Posted on

الحرية | الأديب/ مصطفى لطفي المنفلوطي.

الحرية

مصطفى لطفي المنفلوطي (ت: 1342هـ -1924م)

استيقظت فجر يوم من الأيام على صوت هرَّة تموء [المواء: صوت الهرة] بجانب فراشي وتتمسح بي، وتلح في ذلك إلحاحاً غريباً، فرابني أمرها، وأهمني همها، وقلت: لعلها جائعة. فنهضت، وأحضرت لها طعاماً فعافته، وانصرفت عنه، فقلت: لعلها ظمآنة. فأرشدتها إلى الماء فلم تحفل به، وأنشأت تنظر إليَّ نظرات تنطق بما تشتمل عليها نفسي من الآلام والأحزان؛ فأثَّر في نفسي منظرها تأثيراً شديداً، حتى تمنيت أن لو كنتُ سليمانَ أفهم لغة الحيوان؛ لأعرف حاجتها، وأفرج كربتها، وكان باب الغرفة مُرْتَجاً [أي: مقفلاً]، فرأيت أنها تطيل النظر إليه، وتلتصق بي كلما رأتني أتجه نحوه، فأدركت غرضها وعرفت أنها تريد أن أفتح لها الباب، فأسرعت بفتحه، فما وقع نظرها على الفضاء، ورأت وجه السماء، حتى استحالت حالتها من حزن وهمٍّ إلى غبطة وسرور، وانطلقت تعدو في سبيلها، فعدت إلى فراشي وأسلمت رأسي إلى يدي، وأنشأت أفكر في أمر هذه الهرة، وأعجب لشأنها وأقول: ليت شعري هل تفهم هذه الهرة معنى الحرية؛ فهي تحزن لفقدانها، وتفرح بلقياها؟ أجل، إنها تفهم معنى الحرية حق الفهم، وما كان حزنها وبكاؤها وإمساكها عن الطعام والشراب إلا من أجلها، وما كان تضرُّعها ورجاؤها وتمسحها وإلحاحها إلا سعياً وراء بلوغها.

وهنا ذكرت أن كثيراً من أسرى الاستبداد من بني الإنسان لا يشعرون بما تشعر به الهرة المحبوسة في الغرفة، والوحش المعتقل في القفص، والطير المقصوص الجناح من ألم الأسر وشقائه، بل ربما كان بينهم من يفكر في وجهة الخلاص، أو يتلمس السبيل إلى النجاة مما هو فيه، بل ربما كان بينهم من يتمنى البقاء في هذا السجن، ويأنس به، ويتلذذ بآلامه وأسقامه.

من أصعب المسائل التي يحار العقل البشري في حلها: أن يكون الحيوان الأعجم أوسع ميداناً في الحرية من الحيوان الناطق، فهل كان نطقُه شؤماً عليه وعلى سعادته؟ وهل يجمل به أن يتمنى الخرس والبله ليكون سعيداً بحريته …؟!

يحلق الطير في الجو، ويسبح السمك في البحر، ويهيم الوحش في الأودية والجبال، ويعيش الإنسان رهين المحبسين: محبس نفسه، ومحبس حكومته من المهد إلى اللحد.

صنع الإنسان القوي للإنسان الضعيف سلاسل وأغلالاً، وسماها تارة ناموساً وأخرى قانوناً؛ ليظلمه باسم العدل، ويسلب منه جوهرة حريته باسم الناموس والنظام.

صنع له هذه الآلة المخيفة، وتركه قلقاً حذراً، مروع القلب، مرتعد الفرائص، يقيم من نفسه على نفسه حراساً تراقب حركات يديه، وخطوات رجليه، وحركات لسانه، وخطرات وهمه وخياله؛ لينجو من عقاب المستبد، ويتخلص من تعذيبه، فويل له ما أكثر جهله! وويح له ما أشد حمقه! وهل يوجد في الدنيا عذاب أكبر من العذاب الذي يعالجه؟ أو سجن أضيق من السجن الذي هو فيه؟

ليست جناية المستبد على أسيره أنه سلبه حريته، بل جنايته الكبرى عليه أنه أفسد عليه وجدانه، فأصبح لا يحزن لفقد تلك الحرية، ولا يذرف دمعة واحدة عليها…..

كان يأكل ويشرب كل ما تشتهيه نفسه وما يلتئم مع طبيعته، فحالوا بينه وبين ذلك، وملؤوا قلبه خوفاً من المرض أو الموت، وأبوا أن يأكل أو يشرب إلا كما يريد الطبيب، وأن يقوم أو يقعد أو يمشي أو يقف أو يتحرك أو يسكن إلا كما تقضي به قوانين العادات والمصطلحات.

لا سبيل إلى السعادة في الحياة، إلا إذا عاش الإنسان فيها حرًّا مطلقاً، لا يسيطر على جسمه وعقله ونفسه ووجدانه وفكره مسيطر إلا أدب النفس.

الحرية شمس يجب أن تشرق في كل نفس، فمن عاش محروماً منها عاش في ظلمة حالكة، يتصل أولها بظلمة الرحم، وآخرها بظلمة القبر.

الحرية هي الحياة، ولولاها لكانت حياة الإنسان أشبه شيء بحياة اللُّعب المتحركة في أيدي الأطفال بحركة صناعية.

ليست الحرية في تاريخ الإنسان حادثاً جديداً، أو طارئاً غريباً، وإنما هي فطرته التي فُطر عليها …

إن الإنسان الذي يمدّ يديه لطلب الحرية ليس بمتسوِّل ولا مستجد، وإنما هو يطلب حقًّا من حقوقه التي سلبته إياها المطامع البشرية، فإن ظفر بها فلا منة لمخلوق عليه، ولا يد لأحد عنده.

المصدر: كتاب (مؤلفات مصطفى لطفي المنفلوطي الكاملة، دار الجيل- بيروت، 1404هـ، 1984م، (1/127) بتصرف.

Posted on Leave a comment

الأحوط أم الأيسر؟ | بقلم/ أ. هديل الزور

في مقطع طريف تسأل المتصلة: “زوجي يطلب مني أن أضع قليلاً من المكياج حين نخرج ما حكم ذلك ياشيخ”

لم تتمالك مقدمة البرنامج نفسها لتسمع إجابة الضيف فقالت لها بلهجتها المصرية “طيب حطي شوية أنا عارفة أنه الشيخ حيقول حرام بس معليش شوية بس”

وبعد جدال دار بينها وبين الضيف المفتي حول حرمة الزينة بكت وقالت لكني أحب أن أتجمل وأخفي معايبي ألم يفت الفقهاء بجواز بعض الزينة فقال لها: “صحيح لكنا لا نفتي للناس بهذا حتى لا يتساهلو فيه نحن نفتي بالأحوط”

وبعيداً عن التعليق على المقطع والحكم الشرعي للزينة، ما استوقفني عبارة (نحن نفتي بالأحوط)

فهل صحيح أن واجب المفتي إفتاء الناس بالأحوط والأورع، وهل هذا ما يفعله المفتون دوماً؟  وما هو أصل المسألة؟

الأحوط: هو ما يسمى في الفقه الإسلامي “الخروج من الخلاف أو قاعدة مرعاة الخلاف”

المقصود من الخلاف: هو الاختلاف الواقع بين المذاهب الفقهية، ومراعاته بترك قول المذهب، والأخذ بالمذهب الآخر كما ورد في كتاب القواعد الفقهية للزحيلي.

والاحتياط كما عرفه القرافي: (ترك ما لا بأس به حذراً مما به بأس)

ضوابطه:

ولمراعاة الخلاف شروط تكررت في غير موضع، فإن لم تتوفر فلا يراعى الخلاف في المسألة أسوق منها ذكره الزحيلي في كتابه (القواعد الفقهية وتطبيقاتها في المذاهب الأربعة):

  •  ألا توقع مراعاته في خلاف آخر.
  •  ألا يخالف سُنَّة ثابتة صحيحة أو حسنة.
  • –        أن يقوى مَدرَكُه أي دليله الذي استند إليه المجتهد

وجاء في مجلة البيان في الحديث عن “الاحتياط الشرعي حقيقته وضوابطه” لقطب الريسوني تفصيلات أخرى:

  • ألاّ يكون في المسألة المحتاط فيها نصّ.
  • أن تكون الشبهة الحاملة على الاحتياط قوية معتبرة.
  • ألاّ يفضي العمل بالاحتياط إلى مخالفة النص الصحيح الصريح.
  • ألاَّ يفضي الاحتياط إلى مشقة فادحة
  • ألاّ يفضي الاحتياط إلى تفويت مصلحة راجحة.

عموماً فإن الأخذ بالأحوط على سبيل الإختيار الشخصي الوَرِع أمرٌ محمود ومطلوبٌ من المسلم إذا كان مراعياً الشروط والاعتبارات المذكورة أعلاه، وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم عليه بقوله: (دَعْ ما يريبك إلى ما لا يريبك) فإن اختلت الشروط أو واحد منها يصبح الأخذ به مذموماً وقد يؤدي إلى مفاسد عظيمة.

(إن الاحتياط مسلك تُجتنب به الشبهات، ومرجّح عند تعارض الأدلة، ومخصّص لعموم الإباحة إذا ثبت، ولا خلاف في حُسنه بين العقلاء في الجملة، إلا أن الإغراق فيه يؤول في نهاية المطاف إلى الاستدراك على الشرع، واجتراح البدعة المذمومة) مجلة البيان

قد يؤدي التمسك بالأحوط تورعاً لمفسدة عظيمة، حينها يلحق بالمسلم الاثم بدل الأجر.

(وليس كل احتياط يشرع ويستحب من باب الورع والتنزه عن الشبهات! ذلك أن منه ضرباً مذموماً لا يلتفت إليه، وهو ما كان مفضياً إلى محظور شرعي، أو كان من قبيل الوساوس التي تتخذ ديناً وهي إملاء من الشيطان الرجيم، ومن صوره الشائعة: سد الذرائع التي تفضي نادراً إلى المفسدة، والتنزّه عن الرخص المشروعة، والزيادة في المشروع على سبيل الوسوسة.) مجلة البيان

فإذاً ماهي أحوال الإفتاء التي يفتي بها المفتي: يذكر الشيخ الحسن ولد الددو ثلاث حالات لها: فاما ان يفتي بما ترجح لديه هو، أو يفتي بالمذهب السائد في البلد الذي يستفتي منه المفتي ومحل ذلك قبل انتشار المذاهب والعولمة، أو أن يذكر أقوال العلم في المسألة وأدلتهم فيكون لا له ولا عليه.

