Posted on

الحرية | الأديب/ مصطفى لطفي المنفلوطي.

الحرية

مصطفى لطفي المنفلوطي (ت: 1342هـ -1924م)

استيقظت فجر يوم من الأيام على صوت هرَّة تموء [المواء: صوت الهرة] بجانب فراشي وتتمسح بي، وتلح في ذلك إلحاحاً غريباً، فرابني أمرها، وأهمني همها، وقلت: لعلها جائعة. فنهضت، وأحضرت لها طعاماً فعافته، وانصرفت عنه، فقلت: لعلها ظمآنة. فأرشدتها إلى الماء فلم تحفل به، وأنشأت تنظر إليَّ نظرات تنطق بما تشتمل عليها نفسي من الآلام والأحزان؛ فأثَّر في نفسي منظرها تأثيراً شديداً، حتى تمنيت أن لو كنتُ سليمانَ أفهم لغة الحيوان؛ لأعرف حاجتها، وأفرج كربتها، وكان باب الغرفة مُرْتَجاً [أي: مقفلاً]، فرأيت أنها تطيل النظر إليه، وتلتصق بي كلما رأتني أتجه نحوه، فأدركت غرضها وعرفت أنها تريد أن أفتح لها الباب، فأسرعت بفتحه، فما وقع نظرها على الفضاء، ورأت وجه السماء، حتى استحالت حالتها من حزن وهمٍّ إلى غبطة وسرور، وانطلقت تعدو في سبيلها، فعدت إلى فراشي وأسلمت رأسي إلى يدي، وأنشأت أفكر في أمر هذه الهرة، وأعجب لشأنها وأقول: ليت شعري هل تفهم هذه الهرة معنى الحرية؛ فهي تحزن لفقدانها، وتفرح بلقياها؟ أجل، إنها تفهم معنى الحرية حق الفهم، وما كان حزنها وبكاؤها وإمساكها عن الطعام والشراب إلا من أجلها، وما كان تضرُّعها ورجاؤها وتمسحها وإلحاحها إلا سعياً وراء بلوغها.

وهنا ذكرت أن كثيراً من أسرى الاستبداد من بني الإنسان لا يشعرون بما تشعر به الهرة المحبوسة في الغرفة، والوحش المعتقل في القفص، والطير المقصوص الجناح من ألم الأسر وشقائه، بل ربما كان بينهم من يفكر في وجهة الخلاص، أو يتلمس السبيل إلى النجاة مما هو فيه، بل ربما كان بينهم من يتمنى البقاء في هذا السجن، ويأنس به، ويتلذذ بآلامه وأسقامه.

من أصعب المسائل التي يحار العقل البشري في حلها: أن يكون الحيوان الأعجم أوسع ميداناً في الحرية من الحيوان الناطق، فهل كان نطقُه شؤماً عليه وعلى سعادته؟ وهل يجمل به أن يتمنى الخرس والبله ليكون سعيداً بحريته …؟!

يحلق الطير في الجو، ويسبح السمك في البحر، ويهيم الوحش في الأودية والجبال، ويعيش الإنسان رهين المحبسين: محبس نفسه، ومحبس حكومته من المهد إلى اللحد.

صنع الإنسان القوي للإنسان الضعيف سلاسل وأغلالاً، وسماها تارة ناموساً وأخرى قانوناً؛ ليظلمه باسم العدل، ويسلب منه جوهرة حريته باسم الناموس والنظام.

صنع له هذه الآلة المخيفة، وتركه قلقاً حذراً، مروع القلب، مرتعد الفرائص، يقيم من نفسه على نفسه حراساً تراقب حركات يديه، وخطوات رجليه، وحركات لسانه، وخطرات وهمه وخياله؛ لينجو من عقاب المستبد، ويتخلص من تعذيبه، فويل له ما أكثر جهله! وويح له ما أشد حمقه! وهل يوجد في الدنيا عذاب أكبر من العذاب الذي يعالجه؟ أو سجن أضيق من السجن الذي هو فيه؟

ليست جناية المستبد على أسيره أنه سلبه حريته، بل جنايته الكبرى عليه أنه أفسد عليه وجدانه، فأصبح لا يحزن لفقد تلك الحرية، ولا يذرف دمعة واحدة عليها…..

كان يأكل ويشرب كل ما تشتهيه نفسه وما يلتئم مع طبيعته، فحالوا بينه وبين ذلك، وملؤوا قلبه خوفاً من المرض أو الموت، وأبوا أن يأكل أو يشرب إلا كما يريد الطبيب، وأن يقوم أو يقعد أو يمشي أو يقف أو يتحرك أو يسكن إلا كما تقضي به قوانين العادات والمصطلحات.

لا سبيل إلى السعادة في الحياة، إلا إذا عاش الإنسان فيها حرًّا مطلقاً، لا يسيطر على جسمه وعقله ونفسه ووجدانه وفكره مسيطر إلا أدب النفس.

الحرية شمس يجب أن تشرق في كل نفس، فمن عاش محروماً منها عاش في ظلمة حالكة، يتصل أولها بظلمة الرحم، وآخرها بظلمة القبر.

