرخين من المسلمين وغيرهم إلى أن صيام رمضان كان منتشرًا عند بعض قبائل العرب في الجاهلية، ولا سيما قريش.

ويؤيدون رأيهم هذا بأن النبي عليه السلام نفسه كان قبل بعثته يقضي في غار حراء شهر رمضان من كل عام متحنِّثًا صائمًا،وقد اختلفوا في أصل هذا التشريع،فمنهم من يرى أنه من الشرائع التي جاء بها إبراهيم عليه السلام، ويستدل على ذلك بأن الذين ثبت أداؤهم لهذه الشعيرة في الجاهلية كانوا من المعروفين باتباعهم لملة إبراهيم،ومنهم من يرى أن عبدالمطلب جدَّ النبي عليه السلام كان أول مَن سن هذا الصيام وعمل به،وقد أخذ بهذا الرأي الأستاذ موير في كتابه عن “حياة محمد”.

ولكن لم يثبت بعدُ شيءٌ من هذا كله بالدليل القاطع، على أنه لا يضيرُ الدينَ الإسلامي في شيء – كما أشرنا إلى ذلك فيما سبق – أن يكون صيام رمضان متبعًا قبل بعثة الرسول؛فقد ثبت أن الشريعة المحمدية أقرت كثيرًا من عادات العرب وشعائرهم

Posted on Leave a comment

أخوة محمد وعيسى عليهما السلام | د. خالد حنفي

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالْأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلَّاتٍ، أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ» أخرجه البخاري.

المعنى العام للحديث 

قوله صلى الله عليه وسلم أنا أولى الناس بعيسى: يعني أخص الناس به وأقربهم إليه؛ إذ لم يكن بين عيسى عليه السلام وبين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم نبى ولم يبعث بعد عيسى أحد سوى محمد خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، كما بشر عيسى عليه السلام بنبينا صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6]. 

وقوله صلى الله عليه وسلم: الأنبياء إخوة لعلات: يعني أن الأنبياء إخوة لأب واحد وإن تعددت أمهاتهم فالأنبياء أصل دينهم واحد وهم جميعا دعوا إلى توحيد الله تعالى وإلى مكارم الأخلاق وفضائلها، فهم متفقون في أصول الدين وإن اختلفوا في فروعه وتفاصيله. 

وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم على تلك الصلة بينه وبين إخوانه من الأنبياء السابقين وأن شريعته متممة ومكملة ومصححة لشرائعهم في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: إِنَّ ” مَثَلِي وَمَثَلَ الأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي، كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بَيْتًا فَأَحْسَنَهُ وَأَجْمَلَهُ، إِلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِهِ، وَيَعْجَبُونَ لَهُ، وَيَقُولُونَ هَلَّا وُضِعَتْ هَذِهِ اللَّبِنَةُ؟ قَالَ: فَأَنَا اللَّبِنَةُ وَأَنَا خَاتِمُ النَّبِيِّينَ ” أخرجه البخاري ومسلم. فالبيت الجميل بناه من سبقه من الأنبياء والمرسلين ولبناته هي الأحكام والشرائع التي جاؤوا بها، لكن تمام البنيان لم يكتمل إلا بنبوة وشريعة محمد صلى الله عليه وسلم وبنبوته اكتمل بنيان الدين أصولا وفروعا فلا نبي بعده ولا إضافة للبنيان من بعده إلى قيام الساعة. 

وقد كان القرآن الكريم أكثر تفصيلا من السنة في تناول قصة المسيح عيسى بن مريم وأمه عليهما السلام، بل إن هذا التفصيل غير موجود حتى في كتب النصارى أنفسهم، بل لا يوجد كتاب على وجه الأرض منح السيد المسيح عليه السلام وأمه البتول وعائلته الكريمة تكريماً وتبجيلاً أعظم من القرآن الكريم، فقد أولى عناية منقطعة النظير لكل ما يتعلق بسيدنا عيسى عليه السلام، حتى سميت ثالثة سوره باسم آل عمران، وسورة أخرى من أعظم السور باسم والدته مريم عليها السلام، وسورة ثالثة عظيمة باسم ” المائدة”، وهي التي طلبها حواريو عيسى عليه السلام، على حين أنه لا توجد سورة تحمل اسم عائلة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، بني هاشم أو بني عبدالمطلب، أو سورة تحمل اسم أمه آمنة بنت وهب، وقد ورد اسم عيسى عليه السلام في القرآن خمساً وعشرين مرة، واسم أمه في القرآن أربعاً وثلاثين مرة. 

