Posted on Leave a comment

وصية الإمام القرضاوي للعلماء والأئمة والدعاة

وصية الشيخ القرضاوي رحمه الله لعلماء الأمة
(من آخر ما كتب فضيلته في مقدمة أعماله الكاملة)

أوصي إخواني العلماء والدعاة بهذه الوصايا حتى يستطيعوا القيام بواجبهم نحو ربهم ودينهم ، وتجاه أمتهم:

1- أن يكون ولاؤهم لله سبحانه ولدينه وحده، لا لقومية ولا لوطنية، ولا لأنظمة ولا لأحزاب ولا لأشخاص، إلا بمقدار اتصالها بالإسلام وقربها منه.

2- أن يجعلوا مستندهم في كلِّ قضية الرجوع إلى كتاب الله وما صحَّ من سنة رسوله، مهتدين بهدي السلف الصالح لهذه الأمة في فَهمهم لرُوح الإسلام، واتباعهم لمناهجه، عاملين على تحرير الإسلام مما شابه وابتدع فيه على مرِّ القرون من تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين.

3- أن يجهروا بكلمة الحقِّ في وجوه الطغاة والمتألِّهين، وأن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، لا يخافون في الله لومة لائم، ولا سطوة ظالم، كالذين وصفهم الله بقوله: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} (الأحزاب:39).

4- أن يضعوا نُصب أعينهم وصية النبي صلى الله عليه وسلم، لمعاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري حين بعثهما إلى اليمن وقال لهما: “يسِّرا ولا تُعسِّرا، وبشِّرا ولا تُنفِّرا، وتطاوعا ولا تختلفا”. فما أحوج العلماء والدعاة إلى هذه الوصية في كلِّ وقت! وما أشد حاجتهم إليها في عصرنا خاصة!

ومعنى هذا، أن يكون شعارهم الرفق لا العنف، والتساهل لا التشدُّد، فإن الله يحبُّ الرفق في الأمر كلِّه، وقد قال الله لخير خلقه: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (آل عمران:159).

والتساهل الذي أعنيه، هو التساهل في الفروع والوسائل، لا في الأصول والأهداف، وعلى هذا الأساس يجب أن نعامل الناس.

يجب أن نعدَّ كلَّ مسلم أدَّى الفرائض واجتنب الكبائر في هذا العصر صديقًا لنا، ونُشعره بأنه منَّا، وإن كان على بعض المكروهات والشبهات والصغائر التي لا يصرُّ عليها، مع دعوتنا له بالحكمة والموعظة الحسنة: أن يرتقي إلى ما هو أفضل.

ومن الخطأ والخطر أن نعادي هذا الصنف ونعتبره ضدَّ الدين، فيختطفه عدو للإسلام، ويحتضنه ويجعل منه معولًا لهدم دينه وأمته.

5- أن يعرفوا عصرهم وعدوَّهم ومعركة وقتهم، فلا يشغلوا أنفسهم وطلَّابهم وجمهورهم بمعارك جانبية أو فرعية أو تاريخية، غافلين عن معركة الوقت ومعركة المصير، أعني معركة الإسلام والتيارات الغازية من الشرق والغرب، تحمل إلى أبنائنا الإلحاد، والتحلُّل، والاستخفاف بقيمنا وشرائعنا.

فهذه التيارات الهدَّامة هي العدو الأكبر الذي ينبغي أن نوجِّه إليه جلَّ اهتمامنا، وجلَّ تفكيرنا، وجلَّ سعينا، لنحفظ على أمتنا شخصيتها وأصالتها، ونحميها من الذوبان والفناء في غيرها.

6- أن يتَّخذوا من قاعدة المنار الذهبية شعارًا لهم ودستورًا يتعاملون به فيما بينهم: “نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه”.

7- أن يتسلَّحوا بما استطاعوا من معارف العصر، فالإمام الغزالي ما استطاع أن يهزم الفلسفة، ويُحيي علوم الدين، ويبين تهافت الفلاسفة، إلا بعد أن هضم الفلسفة، وأصبح فيها كأحد أساطينها.

وكذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، ما ردَّ على كلِّ الفئات المنحرفة وبيَّن عوارها، إلا بعد دراسة عقائدها وتعاليمها من كتبها، دراسة واعية فاحصة، حتى اليهودية والنصرانية. ولهذا لم يكن إمامًا في الشرعيات فحسب، بل في العقليات أيضًا، كما يدلُّ على ذلك تراثه الغني.

فلا غنى للعالِم في عصرنا عن دراسة الثقافة الحديثة قدر الاستطاعة، كعلوم النفس، والاجتماع، والاقتصاد، والسياسة، والأخلاق، والفلسفة ومذاهبها وتاريخها.

8- على أن هذا كلَّه لا يتمُّ إلا بتحرُّرهم من الشعور بأنهم مجرَّد موظفين رسميِّين في معاهد الدولة ومدارسها وجوامعها، وأن يشعروا بأنهم أصحاب دعوة، ورجال فكرة. ففرق بين الموظفين والدعاة، فالأولون يتعيَّشون بالإسلام، يأكلون به، والآخرون يعيشون للإسلام، ويموتون في سبيله.

9- أن يترابطوا ويتواصلوا فيما بينهم على مستوى العالم الإسلامي، فعلماء المسلمين قوَّة كبيرة لها جمهورها وأتباعها وتأثيرها، لو أنهم اتَّحدوا داخل كلَّ بلد، ثم حاولوا التنسيق والتعاون على المستوى الإسلامي العام.
إن أعداء الإسلام يعرفون الخلافات الصغيرة التي تفرِّق بين علماء المسلمين، فهم لهذا يقوُّونها ويضخِّمونها، ويعملون على إبقائها حيَّة بارزة، ويستخدمونها عند اللزوم لضرب بعضهم ببعض، موهمين فريقًا منهم أنهم معهم ضدَّ خصومهم في الفكر، والحقيقة أنهم ضد الجميع، وعدو الجميع، وإنما هو التكتيك القذر الملعون. وعلينا نحن المسلمين أن نكون أبصر منهم وأوعى، وأن نردَّ كيدهم في نحورهم.

10- أن يقفوا إلى جانب كلِّ دعوة إسلامية سليمة الاتجاه، تعمل على العودة بالإسلام إلى قيادة الحياة من جديد، وصبغ المجتمع بصبغة الإسلام، على علماء الإسلام أن يشدُّوا أزرها، ويأخذوا بأيديها، ويسدِّدوا خطاها، ويمدُّوها بكل ما استطاعوا من قوة، إن لم يكونوا هم في مقدمة صفوفها توجيهًا وعملًا وتضحية وبذلًا، {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (فصلت:33).

المصدر: موقع الدكتور: يوسف القرضاوي.

Posted on Leave a comment

في رثاء الشيخ الإمام يوسف القرضاوي

نزل عليَّ خبر وفاة شيخنا الإمام يوسف القرضاوي اليوم 30 صفر 1444هـ/ 26 سبتمبر 2022م كالصاعقة؛ فالشيخ مثَّل بحياته معلمة من معالم الجهاد الفكري، والتنوير الدعوي، والإفتاء الوسطي، والعمق الفقهي، والرسوخ الأصولي..
ماذا نقول عنك يا شيخنا الإمام؟ تضيق اللغة ومعاجمها ومفرداتها ومشتقاتها أن توفر من الكلام ما تتحدث عنك في هذا المقام الضنك والمعترك الصعب؛ فلا نجد من العبارات والأقوال ما يوفي بعض حقك علينا وعلى الأمة؛ فحياتك قضيتها لله وبالله ومع الله، تجاهد من أجل الأمة، وتتناول قضاياها، وتفتي فيما نزل بها مما أهمها من أمر دينها ودنياها..