من الأيسر إلى الأحوط

بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بدأت تتغير بعض الأحكام التي كانت على أصل الإباحة أو الندب عملاً بالأحوط، وسداً للذرائع، ونظراً لفساد الزمان، كما ورد في عدد من الروايات – وأشهرها ما ورد في قصة ابن عبد الله ابن عمر رضي الله عنه حين قال عبد الله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا استأذَنَت أحدَكم امرأتُه إلى المسجدِ فلا يمنَعْها ) قال بلالُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ عمر: واللهِ لنمنَعُهنَّ -إذاً يتخذنه دغلاً- قال: فسبَّه عبدُ اللهِ بنُ عمرَ أسوأَ ما سمِعْتُه سبَّه قطُّ وقال: سمِعْتَني قُلْتُ: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ( إذا استأذَنَت أحدَكم امرأتُه إلى المسجدِ فلا يمنَعْها ) قُلْتَ: واللهِ لنمنَعُهنَّ ؟!

  • ومنها ما ورد في منع ابن هشام طواف الرجال مع النساء في الحديث عن عطاء (إِذْ مَنَعَ ابنُ هِشَامٍ النِّسَاءَ الطَّوَافَ مع الرِّجَالِ، قالَ: كيفَ يَمْنَعُهُنَّ؟ وقدْ طَافَ نِسَاءُ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مع الرِّجَالِ؟ قُلتُ: أَبَعْدَ الحِجَابِ أَوْ قَبْلُ؟ قالَ: إي لَعَمْرِي، لقَدْ أَدْرَكْتُهُ بَعْدَ الحِجَابِ..
والشاهد الأخير الذي أسوقه ما ورد من منع العواتق ذوات الخدور (أي صغيرات السن أول البلوغ) بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم من الخروج للعيدين، وهو مخالف لهدي النبي صلى الله عليه وسلم وقد ورد في الحديث ( لتخرجِ العواتقُ وذواتُ الخدورِ والحُيَّضُ فيشهدنَ الخيرَ ودعوةَ المسلمينَ

ونلاحظ من الأمثلة السابقة أن كلها مما اختصت به المرأة بالمنع وبالأحوطية أكثر من الرجل وهذا المجال هو أكثر ما حصل فيه المبالغة بالأحوطيَّة

وهكذا كما يقول القرضاوي “وكل جيل أخذ يضيف بعض (الأحوطيات) إلى ما قبله، وقد أدت كثرة الأحوطيات في الفقه المتصل بحياة الناس إلى تضييق وتشدد لحق بالإسلام منه أذى كثير”

الأيسر أم الأحوط؟

تظافرت النصوص الشرعية التي تحض المسلم على اتخاذ التيسير منهجاً لحياته حتى غدى اليسر علامة مميزة يمتاز بها الإسلام، قال تعالى: (يُرِيدُ اللهُ بِكُم اليُسْرَ ولا يُريدُ بِكُم العُسْرَ) البقرة185، كما ورد في الحديث: (خَيرُ دينِكم أَيْسرُه)

لكن وردت نصوص أخرى تحض المرء على التورع والاحتياط منها (دَعْ ما يريبك إلى ما لا يريبك؛ فإنّك لن تجد فقد شيء تركته لله عزَّ وجلَّ)

فما هو ضابط ذلك وأي الأحكام ينبغي فيها الأورع وأيها ينبغي فيها الأيسر؟  

  • تنقسم الفروع الشرعية إلى ثلاثة أنواع كما بينها الدكتور وهبة الزحيلي رحمه الله تعالى في كتابه الفقه الإسلامي وأدلته:

الأول ـ ما بني في الشريعة على اليسر والتسامح، وهو العبادات المحضة، فينبغي عدم الغلو بها؛ لأن التنطع يؤدي إلى الهلاك، أما العبادات المالية: فإنها مما يجب التشديد بها احتياطاً خشية ضياع حقوق الفقراء، فلا يؤخذ بالقول الضعيف أو يلفق من كل مذهب ماهو أقرب لمصلحة المزكي لإضاعة حق الفقير، وإنما يجب الإفتاء بالأحوط والأنسب لمصلحة الفقراء.

الثاني ـ ما بني على الورع والاحتياط، وهو المحظورات: وهي مبنية على مراعاة الاحتياط والأخذ بالورع ما أمكن.

الثالث ـ ما يكون مناطه مصلحة العباد وسعادتهم، ومعيار المصلحة: “هو كل ما يضمن صيانة الأصول الكلية الخمسة”.

على أن اليسر يغلب العسر، وأرى -والله أعلم- أنه الأقرب لروح الإسلام ومنهجه لتظافر الأدلة على الحض عليه،  فعلى المرء أن يجتهد في الموازنة بين الأمرين ما أمكن في الحديث النبوي: (إن الدِّين يُسْرٌ، ولن يُشادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إلا غلبه، فسَدِّدوا، وقارِبوا، وأبشرُوا)، قال الشعراني( إن العزيمة والرخصة هما سور الشريعة، فإذا رأيت من مال إلى التشدد في مسألة فقد مال إلى سور العزيمة، ومن مال إلى التساهل في مسألة فقد مال إلى سور الرخصة، ولم يخرجا عن ما بين السوريين لأن الشريعة لا تخرج عن هاتين المرتبتين)

لكن بعض الناس تتورع عن الأخذ بالرخص ظناً منها أن العزيمة دوماً أحب إلى الله تعالى رغم أن الحديث النبوي قد رغب بالترخص حال المشقة (إن الله يُحبُّ أن تُؤتَى رُخَصُه، كما يَكره أن تُؤْتَى معصيته)

وفرق بين أن يتخذ الإنسان من الورع منهجاً ذاتياً يحتاط لنفسه وبين أن يفتي لغيره به فضلاً عن أن يلزمه به، فالنبي صلى الله عليه وسلم ما سأل عن أمر إلا اختار أيسر المسلكين مالم يكن قطعياً، وقد نهى عن أن يلزم المرء غيره بما يتورع فيه لنفسه

أفتان أنت يا معاذ!  

صلى معاذٌ مع النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ثمَّ جاء يؤمُّ قَومَه، فقرأ البَقَرةَ، فاعتزل رجلٌ مِن القَومِ فصَلَّى، فقيل: نافَقْتَ يا فُلانُ! فقال: ما نافَقْتُ، فأتى رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: إنَّ مُعاذًا يصَلِّي معك، ثمَّ يرجِعُ فيؤُمُّنا يا رَسولَ اللهِ، وإنَّما نحن أصحابُ نواضِحَ، ونعمَلُ بأيدينا، وإنَّه جاء يؤمُّنا فقرَأَ بسورةِ البقَرةِ! فقال: يا مُعاذُ، أفتَّانٌ أنت؟! أفتَّانٌ أنت؟

لذلك فإن على الإمام أو المفتي أن يراعي حال الناس، فيفتي بالأيسر والأخف عليهم فيما يجوز فيه التيسير إذا كان المستفتي من أهل الترخص ، و أن يراعي اختلافاتهم الفردية، فما كان عسيراً في حق البعض قد يكون يسيراً في حق الآخر والعكس صحيح، ويفتي بالأحوط فيما يقتنع بقوة دليله ورجحانه دون أن يجعل من التشديد أو التراخي منهجاً تربوياً مميزاً

يقول الشيخ الددو: (لا يجوز للمفتي أن يفتي على مجرد الدواعي التربوية بل يفتي بناء على ما ترجح له من الأدلة فهو مؤتمن عليه لا يجوز له أن يفرط به، أما العمل التربوي فهو مجال الدعاة، -كمثل الافتاء بوجوب تغطية الوجه لفساد الناس وحرصاً على صيانة المرأة،  فلا يوجبه بل يقول للرجل: لكن عليك غض البصر-، لكن له أن يفتي بما له صلاح الناس من باب السياسة الشرعية، لا من باب التربية والدعوة، و لا يخبر بأنه الراجح لديه، كما لو حصلت دافَّة فيفتي بعدم ادخار لحوم الأضاحي لكن يبين العلة في ذلك)

لكن الحاصل أن بعض المفتين يشددون على الناس بحجة فساد الزمان ورغبة في تهذيبهم وضبطهم وتربيتهم مما يؤدي لتنفير الناس وإرهاقهم وتحريف الشرع وتشويهه.

يقول القرضاوي حفظه الله تعالى: (كما أن هناك فقه التيسير فإن هناك فقه التعسير) والأول محمود أما الثاني منفر مذموم، وقد قال تعالى: {يُريدُ الُله أن يُخَفِّفَ عَنْكم وخُلِقَ الإنسَانُ ضَعِيفًا} النساء – 28، ومثل ذلك قوله تعالى{ما يُريدُ اللهُ لِيَجعلَ عَليْكُم مِّنْ حَرَجٍ} المائدة_ 6

والحمد لله رب العالمين

بقلم: هديل الزير

Posted on Leave a comment

الاستبداد يشل القوى | العلّامة/ محمد الغزالي.

الاستبداد يشل القوى

محمد الغزالي (ت 1416هـ – 1996 م)

الحكم الذي ساد بلاد الإسلام من بضعة قرون كان طرازاً منكراً من الاستبداد والفوضى . .

انكمشت فيه الحريات الطبيعية، وخارت القوى المادية والأدبية، وسيطر على موازين الحياة العامة نفر من الجبابرة أمكنتهم الأيام العجاف أن يقلبوا الأمور رأساً على عقب، وأن ينشروا الفزع في القلوب، والقصر في الآمال، والوهن في العزائم .

 والحكم الاستبدادي تهديم للدين، وتخريب للدنيا، فهو بلاء يصيب الإيمان والعمران جميعاً. وهو دخان مشئوم الظل، تختنق الأرواح والأجسام في نطاقه حيث امتد. فلا سوق الفضائل والآداب تنشط، ولا سوق الزراعة والصناعة تروج .

ومن هنا حكمنا بأن الوثنية السياسية حرب على الله وحرب على الناس. وأن الخلاص منها شيء لا مفر منه لصلاح الدنيا والآخرة.

وقد أصيب الإسلام في مقاتله من استبداد الحاكمين باسمه. بل لقد ارتدت بعض القبائل، ولحقت بالروم فراراً من الجور ….