وعندما يقرأ المسلم القرآن الكريم والسنة المطهرة يشعر بالسلام والتعاون مع أصحاب الأديان الأخرى، كما يشعر بالقرب والمحبة مع أتباع نبي الله عيسى بن مريم عليه السلام، وعلينا كمسلمين أوروبيين أن ننشر ثقافة التعريف بعقيدتنا في نبي الله عيسى والتي يمكن إيجازها فيما يلي: 

  1. الإيمان بأن عيسى عبد الله ورسوله واجب على كل مسلم: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 136]
  2. دعا موسى قومه إلى توحيد الله {وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: 72] وأكد النبي صلى الله عليه وسلم على إخوته معه ومع سائر الأنبياء واشتراكهم جميعا في الدعوة إلى التوحيد فقال:”الأنبياء كلهم إخوة لعلَّات أمهاتهم شتى ودينهم واحد”
  3. أكد القرآن الكريم على بشرية عيسى عليه السلام {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 59] فهو عليه السلام لا يختلف عن أي إنسان إلا بأمرين هما                                    :
    أحدهما: أن الله تعالى خلقه دون أب، وإنما بنفخة من عند الله.

والثاني: أنه رسول الله، وكلمته وأنه أكرمه بمعجزات مادية عظيمة، وأن الله تعالى وصفه بصفات عظيمة، وذكر القرآن آيات كثيرة تدل على مخلوقية مريم وكذلك مخلوقية ولدها عيسى، وهذا يعني أنه لا هو ولا هي إله؛ لأن الخالق واجب الوجود أزلي قديم ليس قبله شيء. الغرابة في كونه وُلد دون أب ودون توفر الأسباب الطبيعية لخلقه، وهذا أمر يرجع لقدرة الله الذي إذا أراد شيئا قال له كن فيكون. والله القادر على الخلق من العدم كما خلق آدم، قادر على خلق إنسان بلا أب (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) الروم 27    

  • الله ليس المسيح ولا ثالث ثلاثة {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} 
  •  الله تعالى منزه عن الولد والشريك {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (} [المؤمنون: 91، 92]

رسائل الحديث 

  1. أخوة الأنبياء تقتضي أخوة الناس جميعا وتحابهم وتعاونهم وإن اختلفت أديانهم وألوانهم وأعراقهم. 
  2. ختم الله الشرائع بشريعة الإسلام، والأنبياء بمحمد صلى الله عليه وسلم فهي الرسالة الكاملة التامة المكملة والمصححة لرسائل السابقين من الأنبياء، ولا يصح إيمان المؤمن إلا بإيمانه بالأنبياء السابقين دون تفريق بين أحد منهم. 
  3. شرائع الأنبياء أصلها واحد وقد دعوا جميعا إلى التوحيد ومكارم الأخلاق وإن اختلفت في الفروع والتفاصيل، والاختلاف بين أتباع الأديان يجب أن يؤدي إلى التسامح والتعاون والتشارك لا التباغض والتدابر والتشاحن فضلا عن التحارب والتقاتل. 
  4. إذا كان دين الأنبياء واحد رغم الاختلاف والنسخ الواقع في شرائعهم فإن دين الإسلام واحد ومصدره واحد والاختلافات الفقهية في الفروع التراثية والمعاصرة لا يصح أبدا أن تتخذ ذريعة للعصبية أو الخلاف بين المسلمين. 
  5. مساحة المشتركات بين المسلمين وغيرهم كثيرة جدا وواسعة جدا وهى الداخلة في قوله صلى الله عليه وسلم: دينهم واحد. وعلينا الالتقاء والعمل في هذه المساحات وعدم تركها للاختلافات الجوهرية الأخرى التي لن يسلم كل فريق للآخر برأيه فيها. 

