Posted on Leave a comment

هل تجوز المشاركة في عيد (التّنكّر)؟

ما من إمام في أوروبا إلاّ وقد أمطر بمثل هذه الأسئلة. هل تجوز المشاركة في هذا العيد أو ذاك؟ هذا يسأل لأجل إثارة زوبعة في كأس. وذاك لأجل الظّفر بما يهواه تحريما أو إباحة. والآخر لأجل جدل يوغر الصّدور ويطمس على سلّم الأولويات المكتظّ بما هو أضنى. وبمثل ذلك كثيرا ما تأتي الأجوبة طافحة بكلّ عجب عجاب. هذا يميّز بين عيد دينيّ وعيد غير دينيّ. وذاك يحرّم بإطلاق. وثالث يبيح بإطلاق. ورابع يضع الدّليل في غير موضعه. وضعنا الإفتائيّ يعيش الفوضى الخلاّقة بكلّ ما تعنيه من سوء

أسّ لا مناص منها لإحتضان القضية

الأسّ الأوّل : نحن مسلمون أوروبّيون. هويتنا تتركّب ـ ككلّ هوية ـ من ولاء ماديّ وهي الأرض. أو الوطن الذي نقيم فيه بأيّ صورة من صور الإقامة. ومن ولاء معنويّ. المفاضلة ـ هنا ـ بين مركّبي الهوية لا اعتبار لها. إذ الهوية هي مركّب إضافيّ لا تكون إلاّ بكينونة مركّبيها معا. درجنا كثيرا على العلاقة العمودية في ترتيب ولاءاتنا وانتماءاتنا. وقليل منّا من يعلم أنّ أصل العلاقة بين مكوّنات الولاء هي العلاقة الأفقية ضمانا للتّعايش بينهما ونبذا للاحتراب. استقراء شريعة الإسلام تنبئك بذلك. ما هي مقتضيات هويتي الأوروبية؟ مجرّد شعار؟ أم رسوم فوق بطاقة الهوية فحسب؟ أم هي التّقية الفاسدة؟ هل يمكن ـ عقلا وواقعا ـ أن أعيش في أروبا بعادات إفريقيا وتقاليد آسيا وأعراف أمريكا اللاّتينية؟

الأسّ الثاني : نظرية الاستحالة أو التخلّل (بالتّعبير الفقهيّ القديم) في المأكولات والمشروبات ـ والتي بها تحلّ عين في الأصل محرّمة بسبب تغيّرها وذهاب علّة تحريمها ـ هي ذاتها المحكّمة في الحقل الاجتماعي. كثير من الأعياد الأوربية ذات الأصل الدّينيّ استحالت عادات وتقاليد وأعراف لا علاقة لها بأيّ دين. إنّما هي تنفيسات روحية عمّا يضيق به المواطن الأوروبي من انطوائية بسبب قحط الرّحم ووأد الولد الذي لم يقدر الكلب الأليف على ملء فراغه. إنّما هي مساحات تجارية. لم يكن في حسبان الثّورة الأوربية أن تظلّ هذه الأعياد الدينية حيّة بعد وأد الطّول الكنسيّ. ولكن أثبتت التّجربة التي لا تماحل أنّ الدّين والفنّ (كما تقول الأنثروبولوجيا) أمران لا يمكن اجتثاثهما من الأرض بالكلّية. وعندما يستحيل العيد ذو الأصل الدّينيّ إلى تظاهرة اجتماعية صاخبة فإنّ الحكم ـ في صورة وجوده ـ ما ينبغي له إلاّ أن يتغيّر هو نفسه. أحكام العقل وأحكام الدّين من مشكاة واحدة. وبينهما الذي بينهما من الوصل والفصل