وعندما يوضع رأس فارغ على كيان كبير فلابد أن يفرض عليه تفاهته، وأثرته، وفراغه. . .

ومن هنا تطرق الخلل إلى شئون الأمة كلها، فوقعت في براثن الاستعمار الأخير؛ لأن الخلفاء والملوك والرؤساء كانوا في واقع أمرهم حرباً على الأمة الإسلامية، أو كانوا في أحسن أحوالهم تراباً على نارها، وقتاماً على نورها.

فلو خلوها وشأنها لاستطاعت الدفاع عن نفسها، متخففة من أعباء هؤلاء الحكام، ومن جنون العظمة الذي استولى عليهم . 

ثم إن الإسلام ينكر أساليب العسف التي يلجأ إليها أولئك المستبدون في استدامة حكمهم واستتباب الأمر لهم . إنه يحرم أن يضرب إنسان ظلماً، أو أن يسفك دمه ظلماً.

فما تساوى الحياة كلها شيئا إذا استرخصت فيها حياة فرد. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق”. فأشد الجرائم نكراً، أن يقتل امرؤ من الناس توطيداً لعزة ملك أو سيطرة حاكم . وفي حديث عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “يجيء المقتول يوم القيامة آخذاً قاتله وأوداجه تشخب دماً عند ذي العزة جل شأنه، فيقول: يا رب، سل هذا، فيم قتلني؟ فيقول المولى عز وجل: فيم قتلته؟ قال: قتلته لتكون العزة لفلان . . . قيل: هي لله”. وفي التعذيب دون القتل، وهو ما ينتشر في سجون الظلمة، يروي أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “من جرد ظهر مسلم بغير حق لقى الله وهو عليه غضبان”.

ويقول أيضا: “ظهر المسلم حمى، إلا بحقه”. يعني أن المسلم لا يجوز أن يمس بسوء أبداً، إلا أن يرتكب ذنباً أو يصيب حدًّا، فعندئذ يؤخذ منه الحق الثابت في دين الله.

 إن الجو المليء بما يصون الكرامات، ويقدس الدماء والأموال والأعراض هو الجو الذي يصنعه الإسلام للناس كافة، وهو – بداهة – الجو الذي يحسنون فيه العمل والإنتاج. فحيث تسود الطمأنينة، ويختفي الرعب، ينصرف العامة إلى تثمير أموالهم، وتكثير ثرواتهم؛ لأنهم واثقون أن حصاد ما يغرسون لهم ولذراريهم، فهم غير مدخرين وسعاً في العمل والإنتاج . إلا أن هذه البيئة الوادعة الآمنة المشجعة على الكدح والكسب تقلصت رقعتها في الأمة الإسلامية خلال القرون الأخيرة!!. ووقع الفلاحون والصناع وأهل الحرف المختلفة في براثن أمراء يحكمون بأمرهم لا بأمر الله. فكانت عقبى الترويع المتجدد النازل على رؤوسهم أن أقفرت البلاد وصوَّح نبتها، وعمَّ الخراب أرجاءها .

وتستطيع أن تلقي نظرة عجلى على تاريخ مصر خلال المائتي سنة الأخيرتين، فيما كتبه عبد الرحمن الجبرتي. إنك ترى من الأحداث ما لا ينفد عجبك له. حكام يطلبون من المال من الناس كلما تحركت رغبة الطلب في نفوسهم. فإذا الضرائب تفرض دون وعي، والأملاك تصادر دون حق. وخصومات على الحكم تشعل جذوتها عصابات طامعة من أصحاب الجاه وعشاق السلطة، وتسفك فيها الدماء بغزارة، ولا يفوز فيها إلا أقدر الفريقين على الفتك، وأطولهم يداً بالأذى .  

ما هذا؟ أمة انفرط عقدها فليس يمسكها شيء، وضاع أصلها فلا تستحي من سلوك.

وتشبثت بها الفتن طولاً وعرضاً، فهي كحريق هائل كلما ظن أنه انطفأ في ناحية اندلع في ناحية أخرى.!! ومن البديهي أن تمحق أسباب العمران بله مظاهر الحضارة في أتون هذه الفوضى الضاربة. .!! البديهي أن تضطرب شئون الري، وأن يفر الفلاحون من زراعة الأرض، وأن يعيش أهل المدن وكأنهم يستعيرون أعمارهم يوماً بيوم. فإذا كان القُطر المصري البائس صورة لأقطار الأمة الإسلامية المنتشرة بين المحيطين، فأي مستقبل ترقبه لمثل هذه الأمة التي عزَّ فيها الداء واستفحل الخطب؟؟ إن سقوطها في مخالب المستعمرين الغزاة كان النتيجة الحتم!! وتخلفها في ميدان الحياة المتدفعة المتدفقة هنا وهناك أمر لم يكن منه بد. والمسئول عن هذه الجريمة النكراء هو الاستبداد السياسي الذي وقعت البلاد فريسة له، وكان دين الله بين ضحاياه الكثيرة . يجب أن نعلم أن الناس يتهيؤون للعمل العظيم، ويتجهون إليه بأفكار رتيبة مستريحة، حين يكون الشعور بالأمن مستولياً على أقطار أنفسهم. أما حيث تستخف الذئاب الحاكمة وراء جدران الدواوين، وتنقضُّ متى شاءت على أقرب فريسة لها، فهيهات أن يزدهر إنتاج، أو يستقيم سعى.

الحريات الكاملة ضرورة لنشاط القوى الإنسانية وتفتح المواهب الرفيعة.

إن النبات يذبل في الظل الدائم، ويموت في الظلام، ولن تتفتح براعمه، وتتكون أثماره إلا في وهج الشمس. كذلك الملكات الإنسانية، لا تنشق عن مكنونها من ذكاء واختراع، إلا في جو من الإرادة المطلقة، والحرية الميسرة .

والعالم الإسلامي ـ ونقولها محزونين ـ نُكب بمن رد نهاره الضاحي ليلاً طويلاً . نكب ـ في العصر الماضيـ بحكام ظنوا البشر قطعاناً من الدواب، فهم لا يحملون في أيديهم إلا العصا .

والحاكم الذي لا تألف رعيته منه إلا العصا جرثومة عبوديتها أولاً. وهو القنطرة التي تمهد للإذلال الخارجي أخيراً . ونحن موقنون بأن الاستعمار الذي نشر غيومه في ربوع الأمة الإسلامية كان ومازال لا علة له إلا هذا الضرب من الحكومات .

 ومما يقترن بالاستبداد السياسي ولا ينفك عنه، غمط الكفايات، وكسر حدتها، وطرحها في مهاوي النسيان ما أمكن. ذلك أن المستبد يغلب عليه أن يكون مصاباً بجنون العظمة. وربما اعتقد أن كل كفاية إلى جانب عبقريته الخارقة صفر لا تستحق تقديراً ولا تقديماً . .

وإذا أكرهته الظروف على الاعتراف بكفاية ما، اجتهد في بعثرة الأشواك أمامها، واستغل سلطانه في إقصائها أو إطفائها.

وفي رأيي أن حظوظ الأمم من الكفايات متساوية، أو متقاربة، وأن أولي النباهة والمقدرة عند أية دولة في الغرب، لا يزيدون كثيراً عن أمثالهم في أي شعب شرقي .

كل ما هنالك أن قيادة الجماهير في أوروبا وأمريكا أخذ طريقه الطبيعي إلى أيدي الأذكياء الأكفاء . أما في الشرق الإسلامي مثلاً فإن القياد ـ بأسباب مفتعلة ـ ضلَّ طريقه عن أصحابه الأحقاء به، وسقط في أيدي التافهين والعجزة . وهذه الأسباب المفتعلة يقيمها ـ عن عمد ـ الاستبداد السياسي حيث يظهر ويسود.

إن المستبد يؤمن بنفسه قبل أن يؤمن بالله. ويؤمن بمجده الخاص قبل أن يؤمن بمصلحة الأمة .

ومن هنا يعول على الأتباع الفانين فيه، يحشدهم حوله، ويرفض الاستعانة بالكفايات التي لا تدين بالولاء له، ولا يبالي بحرمان الوطن، أو الدين من مهارتهم.

وتأخر العالم الإسلامي في القرون الأخيرة مرجعه انتشار هذا الوباء! فإن منع الرجل القوي من القيام على الأمانات العامة تضييع له ولها، تضييع ينطق لسانه بهذه الشكاة:


لم لا أُسَلُّ مِن القِراب وأُغمد  * * * لم لا أُجرَّدُ والسيوف تُجرَّدُ؟

أو كما قال الآخر، كاشفاً عن عواقب حرمان الأمة فيما ينوبها من أزمات:

      أضاعوني وأي فتى أضاعوا  * * * ليوم كريهة وسداد ثغر!!

وطبيعة الرجل الكفء كراهية الهوان والتحقير. ألا ترى موقف عنترة بن شداد حين هوجمت قبيلته، وكان أبوه قد وظَّفه في الرعي والخدمة؟ لقد تطلعت إليه عند اشتداد الهجوم، وافتقاد الأبطال!! وجاء شداد مسرعاً يطلب من الابن المحقر المبعد أن يقود حركة المقاومة!
وقال عنترة ـ مندداً بموقف أبيه منه : إن العبد لا يحسن الكر والفر، ولكنه يحسن الحلاب والصر! فقال الوالد المحرج: كر وأنت حر . واسترد الفارس مكانته ، فاستعادت القبيلة كرامتها، وحسناً فعل شداد، وحسناً فعل ابنه !

إن الملكات الإنسانية العالية في ندرة المعادن النفيسة من ذهب وماس ولؤلؤ ومرجان.

وإضاعتها خسارة يعز معها العوض المكافئ.

وانهيار التاريخ الإسلامي في القرون الأخيرة يرجع ـ كما أسلفنا ـ إلى ذوبان الكفايات وسط عواصف من الهوى والجحود. وإلى استعلاء نفر من الرجال الذين تقوم ملكاتهم النفسية على إحسان الخطف والتسخير، وربط الأتباع بهم على أساس المنفعة المعجلة!

وشئوننا المادية والأدبية من عدة قرون تدور حول هذا المحور.

فبينما كانت أوروبا تنتفض من خمولها، وتهب الرياح رخاء في أرضها، ويجد العباقرة الفرص مضاعفة أمامهم ليفكروا ويكتشفوا ويخترعوا .