عاش القرضاوي شاهراً السيف ورافعاً القلم يحرس الإسلام وسفينته أن تأتيها الرياح العاتية من يمين وشمال، ويفند ما تقوله التيارات الغالية في الإسلام والجافية عنه، عاش مجاهداً ثائراً على الطواغيت رافضاً للاستبداد، داعياً لحرية الشعوب وحقها في الحياة الكريمة، حتى صدر بحقه حكمان بالإعدام: حكم من النظام المصري، وحكم من النظام السوري، وهي منقبة لم تنعقد لعالم من العلماء في عصرنا.
كانت حياة القرضاوي مثالاً للعالم العامل، والفقيه المجاهد، والأصولي الراسخ، والمفكر الرائد الذي ترك الدنيا وغادرها قبل أن يرى موسوعة أعماله الكاملة التي ستصدر قريباً في أكثر من مائة مجلد!
ترك الإمام القرضاوي بهذه المجلدات الكبيرة والضخمة تراثاً تصلح به الأمة المسلمة، بل تصلح به الإنسانية، لما تميز به من تيسير في الفتوى، وتبشير في الدعوة، وسداد في الرأي، وحكمة في العمل، وصدق في الأدب نثره وشعره.
ومع هذا، فإن أعظم ما يميز الإمام القرضاوي ليس الفقه ولا الفتوى –وإن كان رائداً في هذا المجال ومُجدداً– لكنه تميز بالجوانب الإنسانية والمشاعر الراقية التي كان يحفنا بها كلما رأيناه أو رآنا، وكلما هاتفناه أو هاتفنا: يسأل عنا وعن أحوالنا، ويسأل عن أزواجنا وأولادنا، وعن مشاريعنا العلمية التي نعمل عليها، كما تميز بالطاقة الروحية الأبوية الكبيرة حين يُقبل عليك من بعيد يريد أن يحتضنك حضن الأب، ويضمك ضمة الوالد، ويفيض عليك من حنانه وأمانه ورحمته.
إن الأمة المسلمة والإنسانية كلها فقدت فقيهاً راشداً، وأصولياً عميقاً، وداعية حكيماً، وناثراً وشاعراً يلهب المشاعر بصدق مشاعره وعمق إحساسه، وكاتباً من الطبقة الأولى، كما فقدت إنساناً نبيلاً ووالداً كريماً حنوناً.
ومن أهم ما تركه شيخنا الإمام هي هذه المدرسة من التلاميذ والأصحاب التي تأسست رسمياً في عام 2007م، وعقدت أربعة لقاءات معه، كل لقاء يستغرق أسبوعين: عرضاً لأفكاره، ونقاشاً لآرائه، ونقداً لبعض اجتهاداته، واستدراكاً على بعض فتاواه، فلم يكن يضيق ذرعاً بذلك، بل كان يفخر ويطلب منا المزيد من ذلك، وكان يرجع عنها حين يتبين له خطؤها، وهذا من صفات العلماء الربانيين، وأصحاب القلوب الأوابة.
وأخيراً هوى النجم الساطع..
لا أجد هنا في رثائه أصدق مما قاله هو في رثاء شيخه المقرب الشيخ محمد الغزالي، وهو بهذا الرثاء جدير، الذي قال في مطلع رثائه عنه، رحمهما الله تعالى: “وأخيرا هوى النجم الساطع، واندكَّ الجبل الأشم، وطوى العلم المنشور، وغابت الشمس المشرقة، وترجَّل الفارس المعلم، ومات الشيخ الغزالي.
عرفت الشيخ الغزالي فعرفت رجلاً يعيش للإسلام، وللإسلام وحده، لا يشرك به شيئاً، ولا يشرك به أحداً، الإسلام لُحمته وسُداه، ومصبحه وممساه، ومبدؤه منتهاه، عاش له جندياً، وحارساً يقظاً، شاهر السلاح، فأيما عدو اقترب من قلعة الإسلام يريد اختراقها، صرخ بأعلى صوته، يوقظ النائمين، وينبِّه الغافلين، أحسبه كذلك والله حسيبه ولا أزكيه على الله” انتهى.
جفت الدموع يا شيخنا الإمام، وطويت الأقلام، ولم يبق لنا إلا السير على طريقك، ونشر علمك، وانتهاج منهجك، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا: إن القلب ليحزن، وإن العين لتدمع، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم لا تفتنا بعده، ولا تحرمنا أجره، واغفر اللهم لنا وله، والله حسبنا ونعم الوكيل .

بقلم: د. وصفي عاشور أبو زيد

Posted on Leave a comment

توفى القرضاوي

_ توفي الشيخ القرضاوي …
_ توفي من حاز الإمامة في الدين علما وعملا وفكرا وسلوكا …
_ توفي أستاذ الوسطية ونموذج الاعتدال وداعية التوازن …
_ توفي من تربت على كتبه وافكاره ومقولاته أجيال وأجيال …
_ توفي من ترك إرثا من الفكر والفقه والمواقف ستبقى مرجعا دائما لكل الناس …
_ توفي من أيقن أن هذا الدين خالد وان للفقه رجالا يجتهدون فيه ويجددون ويبدعون …
_ توفي من بقيت سيرته العطرة علما وخلقا صامدة حتى الممات …
_ توفي من جسد نموذج العالم العامل في زمن الشبهات والفتن والتحديات …
_ توفي من رزقه الله عمرا فوق التسعين ليقضيه في طاعة الله وفي تعلم العلم وتعليمه وتدوينه فما كلّ ولا مل …
_ توفي من أصاب كثيرا ولم يكن معصوما من الخطأ ولم يتردد في الاعتذار والرجوع العلني عنه ان استبان له …
_ توفي من جمع بين التراث والمعاصرة وبين الثبات والمرونة وبين الانضباط في الفتوى والجرأة فيها …
_ توفي من عاش زمانه فكرا وعلما وفقها ولم يعش بين مقولات الماضي فقط …
_ توفي من أوضح فقه الزكاة ومن جدد فقه الجهاد واذاع فقه السياسة ورشد الدعوة واصّل الفكر الإسلامي عقودا …
_ توفي من بقي صوته يصدح في نصرة قضايا الأمة ليلا ونهار …
_ توفي من ترك إرثا عظيما من العلوم والطلبة والرجال والمواقف …
_ توفي من كان للموسوعية عنوانا فأعاد من خلالها سيرة الأولين …
_ توفي الشيخ الكبير في عمره وسيرته وعلمه وعمله وفكره وفقهه ودعوته …
_ توفي من كتب الله له القبول وانتفعت به الجموع وسيبقى ذكره في الخالدين …

إنا لله وإنا إليه راجعون ورحم الله الشيخ رحمة واسعة

Posted on Leave a comment

الشيخ العلامة يوسف القرضاوي في ذمة الله

بقلوب مكلومة وتسليمٍ لقضاء الله وقدره، تلقى المجلس الأوروبي للأئمة نبأ وفاة الشيخ العلامة يوسف القرضاوي – رحمه الله تعالى –
لقد كان الشيخ القرضاوي علما من أعلام الدعوة، وجهبذاً من جهابذة الدراسة والتدقيق، وفارساً من فرسان المنابر، ومناضلًا من أجل الحرية وقضايا المستضعفين.
وقد كان له – رحمه الله – حضور قوي على الساحة الأوروبية، حيث زار أكثر بلدانها وجاب طولها وعرضها، وانتشرت كتبه وبحوثه في مراكزها ومساجدها، وتُرجمت إلى أكثر لغاتها، كما كان له سبق المساهمة في تأسيس المجلس الأوروبي للبحوث والإفتاء ودعم كثيرٍ من المؤسسات والمشاريع الدعوية فيها.
ونحن إذ نعزي أنفسنا والأمة الإسلامية بهذا الفقد العظيم، فإننا نبتهل إلى الله تعالى أن يرحمه ويغفر له ويتقبله عنده في الصالحين، كما ندعوه تعالى أن يخلفنا خيرا في دعوتنا ورسالتنا، وأن يقيض لهذه الأمة علماء عاملين وأئمة مصلحين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

الشيخ كمال عمارة
المجلس الأوروبي للأئمة
30 صفر 1444هـ / 26 سبتمبر 2022م

Posted on Leave a comment

الملتقى العلمي الثاني لأئمة أوروبا

يتشرف المجلس الأوروبي للأئمة وبالتعاون مع هيئة العلماء والدعاة بألمانيا والمجلس السويدي للأئمة والجمعية الإيطالية للأئمة والمرشدين، بدعوة الأئمة والخطباء والعاملين في النشاط الدعوي في أوروبا، للمشاركة في الملتقى العلمي الثاني للمجلس الأوروبي للأئمة، والذي يحاضر فيه نخبة من علماء الأمة ودعاتها.

تدعيما لسبل التواصل بين أئمة أوروبا لتدارس القضايا المشتركة، وتيسيرا لسبل التطور العلمي والارتقاء المعرفي واستدامته، وبالتعاون مع هيئة العلماء والدعاة بألمانيا والمجلس السويدي للأئمة والجمعية الإيطالية للأئمة والمرشدين؛ يقيم المجلس الأوروبي للأئمة الملتقَى العلميَّ الثاني تحت شعار: “معرفة متجددة وحضور فاعل”.

موضوع الملتقى

  تم اختيار هذا الموضوع للحاجة إلى تجلية مداخل الفهم والإحاطة بالمصادر الأصلية والمقاصد الكلية، وإتاحة الفرصة للأئمة للتوافق على قواعد مشتركة في الفهم والتنزيل ينطلقون من خلالها نحو فهم أعمق ومعرفة أشمل وحضور أكثر جدوى وفعالية.

إضافةً إلى تعميق الارتباط بمصادر التشريع ومناهج الاستنباط، ودعم الثقة في المنظومة الفقهية التي قامت عليهما، دون إغفال لضرورة الانفتاح على مكتسبات العصر الحديث ونوازله المستجدة، بما يحقق الاستجابة لشروط العصر وتحديات الواقع.