الأسّ الثّالث : لا أعرف مهارة تندّ عنها إحاطات أهل الذّكر مهما بلغوا مثل مهارة تربية الولد سيما قبل بلوغه. وخاصّة فيما دون التّمييز. الجهلى بحكمة التّشريع يودّون لو أنّ الإسلام أسعفنا في الحقل التّربويّ ـ كما فعل في الحقل العقديّ أو التّعبدّيّ أو الأسريّ ـ بأسفار من التّفاصيل وأنهار من الجزئيات حتّى نستريح. ومثلهم الحمقى الذين يظنّون أنّ الإسلام بتلك الحكمة من التّشريع مختلف المستويات إنّما أهمل هذا الحقل وفوّت فيه للغربيين كلّ التّفويت. وهو لا هذا ولا ذاك. كلّيات الإسلام في التّربية يمكن أن تحيط بها نظريا في غضون سويعات. ولكنّ المشهد التّربويّ أعقد من ذلك بكثير. إنّه مشهد غنيّ خصيب: فيه المربّي. وفيه المربّى. وفيه مادّة التّربية. وفيه منهاج التّربية. وفيه مؤثّرات التّربية. وفيه تراث السّلف. وفيه إضافة الخلف. جانب العلم فيه ـ على وجوده البارز ـ ضئيل مقارنة بجانب المهارة التي تجعل من قليل العلم فنّانا. مثل علاقة الفقه بالعلم. علم قليل مع فقه غزير يجعل من المرء حكيما. ولكنّ العكس لا يكون. هذه الطّفولة الطّويلة التي يعيشها الإنسان تحتاج مربّيا حكيما كلّ الحكمة. كم نضيق بالطّاقة غير المحدودة التي أودعها الله الطّفل ليكون سريع الحركة. مثل الفراشة التي لا تقرّ في قرار حتّى تدبر عنه. نسمّيه في لهجاتنا (شيطانا). ونجهل أنّه بتلك الحيوية الدّافقة يتغذّى بما يجعله رجلا. كم نظنّ أنّه لا يعي شيئا. لأنّه لا ينطق كما ننطق. وهو حاسوب عجيب. أودع الباري فيه جهاز تسجيل لا يغادر أيّ صغيرة ولا كبيرة ممّا يقع عليه سمعه أو بصره إلاّ وخزّنها في صندوقه الأسود الذي ينفتح غريزة يوم يبلغ الحنث. ويظلّ معه كذلك حتّى يبلغ أشدّه في الأربعين. تراثنا التّربويّ ـ حتّى لو كان غنيا وما هو بذاك ـ فإنّه لا يسعفك كثيرا في تربية ولدك بسبب تغيّر الزّمان والمكان والحاجات والضّرورات والتّحديات. لا أعرف علما حريّا بالتّحيين ربّما في كلّ سنة مثل علم التّربية. ومن هنا نقدّر كلّ التّقدير دعوة الإسلام إلى حسن اختيار الأمّ من لدن الزّوج. وحسن اختيار الزّوج من لدن الزّوجة. حتّى الاسم ذاته هو عامل حاسم في التّربية. معالجة الطّفل سيما في أيّامنا هذه حقّها ـ لو كنّا نعلم ـ مدارس ومعاهد وكلّيات وجامعات

الأسّ الرّابع: الخوف على الإسلام مثل الخوف منه. وعندما يتحوّل الحزم من بعضنا لشدّة الخوف على هوية الولد من الضّياع إلى (فوبيا) فهي مثل (فوبيا) الخوف من الإسلام. مثلية في النّتيجة. لا تكاد تستمع إلى خطيب إلاّ وهو يخوّف النّاس من الردّة عن الإسلام. هل فقهنا الردّة التي تحدّث عنها القرآن الكريم؟ هل خبرنا التّاريخ؟ الردّة في القرآن الكريم ـ في أغلبها ـ ردّة مصطنعة من حركة النّفاق في رسالة خبيثة إلى الخارج أنّ الإسلام دين رجراج متهافت. وفي الدّاخل لها سمّاعون. وفي التّاريخ برّ هذا. إذ لم يشهد الإسلام ـ حتّى وهو في أشدّ فترات ضعف أتباعه ـ عدا الردّة إليه. أمّا الردّة عنه فلا وجود لها إلاّ في الخطاب الدينيّ المتأخّر. أيّامنا هذه بالذّات تشهد صباح مساء ليل نهار وفي كلّ أصقاع أوربا ردّة حثيثة لجبة إلى الإسلام وأهله يسامون الخسف وهو تشنّ عليه حروب إعلامية وسياسية لو نزلت بما في السّماء من جبال من برد وبما في الأرض من مثل ذلك لأوقعتها. الإسلام من حيث هويته هو عملة ككلّ عملة. لا يثبت جدارته ولا يعرف ثمنه إلاّ من بعد الزّجّ به في السّوق. هو جواد. ولا يعرف الجواد إلاّ من بعد نتيجة السّباق. الإسلام دين تكفّل الله نفسه سبحانه بحفظه. حفظ دينه. وحفظ كتابه. وحفظ ما لا بدّ منه لحفظ الدّين. حفظ الدّين مكفول. ولكنّ حفظ الامتدادات الدينية حضارة وثقافة وقوّة وسلطانا موكول إلى المسلمين أنفسهم. ألا نثق في ذلك الوعد الصّادق؟

إمّا مشاركة موجّهة أو بديل مقنع

الفتوى هنا قاصرة مهما بلغت

معالجة مثل هذه الأمور بالاستفتاء هي معالجة قاصرة. هذا الحقل ليس معياره الحلال والحرام. ولا الحقّ والباطل. ولا الطّاعة والمعصية. هذا حقل مقياسه: المصلحة والمفسدة. كلّما أوشكت الصّورة على التّركّب خرجت من دائرة الحلال والحرام ودخلت في دائرة العدل والجور أو المصلحة والمفسدة. وكلّما اتخذت الاتجاه المضادّ إحتوشتها أقيسة الحلال والحرام والحقّ والباطل والطّاعة والمعصية. العلم بالحقل ومقياسه لا مناص منه لاستصدار حكم شرعيّ

المنهاج الإسلامي إلى المشاركة عموما أدنى

استلال الدّليل من الإسلام له طرائق. منها طريق الاستقراء. وخاصّة الاستقراء الشّامل. ذلك أنّ الشّريعة بنيت على منوال لا قبل للنّاس به. منوال لا يفصل بين شعب الحياة. منوال يقصر من الدّليل الجزئيّ وخاصّة القطعيّ منه ويطيل كثيرا في الأدلّة العامّة أو الكلية. ويجعل بعضها قطعيا وبعضها ظنّيا. ويدثّرها بقصّة. أو مشهد تمثيليّ أو مشهد كونيّ. أو مشهد نفسيّ. ثمرة الاستقراء العامّ لشريعة الإسلام تخبرك أنّها متشوّفة إلى المشاركة أكثر من تشوّفها إلى الانعزال. ولكنّها مشاركة مقيّدة منضبطة. حالات الانعزال قليلة. استخلاص هذا من استقراء الشّريعة مفتاح عظيم لولوج هذه القضية