وبذلك تمهد الطريق أمام الذكاء الإنساني الرفيع كي يسير ويشد وراءه القافلة الحانية عليه المعجبة به، في ذلك الوقت نفسه، كان الشُّطار عندنا من الأمراء والعمد يتنازعون على حكم المدائن والقرى، ومؤهلاتهم للسيادة المنشودة لا تعدو القدرة على سحق الخصوم.

فكيف تصلح أمة تتكتل أحزابها حول عصبية السلطان المسروق بدل أن تتجمع حول مثل عالية، ومبادئ نبيلة؟

لقد جنت علينا هذه الأحوال يقيناً، وجنينا من طول بقائها في بلادنا تأخراً في المظاهر الأولى للعمران ، بله تأخراً في مجال الإجادة والابتكار. وفي أثناء مغيب الحرية عن بلد ما، يقل النقد للأغلاط الكبيرة، أو يختفون، وتضعف روح النقد عموما، أو تتوارى.

وهذه حال تمكن للفساد، وتزيد جذوره تشبثاً بالبيئة العليلة. وحاجة الأمم للنقد ستظل ما بقي الإنسان عرضة للخطأ والإهمال، بل ستظل ما بقي الكملة من البشر يخشون ويخافون الحساب!

ومادامت العصمة لا تعرف لكبير أو صغير، فيجب أن يترك باب النقد مفتوحاً على مصراعيه . ويجب أن يحس الحاكم والمحكومون بأن كل ما يفعلون أو يذرون موضع النظر الفاحص والبحث الحر . فإن كان خيرا شجعوا على استدامته . وإن كان شرًّا نبهوا إلى تركه، وحذروا من العودة إليه، بعد أن يرفع الغطاء عن موطن الزلل فيه . وقيمة النقد في إحسان الأعمال وضمان المصالح لا ينكرها عاقل. وإنما هلكت الأمم الهالكة لأن الأخطاء شاعت فيها دون نكير، فما زالت بها حتى أوردتها موارد التلف. ونحن لا نحب لأمتنا هذا المصير.

إن أغلب الناس إذا أمن النقد لم يتورع عن التقصير في عمله، ولم يستح من إخراجه ناقصاً وهو قدير على إكماله! وقد كان خالد بن الوليد بصيراً بهذه الطبيعة عندما أعاد تنظيم الجيش الإسلامي في موقعة اليرموك على أساس تمتاز به كل قبيلة، وينكشف به صبرها وبلاؤها، وتحمل به تبعتها من النصر والهزيمة، تبعة غير عائمة ولا غامضة . .

وكانت التعبئة الأولى للجيش تخلط بين الناس في كيان عام، وتتيح لأي  متخاذل أن يفر من معرة التقصير، فلا يدرى بدقة: من المسئول؟ وعقل الألسنة عن الكلام في عمل الاستبداد والمستبدين ضيع على أمتنا مصالح عظيمة خلال الأعصار السابقة. إذ طمأن العجزة والمفسدين، وجعلهم يسترسلون في غيهم، فما يفكرون، في إطراح كسل، ولا ترك منقصة . . . أما الحريات التي تقدسها الأمم الديمقراطية فإنها مزقت الأغطية عن كل الأعمال العامة، وجعلت الزعماء ـ قبل الأذناب ـ يفكرون طويلا قبل إبرام حكم، أو إنفاق مال ، أو إعلان حرب، أو ابتداء مشروع كبير .

بل جعلتهم في مسالكهم الخاصة يوجلون من أي عمل يثير حولهم القيل والقال . . .

ولا شك أن هذه الحريات حاجز قوي دون وقوع العبث بشئون الأمة، أو نذير بتقصير أجله إذا وقع، ومؤاخذة أصحابه بغير هوادة. ولو نظرنا إلى الحرب العالمية الثانية لوجدنا في أحداثها ما يستدعي العبرة، فقد انتصر الألمان في مراحلها الأولى انتصاراً خطيراً، بيد أن خصومهم سرعان ما شرعوا يستفيدون من أخطاء الحكم الفردي القائم ضدهم.

وكانت هذه الأخطاء من الجسامة بحيث نستطيع اعتبارها السبب الأول في انكسار القوم.

لقد حارب هتلر الروس ضارباً بآراء قواده عرض الحائط، فكانت هذه أولى مصائبه.

تم رفض خطة أولئك القادة لمنع نزول الحلفاء بشواطئ فرنسا، ونفذ خطة من تفكيره هو وتفكير بعض متملقيه، فكان أن فتحت الجبهة الثانية. ثم وقع الألمان بين شقي الرحى. وتحول انتصارهم الأول اندحاراً من أبشع ما روى التاريخ .

ذلك أن الأمور لا تصلح أبداً برجل واحد يدعي العلم بكل شيء، ويعتقد أن العناية حبته بما حرمت منه سائر الخلق . . .!! ويؤسفنا أن نقول: إن تاريخنا العلمي والاجتماعي والسياسي كان ينزل خلال القرون الأخيرة من مزالق إلى منحدرات، ومن منحدرات إلى هاويات؛ لأن أزمة النشاط المادي والأدبي كانت في أيدي أفراد يكرهون النقد، ولا يحبونه من أحد، ولا يسمحون بجو يوجده وينعشه .

والغريب أن هؤلاء الرجال ـ عندما يوزنون بحساب النبوغ والقدرة ـ لا ترجح بهم كفة.

فكيف يصلح بهم وضع، أو تقوم بهم نهضة، أو تنشط بهم قوة للبناء والإنتاج؟!

 حاجة المسلمين إلى الحريات البناءة ـ في تاريخهم الأخير ـ أزرت بهم، وحطت مكانتهم،

على حين نعمت أجناس أخرى بتلك الحريات، فتحركت بقوة، ثم اطرد سيرها في كل مجال، فإذا هي تبلغ من الرفعة أوجاً يرد الطرف وهو حسير.

وزاد الطين بلة شيء آخر، أننا عندما اتصلنا بالغرب في أثناء القرنين الماضيين، وشعرنا بضرورة الاقتباس منه والنقل عنه، كانت أفهامنا من الصغار ـ ولا أقول من الغفلة ـ بحيث لم تلتفت إلا للتوافه والملذات .

فالحرية التي تشبثنا بها، ليست هي حرية العقل في أن يفكر ويجد ويكتشف،

بل حرية الغريزة في أن تطيش، وتنزو، وتضطرم.  وسرعان ما احتلت الملابس الأوروبية أجسامنا، والأثاث الأوروبي بيوتنا، والعادات الأوروبية ـ في الأكل والنوم ـ أحوالنا . . .

أما تألق الذهن! وجودة التفكير، وإطلاق القوى البشرية من مرقدها تسعى وتربح فذاك شأن آخر.

ومن السهل على القردة أن تقلد حركات  إنسان ما، أفتظنها بهذا التقليد السخيف تتحول بشراً؟! ولقد رأينا المسنين من الرجال، والأحداث من العيال، يأخذون عن أوروبا الكثير من مظاهر المدنية الحديثة، وهي مظاهر نبتت خلال حضارة الغرب كما تنبت “الدنيبة” خلال حقول الأرز. إنها شيء آخر غير حضارة الغرب التي ارتفع بها واستفاد منها.

فهل هذا الأخذ الغبي رفع خسيستهم، أو دعم مكانتهم؟

كلا، إنهم ما زادوا إلا خبالاً . والواقع أن اليابان نهضت نهضة كبرى في أواخر القرن التاسع عشر للميلاد. والصين نهضت نهضة أشمل وأخطر في منتصف القرن العشرين.

وكلتا الأمتين حرصت على تقاليدها الخاصة في اللباس والطعام وما إليهما، وعبت من مناهل المعرفة الحقيقية ما غيَّر حالتها تغييراً تامًّا. أما نحن فقد هجرنا الموضوع إلى الشكل، بل تخبطنا فيما ندع وننقل على حساب ديننا وتاريخنا، فلم نصنع شيئا . 

 الحرية التي نريدها ليست في استطاعة إنسان ما، أن يلغو كيف شاء! فما قيمة صحافة تملأ أوراقها بهُراء لا يصلح فاسداً، ولا يقيم عوجاً؟! الحرية التي نريدها ليست في قدرة شاب على العبث متى أراد.

فما قيمة أمة تصرف طاقات الأفراد في تيسير الخنا وإباحة الزنا؟ الحرية التي يحتاج إليها العالم الإسلامي تعني إزالة العوائق المفتعلة من أمام الفطرة الإنسانية، عندما تطلب حقوقها في الحياة الآمنة العادلة الكريمة، الحياة التي تتكافأ فيها الدماء، وتتساوى الفرص، وتكفل الحقوق، وينتفي منها البغي، ويمهد فيها طريق التنافس والسبق أمام الطامحين والأقوياء، ويمهد طريق الاندثار والاستخفاء أمام التافهين والسفهاء، فلا يكون لهم جاه، ولا يقدس لهم حمى.

المصدر: كتاب (الإسلام والطاقات المعطلة، دار الكتب الحديثة- القاهرة، 1964م، (ص 66) بتصرف.

Posted on Leave a comment

يوم البعث | العلّامة/ محمود شاكر

يوم البعث

نُشر عام 1356هـ الموافق 1940م

إن أحدنا لتستبد به في بعض عمره فترات يجد فيها الحياة قد وقفت في دمه كالجدار المصمت لا تميل، ولا تنثني، ولا تتحول، ويجد النفس متماوتة لا ترف رفة واحدة تُشْعِرُ العقل أن الحي الذي فيه لا يزال حياً يعمل، ويجد الدنيا كأنها بساط ممدود يمشي فيه بعينيه، ولكن البساط لا يمنحه حركة من هموده وسكونه وانعدام الحياة ذات الإشعاع فيه، ويتمنى أحدنا يومئذٍ أن تحل بأيامه قارعة تملأ عليه الزمن ضجيجاً ونزاعاً، عسى أن يتحول كل ما يجده من الفتور إلى نشاط ويقظة وخفة تبعث ميت نفسه من رمس الحياة الخاملة.