بقلم الدكتور: خالد حنفي

Posted on

شهر رمضان وإحياء القلوب | الشيخ طه عامر

 أطل علينا شهر رمضان والقلوب في ظمأ أشد من الأرض الهامدة ليحييها بأنواره وفضائله، ويُزيل ما عَلِق عليها من غبار الشهوات، وآثار الغفلات، وقسوة الحياة المادية التي نعيشها، سيما في البيئة الأوروبية.

  وقد اعتنى القرآن الكريم عناية فائقة بالحديث عن القلوب وأنواعها وأمراضها وأغذيتها وأثر صلاحها وفسادها على الفرد والحياة. وعنى العلماء بقضية إصلاح القلوب وفي مقدمتهم علماء السلوك، وللإمام ابن القيم كتابات مهمة في هذا الباب، تجده في إغاثة اللهفان وفي الوابل الصيب وغيرهما مما لا تجده في غيره بهذا التحقيق والنَّفَس.

  ذكر الإمام ابن القيم أن مفسدات القلوب خمسة: ” كثرة الخلطة، والتمني، والتعلق بغير الله، والشبع والمنام “.

 وعن أثر هذه الخمسة على القلب يقول: ” وهذه الخمسة تطفئ نوره، وتُعور عين بصيرته، وتُثقل سمعه – إن لم تُصمه وتُبكمه – وتُضعف قواه كلها. وتُوهن صحته وتُفتر عزيمته، وتُنكسه إلى ورائه، ومن لا شعور له بهذا فميت القلب. وما لجرح بميت إيلام.”

 {تهذيب مدارج السالكين / عبد المنعم صالح العزي/ ص222}

  شهر رمضان منحة إلهية، لطفاً من الله بعباده، فمن أراد أن يُطهر قلبه من غفلات الحياة، ويغسل قلبه من أدران الذنوب، ويزيح عنه هموم الدنيا ومكدراتها، فها هو شهر رمضان مغتسلٌ باردٌ وشرابٌ.

إن أسباب إصلاح القلوب واستنارتها وافرة كاملة في شهر رمضان.

وأعظم وسيلة لتزكية النفس وتطهير القلب وإحيائه وزيادة إشراقه، هو: القرآن الكريم، قراءةً وحفظاً وتدبراً ومعايشةً، قال تعالى:

  
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ (57) سورة يونس

شفاء لما في الصدور من الهموم والغموم، من الشك والأوهام، من القلق والأرق، من اليأس والعجز، من الجهل والحيرة، من الحسد والحقد.

 وهدى ورحمة، فمن أقبل عليه بقلبه يبحث عن دواء لمرض نزل به هداه الله، ومن أشكلتْ عليه الطرق وسأل الله الهداية والنجاة أخذ بيده وأيقظ قلبه ودله على الخير وسبيله، ومن أقبل عليه يطلب العلوم والمعارف أشرق على عقله وقذف في قلبه بالحكمة والمعرفة الربانية.

بالقرآن نزداد إيماناً

 القرآن نور وللإيمان في القلب نور، فإذا قرأ المؤمن القرآن الكريم أضحى نوراً على نور. وآية المشكاة في سورة النور لها إشراقات في هذا المعنى. وأوصي بالاستماع والاستمتاع بتفسيرها للإمام الشعراوي رحمه الله ورضى عنه.

  الحاصل أن تأثير القرآن في القلوب إنما يكون بقدر الإيمان فيها، ونحن نعاين هذا من أنفسنا بحسب الأحوال الإيمانية، والاستعدادات النفسية، والتهيئة القلبية، والبيئة الربانية، وشرف الزمان والمكان.

حين تقوم من الليل فتقرأ القرآن قائماً وساجداً، تجد له لذةً وحلاوةً.

أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ۗ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9) سورة الزمر

فإذا كان وقت الفجر فإن للقرآن هنالك حضوراً وشهوداً.

أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ ۖ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) سورة الإسراء

ولا شك أن حضور القلب أثناء القراءة واستشعار رحمة الله وتعظيم كتابه يفتح للمؤمن أبواب التدبر والفهم ومعايشة المعاني فيزيده الله خضوعاً وخشوعاً وإيماناً.