خطؤنا القاتل هو: تحريم المشهد كلّه بسبب جزء منه

هذا خطأ قاتل يقع فيها كثير منّا. حتّى قال بعضهم بجهل مدقع أنّ الله حرّم الموسيقى بدليل قوله سبحانه (ومن النّاس من يشتري لهو الحديث ليضلّ عن سبيل الله بغير علم). لهو الحديث هنا ـ عند هؤلاء ـ هو الموسيقى. وعندما تكون الموسيقى صوفية الهوى كما يقع كثيرا في المدائح النّبوية؟ في كثير من الحفلات والأعياد ـ عندنا وعند غيرنا ـ مشاهد محرّمة دون ريب. هل نحكم على المشهد كلّه بالحرمة بسبب جزء منه؟ كيف صلّى إذن عليه السّلام بين صنم وصنم حول الكعبة؟ لم لا يصلّي في مكان آخر؟ أزمتنا الفكرية العظمى هي : عدم التّمييز بين مساحات الشّريعة. وعدم التّمييز بين مختلف المقاييس والمعايير المستخدمة في كلّ حقل. الشّريعة هي كومة تبن ذات لون واحد. ووزن واحد. وريح واحدة. كفرنا بقانون الاختلاف الرّبّانيّ الأعظم كفرا جعلنا لا نفقه سنّة التنوّع ولا نفقه معالجتها. الحياة كلّها ـ دون حقل الاعتقاد وشيء من حقل العبادة وشيء آخر من حقل الأسرة وحاجاتنا اليومية ـ مسرح ليس فيه باطل محض إلاّ وفيه من الحقّ الذي فيه. لذلك ساق الله إلينا رحلة موسى عليه السّلام مع معلّمه في سورة الكهف لأجل فقه الحياة أنّها مسرح لا يتمحّض لا لخير مطلق ولا لشرّ مطلق. ومن ذا يسعفنا قانون التّمييز بين مصلحة وأخرى وبين مفسدة وأخرى

بدائل ممكنة لو تكافلنا

فإن عزّت المشاركة لغلبة سوء فإنّ لنا في بدائل أخرى ممكنة لمندوحة وأيّ مندوحة. ولكن كيف؟ ونحن نعشق التفرّق عشقا؟ كيف وقد أحسنا كل الإحسان صناعة التمزّق تغليبا لانتماء جزئيّ لطائفة أو تيّار أو مذهب على حساب الانتماء الأعظم ولاء لمحكمات الدّين وأركان الأمّة؟  لا ينقصنا لا عدد ولا عدّة. ولا فنّانون ولا أموال. ولا مساحات. ولا قوانين تبيح لنا كلّ ذلك وأكثر منه. ينقصنا الوعي بأنّ التحدّي الأكبر لنا في أوروبا هو تحدّي الأسرة وتحدّي التّربية ومعالجة قضايا الطّفولة والشّباب. وأنّ ذلك التحدّي لا يجابه إلاّ بتكافل وتضامن واشتراك. الوعي الفكريّ بهذا فينا منه الذي فينا. ولكن تحبسنا أنوفنا العربية المفعمة كبرا. ثمّ انضافت إليها أدواء الانتماء لهذا المذهب أو لتلك الطّريقة أو ذاك التّيار فزادت الطّين بلّة على بلّة

هل تجوز المشاركة إذن أم لا؟

سؤال تعتريه الأحكام الخمسة المعروفة. الفتوى لا تكون عامّة مطلقة. إلاّ قليلا. وإلاّ أضحت حكما لا فتوى. المشاركة تجوز وتكره وتباح وتستحب وتجب بحسب حالة هذا وحالة ذاك. وبحسب البديل المتوفّر. وبحسب سنّ الطّفل. وبحسب المصالح مرتّبة والمفاسد مرتّبة كذلك. كلّ ذلك لو أثّثنا له ندوات في المساجد وخارجها ودعونا لها المتخصّصين من أهل العلوم والمعارف كلّها (الدين والنّفس والاجتماع وغيرها) لظفرنا بما هو خير من جواب المفتي أصاب أم أخطأ

والله أعلم

Posted on Leave a comment

هزة النفس | حول زلزال تركيا وسوريا

(أعيد نشرها بمناسبة الزلزال الكبير التي وقع في جنوب تركيا وشمال سورية)

تقول وقد فزعت: “ما لها”
تميد؟ُ… وتقطعُ آمالها

تلبسها الخوف حدّ الذهول
وقد نالها منه ما نالها

فكيف إذا جاء أمر القدير
و”زلزلت الأرض زلزالها”

وسُجِّر بالنار ماء البحار
“وأخرجت الأرض أثقالها”

وأهملت الأمُّ شأن الرضيع
وألقت إلى الأرض أطفالها

أجرنا إلهي فأنت المجير
وخفف بلطفك أهوالها.