الحرية هي الحياة، ولولاها لكانت حياة الإنسان أشبه شيء بحياة اللُّعب المتحركة في أيدي الأطفال بحركة صناعية.

ليست الحرية في تاريخ الإنسان حادثاً جديداً، أو طارئاً غريباً، وإنما هي فطرته التي فُطر عليها …

إن الإنسان الذي يمدّ يديه لطلب الحرية ليس بمتسوِّل ولا مستجد، وإنما هو يطلب حقًّا من حقوقه التي سلبته إياها المطامع البشرية، فإن ظفر بها فلا منة لمخلوق عليه، ولا يد لأحد عنده.

المصدر: كتاب (مؤلفات مصطفى لطفي المنفلوطي الكاملة، دار الجيل- بيروت، 1404هـ، 1984م، (1/127) بتصرف.

Posted on Leave a comment

الأحوط أم الأيسر؟ | بقلم/ أ. هديل الزور

في مقطع طريف تسأل المتصلة: “زوجي يطلب مني أن أضع قليلاً من المكياج حين نخرج ما حكم ذلك ياشيخ”

لم تتمالك مقدمة البرنامج نفسها لتسمع إجابة الضيف فقالت لها بلهجتها المصرية “طيب حطي شوية أنا عارفة أنه الشيخ حيقول حرام بس معليش شوية بس”

وبعد جدال دار بينها وبين الضيف المفتي حول حرمة الزينة بكت وقالت لكني أحب أن أتجمل وأخفي معايبي ألم يفت الفقهاء بجواز بعض الزينة فقال لها: “صحيح لكنا لا نفتي للناس بهذا حتى لا يتساهلو فيه نحن نفتي بالأحوط”

وبعيداً عن التعليق على المقطع والحكم الشرعي للزينة، ما استوقفني عبارة (نحن نفتي بالأحوط)

فهل صحيح أن واجب المفتي إفتاء الناس بالأحوط والأورع، وهل هذا ما يفعله المفتون دوماً؟  وما هو أصل المسألة؟

الأحوط: هو ما يسمى في الفقه الإسلامي “الخروج من الخلاف أو قاعدة مرعاة الخلاف”

المقصود من الخلاف: هو الاختلاف الواقع بين المذاهب الفقهية، ومراعاته بترك قول المذهب، والأخذ بالمذهب الآخر كما ورد في كتاب القواعد الفقهية للزحيلي.

والاحتياط كما عرفه القرافي: (ترك ما لا بأس به حذراً مما به بأس)

ضوابطه:

ولمراعاة الخلاف شروط تكررت في غير موضع، فإن لم تتوفر فلا يراعى الخلاف في المسألة أسوق منها ذكره الزحيلي في كتابه (القواعد الفقهية وتطبيقاتها في المذاهب الأربعة):

  •  ألا توقع مراعاته في خلاف آخر.
  •  ألا يخالف سُنَّة ثابتة صحيحة أو حسنة.
  • –        أن يقوى مَدرَكُه أي دليله الذي استند إليه المجتهد

وجاء في مجلة البيان في الحديث عن “الاحتياط الشرعي حقيقته وضوابطه” لقطب الريسوني تفصيلات أخرى:

  • ألاّ يكون في المسألة المحتاط فيها نصّ.
  • أن تكون الشبهة الحاملة على الاحتياط قوية معتبرة.
  • ألاّ يفضي العمل بالاحتياط إلى مخالفة النص الصحيح الصريح.
  • ألاَّ يفضي الاحتياط إلى مشقة فادحة
  • ألاّ يفضي الاحتياط إلى تفويت مصلحة راجحة.

عموماً فإن الأخذ بالأحوط على سبيل الإختيار الشخصي الوَرِع أمرٌ محمود ومطلوبٌ من المسلم إذا كان مراعياً الشروط والاعتبارات المذكورة أعلاه، وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم عليه بقوله: (دَعْ ما يريبك إلى ما لا يريبك) فإن اختلت الشروط أو واحد منها يصبح الأخذ به مذموماً وقد يؤدي إلى مفاسد عظيمة.

(إن الاحتياط مسلك تُجتنب به الشبهات، ومرجّح عند تعارض الأدلة، ومخصّص لعموم الإباحة إذا ثبت، ولا خلاف في حُسنه بين العقلاء في الجملة، إلا أن الإغراق فيه يؤول في نهاية المطاف إلى الاستدراك على الشرع، واجتراح البدعة المذمومة) مجلة البيان

قد يؤدي التمسك بالأحوط تورعاً لمفسدة عظيمة، حينها يلحق بالمسلم الاثم بدل الأجر.