  كما لن يغفل هذا الملتقى عن التطرق إلى محور يعتبر عصب وظيفة الإمامة وجوهرها، وهو التزكية ومتطلباتها، حيث سيحاول عالمان من رموز التزكية وروادها في عالمنا الإسلامي الإجابة عن سؤال أي تزكية نريد، وكيف نقدمها في سياقها الأوروبي.  

تاريخ ومكان انعقاد الندوة

إسطنبول

25-27 ربيع الثاني 1444 / 18-20 نوفمبر 2022

محاور الملتقى:

  • الفقرة الأولى: مدخل إلى القرآن المجيد: محددات الهدى المنهاجي ومعالم التدبر: فضيلة الدكتور فارس العزاوي.
  • الفقرة الثانية: مدخل إلى السنة النبوية: منهجية التعامل – التحديات والشبهات: فضيلة الدكتور عصام البشير.
  • الفقرة الثالثة: مدخل إلى الفقه وأصوله: مناهج التلقي والاجتهاد: فضيلة الدكتور وصفي عاشور.
  • الفقرة الرابعة: الأصل والعصر: بين تحديات الواقع والاستجابات الفاعلة (أنماط الفقه) فضيلة الدكتور عصام البشير.
  • الفقرة الخامسة: مدارج الترقي الروحي في الواقع المعاصر (سؤال التزكية) فضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي وفضيلة الدكتور عمر عبد الكافي.
  • الفقرة السادسة: لقاء مفتوح.
  • الفقرة الأخيرة: ورشة عمل حول ثمرات الملتقى وآفاق عمل المجلس الأوروبي للأئمة.

الثمرات والمستخلصات المنتظر

الهدف الأساسي للملتقى هو توفير فرصة للبحث والمدارسة وتبادل المعلومات والأفكار، ويتم الاستفادة من الورقات المقدمة عبر نشرها مجموعة أو منفصلة على منصات المجلس، مع النظر في إمكانية إصدارها في كتيب، كما سيتم تغطية الملتقى إعلاميا مباشرة على صفحة الفيسبوك وقناة يوتيوب الخاصة بالمجلس ووسائل الإعلام المتعاونة. 

التقييم
 سيتم توزيع استمارة تقييم للندوة على المشاركين.

التوثيق والأرشفة

سيتم توثيق أعمال الملتقى عبر التصوير الفوتوغرافي والفيديو وحفظ نماذج من الورقات المقدمة في أرشيف المجلس للاستفادة منها لاحقا.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين،،،

آلية التسجيل:

  • رسم الحضور: 40 يورو (لا يشمل تكاليف السفر وحجز الفندق)
  • آخر أجل لتسجيل الحضور: 5 نوفمبر 2022.
  • يتكفل المشارك بحجز السفر والإقامة.
  • يتم دفع الرسوم عبر الرابط التالي: اضغط هنا
  • ثم يتم تسجيل البيانات عبر النموذج التالي: اضغط هنا

    إدارة المجلس الأوروبي للأئمة
Posted on Leave a comment

ريع اللصوص | العلّامة الشيخ: علي الطنطاوي

نُشر عام 1986م

لو أنني حصرت ذهني لجمعت مما عرفت من أخبار اللصوص كتاباً صغيراً، ولو أن أحد المؤلفين يضع كتاباً في طبقاتهم وأخبارهم لجاء منه أثر أدبي تاريخي، ولا تعجبوا، فإن أجدادنا ألفوا في سير العلماء والدعاة والمصلحين والعقلاء والمجانين واللصوص والمجرمين، ونحن نزعم أننا نعيش في عصر النور فلا نفعل عشر ما فعلوا.

ولعل أدنى طبقاتهم وأيسرها (لو أن في السرقة يسيراً!) هو الذي يسرق عن حاجة، يسرق ليعيش. وشرٌّ منه الذي يسرق طمعاً واستكثاراً من المال بالحرام، والذي يسرق متستراً بجاهه أو منزلته أو ثقة الناس به، والمحتال والمزور، والذي يأكل مال الأرملة واليتيم، وينسى أن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً. والذي يستهين بسرقة أموال الدولة، ابتداء من صحيفة الورق الصقيل يكتب في وسطها رقم هاتف أو عنوان صديق، ومن استعمال سيارة الدولة في خاصة شأنه وشأن أسرته، وانتهاء بالذي يسرق أموال المناقصات والتعهدات. وهذا كله من (الغلول) الذي توعد الله فاعله وقال عنه: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران : 161] فمن أين له يوم القيامة مثل ما غله وسرقه ليأتي به؟

والذي يسرق وقت العمل؛ يكلف بأن يجيء الساعة الثامنة فيجيء التاسعة، وأن يخرج في الثانية فيخرج في الواحدة، ويمضي باسمه على دفتر الدوام ثم ينسل فيغيب ساعة أو بعض ساعة. والذي يسرق أوقات المراجعين وكرامتهم، فتكون القضية محتاجة إلى خمس دقائق فيقول لصاحبها: تعالَ غداً، يحسب أنه إن قعد وراء المكتب والمراجع واقف أمامه أن ذلك سيدوم له، ثم يدعي أنه مؤمن، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه).

والتلميذ الذي يسرق الجواب في الامتحان. إنه حين يسرق بعينه من ورقة جاره أكبر ذنباً من الذي يسرق بيده من جيبه؛ لأن سرقة المال يزول أثرها بردِّ المال، ومن سرق الجواب ونال الدرجة زوراً، ثم أخذ بعدها الشهادة زوراً، ثم نال المنصب زوراً، يستمر أثر جريمته دهراً، وربما صار بشهادته معلماً وهو غير عالم، فنشأ على يديه الآثمتين جماعة من الجهلاء، فيكون كحامل جرثومة المرض يعدي من يتصل به، ومن أعداه ذهب فأعدى سواه، فسرى المرض في جسد الأمة.

أما السرقات الأدبية فلها حديث قديم جدًّا طويل جدًّا، كتبت فيه في غير هذا الموضع، وقد ظهر الآن لون منها ما عرفه الأولون هو سرقة المطبوعات. وقد تجرَّعت منه المرَّ وذقت منه الصَّابَ والعلقم. آخذ كتابي المطبوع بإذني وعلمي والكتاب المسروق، فلا أميز أنا واحداً من واحد؛ لأن الورق هو الورق والحرف هو الحرف والحبر هو الحبر! لكني إن لم أستطع أن أميز فإن في الوجود من يميز الصالح من الفاسد، ومن يكافئ على الحسن، ويعاقب على السيئ، هو الله الذي سيقف بين يديه الظالم والمظلوم. وربما أحسن إليَّ هذا الذي سرق كتبي؛ لأنني آخذ منه حقي يوم يُلغى التعامل بالريال وبالدولار وباليِنِّ وبالمارك، ولا يبقى إلا التعامل بالحسنات، فمن كان له حق أخذ من حسنات من عليه الحق، أو ألقي عليه من سيئاته.

ومن السرقات ما لا يعوض . كان في متحف دمشق مجموعة من الدنانير الأموية بقيت بعد هذا الزمان الطويل وقلَّ أمثالها، سرقها مرة لص فأذابها وجعلها سبيكة فأضاع قيمتها التاريخية، وإن حفظ كتلتها الذهبية؛ كالذي سرق دفتري في رحلة الحجاز، وقد حدثتكم خبره، ودفتراً آخر ضخماً كتبت فيه بخطي مباحث علم النفس والفلسفة لما كنا ندرسها سنة 1929 (1348هـ)، وكان عزيزاً عليَّ؛ لأن فيه فصلاً من تاريخ حياتي، ولأن فيه قطعة من نفسي، لست أدري مَن سرقه من بيتي. وما سرقه لصٌّ محترف تسلَّق الجدار أو كسر الأقفال، ولكن سرقه واحد ممن أدخلته أنا داري، لا يعلم إلا الله وحده من هو.

ومن اللصوص الذين يستعيرون الكتب ولا يردونها، لذلك قررت قراراً لا رجعة فيه أن لا أعير أحداً كتاباً مهما كان السبب:

ألا يا مستعير الكتب دعني
فإن إعارتي للكتب عار
فمحبوبي من الدنيا كتابي
وهل أبصرت محبوباً يعار؟

ومن اللصوص الذين لا يؤبه لهم الذين يسرقون وقتك ؛ فيأتي من يزورك على غير ميعاد، يهبط عليك كما تهبط المصيبة، وينزل بك كموت الفجأة. ولطالما عطَّل عليَّ مثل هؤلاء مقالة كنت أعدها، أو درساً كنت أحضره. لذلك لا أستقبل الآن أحداً أبداً بلا موعد، لا كبراً مني ولكن حفاظاً على وقتي. وإذا كانت سرقة المال ذنباً، فسرقة الوقت الذي يأتي بالمال أكبر؛ الوقت الذي تنال به المال والعلم، ويكون سبباً في دخوله الجنة أو في دخولك النار.