بقلم: وسام الكبيسي

(الصورة أعلاه جوية ملتقطة من طائرة للمدينة التي كانت في مركز الزلزال).
نسأل الله اللطف بعباده الضعفاء..

Posted on Leave a comment

كيف يكون خطابنا في شأن الزّلازل؟

شكوى خطابنا الدّينيّ من آفات عريقة حقّ لا ريب فيه. يضيق هذا المجال عن عدّها أو حتّى بعضها. ولكن منها قطعا عدم المواءمة بين قدر الله سبحانه من جهة وما هو على الأرض من جهة أخرى. سواء كان عملا بشريا أو تضاريس أرضية. غيرنا يلجأ إلى تأويلات بتراء يضفي عليها أردية العلم. وهي عارية قبيحة. ليفسّر الزّلازل مثلا بحاجة الأرض إلى تجشّآت.

وليس خطابنا في أغلبه مجانبا كثيرا لتلك العاهة. إذ نفرّ إلى دمدمة آذان النّاس بغضب الله سبحانه وسخطه. وبين دعوى غضب الطّبيعة ودعوى غضب الله تذهب الوسطية التي شيّد عليها هذا الدّين أدراج الرّياح. وألّو إستقام خطابنا على مقتضى الخطاب القرآنيّ لكان نافعا غير ضارّ. أليس قد فصّل الخطاب القرآنيّ الكريم في تفسير المصائب التي تصيبنا؟ أم أنّنا نقرؤه بعيوننا ونعقله بعقول غيرنا؟ يتعجّل خطابنا الدّينيّ في جزء كبير منه تفسيرا لمثل هذه المصائب أنّها من أمارات السّاعة. ولا يعوزه حديث نبويّ.

حتّى لو كان صحيحا. ولكن هل أنّ صحّة الحديث كافية للجزم بمحلّه؟ أما آن لنا أن نتيح لأنفسنا مسافة كافية من التربّص قبل الانتقال بسرعة البرق من فقه الرّواية إلى فقه الدّراية؟ حتّى بعض الأمارات التي لا ريب في صحّتها لا يمكن الجزم بتزيلها على أرض محدّدة وفي زمن محدّد. هل يمكن لنا الجزم أنّ قوله عليه السّلام في حديث جبريل المتواتر (أن ترى الحفاة العراة رعاء الشّاء يتطاولون في البينان) محلّه ما يقع اليوم من مثل ذلك في بعض بلاد الخليج العربيّ؟ المخيال العربيّ المشتاق إلى التّنزيلات الموهومة يعير ذلك أسماعا وآذانا.

ولكن هل من مصلحة خطابنا أن يبحث له عن جمهور كما يبحث عن ذلك المغنّي أو الرّياضيّ؟ أليست مقاومة جنوحات النّاس إلى سماع الأساطير أولى من مقاومة جنوحات الدّولة إلى السّفاحة والعربدة؟ من الأدلّة على أنّ الإسلام لا يرحّب بالاهتمام الواسع بأمارات السّاعة أنّه عليه السّلام لمّا سئل عن السّاعة قال مرّة للسّائل (وماذا أعددت لها). أي أراد صرفه عمّا لا ينفعه. وقال مرّة أخرى لسائل آخر (ساعتك تبدأ يوم موتك) أي صرفه إلى إعدادا ما ينفعه في قبره. فإذا مات انقطع عمله وحبل حسناته. فلا ينفعه بعد ذلك اقتراب ساعة أو تأخّر علامة من علاماتها.

بل أجاب سائلا ثالثا بقوله (إذا ضيّعت الأمانة) ولمّا سأله عن إضاعتها قال له (إذا وسّد الأمر إلى غير أهله). أي أنّ السّاعة التي علينا الاهتمام بها ـ

ونحن على يقين من قيام السّاعة العظمى يوم البعث ـ هي ساعتنا ونحن أحياء. عندما يحشرنا السّفاحون والأفّاكون في الأرض وقد وسّدنا إليهم أمر سوسنا بسبب فرارنا من الانخراط في الأمر العامّ. تلك أدلّة على الاهتمام بالسّاعة التي نملك فيها أن نصلح ونغيّر. أمّا السّاعة الأخرى فلا مزيد من موقف اليقين منها. والاستعداد لها بالعمل. وليس انشغالا بأمارات أكثرها منخول ضعيف. وقليل منها صحيح. وحتّى الصّحيح منها لا يملك أحد تنزيله في محلّه الصّحيح. لأنّه لا يعلم الغيب إلاّ الله وحده سبحانه. وما سيقت تلك الأشراط (بلغة القرآن الكريم) إلاّ لتأكيد السّاعة أوّلا. ولحشد العمل استعدادا لها ثانيا. وللتّخويف منها ثالثا.

وإلاّ فما الحاجة إلى الاهتمام بأمر لا نملك معه شيئا؟ القرآن الكريم نفسه وهو يسوق ما لا يزيد عن عدد أصابع اليدين من أشراط السّاعة أورد كثيرا منها بصيغة الظنّ المتشابه الذي لا يرتقي ليكون محكما. وما ذلك سوى لصرفنا عن إتّباع متشابهات ظنّيات لا يعلم تأويلها الصّحيح إلاّ الله سبحانه.