(وليس كل احتياط يشرع ويستحب من باب الورع والتنزه عن الشبهات! ذلك أن منه ضرباً مذموماً لا يلتفت إليه، وهو ما كان مفضياً إلى محظور شرعي، أو كان من قبيل الوساوس التي تتخذ ديناً وهي إملاء من الشيطان الرجيم، ومن صوره الشائعة: سد الذرائع التي تفضي نادراً إلى المفسدة، والتنزّه عن الرخص المشروعة، والزيادة في المشروع على سبيل الوسوسة.) مجلة البيان

فإذاً ماهي أحوال الإفتاء التي يفتي بها المفتي: يذكر الشيخ الحسن ولد الددو ثلاث حالات لها: فاما ان يفتي بما ترجح لديه هو، أو يفتي بالمذهب السائد في البلد الذي يستفتي منه المفتي ومحل ذلك قبل انتشار المذاهب والعولمة، أو أن يذكر أقوال العلم في المسألة وأدلتهم فيكون لا له ولا عليه.

من الأيسر إلى الأحوط

بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بدأت تتغير بعض الأحكام التي كانت على أصل الإباحة أو الندب عملاً بالأحوط، وسداً للذرائع، ونظراً لفساد الزمان، كما ورد في عدد من الروايات – وأشهرها ما ورد في قصة ابن عبد الله ابن عمر رضي الله عنه حين قال عبد الله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا استأذَنَت أحدَكم امرأتُه إلى المسجدِ فلا يمنَعْها ) قال بلالُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ عمر: واللهِ لنمنَعُهنَّ -إذاً يتخذنه دغلاً- قال: فسبَّه عبدُ اللهِ بنُ عمرَ أسوأَ ما سمِعْتُه سبَّه قطُّ وقال: سمِعْتَني قُلْتُ: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ( إذا استأذَنَت أحدَكم امرأتُه إلى المسجدِ فلا يمنَعْها ) قُلْتَ: واللهِ لنمنَعُهنَّ ؟!

  • ومنها ما ورد في منع ابن هشام طواف الرجال مع النساء في الحديث عن عطاء (إِذْ مَنَعَ ابنُ هِشَامٍ النِّسَاءَ الطَّوَافَ مع الرِّجَالِ، قالَ: كيفَ يَمْنَعُهُنَّ؟ وقدْ طَافَ نِسَاءُ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مع الرِّجَالِ؟ قُلتُ: أَبَعْدَ الحِجَابِ أَوْ قَبْلُ؟ قالَ: إي لَعَمْرِي، لقَدْ أَدْرَكْتُهُ بَعْدَ الحِجَابِ..
والشاهد الأخير الذي أسوقه ما ورد من منع العواتق ذوات الخدور (أي صغيرات السن أول البلوغ) بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم من الخروج للعيدين، وهو مخالف لهدي النبي صلى الله عليه وسلم وقد ورد في الحديث ( لتخرجِ العواتقُ وذواتُ الخدورِ والحُيَّضُ فيشهدنَ الخيرَ ودعوةَ المسلمينَ

ونلاحظ من الأمثلة السابقة أن كلها مما اختصت به المرأة بالمنع وبالأحوطية أكثر من الرجل وهذا المجال هو أكثر ما حصل فيه المبالغة بالأحوطيَّة

وهكذا كما يقول القرضاوي “وكل جيل أخذ يضيف بعض (الأحوطيات) إلى ما قبله، وقد أدت كثرة الأحوطيات في الفقه المتصل بحياة الناس إلى تضييق وتشدد لحق بالإسلام منه أذى كثير”

الأيسر أم الأحوط؟

تظافرت النصوص الشرعية التي تحض المسلم على اتخاذ التيسير منهجاً لحياته حتى غدى اليسر علامة مميزة يمتاز بها الإسلام، قال تعالى: (يُرِيدُ اللهُ بِكُم اليُسْرَ ولا يُريدُ بِكُم العُسْرَ) البقرة185، كما ورد في الحديث: (خَيرُ دينِكم أَيْسرُه)

لكن وردت نصوص أخرى تحض المرء على التورع والاحتياط منها (دَعْ ما يريبك إلى ما لا يريبك؛ فإنّك لن تجد فقد شيء تركته لله عزَّ وجلَّ)

فما هو ضابط ذلك وأي الأحكام ينبغي فيها الأورع وأيها ينبغي فيها الأيسر؟  

  • تنقسم الفروع الشرعية إلى ثلاثة أنواع كما بينها الدكتور وهبة الزحيلي رحمه الله تعالى في كتابه الفقه الإسلامي وأدلته:

الأول ـ ما بني في الشريعة على اليسر والتسامح، وهو العبادات المحضة، فينبغي عدم الغلو بها؛ لأن التنطع يؤدي إلى الهلاك، أما العبادات المالية: فإنها مما يجب التشديد بها احتياطاً خشية ضياع حقوق الفقراء، فلا يؤخذ بالقول الضعيف أو يلفق من كل مذهب ماهو أقرب لمصلحة المزكي لإضاعة حق الفقير، وإنما يجب الإفتاء بالأحوط والأنسب لمصلحة الفقراء.

الثاني ـ ما بني على الورع والاحتياط، وهو المحظورات: وهي مبنية على مراعاة الاحتياط والأخذ بالورع ما أمكن.

الثالث ـ ما يكون مناطه مصلحة العباد وسعادتهم، ومعيار المصلحة: “هو كل ما يضمن صيانة الأصول الكلية الخمسة”.