على أن هذا كله يعدُّ في مجتمعاتنا من الشواذِّ، والأصل في الناس الاستقامة والخير…

وبعد، فإني سأورد عليكم طرفتين من طرف اللصوص فيهما إن شاء الله متعة:

في دمشق مسجد كبير اسمه (جامع التوبة) ، وهو جامع مبارك فيه أنس وجمال، سمِّي بجامع التوبة؛ لأنه كان خاناً ترتكب فيه أنواع المعاصي، فاشتراه أحد الملوك في القرن السابع الهجري وهدمه وبناه مسجداً. وكان فيه – من نحو سبعين سنة- شيخ مربٍّ عالم عامل اسمه الشيخ سليم المَسْوَتي، وكان أهل الحي يثقون به، ويرجعون إليه في أمور دينهم وأمور دنياهم. وكان عند هذا الشيخ تلميذ صالح، وكان مضرب المثل في فقره وفي إبائه وعزة نفسه، وكان يسكن في غرفة في المسجد. مرَّ عليه يومان لم يأكل فيهما شيئاً، وليس عنده ما يَطعمه، ولا ما يشتري به طعاماً، فلما جاء اليوم الثالث أحس كأنه مشرف على الموت، وفكَّر ماذا يصنع، فرأى أنه بلغ حد الاضطرار الذي يجوز له أكل الميتة أو السرقة بمقدار الحاجة، فآثر أن يسرق ما يقيم صلبه.

وهذه القصة واقعة، أعرف أشخاصها، وأعرف تفصيلها، وأروي ما فعل الرجل، لا أحكم على فعله بأنه خير أو شر أو أنه جائز أو ممنوع. وكان المسجد في حيٍّ من الأحياء القديمة، والبيوت فيها متلاصقة والسطوح متصلة، يستطيع المرء أن ينتقل من أول الحي إلى آخره مشياً على السطوح. فصعد إلى سطح المسجد، وانتقل منه إلى الدار التي تليه، فلمح فيه نساء فغضَّ من بصره وابتعد، ونظر فرأى إلى جنبها داراً خالية، وشمَّ رائحة الطبخ تصعد منها، فأحس مِن جوعه لما شمَّها كأنها مغناطيس يجذبه إليها. وكانت الدور من طبقة واحدة، فقفز قفزتين من السطح إلى الشرفة فصار في الدار، وأسرع إلى المطبخ فكشف غطاء القدر، فرأى فيها باذنجاناً محشواً، فأخذ واحدة ولم يبال من شدة جوعه بسخونتها، وعض منها عضة، فما كاد يبتلعها حتى ارتد إليه عقله ودينه، وقال لنفسه: أعوذ بالله، أنا طالب علم مقيم في المسجد، ثم أقتحم المنازل وأسرق ما فيها؟

وكبر عليه ما فعل، فندم واستغفر وردَّ الباذنجانة، وعاد من حيث جاء، فنزل إلى المسجد وقعد في حلقة الشيخ، وهو لا يكاد – من شدة الجوع – يفهم ما يسمع. فلما انقضى الدرس وانصرف الناس (وأؤكد لكم أن القصة واقعة) جاءت امرأة مستترة (ولم يكن في تلك الأيام امرأة غير مستترة) فكلَّمت الشيخ بكلام لم يسمعه، فتلفَّت الشيخ حوله فلم يرَ غيره، فدعاه وقال له: هل أنت متزوج؟ قال: لا. قال: هل تريد الزواج؟ فسكت، فقال له الشيخ: قل، هل تريد الزواج؟ قال: يا سيدي، ما عندي ثمن رغيف آكله فلماذا أتزوج؟

قال الشيخ: إن هذه المرأة خبَّرتني أن زوجها توفي، وأنها غريبة عن هذا البلد، ليس لها فيه ولا في الدنيا إلا عمٌّ عجوز فقير، وقد جاءت به معها (وأشار إليه قاعداً في ركن الحلقة) وقد ورثت دار زوجها ومعاشه، وهي تحبُّ أن تجد رجلاً يتزوجها على سنة الله ورسوله؛ لئلا تبقى منفردة فيطمع فيها الأشرار وأولاد الحرام، فهل تريد أن تتزوج بها؟ قال: نعم. وسألها الشيخ: هل تقبلين به زوجاً؟ قالت: نعم.

فدعا بعمِّها، ودعا بشاهدين، وعقد العقد، ودفع المهر عن التلميذ، وقال له: خذ بيد زوجتك.

فأخذ بيدها، أو أخذت هي بيده، فقادته إلى بيتها، فلما دخلته كشفت عن وجهها فرأى شباباً وجمالاً، ورأى البيت هو البيت الذي نزله. وسألته: هل تأكل؟ قال: نعم.

فكشفت غطاء القدر فرأت الباذنجانة، فقالت: عجباً! من دخل الدار فعضَّها؟

فبكى الرجل وقصَّ عليها الخبر، فقالت له: هذه ثمرة الأمانة، عففت عن الباذنجانة الحرام فأعطاك الله الدار كلها وصاحبتها بالحلال.

أما القصة الأخرى فلعل الطرافة فيها أكثر من المنفعة منها ، وهي واقعة أعرف أشخاصها وظروفها، هي أن شابًّا فيه تقًى وفيه غفلة طلب العلم، حتى إذا أصاب منه حظًّا قال الشيخ له ولرفقائه: لا تكونوا عالة على الناس، فإن العالم الذي يمدُّ يده إلى أبناء الدنيا لا يكون فيه خير، فليذهب كل واحد منكم وليشتغل بالصنعة التي كان أبوه يشتغل بها، وليتقِ الله فيها.

وذهب الشاب إلى أمه فقال لها: ما هي الصنعة التي كان أبي يشتغل بها؟ فاضطربت المرأة وقالت: أبوك قد ذهب إلى رحمة الله، فما لك وللصنعة التي كان يشتغل بها؟ فألحَّ عليها وهي تتملص منه، حتى إذا اضطرها إلى الكلام أخبرته- وهي كارهة- أن أباه كان لصًّا.

فقال لها: إن الشيخ أمرنا أن يشتغل كلٌّ بصنعة أبيه ويتقي الله فيها.

قالت الأم: ويحك! وهل في السرقة تقوى؟

وكان في الولد كما قلت غفلة، فقال لها: هكذا قال الشيخ.

ثم ذهب فسأل وتسقَّط الأخبار حتى عرف كيف يسرق اللصوص، فأعدَّ عُدَّة السرقة، وصلَّى العشاء، وانتظر حتى نام الناس، وخرج ليشتغل بصنعة أبيه كمال قال الشيخ. فبدأ بدار جاره، ثم ذكر أن الشيخ قد أوصاه بالتقوى، وليس من التقوى إيذاء الجار، فتخطَّى هذه الدار. ومر بأخرى فقال لنفسه: هذه دار أيتام، والله حذَّر من أكل مال اليتيم، وما زال يمشي حتى وصل إلى دار تاجر غني ليس له إلا بنت واحدة، ويعلم الناس أن عنده الأموال التي تزيد عن حاجته.

فقال: هاهنا. وعالج الباب بالمفاتيح التي أعدها ففتح ودخل، فوجد داراً واسعة وغرفاً كثيرة، فجال فيها حتى اهتدى إلى مكان المال، وفتح الصندوق فوجد من الذهب والفضة والنقد شيئاً كثيراً، فهمَّ بأخذه، ثم قال: لا، لقد أمرنا الشيخ بالتقوى، ولعل هذا التاجر لم يؤد زكاة أمواله، لنخرج الزكاة أولاً.

وأخذ الدفاتر وأشعل فانوساً صغيراً جاء به معه، وراح يراجع الدفاتر ويحسب، وكان ماهراً في الحساب خبيراً بإمساك الدفاتر، فأحصى الأموال وحسب زكاتها فنحَّى مقدار الزكاة جانباً، واستغرق في الحساب حتى مضت ساعات، فنظر فإذا هو الفجر. فقال: تقوى الله تقضي بالصلاة أولاً.

وخرج إلى صحن الدار، فتوضأ من البركة وأقام الصلاة، فسمع رب البيت فنظر فرأى عجباً، فانوساً مضيئاً، ورأى صندوق أمواله مفتوحاً ورجلاً يقيم الصلاة. فقالت له امرأته: ما هذا؟ قال: والله لا أدري! ونزل إليه فقال: ويلك من أنت وما هذا؟ قال اللص: الصلاة أولاً ثم الكلام، فتوضأْ ثم تقدَّمْ فصلِّ بنا، فإن الإمامة لصاحب الدار.