بل إنّ خطاب أمارات السّاعة يساق في أكثر خطابنا سوق الفرار من عمارة الدّنيا والإقبال على الآخرة في نظرة كنسية كالحة أنّ عمارة الآخرة يمكن أن تكون بغير عمارة الدّنيا. مثل سوق خطابنا للموت. يسوقه لأجل تيئيس النّاس من العمل والتّرغيب في الانزواء. وليس لمزيد من التّسابق في فعل الخير والمسارعة إليه. ألم يقل عليه السّلام (إذا قامت السّاعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها). سوق الموت إذن ومثله سوق أمارات السّاعة مقصود منه مضاعفة العمل ومراكمة الجهد لتحصيل أرصدة أكبر وأكثر. وليس لفرض الهرم قبل الهرم والفرار من ساحة الكدح والكبد. كما يهرف كثير من خطابنا الدّينيّ كلّ الهرف إذ يفسّر بعض المصائب ـ الزّلازل مثلا ـ بغضب الله على المصابين أنفسهم أو أهليهم.

إذا كان من غرض المصيبة ذلك فلم لم ينجّ الله سبحانه كثيرا من أنبيائه عليهم السّلام ممّن قتل بنو إسرائيل؟ أليس هو قدير على ذلك؟ أليسوا أنبياءه؟ ولم لم يحم سيّد الشّهداء (حمزة عليه الرّضوان) في أحد أن تبقر بطنه بعد قتله وتستخرج كبده وتلاك ثمّ تلفظ؟ أليس هو جدير بذلك؟ هل شغب ذلك على أغلى قلادة قلّدها (سيّد الشّهداء). ألم يكن سبحانه قديرا على إنجاء أهل الأخدود من موتة شنيعة. إذ قذفوا في النّار المستعرة كما يقذف العصفور مهيض الجناح ليكون ناضجا؟ وقوع المصيبة إذن لا يعني أبدا البتّة غضبا إلهيا على المصاب ولا حتّى على أهله.

طريقة الموت ومكانه وزمانه لا علاقة لكلّ ذلك بصلاح أو طلاح. وكم من عدوّ لله مات وهو يرفل في الحرير. علّمنا القرآن الكريم أنّ المصيبة تصيب الذين لم يظلموا كذلك (واتقوا فتنة لا تصيبنّ الذين ظلموا منكم خاصّة). ذلك في قراءة حفص عن عاصم. وعند غيره (لتصيبنّ) ولكن المعنى واحد: الفتنة تصيب الظّالم ومن لم ينهه عن ظلمه. إنّما على خطابنا في مثل هذه المناسبات أن يلزم الهدي القرآنيّ الكريم ليذكّر بعظمة الله سبحانه وقدرته على كلّ شيء.

وأنّ زلزال الدّنيا يذكّر بزلزلة الآخرة. أو هو مشهد مصغّر له. لعلّ النّاس يؤوبون.

وأنّ الكون كلّه في قبضته سبحانه يفعل به ما يشاء ليزداد النّاس وثوقا بربّهم وزلفى إليه ويقينا في وعده. وعلى خطابنا أن يؤكّد ما أكّده القرآن الكريم نفسه: أنّ الله يريد الآخرة. ومعنى ذلك أنّه يريد ابتلاء عباده المؤمنين بالمصائب حتّى يتأهّلوا لدار الحيوان. حيث الحياة الحقّ والنّعيم الحقّ. ولو كان يريد الدّنيا ما أذن لعبده (صاحب موسى عليه السّلام) بقتل غلام لا هو بلغ الحنث ليكون مسؤولا ولا هو اقترف ما به يؤاخذ. ولو كان يريد الدّنيا سبحانه لما هزم نبيّ في أيّ معركة عسكرية مع قومه أو عدوّه. ولجعل لأوليائه معارج عليها يظهرون وزخرفا.

ولكنّه لا يريد دارا لو كانت عنده تزن عشر معشار جناح بعوضة ما سقى منها عدوّا له من أعدائه الكثيرين شربة ماء. عدم إرادته الدّنيا من معانيه كذلك عدم إرادته انتصار عباده المؤمنين على أعدائه انتصارا يبطرهم أو يعوّق بعضا من القيم التي رضيها لهم. ذلك خطاب يطامن من غلواء النّاس في فتات دنيا كثيرا ما ينالونه بانكسار وذلّة. على خطابنا أن يذكّر النّاس أنّ الذين أصابهم الله في مثل هذه المناسبات الأليمة بالموت هم شهداء عنده (شهداء دنيا) من مثل الغريق والمهدوم وموت الفجاءة وغير ذلك ممّا جاء في الحديث النّبويّ. على خطابنا أن يذكّر النّاس أنّ المصائب ابتلاءات. وأنّها جاءت لحكم عظمى. قد نعلم بعضها. ومؤكّد أنّنا لا نعلم كثيرا من تلك الحكم. ابتلاء أقرباء المصابين: هل يصبرون وللّه يسلّمون أم يكفرون ويأتون فعل الجاهلية العربية الأولى.

ابتلاؤنا نحن هل ننجد المصابين ونسعفهم. أم نغدق عليهم من الشّماتة. ابتلاء النّاس هل يرجعون إلى ربّهم أم لا. (ظهر الفساد في البرّ والبحر بما كسبت أيدي النّاس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلّهم يرجعون). يذيقهم بعض الذي عملوا فحسب. وليس مؤاخذة كاملة.