على أن اليسر يغلب العسر، وأرى -والله أعلم- أنه الأقرب لروح الإسلام ومنهجه لتظافر الأدلة على الحض عليه،  فعلى المرء أن يجتهد في الموازنة بين الأمرين ما أمكن في الحديث النبوي: (إن الدِّين يُسْرٌ، ولن يُشادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إلا غلبه، فسَدِّدوا، وقارِبوا، وأبشرُوا)، قال الشعراني( إن العزيمة والرخصة هما سور الشريعة، فإذا رأيت من مال إلى التشدد في مسألة فقد مال إلى سور العزيمة، ومن مال إلى التساهل في مسألة فقد مال إلى سور الرخصة، ولم يخرجا عن ما بين السوريين لأن الشريعة لا تخرج عن هاتين المرتبتين)

لكن بعض الناس تتورع عن الأخذ بالرخص ظناً منها أن العزيمة دوماً أحب إلى الله تعالى رغم أن الحديث النبوي قد رغب بالترخص حال المشقة (إن الله يُحبُّ أن تُؤتَى رُخَصُه، كما يَكره أن تُؤْتَى معصيته)

وفرق بين أن يتخذ الإنسان من الورع منهجاً ذاتياً يحتاط لنفسه وبين أن يفتي لغيره به فضلاً عن أن يلزمه به، فالنبي صلى الله عليه وسلم ما سأل عن أمر إلا اختار أيسر المسلكين مالم يكن قطعياً، وقد نهى عن أن يلزم المرء غيره بما يتورع فيه لنفسه

أفتان أنت يا معاذ!  

صلى معاذٌ مع النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ثمَّ جاء يؤمُّ قَومَه، فقرأ البَقَرةَ، فاعتزل رجلٌ مِن القَومِ فصَلَّى، فقيل: نافَقْتَ يا فُلانُ! فقال: ما نافَقْتُ، فأتى رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: إنَّ مُعاذًا يصَلِّي معك، ثمَّ يرجِعُ فيؤُمُّنا يا رَسولَ اللهِ، وإنَّما نحن أصحابُ نواضِحَ، ونعمَلُ بأيدينا، وإنَّه جاء يؤمُّنا فقرَأَ بسورةِ البقَرةِ! فقال: يا مُعاذُ، أفتَّانٌ أنت؟! أفتَّانٌ أنت؟

لذلك فإن على الإمام أو المفتي أن يراعي حال الناس، فيفتي بالأيسر والأخف عليهم فيما يجوز فيه التيسير إذا كان المستفتي من أهل الترخص ، و أن يراعي اختلافاتهم الفردية، فما كان عسيراً في حق البعض قد يكون يسيراً في حق الآخر والعكس صحيح، ويفتي بالأحوط فيما يقتنع بقوة دليله ورجحانه دون أن يجعل من التشديد أو التراخي منهجاً تربوياً مميزاً

يقول الشيخ الددو: (لا يجوز للمفتي أن يفتي على مجرد الدواعي التربوية بل يفتي بناء على ما ترجح له من الأدلة فهو مؤتمن عليه لا يجوز له أن يفرط به، أما العمل التربوي فهو مجال الدعاة، -كمثل الافتاء بوجوب تغطية الوجه لفساد الناس وحرصاً على صيانة المرأة،  فلا يوجبه بل يقول للرجل: لكن عليك غض البصر-، لكن له أن يفتي بما له صلاح الناس من باب السياسة الشرعية، لا من باب التربية والدعوة، و لا يخبر بأنه الراجح لديه، كما لو حصلت دافَّة فيفتي بعدم ادخار لحوم الأضاحي لكن يبين العلة في ذلك)

لكن الحاصل أن بعض المفتين يشددون على الناس بحجة فساد الزمان ورغبة في تهذيبهم وضبطهم وتربيتهم مما يؤدي لتنفير الناس وإرهاقهم وتحريف الشرع وتشويهه.

يقول القرضاوي حفظه الله تعالى: (كما أن هناك فقه التيسير فإن هناك فقه التعسير) والأول محمود أما الثاني منفر مذموم، وقد قال تعالى: {يُريدُ الُله أن يُخَفِّفَ عَنْكم وخُلِقَ الإنسَانُ ضَعِيفًا} النساء – 28، ومثل ذلك قوله تعالى{ما يُريدُ اللهُ لِيَجعلَ عَليْكُم مِّنْ حَرَجٍ} المائدة_ 6

والحمد لله رب العالمين

بقلم: هديل الزير

Posted on Leave a comment

الاستبداد يشل القوى | العلّامة/ محمد الغزالي.

الاستبداد يشل القوى

محمد الغزالي (ت 1416هـ – 1996 م)

الحكم الذي ساد بلاد الإسلام من بضعة قرون كان طرازاً منكراً من الاستبداد والفوضى . .

انكمشت فيه الحريات الطبيعية، وخارت القوى المادية والأدبية، وسيطر على موازين الحياة العامة نفر من الجبابرة أمكنتهم الأيام العجاف أن يقلبوا الأمور رأساً على عقب، وأن ينشروا الفزع في القلوب، والقصر في الآمال، والوهن في العزائم .