وهذا العارض إذا ألمَّ جعل الأيام مقعدة تزحف في زمانه زحفاً بطيئاً مرهقاً كأنها أمسكت على مرفأ الحياة بسلسلة ربوض، ويجعل الحي يعيش في كذب وباطل وفراغ من الروح، أي في حيرة وقلق وملل، فإذا حار وقلق ومل، جاءت أعماله كلها جسداً لا ينبض نبض الحياة، وكذلك يختلف ما بين الحي وعمله، ويقف أحدهما من الآخر موقف المثَّال العاجز من تمثاله، يقول له: أين أنا فيك أيها التمثال الغبي؟ فيجيبه الصامت البغيض: أين أنت في نفسك أيها الأحمق؟.

الحياة هي حركة الروح في العمل، فإذا خلا العمل، فلم تتمثل في كل أنحائه حركة الروح العاملة – فذلك دليل على أن الروح مضروبة بالموت أو ما يشبهه، وأنها قد فقدت شرطها ونعتها وحقيقتها، وأنها إن عاشت على ذلك فستعيش في قبر منصوب عليها في تمثال إنسان.

 وإذا بلغ الإنسان ذلك أريقت كل إنسانيته على أيامه المقفرة فلا يثمر، فإن يثمر فما يطيب له ثمر، وإنما هو حسَكٌ، وأشواك، وحطب، وكل ما لا نفع فيه إلا أذى وبلاءً عليه وعلى الناس.

وكما يكون ذلك أمر الفرد الواحد، يكون هو أمر الأمة من الناس، والجيل من الأمم؛ فإن الفرد هو خلاصة الجماعة، وأصل الجماعة؛ فالأمة تصاب بمثل الفترة التي يصاب بها الواحد منها، ولا يمنع ذلك أن يكون في بعضها ما يخرج على ضرورة هذا العارض من الفتور الذي وصفناه.

وعندئذٍ تتمنى الأمة أن تنزل القارعة لتهز الجو الذي تعيش فيه هزة مدوية مجلجلة، ترمي في سمع أبنائها الصوت الموقظ الذي يفزع عليه النائم ينفض عن نفسه الخمول والأحلام الهائمة، والأماني الباطلة المكذوبة.

 وقد عاش الشرق من قرون طويلة وهو يجد الحياة من حوله فاترة ساكنة بليدة ميتة الظلال عليه، وجاء بعض أبنائه من سراديب الفكر البعيدة يصرخون؛ ليوقظوا الأحياء الذين ضُرب على آذانهم بالأسداد، وغشاهم النعاس عجزاً وذلاً ومهانة، ولكن هؤلاء رجعوا وارتدوا، ولم يسمع الناس، وإنما سمعوا هم صدى أصواتهم وهي تتردد في قفر خراب موحش.

أما اليوم الذي نحن فيه فقد جاءت الشرق القارعة التي حلت بديار الناس وبدياره، وهو يسمع صليل صواعقها بأعصابه كلها لا بآذانه وحدها، وهو يفيق من نومة طويلة على ما لا عهد له بمثله؛ فهل يحق لنا أن نؤمل أنَّ هذا الصليل المفزع سيجعل الشرق يَلُمُّ ما تشعث من حياته؛ ليستقبل حياته الجديدة قد جمع قواه للنهضة والوثبة والانقضاض على أوثان المظالم القديمة التي نُصبت، فَعَبَدها من عَبَدَ ممن خشعوا وذلوا، وطمعوا في رحمة الطواغيت فما نالوا -على أوهامهم – إلا فُتاتاً من موائد هذه الطواغيت المتوحشة المستبدة الطاغية؟.

إن الشرق اليوم يجب أن يسأل سؤالًا واحداً يكون جوابه عملاً صارماً نافذاً لا يرعوي دون غايته، وهذا السؤال هو أول سؤال ينتزع إنسانية الحي من الموت الفادح، إذا كان الدافع إليه هو رغبة النفس في تحقيق إرادتها تحقيقاً لا يبطل.

من أنا ؟ هذا هو السؤال؛ فإذا أخذ الشرق يسأل يحاول أن يصل إلى حقيقته المضمرة في تاريخه – فهذا بدء النصر على الأيام الخاملة التي غط غطيطه في كهوفها المظلمة، ولكن البحث عن الحقيقة هو أبدًا أروع شيء وأخوف شيء، فإن السائل شاك حائر، فإذا لم يستعن في حيرته بالسداد في الرأي وطول التقليب وحسن الاختيار وبالله التوفيق – فإن السؤال سوف ينزع به وينبُثُ عليه ويأخذه ويدعه حتى تتحطم قوته على جبل شامخ قد انغرست فيه أشواك صخرية من الحصا المسنون، ويرجع مجرَّحاً تدمي جروحه، يتألم، ويتوجع، ويشتكي قد أعياه الصبر على الذي يلقاه من أوجاعه.

فحاجتنا في البحث عن الحقائق التي يتطلبها هذا السؤال أن نتدرع بقوة اليقين مما نحن مقبلون عليه من مجاهله ومنكراته، وأن نستجيش للنفس كل ما يزعها، ويكفها عن الشك والتردد، وأن نقبل على دراسة أنفسنا بفضيلة المتعلم المتواضع، لا برذيلة المتعالم المتشامخ؛ فإن بلاء التعلم والدرس هو كبرياء الحمقى وغرور ذوي العناد والمكابرة.

  والأمر كله الآن بيد الشعب أفراداً أفراداً، فإن العادة المستقبحة في هذا الشرق أنه يَكِلُ كلَّ أمره إلى حكوماته التي أثبتت بوجودها إلى اليوم أنه لا وجود لها في حقيقة الحياة الشرقية.

فالحكومات لا تستطيع أن تضع في روح الشعب هذا الإلهام الإلهي السامي الذي يشرق نوره على الإنسانية، فيجلي لها طريقها، وينفي عنها خبثها، ويغسلها بأضوائه المنهلة من أعراض البلادة، وجراثيم التفاني والانقراض.

ليس لشرقيٍّ أو عربيٍّ بعد اليوم أن يقف مستكيناً يقول لحكومته: افعلي من أجلي يا حكومتي العزيزة! بل يجب أن تكون كلمته: اعملي يا حكومتي فإذا أسأتِ فأنا الذي سيصحح أخطاء أعمالك الرديئة! ويجعل كل أحد منَّا همه سامياً إلى غاية، وأمله معقوداً بغرض، ويبيت ليله ونهاره يَتَدَارس في نفسه، وفي أهله، وفي عشيرته، وفي شعبه، وفي التاريخ النبيل، وفي التراث المجيد – حقيقة ما يجب أن يتعرَّفه من شُعَب هذا السؤال الواحد: من أنا؟؟

والدعوة الجديدة إلى اليقظة الشرقية والعربية والإسلامية يجب أن تقوم على إثارة الشعب كله ليسأل كل أحد نفسه هذا السؤال: من أنا؟.

 فالعالم، والأديب، والشاعر، والفيلسوف، والعامل، والصانع، وأعضاء الأمة على اختلاف منازعهم، ونوازعهم – يجب أن يشعروا في قلوبهم بحاجتهم إلى هذا السؤال، وأنهم موكلون به لا يهدأون، وأنهم دائماً في طريقهم إلى جمع الحقائق للجواب عن هذا السؤال الواحد.

أما قيام الدعوة على البحث عن طريق الإصلاح، وأساليب الإصلاح، وتحقيق ذلك بالطرق العلمية…إلى آخر ما يقال في هذا الباب من القول، فما يجدي على الأمة شيئًا إلَّا ما أجدى قديم ما رددوه ولاكوه ومضغوه من الآراء التي عانوا وضعها، فلما وضعوها ماتت في المهد، وليس يمنع البحث عن مثل هذه الأشياء أن نكون أول ما نكون سباقين إلى الأصل الذي يجب أن تقوم عليه هذه الأشياء كلها.

 إن الأمم لا يُصلحها مشروع، ولا أسلوب من الحكم، ولا باب من الإصلاح، وإنما يحييها أن يكون كل فرد فيها دليلاً – بما فيه من الحركة النفسية – على أن الحياة التي يعيشها هي إثبات لوجوده، ولا يثبت الوجود للحي إلا بقدرته على الاحتفاظ بشخصيته، ولا يحتفظ المرء بشخصيته إلا أن يكون قد استوعب فهم ما يستطيع من حقيقة هذه الشخصية، وهو لا يفهم هذه الشخصية إلاَّ أن تكون كل أفكاره متنبهة لتحليل كل شيء يعرض له، وذلك حين يكون كل همه في البحث عن أشياء هذا السؤال الواحد: من أنا؟

فإذا استطعنا في هذه الساعة الهائلة من تاريخ العالم، وتاريخ الإنسانية أن نجعل طبقات الشعوب الشرقية تثور ثورتها على الفتور، والجهل، والغباء، والبلادة، وقلة الاحتفال بالحياة، وأن نجعل سلاح الثورة على أحسنه، وأجوده، وأمضاه في هذا السؤال، فقام كل أحد يسأل من أنا؟

فتجديد الحياة في الشرق حقيقة لا مناص للعالم بعدها من الاعتراف بأنها واجبة الوجود على الأرض.

وأما إذا انطلقنا مع أحلام النوم، وفلسفة الأحلام، وجعلنا نلبس مسوح العلماء والمفكرين، وجلابيب الوقار والسمت..أي البلادة ! فقد هلك على أيدينا من كان حقه علينا أن نجعل هذه الأيدي خدماً في حاجاته ومرافقه.

إنَّ من الهراء أن تأتي مجلس قوم من المهندسين قد اختلفوا في الأرض، هل تصلح لوضع الأساس أو لا تصلح؟ فتحدثهم أنت أن الرأي أن يتحوَّلوا إلى مكان آخر من صفته ومن نعته… مما يصلح عليه البناء؛ فإن هؤلاء إذا بدأوا أمرهم بالاختلاف على ما يجدون عنه مندوحة فاعلم أنه لا فلاح لهم.

وإنما الرأي أن تتحول أنت عن هؤلاء البلداء إلى من تجد عنده من الانبعاث إلى العمل ما لا يجد معه وقتاً يضيعه في ترجيح بعض ما يختلف عليه على بعض آخر.

فالطريق الآن إلى الحياة الجديدة أن يتحول الشرق عن أصحاب الاختلاف، والمنابذة، وعلم الآراء التي يضرب بعضها وجوه بعض تناقضاً وتبايناً وافتراقاً، وأن يصغي إلى حنين النفوس المتألمة التي تحن وتئن من أشواقها، فيتجاوب حنينها نغماً روحياً فيه حركة الحياة، وحرارة الوجد، وأضواء الأمل.