بل هو دعاء للكافرين أنفسهم هل يصرّون على غيّهم أنّها تجشّآت أرضية فحسب دون تقديرات إلهية. أم يتفكّرون فيرجعون. من تلك الحكم كذلك تخويفنا بآيات مادية لعلّنا نتوب. هي مناسبة لتأكيد الإيمان بالرّكن السّادس الأعظم من أركان الإيمان (الإيمان بالقدر خيره وشرّه). ألم يقل الله سبحانه في ذلك (ما أصاب من مصيبة إلاّ بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه).أي من يؤمن بقدره الغلاّب سبحانه يهد قلبه إلى الإيمان به إيمانا لا يتزلزل. ويهديه كذلك إلى تأويلات تنسجم مع الوحي المعصوم. وأنّها مصيبة مسطورة في كتاب لا يضلّ ولا ينسى. وأنّ المقصود من ذلك هو تحصيننا من آفتين قاسيتين (لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم).

ما فات من الدّنيا لا يأسف عليه المؤمن. وما أوتيه منها لا يفرح به. كما أنّها مناسبة إلى دعوة النّاس إلى التّوبة. ولكن أيّ توبة. وممّ؟ تلك هي مشكلة خطابنا. أكثرنا يدعو إلى توبات فردية فحسب. وقليل منّا من يدعو إلى توبات جماعية تجعل النّاس ينخرطون في الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر بأوعيته المعاصرة. ذلك هو الذي يؤمّن من وقوع المصائب لقوله سبحانه (وما كان ربّك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصحلون). انخراط أهل القرى في الإصلاح هو العاصم. وليس مجرّد صلاحهم فحسب. ومن آفات خطابنا أنّه يدعو إلى توبات من الذّنوب التي بيننا وبين أنفسنا أو بيننا وبين الله فحسب. ونغفل عن الدّعوة إلى توبات أخرى أكبر وأعظم وأحفظ لنا. وهي توبات فيما بيننا وبين النّاس. ألا ترى أنّ الله سبحانه رتّب عقوبات دنيوية شرعية قاسية على جرائم بيننا وبين النّاس. في حين أنّه أجّل الذّنوب التي بيننا وبينه إلى عقوبات الآخرة؟ ما وقر فيّ شيء من الإسلام أكثر من أنّ العدوان على الإنسان ـ كلّ إنسان ـ مجلبة لسخط الله وغضبه وللمصائب التي بها ينذرنا مرّة من بعد مرّة لعلّنا نتوب. الدّعوة إلى التّوبة هذه مناسبتها. ولكن أيّ توبة. وممّ؟ وكيف؟ كلّ ذلك محدّد في الوعي ليكون منسجما مع القرآن الكريم وليس متّخذا له شريعة أخرى

Posted on Leave a comment

بيان المجلس الأوروبي للأئمة حول زلزال تركيا وسوريا

ببالغ الحزن والأسى، تلقى المجلس الأوروبي للأئمة أخبار الزلزال الذي ضرب الأراضي التركية والسورية.
والمجلس الأوروبي للأئمة يتقدم بخالص التعازي والمواساة للشعبين التركي والسوري في ضحايا الزلزال، ونسأل الله عز وجلَّ أن يرحم المتوفين ويربط على قلوب ذويهم، وأن يعجل بشفاء المصابين، وأن يخلف المتضررين خيرا.
ونهيب بكافة الأئمة والدعاة في القارة الأوروبية بتقديم كل دعم مادي ومعنوي لإغاثة وعون الجرحى والمنكوبين.

Posted on Leave a comment

محاضرة مرئية | مدارج الترقي الدعوي في الواقع المعاصر| د. محمد راتب النابلسي

محاضرة مدارج الترقي الدعوي في الواقع المعاصر – محاضرة مرئية | لفضيلة الدكتور: محمد راتب النابلسي ضمن فعاليات الملتقى السنوي للأئمة والدعاة في أوروبا، المنعقد في مدينة #اسطنبول خلال الفترة من 19-20 نوفمبر 2022 #ملتقىأئمةأوروبا

محاضرة مدارج الترقي الدعوي في الواقع المعاصر| د. محمد راتب النابلسي

Posted on Leave a comment

الإيمان بحديث الإسراء والمعراج | الشيخ: عبد الرحمن بن صالح المحمود

الإسراء هو السير ليلاً، والمعراج مفعال من العروج، وهي الآلة التي يصعد بها، والله أعلم بكيفيتها، والمقصود العروج به صلى الله عليه وسلم إلى السماء، وأهل السنة والجماعة يقولون: إنه كان يقظة، وكان بروحه وجسده، وهذا هو الصحيح.

وهذا الإسراء والمعراج معجزة من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن من حكمة الله تعالى أن جعل فيها الإسراء الذي يستدل به عملياً على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك؛ لأن الله قادر على أن يعرج به من المسجد الحرام إلى السماء، لكن لو عرج به إلى السماء، وجاء الرسول في الصباح يقول: عرج بي إلى السماء، لقال المشركون: هذا مثل كقولك إنه ينزل عليك ملك! أي: أن هذا أمر غيبي لا يمكن أن نستدل به على صدق ما تقول، لكن من حكمة الله أن جعل الإسراء إلى بيت المقدس.