 والحكم الاستبدادي تهديم للدين، وتخريب للدنيا، فهو بلاء يصيب الإيمان والعمران جميعاً. وهو دخان مشئوم الظل، تختنق الأرواح والأجسام في نطاقه حيث امتد. فلا سوق الفضائل والآداب تنشط، ولا سوق الزراعة والصناعة تروج .

ومن هنا حكمنا بأن الوثنية السياسية حرب على الله وحرب على الناس. وأن الخلاص منها شيء لا مفر منه لصلاح الدنيا والآخرة.

وقد أصيب الإسلام في مقاتله من استبداد الحاكمين باسمه. بل لقد ارتدت بعض القبائل، ولحقت بالروم فراراً من الجور ….

وعندما يوضع رأس فارغ على كيان كبير فلابد أن يفرض عليه تفاهته، وأثرته، وفراغه. . .

ومن هنا تطرق الخلل إلى شئون الأمة كلها، فوقعت في براثن الاستعمار الأخير؛ لأن الخلفاء والملوك والرؤساء كانوا في واقع أمرهم حرباً على الأمة الإسلامية، أو كانوا في أحسن أحوالهم تراباً على نارها، وقتاماً على نورها.

فلو خلوها وشأنها لاستطاعت الدفاع عن نفسها، متخففة من أعباء هؤلاء الحكام، ومن جنون العظمة الذي استولى عليهم . 

ثم إن الإسلام ينكر أساليب العسف التي يلجأ إليها أولئك المستبدون في استدامة حكمهم واستتباب الأمر لهم . إنه يحرم أن يضرب إنسان ظلماً، أو أن يسفك دمه ظلماً.

فما تساوى الحياة كلها شيئا إذا استرخصت فيها حياة فرد. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق”. فأشد الجرائم نكراً، أن يقتل امرؤ من الناس توطيداً لعزة ملك أو سيطرة حاكم . وفي حديث عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “يجيء المقتول يوم القيامة آخذاً قاتله وأوداجه تشخب دماً عند ذي العزة جل شأنه، فيقول: يا رب، سل هذا، فيم قتلني؟ فيقول المولى عز وجل: فيم قتلته؟ قال: قتلته لتكون العزة لفلان . . . قيل: هي لله”. وفي التعذيب دون القتل، وهو ما ينتشر في سجون الظلمة، يروي أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “من جرد ظهر مسلم بغير حق لقى الله وهو عليه غضبان”.

ويقول أيضا: “ظهر المسلم حمى، إلا بحقه”. يعني أن المسلم لا يجوز أن يمس بسوء أبداً، إلا أن يرتكب ذنباً أو يصيب حدًّا، فعندئذ يؤخذ منه الحق الثابت في دين الله.

 إن الجو المليء بما يصون الكرامات، ويقدس الدماء والأموال والأعراض هو الجو الذي يصنعه الإسلام للناس كافة، وهو – بداهة – الجو الذي يحسنون فيه العمل والإنتاج. فحيث تسود الطمأنينة، ويختفي الرعب، ينصرف العامة إلى تثمير أموالهم، وتكثير ثرواتهم؛ لأنهم واثقون أن حصاد ما يغرسون لهم ولذراريهم، فهم غير مدخرين وسعاً في العمل والإنتاج . إلا أن هذه البيئة الوادعة الآمنة المشجعة على الكدح والكسب تقلصت رقعتها في الأمة الإسلامية خلال القرون الأخيرة!!. ووقع الفلاحون والصناع وأهل الحرف المختلفة في براثن أمراء يحكمون بأمرهم لا بأمر الله. فكانت عقبى الترويع المتجدد النازل على رؤوسهم أن أقفرت البلاد وصوَّح نبتها، وعمَّ الخراب أرجاءها .

وتستطيع أن تلقي نظرة عجلى على تاريخ مصر خلال المائتي سنة الأخيرتين، فيما كتبه عبد الرحمن الجبرتي. إنك ترى من الأحداث ما لا ينفد عجبك له. حكام يطلبون من المال من الناس كلما تحركت رغبة الطلب في نفوسهم. فإذا الضرائب تفرض دون وعي، والأملاك تصادر دون حق. وخصومات على الحكم تشعل جذوتها عصابات طامعة من أصحاب الجاه وعشاق السلطة، وتسفك فيها الدماء بغزارة، ولا يفوز فيها إلا أقدر الفريقين على الفتك، وأطولهم يداً بالأذى .  

ما هذا؟ أمة انفرط عقدها فليس يمسكها شيء، وضاع أصلها فلا تستحي من سلوك.