وعندئذٍ يستجيب القلب للقلب، وتستمد الروح من الروح، وتثور الأشواق الخالدة في القلوب الطامحة والأرواح السامية، وبذلك تستحث الحياةُ الحياةَ إلى الغاية التي يرمي إليها الشرق بأبصاره من تاريخه، ومن وراء التاريخ.

إن عمل العامل في أول الطريق غير عمله في آخره، فنحن سوف نبدأ – وسنبدأ بإذن الله – فعملنا الآن هو إنقاذ أرواح الملايين من الموت ومن الفتور ومن الكسل، وليس عملنا أن نضع الأسس العلمية، أو السياسية، أو الأدبية لأرواح موات لا حركة فيها ولا انبعاث لها، وما جدوى علم لا روح فيه؟ أو سياسة لا نشاط فيها؟ أو أدب لا قلب له؟

إن عمل من يريد أن يعمل اليوم هو أن ينفخ في صُوْرٍ جديد يكون صوته فزعاً جديداً مع الفزع الأكبر الذي نحن فيه، حتى تنبعث الأمم الشرقية من أجداثها ثائرة حثيثة قد احتشدت في ساحة الجهاد تلمع قسماتها بذلك اللهيب المتضرم الذي يتوقد بالأشواق، وتلمح نظراتها لمحاً بالشعاع الظامئ المتوهج بالأماني المرهقة المستعرة، وتتجلى في كل عضو منها تلك القوة المعروفة في العضلات المفتولة، يخيل لمبصرها أنها تكاد تنفجر من ضغط الدم في أنهارها وأعصابها لولا ما يمسكها من جلدة البدن.

يومئذٍ يكون جواب الشرق عن سؤاله: من أنا ؟ عملاً صامتاً لا يتكلم؛ لأنه لا يضيع أيامه في إسماع الزمن الأصم أساطيره الباطلة التي يرويها عن أحلام البلادة، والجهل، والخمول.

المصدر: كتاب (جمهرة مقالات الأستاذ محمود محمد شاكر، مكتبة الخانجي بالقاهرة، ط1، 2003م، (1/211)

Posted on Leave a comment

بيان الأمانة العامة للمجلس الأوروبي للأئمة «حول قرار قضائي مجحف بحق المسلمات في أوروبا»

في خطوة جديدة تكرس تضييق مساحة الحرية الدينية في أوروبا وتعكس الصعوبات التي تعترض النساء المسلمات في الالتزام بالحجاب الشرعي، أصدرت محكمة الاتحاد الأوروبي في لوكسمبورغ، يوم الخميس 13 أكتوبر 2022 قراراً يمنح الشركات والمؤسسات وأرباب العمل صلاحيات تقييد اختيارات اللباس على أساس ديني. ليضاف إلى قرارات قضائية سابقة فتحت الباب للتضييق على المسلمات الملتزمات بالحجاب والتمييز ضدهن. وقد جاء في القرار الجديد: «إنّ القاعدة الداخلية لأي نشاط اقتصادي التي تحظر ارتداء “العلامات الدينية أو الفلسفية أو الروحية” التي يمكن رؤيتها لا تشكل تمييزاً مباشراً إن جرى تطبيقها على جميع العاملين بطريقة عامة وغير تمييزية».
ويعد هذا القرار انتكاسة حقيقية لواقع الحريات الدينية في أوروبا، لصدوره من هيئة قضائية أوروبية، ولما له من أثر تمييزي واسع النطاق في عموم دول الاتحاد الأوروبي بحق المسلمات الملتزمات بالحجاب. وما اشتراط أن يكون الإجراء شاملا لكل الديانات أو الدعوة إلى تجنّب إمكانية إلحاق التفرقة، إلا ذرُّ للرماد على العيون، فالكل يعلم أن النساء المسلمات هن المستهدفات الأساسيات بهذا القانون، لأنهن الشريحة الواسعة المعنية به، وأصل هذا القرار نفسه، إنما هو إجابة على دعوى رفعتها امرأة مسلمة حُرمت من حق اختيار اللباس الساتر حسب الدين الإسلامي حين تقدمت بطلب للحصول على تدريب على العمل لمدة ستة أسابيع في شركة بلجيكية.
إن المجلس الأوروبي للأئمة يعبر عن قلقه العميق تجاه هذا القرار القضائي، لما يمكن أن ينتج عنه من تشجيع للشركات وأرباب العمل على إقصاء النساء المسلمات من سوق العمل والإخلال بمبدأ المساواة وتكافؤ الفرص بين جميع المواطنين بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية وخلفياتهم العرقية، كما سيكون له أثر سلبي على الاندماج الإيجابي وانخراط النساء المسلمات في الحياة العامة.
إن المجلس الاوروبي للأئمة لا يشكك في حياد المؤسسات القضائية الأوروبية، لكنه يعتبر تناول قضية حق المرأة المسلمة في اختيار اللباس المتوافق مع قناعاتها الدينية كقضية تقنية، خارج سياق تنامي العنصرية والضغوطات التي يتعرض لها المسلمون في اوطانهم الاوروبية، خطوة يمكن توظيفها لمزيد من استهداف المسلمين والتضييق عليهم، كما يمكن أن يعمق الشعور بالضيم واليأس من إنصاف الجهاز القضائي الأوروبي في المسائل المتعلقة بحرية التدين وممارسة الشعائر الدينية.
إن المجلس الأوروبي للأئمة يتوجه إلى النساء المسلمات الصامدات في ميادين العمل، والفتيات المناضلات في ساحات المدارس والجامعات، بالتحية والإكبار، لثباتهن ودفاعهن عن حقهن الطبيعي في اختيار لباسهن الذي يتوافق مع قناعاتهن الدينية، ويدعوهن إلى الصبر والاحتساب.
وأن يبقين واثقات في عدالة قضيتهن، آملات في رحمة الله تعالى وإنصاف المؤسسات القضائية الأوروبية، مع التذكير بالقرار المنصف الصادر عن المحكمة الدستورية النمساوية سنة 2020 والقاضي بإلغاء قانون يمنع الفتيات من وضع الحجاب في المدارس.
كما يدعو المجلس مؤسسات حقوق الإنسان الأوروبية إلى الاضطلاع بدورها في الدفاع عن حرية ممارسة الشعائر الدينية دون حجر أو تضييق، وحق المسلمات الطبيعي في اختيار اللباس المتوافق مع قناعاتهن الدينية، باعتباره حقا نصت عليه المواثيق الدولية والمبادئ الحقوقية.
ويهيب المجلس الاوروبي للأئمة بالمساجد والمراكز الإسلامية إلى عدم ادخار أي جهد في نصرة النساء المتضررات والتعريف بهذه المظلمة المسلطة عليهن.
بسم الله الرحمن الرحيم:
{رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً} (الكهف 10)

Posted on Leave a comment

في ذكرى المولد الشريف | لماذا ندرس السيرة النبوية ؟ وماذا نتعلم منها؟

في ذكرى  المولد الشريف | لماذا ندرس السيرة النبوية ؟ وماذا نتعلم منها؟

إنَّ أهم مقصد لبعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم هى أن يعلم الناس فقه النجاة، أو بعبارة الإمام أبو الحسن الندوي {علم النجاة} وهو نفس الطريق الذي خطا عليه النبيون من قبله وبُعث صلى الله عليه وسلم مكملاً ومتمماً لرسالتهم، فما أحوج الإنسانية لهديه وتعاليمه ورسالته، ماذا يظفر المرء إذا حاز المال كله وفقد روحه ونفسه؟ ماذا تُغني أعلى الشهادات العلمية إن جهل الإنسان خالق الأكوان جل في علاه وغفل عن لقائه؟

لو حاز المرء أموال الدنيا وأصبح أغنى إنسان في الحياة لكنه يعيش لنفسه ولا يفكر في محرومٍ أو مسكينٍ، ولم يحزن ولا يشعر بآلام ومعاناة الضعفاء فإنه حيئنذ قد فقد إنسانيته، لهذا فإن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم إنقاذ للبشرية من الدوران حول نفسها وجعل الدنيا محور كل شيء.

  لقد نفخ سول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم  في جسد الإنسانية الخامد حتى تكون الدنيا في أعين الناس وقلوبهم مَعبراً وممراً يوصلها  إلى دار القرار.

 جاء الرسول ليقول للإنسان أنت سيدٌ في الكون ولك قيمةٌ عظيمةٌ، ولا يصح أن تكون عبداً للكون، لا يصح أن تكون خادماً للأشياء من حولك، إن لك رسالة تتجاوز خدمة الجسد إلى الروح والقلب والناس من حولك.

ورحم الله  الإمام أبو الفتح البستي حينما قال:

يا خادم الجسم كم تشقى بخدمته       أتطلب الربح فيما فيه خسران

أقبل على النفس واستكمل فضائلها  فأنت بالروح  لا بالجسم إنسان

لقد حقق العالم انجازاتٍ كبيرةٍ في ميدان العلم والمعرفة والحضارة في جانبها المادي مما لم يحلم به السابقون لكن السؤال هنا: هل الإنسان سعيد في زماننا؟ هل يشعر بطمأنينة النفس وسكينة الروح ؟ أم أنه نسي أن له روحا تتطلب عذاءً ودواءً من نوع آخر؟

 هل أدرك يوما أنه لو فقد الرضا والغاية من الحياة فلن يستفيد كثيراً،  ولو سكن قصراً مُنيفا وتوفرت له كل أسباب الراحة؟

لقد جاء محمد صلى الله عليه وسلم ليملأ قلوب الناس بمحبة الله، وخشيته وتقواه، ومعرفه قدره وجلاله، ويدلهم وينير لهم طريق الحياة، قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) الأنبياء: 107

قصة وعبرة

أورد الإمام الندوي قصة معبرة أردت أن أثبتها هنا: {يًحكى أن فريقا من تلاميذ المدراس ركبوا سفينة للنزهة في البحر وكان المجدف رجل أمي فخاطبه تلميذ جريء وقال يا عم: ماذا درست من العلوم؟ قال له: ولا شيء، قال: أما درست العلوم الطبيعية؟ قال: كلا ولا سمعت بها، وتحدث الثاني: أما درست الجبر والمقابلة؟  قال: أول مرة أسمع هذه الأسماء، ثم تحدث التلميذ الثالث ساخراً: ولكنني متأكد أنك درست الجغرافية والتاريخ؟ فقال: هل هما اسمان لبلدين، أو علمان لشخصين؟

وهنا علت أصوات الشباب بالضحك على الرجل قائلين: لقد أضعت نصف عمرك يا عمنا..