فخاف صاحب الدار أن يكون معه سلاح ففعل ما أمره به، والله أعلم كيف صلَّى، فلما قضيت الصلاة قال له: خبِّرني ما أنت وما شأنك؟ قال: لص. قال: وماذا تصنع بدفاتري؟ قال: أحسب الزكاة التي لم تخرجها من ست سنين، وقد حسبتها وفرزتها لتضعها في مصارفها. فكاد الرجل يُجنُّ من العجب، وقال له: ويلك، ما خبرك؟ هل أنت مجنون؟ فخبَّره خبره كله. فلمَّا سمعه التاجر، ورأى جمال صورته وضبط حسابه ذهب إلى امرأته فكلَّمها، ثم رجع إليه فقال له: ما رأيك لو زوَّجتك بنتي، وجعلتك كاتباً وحاسباً عندي، وأسكنتك أنت وأُمَّك في داري، ثم جعلتك شريكي؟ قال: أقبل. وأصبح الصباح فدعي بالمأذون وبالشهود وعقد العقد!

وهذه قصة واقعة.

وأما السرقات الأدبية فقد قلت لكم إنني لا أعرض لها الآن، إلا واحدة لها صلة بالعلم والعلماء، وهي سرٌّ لم يرفع عنه الستار إلى الآن. ذلك أن عندنا كتابين متماثلين تماماً في موضوع جديد، لم يؤلف فيه قبلهما ولم يؤلف فيه بعدهما إلا القليل، هما كتاب (الأحكام السلطانية) للماوردي وكتاب (الأحكام السلطانية) للقاضي أبي يعلى. والكتابان متشابهان متطابقان؛ لأن أحدهما منسوخ عن الآخر، فمن هو صاحب الكتاب الأول؟

الماوردي من أفقه فقهاء الشافعية وكان يُلقَّب بأقضى القضاة، وأبو يعلى من أفقه فقهاء الحنابلة، وإذا قيل (القاضي) انصرف اللقب إليه. والاختلاف بينهما أن الماوردي حين يسرد الأحكام يسردها على المذهب الشافعي، وأبو يعلى على مذهب الإمام أحمد. وكانا في عصر واحد، وبلد واحد، وأظنهما كانا قاضيين في محكمة واحدة!

فلعل أحد الأساتذة أو الطلاب الذين يعدون رسائل الشهادات العالية يدرس هذا الموضوع، ويثبت بالأدلة من منهما المؤلف الأول. أما أنا فأميل إلى أنه الماوردي، لأن للماوردي كتاباً آخر قريباً في أسلوبه ونهجه وطريقته من هذا الكتاب، والله أعلم بالصواب.

المصدر: فصول في الثقافة والأدب للشيخ علي الطنطاوي، جمع وترتيب مجاهد مأمون – دار المنارة، ط1، 2007هـ (ص 12) بتصرف

Posted on Leave a comment

حقوق المال في الإسلام | الشيخ: عبد الرحمن بن ناصر السعدي

حقوق المال في الإسلام | نشر عام 1373هـ

لا ريب أن الشرع قد بيَّن للعباد كل ما يحتاجونه في أمور دينهم ودنياهم، وخصوصاً الواجبات الكبيرة التي هي أهم المهمات؛ الواجبات على القلب، والواجبات على البدن، وجميع الأقوال والأفعال.

وكذلك وضَّح الله ورسوله الواجبات المالية توضيحاً تامًّا؛ مجملاً ومفصلاً. فأمرنا بأداء الحقوق المالية، والإنفاق مما رزق الله، وأثنى على القائمين بها، وذمَّ المانعين لها أو لبعضها، وفصل ذلك.

فذكر الأموال التي تجب فيها الزكاة، من الحبوب، والثمار والمواشي، والعروض، والنقود، وذكر شروطها، ونصبها ومقدار الواجب منها، ولمن تدفع؛ للمصالح المحتاج إليها، وللمحتاجين.

فآكد الحقوق المالية هذا الحق الأكبر؛ حق الزكاة التي هي من أعظم أركان الإسلام ومبانيه التي لا يتم إلا بها.

وفصَّل أيضاً ما في المال من النفقات الواجبة للنفس والأهل، والأولاد، والمماليك؛ من الآدميين والبهائم.

وبيَّن الله ورسوله أيضاً وجوب الوفاء بالمعاملات الصحيحة، والعقود الشرعية، على اختلاف أنواعها وتباين أسبابها .

وبيَّن أيضاً ما يتعلق بالمال من الحقوق العارضة إذا وجدت أسبابها، كبدل النفوس والأموال المتلفة بغير حق، وما فيه من الحقوق العارضة لحاجة الغير من ضيف ونحوه، أو لاضطرار الغير، فأوجب مواساة المضطرين، ودفع اضطرارهم بإطعام الجائع، وكسوة العاري، وهذا من فروض الكفايات، إذا قام به البعض سقط عن غيره.

ومن ذلك إلزام الناس بالمعاوضات؛ منها ما هو محرم، كإكراههم على البيع بثمن لا يرضونه، أو منعهم مما أباحه الله لهم. ومنها ما هو عدل، مثل إكراههم على ما يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل، إذا وجب عليهم البيع أو الشراء لسبب يقتضي الوجوب؛ إما أداء دين أو غيره. ويجب منعهم مما يحرم عليهم من أخذ الزيادة على عوض المثل، ومثل التسعير على العمال، ومن يحتاج الناس إليهم، ومَنَعم من أخذ الزيادة الفاحشة، كما يمنع الناس من هضمهم لحقوقهم.

ففي أمثال هذه المسائل يجب على الناس مراعاة العدل، ومنع أسباب الظلم. وهذه الأمور منها أشياء واضحة لكل واحد، ومنها أشياء يكون فيها اشتباه والتباس، يجب أن تفحص وتحقق تحقيقاً تامًّا لتعرف مرتبتها، فما دامت مشتبهة، فالأصل تحريم أموال الغير، والأصل إبقاء الناس على معاملاتهم، واحترام حقوقهم، حتى يتضح ما يوجب الخروج عن هذا الأصل لأصل شرعي أقوى منه.

وأما ما يهذي به كثير من الناس عندما انتشرت الشيوعية، وشاعت دعايتها، وأثَّرت على كثير من العصريين، وراجت على بعض أهل العلم، من أنه يسوغ لأولياء الأمور أن يلزموا أهل الغنى والثروة أن يواسوا بذلك أهل الحاجة والفقراء، وأن يفتتوا ثروتهم على أهل الحاجات، وأن يسددوا بزائد ثروتهم جميع المصالح، التي تحتاجها الأمة بغير رضاهم، بل بالقهر والقسر.

فهذا معلوم فساده بالضرورة من دين الإسلام، وأن الإسلام بريء من هذه الحالة الشيوعية أو هي مبدأ الشيوعية، ونصوص الكتاب والسنة على ذلك، وإبطال هذا القول صريحة وكثيرة جدًّا. وإجماع الأمة يبطل هذا القول المنافي لنصوص الكتاب والسنة، والمنافي للفطرة التي فطر الله عليها العباد، والفاتح للظلمة وأرباب الجشع أبواب الظلم والشر والفساد، فالله يبسط الرزق لمن يشاء، ويقدره على من يشاء، وقد جعل الله العباد بعضهم فوق بعض درجات في كل الصفات؛ في العقل والحمق، وفي العلم والجهل، وفي حسن الخلق وضده، وفي الغنى والفقر، وفي كثرة الأولاد والأموال والأتباع وضد ذلك؛ حكم بذلك قدراً، ويسر كلًّا لما خلق له، وأوجب على كل من أعطاه شيئاً من هذه النعم وغيرها من واجبات حددها وفصلها تفصيلًا، وجعل لنيل المطالب الدنيوية والأخروية أسباباً وطرقاً، من سلكها أفضت به إلى مسبباتها، وأوصلته إلى نتائجها، وهؤلاء المنحرفون يريدون أن يبطلواقدر الله وشرعه، ويبرروا آراءهم الفاسدة، بشبه لا تسمن ولا تغني من جوع، وقد يضيفون ذلك إلى بعض نصوص الشريعة، تحريفاً منهم، يعرفه كل من له أدنى معرفة بالشريعة.