وتشبثت بها الفتن طولاً وعرضاً، فهي كحريق هائل كلما ظن أنه انطفأ في ناحية اندلع في ناحية أخرى.!! ومن البديهي أن تمحق أسباب العمران بله مظاهر الحضارة في أتون هذه الفوضى الضاربة. .!! البديهي أن تضطرب شئون الري، وأن يفر الفلاحون من زراعة الأرض، وأن يعيش أهل المدن وكأنهم يستعيرون أعمارهم يوماً بيوم. فإذا كان القُطر المصري البائس صورة لأقطار الأمة الإسلامية المنتشرة بين المحيطين، فأي مستقبل ترقبه لمثل هذه الأمة التي عزَّ فيها الداء واستفحل الخطب؟؟ إن سقوطها في مخالب المستعمرين الغزاة كان النتيجة الحتم!! وتخلفها في ميدان الحياة المتدفعة المتدفقة هنا وهناك أمر لم يكن منه بد. والمسئول عن هذه الجريمة النكراء هو الاستبداد السياسي الذي وقعت البلاد فريسة له، وكان دين الله بين ضحاياه الكثيرة . يجب أن نعلم أن الناس يتهيؤون للعمل العظيم، ويتجهون إليه بأفكار رتيبة مستريحة، حين يكون الشعور بالأمن مستولياً على أقطار أنفسهم. أما حيث تستخف الذئاب الحاكمة وراء جدران الدواوين، وتنقضُّ متى شاءت على أقرب فريسة لها، فهيهات أن يزدهر إنتاج، أو يستقيم سعى.

الحريات الكاملة ضرورة لنشاط القوى الإنسانية وتفتح المواهب الرفيعة.

إن النبات يذبل في الظل الدائم، ويموت في الظلام، ولن تتفتح براعمه، وتتكون أثماره إلا في وهج الشمس. كذلك الملكات الإنسانية، لا تنشق عن مكنونها من ذكاء واختراع، إلا في جو من الإرادة المطلقة، والحرية الميسرة .

والعالم الإسلامي ـ ونقولها محزونين ـ نُكب بمن رد نهاره الضاحي ليلاً طويلاً . نكب ـ في العصر الماضيـ بحكام ظنوا البشر قطعاناً من الدواب، فهم لا يحملون في أيديهم إلا العصا .

والحاكم الذي لا تألف رعيته منه إلا العصا جرثومة عبوديتها أولاً. وهو القنطرة التي تمهد للإذلال الخارجي أخيراً . ونحن موقنون بأن الاستعمار الذي نشر غيومه في ربوع الأمة الإسلامية كان ومازال لا علة له إلا هذا الضرب من الحكومات .

 ومما يقترن بالاستبداد السياسي ولا ينفك عنه، غمط الكفايات، وكسر حدتها، وطرحها في مهاوي النسيان ما أمكن. ذلك أن المستبد يغلب عليه أن يكون مصاباً بجنون العظمة. وربما اعتقد أن كل كفاية إلى جانب عبقريته الخارقة صفر لا تستحق تقديراً ولا تقديماً . .

وإذا أكرهته الظروف على الاعتراف بكفاية ما، اجتهد في بعثرة الأشواك أمامها، واستغل سلطانه في إقصائها أو إطفائها.

وفي رأيي أن حظوظ الأمم من الكفايات متساوية، أو متقاربة، وأن أولي النباهة والمقدرة عند أية دولة في الغرب، لا يزيدون كثيراً عن أمثالهم في أي شعب شرقي .

كل ما هنالك أن قيادة الجماهير في أوروبا وأمريكا أخذ طريقه الطبيعي إلى أيدي الأذكياء الأكفاء . أما في الشرق الإسلامي مثلاً فإن القياد ـ بأسباب مفتعلة ـ ضلَّ طريقه عن أصحابه الأحقاء به، وسقط في أيدي التافهين والعجزة . وهذه الأسباب المفتعلة يقيمها ـ عن عمد ـ الاستبداد السياسي حيث يظهر ويسود.

إن المستبد يؤمن بنفسه قبل أن يؤمن بالله. ويؤمن بمجده الخاص قبل أن يؤمن بمصلحة الأمة .

ومن هنا يعول على الأتباع الفانين فيه، يحشدهم حوله، ويرفض الاستعانة بالكفايات التي لا تدين بالولاء له، ولا يبالي بحرمان الوطن، أو الدين من مهارتهم.

وتأخر العالم الإسلامي في القرون الأخيرة مرجعه انتشار هذا الوباء! فإن منع الرجل القوي من القيام على الأمانات العامة تضييع له ولها، تضييع ينطق لسانه بهذه الشكاة:


لم لا أُسَلُّ مِن القِراب وأُغمد  * * * لم لا أُجرَّدُ والسيوف تُجرَّدُ؟

أو كما قال الآخر، كاشفاً عن عواقب حرمان الأمة فيما ينوبها من أزمات:

      أضاعوني وأي فتى أضاعوا  * * * ليوم كريهة وسداد ثغر!!

وطبيعة الرجل الكفء كراهية الهوان والتحقير. ألا ترى موقف عنترة بن شداد حين هوجمت قبيلته، وكان أبوه قد وظَّفه في الرعي والخدمة؟ لقد تطلعت إليه عند اشتداد الهجوم، وافتقاد الأبطال!! وجاء شداد مسرعاً يطلب من الابن المحقر المبعد أن يقود حركة المقاومة!
وقال عنترة ـ مندداً بموقف أبيه منه : إن العبد لا يحسن الكر والفر، ولكنه يحسن الحلاب والصر! فقال الوالد المحرج: كر وأنت حر . واسترد الفارس مكانته ، فاستعادت القبيلة كرامتها، وحسناً فعل شداد، وحسناً فعل ابنه !