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) سورة الأنفال

 هل تذكرتَ ليلةً صليت في الحرم المكي أو المدني أو غيرهما من بيوت الله، وقد فتح الله على الإمام في القراءة بصوت شجي وحضور قلبي؟

 كيف كان قلبك ساعتها؟ هل نسيت هذه التلاوة؟ أم أن صداها بقى في أذنيك إلى الآن؟ هل كنت تود ألا يفرغ من التلاوة؟

ما هو السر؟…إنه اجتماع شرف الزمان والمكان وحضور القلب بعد جهد إيماني فزاده القرآن نوراً وإيماناً.

وستجد لقراءة القرآن حلاوةً ونعيماً في شهر رمضان، وخاصة في العشر الأواخر، سِيمَّا التهجد، حيث الرحمات الهاطلة من السماء، والقلوب المتصلة بعلام الغيوب، والمغفرة والعفو منا قريب.

  إذا أردنا أن يعيش أولادنا مع القرآن الكريم بقلوبهم وتتصل به أرواحهم فعلينا أن نصنع لهم بيئة إيمانية، مثل:

مبيت في المسجد يصاحبه برنامج إيماني تربوي، فإذا قاموا بالليل يتلون كتاب الله جلَّ جلاله، حينها تتأثر قلوبهم وتسمو نفوسهم.

وتجربتنا في المخيمات القرآنية التي ننظمها للشباب خير شاهد على إشراق قلوبهم بالقرآن الكريم في تلك الأجواء الفريدة.

الشيخ: طه عامر

إنه القرآن العظيم.

اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23) سورة الزمر

Posted on Leave a comment

كتاب: شهر رمضان وإحياء القيم

بسم الله الرحمن الرحيم

نَهَج المجلس الأوروبي للأئمة إصدار كتابٍ مع قدوم شهر رمضان المبارك ليكون عوناً وزاداً للإمام والداعية والمسلم الأوروبي خاصة وللمسلمين في كل مكان عامة.

وجاء بحث فضيلة د. أحمد طه
ووقف مع خمسة أحاديث رمضانية وشرحها شرحاً وافياً واستنبط منها الدروس والعظات والقيم في الأبعاد الأخلاقية والإجتماعية والسلوكية والروحية، مع وصلها بالصيام وأخلاقه وآدابه، وبواقع المسلم الأوروبي.

وألقى فضيلة الشيخ كمال عمارة
الضوء على حديث الاعرابي واستبط منه إحدى عشرة فائدة، وتميزت معالجته بالعلمية، وإظهار الدروس العلمية والأخلاقية والتربوية ، وتسليط الضوء على جوانب من قدوة الرسول صلى الله عليه وسلم في التربية والتعليم والتعامل مع أصحابه الكرام .

و ” بين يدى رمضان ” لفضيلة د. خالد حنفي وقد شرح عشرة أحاديث منتقاة وعالجها معالجة تجمع بين التأصيل العلمي، والربط بالواقع لمسلمي أوروبا وقضايا المجتمع، والقيم التي يجب أن نُحييها ونتمثلها انطلاقاً من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع ذِكر الفوائد والرسائل الإيمانية والأخلاقية المستفادة من الهدى النبوي.

وشهر رمضان كنزٌ ومخزونٌ عظيمٌ للقيم الأخلاقية والإنسانية والتربوية، وعلى المسلمين أن يستحضروها في صومهم، وتتجلى في سلوكهم ومعاملاتهم .
فكانت مساهمة فضيلة الشيخ طه سليمان عامر ليحمل عنوان: ” شهر رمضان والقيم الاخلاقية والتربوية “.
وتناول ثماني عشرة قيمة أخلاقية وتربوية يؤسسها شهر رمضان في القلوب والنفوس على مستوى الفرد والأسرة والمجتمع والإنسانية.

هذا ونسأل الله تعالى أن يجد القاريء الكريم في هذا الكتاب بُغيته، وينتفع به في دنياه وآخرته. وأن ينفع كاتبيه وناشريه ومن بذل جهداً في إخراجه للناس.

والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

المجلس الأوروبي للأئمة

تحميل الكتاب

(اضغط الرابط)