 ولهذا لما اعترض المشركون لم يعترضوا على العروج به إلى السماء، وإنما اعترضوا على الإسراء به إلى بيت المقدس؛ لأن هذه هي القضية المادية التي يرون أنها لا يمكن أن تتم في ليلة واحدة؛ ولهذا لما أخبرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك أنكرته قريش وأكبرته، وقالت: هذا شيء لا يمكن أن يتم ولا يمكن أن يقع، وبقية القصة معروفة.

لكن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبرهم عن أشياء دلت على أن هذا وقع فعلاً، فأخبرهم عن العير، وماذا جرى لها، ومتى ستقدم، بل وأخبرهم عن تفاصيل دقيقة عن بيت المقدس، وهم يقطعون ويجزمون بأن الرسول صلى الله عليه وسلم ما ذهب إلى فلسطين، فإنه حين سأله المشركون عن المسجد الأقصى رفعه الله سبحانه وتعالى للنبي صلى الله عليه وسلم، وصار كأنه ينظر إليه، فجعل عليه الصلاة والسلام يصفه وصفاً دقيقاً؛ حتى إن الواحد من المشركين قد يكون استقر في ذهنه جزئية بسيطة في المسجد، كالمدخل، والعتبة الفلانية، والمكان الفلاني، أما ماذا فيه من وصف فلا، فالرسول صلى الله عليه وسلم جعل يصفه وصفاً دقيقاً، لكن لو كان مناماً كما يزعم البعض ويقول: الإسراء والمعراج كان مناماً، فإنهم لا ينكرونها؛ لأن المنامات لا تنكر، فإذا جاء واحد وقال: رأيت في النوم أنني ذهبت إلى كذا وصعد بي وعرج بي إلى آخره، فسيكون هذا مناماً ليس بمستغرب، لكن قريشاً وهم كفار فهموا من قول الرسول صلى الله عليه وسلم إنه أسري بي، ثم عرج بي إلى السماء، أنه كان بروحه وجسده، يقظة لا مناماً.

بقي إشكال، وهو أنه في بعض روايات الإسراء أن الرسول ذكر فيه أنه استيقظ، وفي بعضها: أنه كان مناماً، وقد أجاب العلماء عن ذلك بأنه لا يبعد أن الرسول كان يرى رؤيا ثم تقع مثل فلق الصبح، فقد يكون الرسول صلى الله عليه وسلم رأى رؤيا ثم بعد ذلك وقعت حقيقة، لكن ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم المشركين إنما هو إخبار بالإسراء بروحه وجسده، يقظة وليس مناماً.وأما كيف تم ذلك؟ فهذا علمه عند الله، والرسول صلى الله عليه وسلم أخبرنا عن البراق، وعن شيء من وصفه، وعن شيء من سرعته، وأخبرنا عما جرى له في السماوات، وكيف استفتح كل سماء، وكيف التقى ببعض الأنبياء، وكيف أنه بلغ سدرة المنتهى، وكيف أنه سمع صريف الأقلام، وكيف أنه رأى جبريل، وكيف أن الله كلمه في السماء، وخاطبه مباشرة بدون واسطة، وفرض عليه الصلوات الخمس إلى آخره.فنؤمن ونصدق بجميع ذلك، وهذا مثال فقط ذكره المصنف في بداية هذه القضية الكبرى، وهي الإيمان بكل ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا قال: [وكان يقظة لا مناماً؛ فإن قريش أنكرته وأكبرته، ولم تنكر المنامات] .

المصدر : شرح لمعة الاعتقاد – عبد الرحمن بن صالح المحمودشارك 

Posted on Leave a comment

المقصد الأعلى من وراء رحلة الإسراء والمعراج | العلّامة: محمد الطاهر بن عاشور

لطالما سمعنا أن رحلة الإسراء والمعراج كان سببها؛ التسرية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الذي أصابه من رحلة الطائف؛ والاحتفاء به صلى الله عليه وسلم.

ولا شك أن هذه الرحلة لم تخلُ من مظاهر الحفاوة والتكريم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن اشتمال الإسراء والمعراج على مظاهر الاحتفاء والتكريم لا يستلزم بالضرورة أن يكون هذا هو المقصد من وراء هذا المسرى العجيب.

لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا

وإذا كانت الآيات القرآنية التي تحدثت عن المسرى قليلة إلا إنها لم تغفل المقصد من ورائه، قال تعالى : {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} [الإسراء: 1] جاء ذلك تعليلا وبيانا للمقصد: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [الإسراء: 1].

يقول ابن عاشور  عن رحلة الإسراء والمعراج  : وقوله: : {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} تعليل الإسراء بإرادة إراءة الآيات الربانية، تعليل ببعض الحكم التي لأجلها منح الله نبيًّه منحة الإسراء، فإن للإسراء حكمًا جمة تتضح من حديث الإسراء المروي في «الصحيح» .

وأهمها وأجمعها إراءته من آيات الله تعالى ودلائل قدرته ورحمته، أي لنريه من الآيات فيخبرهم بما سألوه عن وصف المسجد الأقصى. ولام التعليل لا تفيد حصر الغرض من متعلقها في مدخولها.