وكثُر الدعاة إلى هذه الطريقة الشنيعة؛ تغريراً من بعضهم، واغتراراً من آخرين، يقلدونهم على غير بصيرة، والبصير لا يخفى عليه الأمر، وقد يروجون باطلهم بأنَّ تضخُّم المال في أيد قليلة سبب لمفسدة الترف المفسد للأخلاق، وسبب لإثارة الأحقاد من الفقراء والمعدمين، وهذا غلط فاحش وضعف نظر، فإن الغنى قد يكون سبباً للطغيان، وقد يكون سبباً للتواضع، والتزود من طاعة الله، والقيام بحقوق المال الشرعية، وعلى فرض ما فيه من الترف ونحوه، فإنَّ ما حاولوه من القضاء على ثروة المثرين سبب لشرور عظيمة، لا تنسب إليها أي مفسدة، وسبب لإثارة فتن كثيرة عكس ما قالوه، وهل هذه الشرور والحروب الطاحنة إلا من آثار ذلك – كما هو معلوم لكل أحد . وما قالوه في زيادة ثروة المال، يقال مثله في زيادة قوة الجسد، وصحة البدن، فإنه قد يبعث على شرور، كما قد يبعث إلى خير ويُتوسل به إلى خيرات، فنعم الله المتنوعة على العباد إما أن يشكروها ويتوسلوا بها إلى ما خلقوا له، من عبادة الله وشكره والقيام بحقه، وإما أن تكون بعكس ذلك، والله تعالى قد كفى عباده أضرار الثروة بما شرعه في الأموال من الحقوق الواجبة والمستحبة التي لو قام بها أرباب الأموال لكانوا من خير البرية أخلاقاً وأعمالاً، وأشرفهم وأعظمهم اعتباراً، ولما ترتب على ذلك من الشر شيء، ولكن لما منع أكثر الخلق ما أوجب الله عليهم في أموالهم- وخصوصاً الزكاة- سلط عليهم أنواع الظلمة من ولاة ظالمين، ومن فتاوى الجاهلين المتجرئين {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا ْ يَكْسِبُونَ} [الأنعام: 129].

واعلم أن الشبه التي تثار لنصر كل باطل، إذا فرض صحة بعضها فإنها نظريات ضئيلة جدًّا، ونظر قاصر، حيث نظروا نظراً جزئيًّا، وحكموا حكماً كليًّا، وعموا عن الأصول التي تبنى عليها الأحكام، ويعتبرها الشرع، وتتولد عنها المصالح العامة الكلية، وتنغمر فيها المفاسد الجزئية، وتوافق الشريعة والحكمة وفطرة الله التي فطر عليها العباد، وتدع الخليقة هادئة، والأسباب قائمة، والارتباط بين الناس وثيقاً {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 132].

المصدر: كتاب (مقالات كبار العلماء في الصحف السعودية القديمة) (1343هـ – 1383هـ) جمع وترتيب: أحمد الجماز و عبدالعزيز الطويل، دار أطلس الخضراء – الرياض، ط1: 1431هـ. (1/301)

Posted on Leave a comment

نحن المسلمين! | العلّامة الشيخ: علي الطنطاوي

سلوا عنا ديار الشام ورياضها، والعراق وسوادها، والأندلس وأرباضها، سلوا مصر وواديها، سلوا الجزيرة وفيافيها، سلوا الدنيا ومن فيها..

سلوا بطاح إفريقيا، وربوع العجم، وسفوح القفقاس، سلوا حفافي الكنج، وضفاف اللوار، ووادي الدانوب، سلوا عنا كل أرض في الأرض، وكل حيِّ تحت السماء..

إن عندهم جميعا خبراً من بطولاتنا وتضحياتنا ومآثرنا ومفاخرنا وعلومنا وفنوننا.. نحن المسلمين!!

هل روى رياض المجد إلا دماؤنا؟ هل زانت جنَّات البطولة إلا أجساد شهدائنا؟ هل عرفت الدنيا أنبل منا أو أكرم، أو أرأف أو أرحم، أو أجلَّ أو أعظم، أو أرقى أو أعلم؟

نحن حملنا المنار الهادي والأرض تتيه في ليل الجهل، وقلنا لأهلنا: هذا الطريق!.

نحن نصبنا موازين العدل، يوم رفعت كل أمة عصا الطغيان.

نحن بنينا للعلم داراً يأوي إليها، حين شرده الناس عن داره.

نحن أعلنَّا المساواة، يوم كان البشر يعبدون ملوكهم، ويؤلِّهون ساداتهم.

نحن أحيينا القلوب بالإيمان، والعقول بالعلم، والناس كلَّهم بالحرية والحضارة.

نحن المسلمين!

نحن بنينا الكوفة، والبصرة، والقاهرة، وبغداد.

نحن أنشأنا حضارة الشام، والعراق، ومصر، والأندلس.

نحن شِدنا بيت الحكمة، والمدرسة النظامية، وجامعة قرطبة، والجامع الأزهر.

نحن عمرنا الأموي وقبة الصخرة، وسُرَّ من رأى، والزهراء، والحمراء، ومسجد السلطان أحمد، وتاج محل.

نحن علَّمنا أهل الأرض وكنا الأساتذة وكانوا التلاميذ.

نحن المسلمين!

منَّا أبو بكر، وعمر، ونور الدين، وصلاح الدين، وأورنك زيب . منَّا خالد، وطارق، وقتيبة، وابن القاسم، والملك الظاهر.

منَّا البخاري، والطبري، وابن تيمية، وابن القيم، وابن حزم، وابن خلدون.

منَّا معبد وإسحاق وزرياب.. منا كل خليفة كان الصورة الحيَّة للمثُل البشرية العليا.

وكل قائد كان سيفاً من سيوف الله مسلولاً.. وكل عالم كان من البشر كالعقل من الجسد.

منَّا مائة ألف عظيم وعظيم.

نحن المسلمين!

قوتنا بإيماننا، وعزنا بديننا، وثقتنا بربنا..

قانوننا قرآننا، وإمامنا نبينا، وأميرنا خادمنا.. وضعيفنا المحقُّ قويٌّ فينا، وقويُّنا عون لضعيفنا، وكلنا إخوان في الله، سواءٌ أمام الدين.

نحن المسلمين!

مَلَكنا فعدلنا، وبنينا فأعلينا، وفتحنا فأوغلنا، وكنا الأقوياء المنصفين، سننَّا في الحرب شرائع الرأفة، وشرعنا في السلم سنن العدل، فكنا خير الحاكمين، وسادة الفاتحين..

أقمنا حضارة كانت خيراً كلها وبركات، حضارة روح وجسد، وفضيلة وسعادة، فعمَّ نفعها الناس، وتفيأ ظلالها أهل الأرض جميعا، وسقيناها نحن من دمائنا، وشدناها على جماجم شهدائنا!.

وهل خلت الأرض من شهيد لنا قضى في سبيل الإسلام والسلام، والإيمان والأمان؟

نحن المسلمين!

هل تحققت المثُل البشرية العليا إلا فينا؟

هل عرف الكون مجمعاً بشريًّا إلا مجمعنا، قام على الأخلاق والصدق والإيثار؟

هل اتفق واقع الحياة، وأحلام الفلاسفة، وآمال المصلحين، إلا في صدر الإسلام؟

يوم كان الجريح المسلم يجود بروحه في المعركة، يشتهي شربةً من ماء، فإذا أخذ الكأس رأى جريحا آخر فآثره على نفسه، ومات عطشان.

يوم كانت المرأة المسلمة يموت زوجها وأخوها وأبوها، فإذا أخبرت بهم سألت: ما فعل رسول الله؟ فإذا قيل لها: هو حيٌّ، قالت: كل مصيبةٍ بعده هيِّنة.

يوم كانت العجوز ترد على عمر، وهو على المنبر في الموقف الرسمي، وعمر يحكم إحدى عشرة حكومة من حكومات اليوم.

يوم كان الواحد منَّا يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ويؤثره عليها ولو كان به خصاصة.

وكنَّا أطهاراً في أجسادنا وأرواحنا ومادتنا والمعنى.

وكنَّا لا نأتي أمراً ولا ندعه، ولا نقوم ولا نقعد، ولا نذهب ولا نجيء إلا لله.

قد أَمَتْنَا الشهوات من نفوسنا، فكان هوانا تبعاً لما جاء به القرآن.

لقد كنَّا خلاصة البشر، وصفوة الإنسانية.

وجعلنا حقًّا واقعاً ما كان يراه الفلاسفة والمصلحون أملاً بعيداً.

 نحن المسلمين!

تُنظم في مفاخرنا مائة إلياذة  وألف شاهنامة .

ثم لا تنقضي أمجادنا ولا تفنى، لأنها لا تُعدُّ ولا تُحصى.

من يعدُّ معاركنا المظفرة التي خضناها؟… من يحصي مآثرنا في العلم والفن؟

من يستقري نابغينا وأبطالنا؟.. إلا الذي يعدُّ نجوم السماء، ويحصي حصى البطحاء!!.

اكتبوا ( على هامش السيرة) ألف كتاب.. و ( على هامش التاريخ) مثلها.

وأنشئوا مائة في سيرة كل عظيم، ثم تبقى السيرة ويبقى التاريخ كالأرض العذراء، والمنجم البكر. نحن المسلمين!

لسنا أمة كالأمم تربط بينها اللغة، ففي كل أمة خيِّر وشرير.