وبعد قليل هاج البحر وماجت الريح واضطربت السفينة وأصبحت السفينة في مواجهة الغرق، وكانت أول تجربة للشباب في ركوب البحر.

وجاء دور الملاح وتحدث في هدوء ووقار: ما هي العلوم التي درستموها يا شباب؟ وبدأ الشباب يتلًون قائمة طويلة بالعلوم التي درسوها دون أن يفطنوا لمقصد الملاح، ثم قال لهم: لقد درستم كل هذه العلوم يا أبنائي فهل درستم علم السباحة؟  وهل تعرفون إذا انقلبت السفينة لا قدر الله كيف تسبحون وتصلون إلى الشاطئ بسلام؟ قالوا: لا

قال: إذا كنت ضيعت نصف عمري كما قلتم فقد أضعتم عمرك كله، وما تغني عنكم تلك العلوم أمام هذا الطوفان {.  انتهى باختصار وتصرف 

ولا يفهمن أحد التقليل من شأن العلوم المعاصرة ودروها في عمارة الحياة وإصلاح الأرض، بل المقصود أن تكون تلك العلوم خادمة للقيم دائرة في منضبطة بالأخلاق، فإن الإنسان المعاصر قد جنى الشقاء والتعاسة حينما أصحبت العلوم في خدمة أهوائه ورغباته وشهواته، لهذا نقرأ قول الله تعالى:

{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)}

فكل قراءة ينبغى أن تدور حول تحقيق المقاصد الكبرى لخلق الإنسان.

ونقرأ قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)}

واجبنا في ذكرى مولده الشريف

 وفي ذكرى مولد رسول الله عليه وسلم فإن أفضل ما نفعله أن نعكف على سيرته الشريفة، نتامل هداياتها، ونستبط أحكامها، ونستخرج كنوزها، ونداوي جراحاتنا بأدويتها الشافية الكافية، ونعزم على التأسي والقرب الروحي من شخصية حبيب الحق محمد صلى الله عليه وسلم، وتلكم بعض مقاصد مدارسة السيرة الشريفة:

1- الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم،  امتثالا لقوله تعالى (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}  الأحزاب: 21

ورسول الله هو القدوة الكاملة لجميع الناس في مختلف جوانب حياتهم، وكل من قصد التأسي به سيجد مبتغاه في أرقى مثال وأعظم صورة، فهو قدوة الشاكرين والصابرين، قدوة الأقوياء والضعفاء، قدوة الحاكمين والمحكومين، قدوة الأغنياء والفقراء، قدوة الشباب والشيوخ، قدوة الأصحاء والمرضي، قدوة الأزواج والآباء، قدوة الدعاة والمصلحين والمربيين، قدوة العابدين والسالكين إلى الله، قدوة القانعين من الحياة والمقبلين عليها، وقد كان كل هذا وأكثر صلى الله عليه وسلم.

يقول الإمام ابن القيم في كتابه  {عدة الصابرين}  عندما وقع النزاع في أفضيلة الغني الشاكر عن الفقير الصابر فقال: { احتج بحال رسول الله صلى الله عليه وسلم كل واحدة من الطائفتين، والتحقيق أن الله سبحانه وتعالى جمع له بين كليهما على أن الوجوه، وكان سيد الأغنياء الشاكرين وسيد الفقراء الصابرين، فحصل له الصبر على الفقر ما لم يحصل لأحد سواه، ومن الشكر على الغنى ما لم يحصل لغنى سواه، فمن تأمل سيرته وجد الأمر كذلك، فكان صلى الله عليه وسلم أصبر الخلق في مواطن الصبر، وأشكر الخلق في مواطن الشكر، وربه تعالى كمل له مراتب الكمال فجعله في أعلى رتب الأغنياء الشاكرين، وفي أعلى مراتب الفقراء الصابرين}  .

كان إذا شرب ماءً يرى فيه وافر النعم الوافدة من ربه جل وعلا، فليهج لسانه بالشكر لمن أطعم وسقى وأروى من ظمأ، فيقول: الحمد لله الذي جعله عذباً فراتاً برحمته ولم يجعله ملحاً أجاجاً بذنوبنا) وأبان لنا أن شكر النعمة لا يتطلب من العبد كثير عمل بل يكفى أن يعترف المرء بقلبه بمصدر مُوجدها وواهبها ثم ينطق بلسانه ما وقر قلبه، وليستمتع بها على النحو الذي يرضى الرحمن جل في علاه.

هذا مقام شكره في القليل فما بالنا فيما هو أعظم، لقد رأيناه يُفني جسده في محراب العبادة حتى تورمت قدماه وقد استغرق في لذة وصاله مع ذي الجلال والإكرام، وعندما تقول له أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها: لم تصنع هذا وقد غفر الله لك؟ فيقول: أفلا أكون عبدا شكورا؟

وأما ما أصابه صلى الله عليه وسلم من هم وكرب وتعب وإيذاء فكان فيه القدوة لكل مهموم وحزين ومبتلى.

 لقد ذكرتُ يوما سيدنا يعقوب عليه السلام حينما فقد ولده يوسف عليه السلام وبلغ به الحزن المدى وتمكن منه الكرب حتى ابيضت عيناه عليه السلام، غير أنه استقبل قدر الله قائلا: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ۖ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ) يوسف: 18 وطال البعاد ودام حزن قلبه على حبيبه، ثم ابتلاه الله تعالى بابنه الآخر فزاد في ثباته وصبره مكررا (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ۖ عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) يوسف: 83

  وذكرتُ امرأةً  عرفتها في مصر فقدت ولدها وهو شاب صغير فمكثت حزينة عليه حتى توفاها الله، ثم ذكرتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلت: إن فقد الولد أفجع ما يصيب الإنسان في الحياة، فما بالنا أن رسول الله عليه وسلم  فقد ستة من أبنائه في حياته،  لكنه طوى حزنه بين جنبيه ولم يشغل الناس بهمومه، نعم…لقد بكى وحزن، ولما رأه بعض الصحابة  وقطرات طاهرة من عينيه الشريفتين تنزل حزنا على فراق ولده، تعجب فقال صلى الله عليه وسلم : إنها رحمة، ثم قال: إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن،  ولا نقول إلا ما يرضى ربنا،  وإنا لفراقك ياإبراهيم لمحزونون، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

لو شاء أن يكون ملِكا في الدنيا لكان له ما يريد، لكنه  آثر الآخرة ومشاركة أصحابه حياتهم، ومقاسمتهم معاناتها كواحد منهم،  لم يكن أحد يعرفه من جلسائه، وإن كانت الأَمَةُ  لتأخذ بيده حيث شاءت، لا يحجب عن أحد بِشره ومودته، لم يكن ينزع يده من يد من يصافحه حتى ينزع الآخر، وكان يُقبل على مُحدثه بوجهه كله، يعظم الكبير ويرحم الصغير.

 وجد يوما  أم سعد ابن معاذ رضى الله عنه  قادمةً من بعيدٍ فوقف لها تقديراً واحتراماً، فانظر لرقة الشعور وكسب القلوب.  دخل عليه رجل وهو يرتجف، فقال له هَون عليك، فإنما انا ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة، كان ينهى أصحابه أن يبالغوا في مدحه وكان يقول: إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد، يبدأ جليسه بالكلام ليأنسه، يواسي طفلا صغيرا مات عصفوره قائلا: يا أبا عمير مافعل النُغير؟

 لم يعرف التاريخ أنبل منه خُلقاً، ولا أرَق منه شعوراً، ولا أرقى منه عاطفةً، ولا أزكى منه نفساً.

إنه القدوة الكاملة، كان في مكة مستضعَفا وأصحابه يواجهون الأذى، فما لانت عزيمته ولا كلَّت إرادته ولا ضعف قلبه، بل ثبت على مبادئه ولم يساوم عليها رغم التحديات الكبيرة، ولم يزده الإيذاء إلا إصراراً على دعوته والتمسك برسالته، لكن القرآن كان الدواء الشافي والبلسم الذي يخفف الأحزان ويزيل الهموم، يقول له ربه جل وعلا: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ*فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ) الحجر: 97-99

 وحينما يزاد تكذيب المشركين للقرآن وللرسول ويفترون على الله الكذب تنزل الآيات: (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ ۖ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَٰكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) الأنعام: 34 

(فلا يحزنك قولهم إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون) يس: 76

2- حسن فهم القرآن الكريم

يقول شيخنا الغزالي في فقه السيرة: {إن القرآن روح الإسلام ومادته، وفي آياته المحكمة شرح دستوره، وبسطت دعوته، وقد تكفل الله بحفظه فصينت به حقيقة الدين، وكتب لها الخلود أبد الآبدين والرجل الذي اصطفاه الله لإبلاغ آياته وحمل رسالته، كان قرآنا حيا يسعى بين الناس، كان مثالا لما صوره القرآن من إيمان وإخبات.

إن الله اختاره ليتحدث باسمه ويبلغ عنه فمن أولى منه بفهم مراد الله فيما قال؟ ومن أولى منه بتحديد المسلك الذي يتواءم مع دلالات القرآن القريبة والبعيدة؟} .

لن نستطيع أن نفهم القرآن الكريم فهماً دقيقاً حتى نعود إلى سيرة من أُنزل عليه، فالسيرة هى التطبيق العملي لتعاليم القرآن وأحكامه وآدابه، كما أن القرآن الكريم ضابط لفهم السيرة وتمحيص مروياتها في ضوء نصوصه وقواعده ومقاصده العامة.