إن الملكات الإنسانية العالية في ندرة المعادن النفيسة من ذهب وماس ولؤلؤ ومرجان.

وإضاعتها خسارة يعز معها العوض المكافئ.

وانهيار التاريخ الإسلامي في القرون الأخيرة يرجع ـ كما أسلفنا ـ إلى ذوبان الكفايات وسط عواصف من الهوى والجحود. وإلى استعلاء نفر من الرجال الذين تقوم ملكاتهم النفسية على إحسان الخطف والتسخير، وربط الأتباع بهم على أساس المنفعة المعجلة!

وشئوننا المادية والأدبية من عدة قرون تدور حول هذا المحور.

فبينما كانت أوروبا تنتفض من خمولها، وتهب الرياح رخاء في أرضها، ويجد العباقرة الفرص مضاعفة أمامهم ليفكروا ويكتشفوا ويخترعوا .

وبذلك تمهد الطريق أمام الذكاء الإنساني الرفيع كي يسير ويشد وراءه القافلة الحانية عليه المعجبة به، في ذلك الوقت نفسه، كان الشُّطار عندنا من الأمراء والعمد يتنازعون على حكم المدائن والقرى، ومؤهلاتهم للسيادة المنشودة لا تعدو القدرة على سحق الخصوم.

فكيف تصلح أمة تتكتل أحزابها حول عصبية السلطان المسروق بدل أن تتجمع حول مثل عالية، ومبادئ نبيلة؟

لقد جنت علينا هذه الأحوال يقيناً، وجنينا من طول بقائها في بلادنا تأخراً في المظاهر الأولى للعمران ، بله تأخراً في مجال الإجادة والابتكار. وفي أثناء مغيب الحرية عن بلد ما، يقل النقد للأغلاط الكبيرة، أو يختفون، وتضعف روح النقد عموما، أو تتوارى.

وهذه حال تمكن للفساد، وتزيد جذوره تشبثاً بالبيئة العليلة. وحاجة الأمم للنقد ستظل ما بقي الإنسان عرضة للخطأ والإهمال، بل ستظل ما بقي الكملة من البشر يخشون ويخافون الحساب!

ومادامت العصمة لا تعرف لكبير أو صغير، فيجب أن يترك باب النقد مفتوحاً على مصراعيه . ويجب أن يحس الحاكم والمحكومون بأن كل ما يفعلون أو يذرون موضع النظر الفاحص والبحث الحر . فإن كان خيرا شجعوا على استدامته . وإن كان شرًّا نبهوا إلى تركه، وحذروا من العودة إليه، بعد أن يرفع الغطاء عن موطن الزلل فيه . وقيمة النقد في إحسان الأعمال وضمان المصالح لا ينكرها عاقل. وإنما هلكت الأمم الهالكة لأن الأخطاء شاعت فيها دون نكير، فما زالت بها حتى أوردتها موارد التلف. ونحن لا نحب لأمتنا هذا المصير.

إن أغلب الناس إذا أمن النقد لم يتورع عن التقصير في عمله، ولم يستح من إخراجه ناقصاً وهو قدير على إكماله! وقد كان خالد بن الوليد بصيراً بهذه الطبيعة عندما أعاد تنظيم الجيش الإسلامي في موقعة اليرموك على أساس تمتاز به كل قبيلة، وينكشف به صبرها وبلاؤها، وتحمل به تبعتها من النصر والهزيمة، تبعة غير عائمة ولا غامضة . .

وكانت التعبئة الأولى للجيش تخلط بين الناس في كيان عام، وتتيح لأي  متخاذل أن يفر من معرة التقصير، فلا يدرى بدقة: من المسئول؟ وعقل الألسنة عن الكلام في عمل الاستبداد والمستبدين ضيع على أمتنا مصالح عظيمة خلال الأعصار السابقة. إذ طمأن العجزة والمفسدين، وجعلهم يسترسلون في غيهم، فما يفكرون، في إطراح كسل، ولا ترك منقصة . . . أما الحريات التي تقدسها الأمم الديمقراطية فإنها مزقت الأغطية عن كل الأعمال العامة، وجعلت الزعماء ـ قبل الأذناب ـ يفكرون طويلا قبل إبرام حكم، أو إنفاق مال ، أو إعلان حرب، أو ابتداء مشروع كبير .

بل جعلتهم في مسالكهم الخاصة يوجلون من أي عمل يثير حولهم القيل والقال . . .

ولا شك أن هذه الحريات حاجز قوي دون وقوع العبث بشئون الأمة، أو نذير بتقصير أجله إذا وقع، ومؤاخذة أصحابه بغير هوادة. ولو نظرنا إلى الحرب العالمية الثانية لوجدنا في أحداثها ما يستدعي العبرة، فقد انتصر الألمان في مراحلها الأولى انتصاراً خطيراً، بيد أن خصومهم سرعان ما شرعوا يستفيدون من أخطاء الحكم الفردي القائم ضدهم.