ولسنا شعباً كالشعوب، يؤلف بينهم الدم، ففي كل شعب صالح وطالح، ولكننا جمعية خيرية كبرى، أعضاؤها كل فاضل من كل أمة، تقي نقي..

تجمع بيننا التقوى إن مصل الدم، وتوحِّد بيننا العقيدة، إن اختلفت اللغات، وتُدنينا الكعبة إن تناءت بنا الديار..

أليس في توجُّهِنا كل يومٍ خمس مرات إلى هذه الكعبة، واجتماعنا كل عام مرة في عرفات، رمزاً إلى أن الإسلام قومية جامعة، مركزها الحجاز العربية، وإمامها النبي العربي، وكتابها القرآن العربي؟

نحن المسلمين!

ديننا الفضيلة الظاهرة، والحق الأبلج.. لا حُجُب ولا أستار، ولا خفايا ولا أسرار.

هو واضح وضوح المئذنة، أفليس فيها ذلك المعنى؟

هل في الدنيا جماعة أو نِحلة تكرر مبادئها وتُذاع عشر مرات كل يوم، كما تُذاع مبادئ ديننا- نحن المسلمين- على ألسنة المؤذنين: أشهد ألا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله.

نحن المسلمين!

لا نهن ولا نحزن ومعنا الله.. ونحن نسمع كل يوم ثلاثين مرة هذا النداء العلوي المقدس، هذا النشيد القوي: الله أكبر..

البطولة سجية فينا، وحب التضيحة يجري في عروقنا.. لا تنال من ذلك صروف الدهر، ولا تمحوه من نفوسنا أحداث الزمان..

لنا الجزيرة التي يشوى على رمالها كل طاغ يطأ ثراها، ويعيش أهلها من جحيمها في جنات.

لنا الشام وغوطتها التي سُقيت بالدم، لنا فيها الجبل الأشم.. لنا العراق لنا (الرميثة) وسهول الفرات.. لنا فلسطين التي فيها جبل النار.

لنا مصر دار العلم والفن ومثابة الإسلام..

لنا المغرب كله، لنا ( الريف) دار البطولات والتضحيات.

لنا القسطنطينية ذات المآذن والقباب، لنا فارس والأفغان والهند وجاوة.

لنا كل أرض يُتلى فيها القرآن، وتصدح مناراتها بالأذان.

لنا المستقبل.. المستقبل لنا إن عُدنا إلى ديننا. نحن المسلمين!

——————————————————–

المصدر: كتاب (قصص من التاريخ) – علي الطنطاوي – المكتب الإسلامي –  ص 15.

Posted on Leave a comment

العلم وعلو الهمَّة | الشيخ: عبد الرحمن بن قاسم

العلم وعلو الهمَّة | نُشر عام 1357هـ الموافق 1938م

عالي الهمَّة يطلب معالي الأمور ، وفي (التعريفات) الهمَّة: توجُّه القلب وقصده بجميع قواه الروحانية إلى جانب الحق لحصول الكمال له أو لغيره.

فعالي الهمَّة يعرف شرف زمانه وقدر وقته ، فلا يضيع عليه لحظة في غير قربة، ويبادر اللحظات.

عالي الهمَّة يطلب أشرف شيء ينفعه في الدنيا والآخرة ، وقد علم بالضرورة أنه ليس في الوجود أشرف من العلم {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11]، {إنما يخشى الله من عباده العلماء} [فاطر: 28]، {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 9].

كيف لا والعلم هو الدليل، فإذا عُدم وقع الضلال، ولا صلاح للعباد في معاشهم ومعادهم إلا بالعلم، وما يجب له على عباده من دينه الذي رضيه لهم، وبالقيام به صلاح الدنيا والآخرة، وبالغفلة عنه زوال النعم وحلول النقم.

وطلب العلم ومعرفة ما قصد به العبد أشرف ما بُذلت فيه الأنفاس والمهج؛ وأشرف الأرباح وعنوان الفلاح، وأقرب الخلق من الله العلماء، والعامل من غير علم وبصيرة ليس من عمله على طائل. قال أبو حنيفة: من ترك الدليل ضلَّ السبيل. اهـ. ولا سبيل إلى الله والجنة إلا الكتاب والسنة. وقال الشافعي: طلب العلم أفضل من صلاة النافلة.

وقال ابن الجوزي: من علم أن الدنيا دار سباق وتحصيل للفضائل، وأنه كلما علت مرتبته في العلم والعمل زادت مرتبته في دار الجزاء انتهب الزمان، ولم يضيِّع لحظة، ولم يترك فضيلة إلا حصَّلها.

والعلم ما في الصدور لا ما في القِمَطْر [ما يصان فيه الكتب]، ومن أخلص في طلبه دلَّه على الله، ولا تُنال الراحة بالراحة، وعلى قدر التعب تكون الراحة؛ فإنَّ مصالح الدنيا والآخرة منوطة بالتعب، ولا راحة لمن لا تعب له، كما قال الشاعر:

أُعدتِ الراحةُ الكبرَى لـمَن تعِبا

وفاز بالحقِّ مَن لم يَأْلُهُ طلَبا

وعلو الهمَّة يدلُّ على عظم العقل ، ومن له عقل فهم الخطاب، ومن فهم الخطاب فهم المقصود. ومن عمل على الدليل كان كالباني على أساس وثيق.

وينبغي لعالي الهمَّة الطالبِ المجدَ أن ينبعث من قلبه الافتقار إلى ملهم الصواب أن يدلَّه على حكمه الذي شرعه لعباده، ومتى قرع هذا الباب فقد قرع باب التوفيق، ومن علامة توفيق الله له صرف همته العالية إلى العلم.

وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( العلم ثلاثة: آية محكمة، أو سنة قائمة، أو فريضة عادلة، وما سوى ذلك فهو فضل) [إسناده ضعيف].

وأرشد صلى الله عليه وسلم معاذاً لما بعثه إلى اليمن إلى سياسة حكيمة نافعة في التعليم قال: ( فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله) فهذا بيان كيفية التعلم؛ البداءة بالأهمِّ فالأهمِّ من واجبات الإيمان وأركان الإسلام، ثم ينتقل درجة درجة من الأعلى إلى ما دونه، ثم يتعلم ما يجب من الحقوق في الإسلام، بخلاف ما يفعله بعض المتعلمين من الاشتغال بالفروع والذيول فضلاً عن الفضول، ومن ترك الأصول حرم الوصول.

وأصل الأصول وأشرف الكلام كلام الله ؛ فيه الهدى والنور، قال صلى الله عليه وسلم: (أما بعد: أيها الناس، إنما أنا بشر، يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب، وإني تارك فيكم ثقلين؛ أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور، من استمسك به وأخذ به كان على الهدى، ومن أخطأه ضلَّ؛ فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به).

وقال: (إنها ستكون فتن) قالوا: فما المخرج منها؟ قال: (كتاب الله فيه نبأ من قبلكم، وخبر من بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تشبع منه العلماء، ولا تلتبس به الألسن، ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، من قال به صدق، ومن عمل به أُجر، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم) [ضعيف].

وكان يقول في خطبه: (إن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة).

وحضَّ صلى الله عليه وسلم على التمسك به وبسنته في غير ما موضع، وقال صلى الله عليه وسلم: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا؛ كتاب الله وسنتي) فنفى الضلال عمن تمسك بهما. وقال: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة).

إن عالي الهمَّة لا يؤثر على كتاب الله شيئاً ، فإنه كلام الله أنزله بلغة رسوله صلى الله عليه وسلم سيد العرب وأفصح العرب، ولغته أفصح اللغات وأوسعها وأدخلها في الإعجاز.

وكان صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يحافظ على ألفاظ القرآن في تعبيراته، وكان الصحابة والتابعون يتحرون ألفاظ النصوص، وحدث خلوف رغبوا عن ألفاظ النصوص، وأقبلوا على الألفاظ الحادثة، وألفاظ النصوص من الكتاب والسنة حجة وعصمة من الخطأ والتناقض والتعقيد والاضطراب، ولهذا كانت علوم الصحابة والتابعين أصحَّ من علوم من بعدهم وأفصح وأقلَّ تكلفاً فيما يروونه من المعاني، بل لما استحكم هجران النصوص عند أهل الأهواء والبدع كانت علومهم في غاية الفساد والتناقض، فاتباع السنة- والله الذي لا إله إلا هو- نجاة؛ والسنة هي التي نقلها أهل العلم كابر عن كابر ومن رزقه الله العلم والنظر في سير السلف رأى أن هذا العالم في ظلمة، وجمهور العالم على غير جادة، ولو رفعوا كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فوق كل شيء لرفعهم الله كما رفع سلفهم، ولأعزهم كما أعزهم {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا}.

ألم يعلموا أن الأخذ بالعلم النافع من علامة كمال العقل، وصرف الزمان إلى حفظ ما غيره أولى من سخافة العقل والرِّضَى بالدون.