 وقد نزل القرآن مُنجماً بقصد صناعة المجتمع والأفراد وصياغة شخصياتهم ومعالجة القضايا التي تستجد في حياة المسلمين في الصدر الأول، وكان الصحابة رضوان الله عليهم  يترقبون نزول آيات الذكر الحكيم بتلهف وشوق، ومن مباحث علوم القرآن: ” أسباب النزول “أى:  أن هناك آيات نزلت لأسباب وأحداث خاصة لهذا  يجب علينا أن نعرف  الأسباب والظروف والملابسات التي نزلت فيها هذه الآيات الكريمة حتى نحسن فهمها، ويؤسفني أن بعض  الشباب المسلم ونفراً من غير المسلمين لا يفهمون آيات القتال على نحو صحيح، وذلك لعدم لعلمهم بأسباب نزولها والمقصود بها والظروف التي نزلت فيها، وإن من أكبر الإفتراءات  على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حمل السيف وأعلن حرباً لا تهدأ على البشرية ولم يترك لهم خياراً إلا الإسلام أو السيف…وهذا غير صحيح مطلقا، وما علينا إلا أن نعود للسيرة النبوية وأحداثها لنتيقن من أنه صلى الله عليه وسلم ما بدأ أحداً يوما بعدوان ولا استحل مال أحد ولا عِرض إنسان.

3- التحقق بمحببته صلى الله عليه وسلم.

يقولون: من أحب شيئا أكثر من ذكره، وإذا أردنا أن تتعمق محبته في قلوبنا وتخالط روحنا فعلينا أن نعيش سيرته، ونعرف شمائله، ونقترب من حياته، يقول بعض المسلمين: ليتنا أدركنا عهد الرسول وعشنا معه، ولا ريب أنه دلك شعور إيماني عظيم بيد أن دليل صدق ما نقوله هو أن نكون قريبين من سيرته وأخلاقه فنسير على خطاه ونطيعه في أمره ونهيه، إن محبته فرض على كل مسلم، بل إن محبته يجب أن تلى محبة الله تعالى كما قال صلى الله على وسلم: لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وولده والناس أجمعين.

والحب الصادق الحي في القلب يأتي بالقرب ممن تحبه لتتعلم منه وتقتدي به وقد تعجب المشركون من حب الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم على نحو لم يسمعوا به من قبل ولم يروا أحدا يحب أحدا كما يحب الصحابة رسول الله وقد قالوا ذلك في مناسبات متعددة.

وعندما نعرف السبب يزول بعده العجب، لقد ملك حب الرسول على الصحابة قلوبهم وانفسهم مما رأوا من صفاته وأخلاقه العظيمة، وتعالوا بنا نعيش معه صلى الله عليه وسلم، ونقول: ستحبه عندما …ستحبه عندما تراه في غار حراء وهو وهو يناجي ربه ضارعا إليه بعيدا عن الدنيا والناس، في عام 2008  كنا في رحلة عمرة مع الشباب وانطلقنا إلى غار حراء الذي ضم جسد أطهر إنسان في الوجود، والذي استقبل أنوار الوحي، وكم أحسسنا بالرهبة حينما اقتربنا من هذا المكان الذي يبعد عن مكة قرابة خمسة كليومتر، لقد تحول هذا المكان الموحش إلى روضة من رياض الجنة مع حضرة الرسول الأعظم  وأنوار القرآن الكريم، لقد غيَّر معادلة النظر للأشياء، فالسكينة الداخلية والسعادة القلبية منبعها القلب وليس طبيعة المكان الذي يعيش فيه الإنسان، فالوحشة أساسها بُعد القلب عن الله، ولهذا يقول الإمام ابن تيمية: المسجون من حبس قلبه عن ربه والمأسور من أسره هواه.

وقد كان سحرة فرعون بعد إيمانهم أكثر حرية رغم العذاب الذي لاقوه فقالوا لفرعون الطاغية لما توعدهم بالتنكيل الشديد :

}قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا ۖ فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ ۖ إِنَّمَا تَقْضِي هَٰذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا* إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ ۗ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ} طه: 72-73

لقد بقى الرسول صلى الله عليه وسلم ستة أشهر يتردد على هذا الغار متعلق القلب بالله متأمل الفكر دائم النظر حتى جاءه الروح الأمين.

ستحبه وهو يطوي بساط النوم ويهجر الراحة من أجلنا ويقول لسيدة خديجة: مضى عهد النوم يا خديجة، ومند الأمر الإلهي: قم فأنذر لم يعرف جسده راحة ولم تر عينه نوم ولم يهدأ عقله من التفكير والتدبير ولم يدخر دقيقة إلا في هداية الناس.

ستحبه وهو يمر على أصحابه المعذبين عمار وسمية وبلال وغيرهم ولا يملك لهم إلا الدعاء و كلمات التثبيت والتبشير بالفرج وزوال المحنة.

سستقول ليتني كنت معك يا زيد بن حارثة أتوقى الحجارة عن رسول الله معك حينما قذفه المشركون والسفهاء في الطائف وأشاركك الشرف العظيم، وستقف طويلاً معه حينما رفض أن يدعو على قومه بعد كل هذا الشرود والاضطهاد. وكان يقول: اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون.

ستقول من قلبك: بأبي انت وأمي يا رسول الله حينما تراه ساجداً أمام العكبة الشريفة والمشركون حوله يضعون على ظهره الشريف الأذى وابنته فاطمة تذرف الدمع تزيل عنه الأذى وهو يقول لها: لا تخشى يا بنية على أبيك فإن الله ناصر أباك.

ستحبه أكثر وأكثر كلما اقتربت منه وجلست بين يديه تتعلم منه كيف تحب الله وترجوه لقاه، كيف تخافه وتخشاه، ستحبه حينما تتعلم منه كيف تحب الناس من حولك وترجو لهم السعادة والنجاة، ستحبه كلما صليت عليه.

ستحبه وتفديه بروحك عندما تدرك سر وجودك في الحياة وأنه لولاه ما عرفت طريق الحق والهدى، ودعونى أسوق لكم بعض ما سطره يد شيخنا محمد الغزالي رحمه الله في كتابه ” مع الله ”  وهو يوضح لنا بعض فضل رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا  يقول طيب الله ثراه: {كم من السنين كنت سأقضيها بحثا وراء الحق الذي أهدانيه محمد صلى الله عليه وسلم وأنا في ضمير الغيب ؟

وكم من الآلام كنت أعانيها وأنا أنفق العمرةفي تجارب قبل أن أهتدى إلى السداد؟

ومن الذي يضمن لي مع قدرتي أن أظفر بالحقيقة الغالية، وقد تاه عنها رجال تشابهت عليهم الطرق حينا، وانسدت في وجوههم المنافذ حينا آخر؟؟

وهبني أوتيت قدراً من الذكاء الكشاف، والنشاط الدءوب، فمن للألوف المؤلفة من الناس الدين قلت حظوظهم المعنوية؟ وكيف يحيون على ظهر الأرض؟؟

إنني كلما أحسست راحة الإيمان في نفسي، وبرد اليقين في قلبي، وروعة الدين الذي ينير باطني، أشعر بميل شديد إلى شكر الرجل الذي يسر لى هذا الخير، وأتاح لى أن أعرف ربى الواحد جل شأنه، وأن أقدر النعمة التي حولي وأدري من بُعث بها.

نعم إنني أشعر بميل شديد إلى شكر محمد صلى الله عليه وسلم والتنويه بفضله، والثناء على صنيعه كلما غسلت وجهي في وضوء، وطهرت بدني لصلاة، ووضعت وجهي على الأرض ساجدا أسبح ربى الأعلى !!!

نعم، وكلما سرت في الطريق منتصب القامة، رافع الرأس، عزيز النفس، أرمق الكبار والصغار على أنهم عبيد مثلي لله الذي أدعوه وحده وأرجوه وحده.

وكلما شعرت بأني إنسان أعرف من أين جئت؟ وإلى أين أصير؟ ولماذا خلقت، وماذا أفعل وماذا أترك؟

وكلما تصورت أن هناك بشرا كثيرين، تكتنفهم الحيرة والظلمة لأنهم محرومون من ذلك المتاع المتاح لى، أحسست أن في عنقي وعنق كلمؤمن مثلي دينا للرجل الطيب الكريم الذي مهد لنا بجهاده هذا الصراط المستقيم، لمحمد صلى الله عليه وسلم.

4-   التعريف بالرسول صلى الله عليه وسلم

إن أكثر الناس في الأرض يجهلون حقيقة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وأعتقد أننا لو قمنا بدراسة ميدانية عن صورة رسول الإسلام في أذهان كثير من غير المسلمين لوجدنا أنننا بحاجة لجهود كبيرة من أجل التعرف بأخلاقه وشمائله العظيمة ووصاياه الخالدة وسيرته الشريفة ومحو الصورة السلبية التي  تم الترويج لها عبر قرون طويلة في فترات توتر العلاقات بين الشرق والغرب والتي امتدت ردحا من الزمان.

ولا أبالغ إن قلت إن كثيراً من المسلمين حول العالم لا يعلمون من سيرته العطرة إلا نزراً يسيراً، ولعنا نتابع بعض مقاطع الفيديو التي ترصد مستوى الثقافة الإسلامية عند الشعوب العربية والإسلامية  فنرى العجب العاجب، فما بالنا بأبنائنا هنا في أوروبا ؟!

يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه في مقدمة كتابه: فقه السيرة: {إن المسلمين الآن يعرفون عن السيرة قشوراً خفيفة لا تحرك القلوب، ولا تستثير الهمم، وهم يعظمون النبي وصحابته عن تقليد موروث ومعرفة قليلة، ويكتفون من هذا التعظيم بإجلال اللسان، أو بما قلت مؤنته من عمل}.

جاءني رجل فاضل بعد صلاة الجمعة وقال لي: لقد دخلت في نقاش مع جارتي الألمانية صاحبة السبعين عاماً، فقال لها: ما تعرفين عن نبي الإسلام؟ قالت: غاية ما أعرفه، أنه كان رجلاً كبيراً في العمر يسطو هو وأصحابه على أموال الناس، ويتزوج الفتيات الصغيرات !!

قال لها متعجباً: أهذا فقط ما تعرفينه؟ قالت نعم، فشرح لها شطرا من سيرته العطرة وأخلاقه الزكية وتعاليمه الحضارية حتى أصابها ذهول مما سمعت.

قلت: كم من امرأة مثلها في ألمانيا وأوروبا والعالم تلك حصيلتها من معرفة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

إن دورنا كبير في تعريف المسلمين والأجيال الجديدة من أبنائنا ف الشرق والغرب برسول الله صلى الله عليه وسلم وغرس محبته في قلوبهم، وحق الإنسانية علينا أن نعرفهم برسول الحق وحبيب الله سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

بقلم: الشيخ/ طه عامر.