وكانت هذه الأخطاء من الجسامة بحيث نستطيع اعتبارها السبب الأول في انكسار القوم.

لقد حارب هتلر الروس ضارباً بآراء قواده عرض الحائط، فكانت هذه أولى مصائبه.

تم رفض خطة أولئك القادة لمنع نزول الحلفاء بشواطئ فرنسا، ونفذ خطة من تفكيره هو وتفكير بعض متملقيه، فكان أن فتحت الجبهة الثانية. ثم وقع الألمان بين شقي الرحى. وتحول انتصارهم الأول اندحاراً من أبشع ما روى التاريخ .

ذلك أن الأمور لا تصلح أبداً برجل واحد يدعي العلم بكل شيء، ويعتقد أن العناية حبته بما حرمت منه سائر الخلق . . .!! ويؤسفنا أن نقول: إن تاريخنا العلمي والاجتماعي والسياسي كان ينزل خلال القرون الأخيرة من مزالق إلى منحدرات، ومن منحدرات إلى هاويات؛ لأن أزمة النشاط المادي والأدبي كانت في أيدي أفراد يكرهون النقد، ولا يحبونه من أحد، ولا يسمحون بجو يوجده وينعشه .

والغريب أن هؤلاء الرجال ـ عندما يوزنون بحساب النبوغ والقدرة ـ لا ترجح بهم كفة.

فكيف يصلح بهم وضع، أو تقوم بهم نهضة، أو تنشط بهم قوة للبناء والإنتاج؟!

 حاجة المسلمين إلى الحريات البناءة ـ في تاريخهم الأخير ـ أزرت بهم، وحطت مكانتهم،

على حين نعمت أجناس أخرى بتلك الحريات، فتحركت بقوة، ثم اطرد سيرها في كل مجال، فإذا هي تبلغ من الرفعة أوجاً يرد الطرف وهو حسير.

وزاد الطين بلة شيء آخر، أننا عندما اتصلنا بالغرب في أثناء القرنين الماضيين، وشعرنا بضرورة الاقتباس منه والنقل عنه، كانت أفهامنا من الصغار ـ ولا أقول من الغفلة ـ بحيث لم تلتفت إلا للتوافه والملذات .

فالحرية التي تشبثنا بها، ليست هي حرية العقل في أن يفكر ويجد ويكتشف،

بل حرية الغريزة في أن تطيش، وتنزو، وتضطرم.  وسرعان ما احتلت الملابس الأوروبية أجسامنا، والأثاث الأوروبي بيوتنا، والعادات الأوروبية ـ في الأكل والنوم ـ أحوالنا . . .

أما تألق الذهن! وجودة التفكير، وإطلاق القوى البشرية من مرقدها تسعى وتربح فذاك شأن آخر.

ومن السهل على القردة أن تقلد حركات  إنسان ما، أفتظنها بهذا التقليد السخيف تتحول بشراً؟! ولقد رأينا المسنين من الرجال، والأحداث من العيال، يأخذون عن أوروبا الكثير من مظاهر المدنية الحديثة، وهي مظاهر نبتت خلال حضارة الغرب كما تنبت “الدنيبة” خلال حقول الأرز. إنها شيء آخر غير حضارة الغرب التي ارتفع بها واستفاد منها.

فهل هذا الأخذ الغبي رفع خسيستهم، أو دعم مكانتهم؟

كلا، إنهم ما زادوا إلا خبالاً . والواقع أن اليابان نهضت نهضة كبرى في أواخر القرن التاسع عشر للميلاد. والصين نهضت نهضة أشمل وأخطر في منتصف القرن العشرين.

وكلتا الأمتين حرصت على تقاليدها الخاصة في اللباس والطعام وما إليهما، وعبت من مناهل المعرفة الحقيقية ما غيَّر حالتها تغييراً تامًّا. أما نحن فقد هجرنا الموضوع إلى الشكل، بل تخبطنا فيما ندع وننقل على حساب ديننا وتاريخنا، فلم نصنع شيئا . 

 الحرية التي نريدها ليست في استطاعة إنسان ما، أن يلغو كيف شاء! فما قيمة صحافة تملأ أوراقها بهُراء لا يصلح فاسداً، ولا يقيم عوجاً؟! الحرية التي نريدها ليست في قدرة شاب على العبث متى أراد.

فما قيمة أمة تصرف طاقات الأفراد في تيسير الخنا وإباحة الزنا؟ الحرية التي يحتاج إليها العالم الإسلامي تعني إزالة العوائق المفتعلة من أمام الفطرة الإنسانية، عندما تطلب حقوقها في الحياة الآمنة العادلة الكريمة، الحياة التي تتكافأ فيها الدماء، وتتساوى الفرص، وتكفل الحقوق، وينتفي منها البغي، ويمهد فيها طريق التنافس والسبق أمام الطامحين والأقوياء، ويمهد طريق الاندثار والاستخفاء أمام التافهين والسفهاء، فلا يكون لهم جاه، ولا يقدس لهم حمى.

المصدر: كتاب (الإسلام والطاقات المعطلة، دار الكتب الحديثة- القاهرة، 1964م، (ص 66) بتصرف.