وإنما اقتصر في التعليل على إراءة الآيات؛ لأن تلك العلة أعلق بتكريم المسرى به، والعناية بشأنه، لأن إراءة الآيات تزيد يقين الرائي بوجودها الحاصل من قبل الرؤية.[1]

حق اليقين

ومعنى كلام ابن عاشور أن الله أراد أن يُرِيَ رسوله صلى الله عليه وسلم  من آياته الكبرى، ما يثبت به فؤاده، ويزيد به يقينه، وينقله من حالة علم اليقين إلى حالة عين اليقين، بل إلى حالة حق اليقين.

وذلك أن لليقين ثلاث درجات:

الأولى : علم اليقين.

الثانية : عين اليقين.

الثالثة : حق اليقين.

فنحن نعلم بوجود الجنة علم اليقين، لكن إذا شاهدنا الجنة، أصبح علمنا بها عين اليقين، فإذا تناولنا قطفا من عنبها وصلنا إلى مرحلة حق اليقين، وهي أعلى درجات اليقين.

لماذا حق اليقين؟

إذا كانت الآية بينت لنا أن كشف بعض الآيات للنبي صلى الله عليه وسلم المقصد الأعظم من الإسراء والمعراج ، إلا إنها لم تسعفنا عن سبب هذا الكشف؟ أي لماذا أراد الله أن ينقل نبيه صلى الله عليه وسلم إلى حالة حق اليقين؟

لكن إجالة النظر في كتاب الله عز وجل تكشف لنا عن السبب من وراء ذلك.

لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى

لقد حدَّثَنا القرآن عن شاب يسير بين جنبات صحراء موحشة في ليلة شاتية مطيرة ، شديدة الرياح، يسير هو وزوجته عائدا إلى موطنه الذي غادره منذ عشر سنوات. فضلَّ هذا الشاب الطريق ، فأراد أن يوقد نارًا يستدفئ بها ويستهدي بنورها معالم الطريق، فجعل كلما يقدح الزناد ينطفئ بفعل الرياح والمطر.

وفجأة يبصر من بعيد نارًا، فيقول لأهله : { امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَامُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16) وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَامُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18) قَالَ أَلْقِهَا يَامُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه: 13 – 24] [طه: 10 – 24].

لقد كانت كل مشكلة موسى أن يجد نارا تدفئه هو وأهله، وتهديه طريق العودة، إنها هموم صغيرة، ومشكلات أسرية ضيقة، لم يكن يعلم أنه على موعد سيغير مسار حياته ويوسع آفاق حياته، لتتحول همومه الأسرية إلى هموم قومية كبرى، ليحمل رسالة ربه لاستنقاذ بني إسرائيل من فرعون الذي وصفه الله بقوله: {وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ} [يونس: 83]

لكن، هل يمكن لهذه النقلة أن تتم هكذا دون أن يحصل موسى على جرعة من اليقين تثبت فؤاده أمام جبروت فرعون؟ بالطبع لا.

لذلك أراه ربه آية تلو الآية، من الآيات التي تدل على قدرة الله وأن أزِمَّة الأمور كلها بيده، وأن فرعون وملأه وحاشيته مقهورون بقوة الله عز وجل وقدرته.

لكن هذا الكشف من الله لموسى بهذه الآيات لم يكن  لإثارة إعجابه وفقط، إنه إعداد وتربية، ولذلك تقول الآيات : {لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى} [طه: 23] بعدها مباشرة : { اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه: 24].

وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ

وكذلك نجد القرآن يحدثنا عن سيدنا إبراهيم : {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام: 75]

فلم يكن الكشف لإبراهيم عن ملكوت السماوات والأرض عبثا، ولا تسلية، ولا لمتعة المشاهدة؛ ولكنه كان ” ليَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ”.

المجابهة الكبرى

وبهذا نعرف أن المقصد من وراء الإسراء والمعراج : رؤية الآيات، والمقصد من وراء رؤية الآيات، أن يري الله رسوله من آياته الكبرى توطئة لمرحلة المجابهة القادمة، التي ستنشأ مع ولادة الدولة الجديدة في المدينة.

فلئن كان النبي صلى الله عليه وسلم، يعاديه كفار مكة اليوم، فإنه تنتظره صلى الله عليه وسلم في قابل الأيام عداوات أشرس وأكبر، سيعاديه اليهود في المدينة، وستنشأ على ضفاف دولة الإيمان مجموعات من المنافقين يظهرون مناصرته ويستبطنون عداوته، ويعملون في الخفاء على التخلص منه ومن دينه ، ثم سيعاديه الفرس والروم.

نعم كان يوم الطائف داميًا وقاسيا، لكنه ليس آخر أيام الشدة في حياته صلى الله عليه وسلم، فلم تكن أيامه صلى الله عليه وسلم إلا سلسلة من الابتلاءات القاسية المتواصلة ، التي يؤمر فيها بالنصب بعد الفراغ {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ } [الشرح: 7] حتى يلقى الله عز وجل.


المصدر: كتاب[1] – التحرير والتنوير (15/ 20)

https://waqfeya.net/book.php?bid=918