ومن أكبر الرزايا وأعظم البلايا أن يعطيك الله همة عالية، ويمنعك من العمل بمقتضاها.

إن عالي الهمَّة لا يستبدل الأدنى بالذي هو خير ، من بدَّل القراءة من كتاب الله وسنة رسوله وكتب أهل السنة والاهتداء بها والأخذ بها غيرها- فقد بدَّل نعمة الله كفراً، واستبدل الأدنى بالذي هو خير.

من ضيَّع ذهنه الوقَّاد الذي يميز به في الفضول فقد بدَّل نعمة الله كفراً، واستبدل الأدنى بالذي هو خير، والله سبحانه يجزيه بجنس عمله، فمن استبدل الأدنى بالأعلى فإن الله يبدله بالعزِّ ذلًّا وبالفرح غمًّا وبالسرور حزناً وبقُرَّة العين سخنة العين: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} [البقرة: 16].

وليس هذا كمن استبدل البقل بالمنِّ لا والله. العلم قوت الروح، ويحتاجه الإنسان كل لحظة وذاك قوت البدن (بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه).

ولا دواء لهذا إلا الكتاب والسنة، قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، و {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] وقال صلى الله عليه وسلم: (تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك).

عليك بكتاب الله وسنة نبيه، وأعظم سبب في تحصيلهما التقوى، قال الشافعي:

شكوت إلى وكيع سوء حفظي

فأرشدني إلى ترك المعاصي

وقال اعلم بأن العلمَ نورٌ

ونورُ اللهِ لا يؤتاه عاصِ

ويحفظ العلم بالتذاكر والفهم، ومن عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم.

وإذا ظفرت برجل من أهل العلم، طالب للدليل، محكم له، متبع للحق حيث كان وأين كان ومع من كان، فاشدد يديك به.

وقف في مواقف الابتهال إلى ذي العزة والجلال، وانطرح بين يديه بالأسحار، وقل: يا معلِّم إبراهيم علِّمني، ويا مفهِّم سليمان فهِّمني. واعلم أن الله تعالى يثيب العامل المخلص رزقاً عاجلاً- إما للقلب أو البدن أو لهما- ورحمة مدخرة في خزائنة.

فلا تسأمنَّ العلم واسهر لنيله

بلا ضجرٍ تحمد سُرَى السيرِ في غدِ

ولا يذهبنَّ العمر منك سبهللا

ولا تغبننْ في النعمتينِ بل اجهدِ

واعلم بأن جمع الهمِّ أصل الأصول، وليس العلم بمجرد صورته هو النافع بل معناه، وإنما ينال معناه من تعلم للعمل به؛ فإنَّه كلما دله على فضل اجتهد في نيله، وكثيراً ما ترى من يثب ويثيب وهو يقرأ، ولم يحصل على طائل لمانع قام به من نفسه لا من ربه {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49].

ولقد حصل من الغفلة عن الكتاب والسنة اللذين لا نجاة للعبد إلا بمعرفتها والعمل بهما ما يُشجي الصدور، ويُدمي القلوب، وصار اشتغال بعض طلاب العلم بالعلوم المزاحمة لهذا الأصل الأصيل والمنهل العذب الجليل، بل أصبحت حالهم تُدمي العيون، وتفتت الأكباد، وتسقط القلوب، وتقتل النفوس الحية، ولقد كثر من يدَّعي العلم، وقلَّ العلماء حقيقة، القائمين بما حمَّلهم الله به، وصار كثير ممن يطلب العلم لحظوظ الدنيا، وأعرضوا عن الكتاب والسنة فلم يذوقوا لها حلاوة، ووقع ما أخبر به صلى الله عليه وسلم: (إنكم في زمان قليل قراءه، كثير فقهاؤه، وسيأتي بعدكم زمان كثير قراؤه، قليل فقهاؤه) [من كلام ابن مسعود] فإنا لله وإنا إليه راجعون (من يُرد الله به خيراً يفقِّهه في الدين).

بل أصبحنا في جيل اتخذوا البدع والخرافات حجة وسنداً على أن الكتاب والسنة غير صالح للترقية البشرية، ولا سيما في هذه القرون؛ قرون المدنية والحضارة، جهلاً منهم بالدين الحنيف..!! ولو تأمَّلوا قليلاً لعلموا أنهم في ضلال مبين، وجرى الأكثر وراء المدنية، وغلغلها في نفوسهم طائفة من المبتدعين حتى رموا الدين بالجمود والرجعية، فأصبحت تعاليم الدين في خبر كان، والله المستعان.

المصدر: كتاب (مقالات كبار العلماء في الصحف السعودية القديمة (1343هـ – 1383هـ)، جمع وترتيب: أحمد الجماز وعبد العزيز الطويل، دار أطلس الخضراء، الرياض، ط1، 1431هـ، (3/374)

Posted on Leave a comment

وحي القبور | الأديب: مصطفى صادق الرافعي

  وحي القبور

ذهبتُ في صبُح يوم … أحملُ نفسي بنفسي إلى المقبَرَة ، وقد مات لي من الخواطر مَوْتَى لا مَيِّتٌ واحد؛ فكنت أمشي وفيَّ جنازةٌ بمُشَيِّعيها؛ من فكر يَحملُ فكراً، وخاطر يتبع خاطراً، ومعنىً يَبكِي، ومعنىً يُبكَي عليه.

وكذلك دأبي كلما انحدرتُ في هذه الطريق إلى غير ذلك المكان، الذي تأتيه العيون بدموعها، وتمشي إليه النفوس بأحزانها، وتجيء فيه القلوب إلى بقايا.

تلك المقابر التي لا يُنَادَى أهلُها من أهليهم بالأسماء ولا بالألقاب، ولكن بهذا النداء: يا أحبابنا، يا أحزانَنَا !

ذهبتُ أزورُ أمواتي الأعزاء، وأتصل منهم بأطراف نفسي؛ لأحيا معهم في الموت ساعةً ، أعرض فيها أمرَ الدنيا على أمر الآخرة، فأنسى وأذكر، ثم أنظرُ وأعتبر، ثم أتعرَّف وأتوسَّم [أستطلع]، ثم أستبطِنُ مما في بطن الأرض، وأستَظهِرُ مما على ظهرها.

وجلست هناك أُشْرِفُ من دهرٍ على دهر، ومن دنيا على دنيا، وأخرجت الذاكرةُ أفراحها القديمة؛ لتجعلَها مادةً جديدة لأحزانها، وانفتح لي الزمن الماضي، فرأيت رجعة الأمس، وكأن دهراً كاملاً خُلق بحوادثه وأيامه، ورُفع لعينيَّ كما ترفع الصورة المعلقة في إطارها.

أعرف أنهم ماتوا، ولكني لم أشعر قطُّ إلا أنهم غابوا، والحبيبُ الغائبُ لا يتغيَّرُ عليه الزمان ولا المكان في القلب الذي يحبه، مهما تَراخَتْ به الأيام [امتدت]؛ وهذه هي بقية الروح إذا امتزجت بالحب في روح أخرى: تترك فيها ما لا يُمحَى؛ لأنها هي خالدة لا تُمحى.

ذهب الأموات ذهابهم، ولم يقيموا في الدنيا، ومعنى ذلك أنهم مرُّوا بالدنيا ليس غيرُ، فهذه هي الحياة حين تعبِّر عنها النفس بلسانها لا بلسان حاجتها وحرصها.

الحياة مدةُ عمل، وكأن هذه الدنيا بكل ما فيها من المتناقضات، إن هي إلا مَصْنَعٌ يُسَوَّغُ كل إنسان جانباً منه، ثم يقال له: هذه الأداة فاصنع ما شئت: فضيلتَك أو رذيلتَك.

جلست في المقبرة، وأطرقت أُفكر في هذا الموت، يا عجباً للناس ! كيف لا يستشعرونه وهو يهدم من كل حي أجزاءً تحيط به قبل أن يهدمه هو بجملته، وما زال كل بنيان من الناس به كالحائط الـمُـسَلَّطِ عليه خرابه، يتأكَّلُ من هنا، ويتناثر من هناك؟!

يا عجباً للناس عجباً لا ينتهي! كيف يجعلون الحياة مدة نزاع وهي مدة عمل؟ وكيف لا تبرح تنزو النَّوازِي بهم في الخلاف والباطل، وهم كلما تَدَافَعوا بينهم قضيةً من النزاع، فضربوا خصماً بخصم، وردُّوا كيداً بكيد، جاء حكم الموت تكذيباً قاطعاً لكل من يقول لشيء: هذا لي؟

أما والله إنه ليس أعجب في السخرية بهذه الدنيا من أن يعطي الناس ما يملكونه فيها لإثبات أن أحداً منهم لا يملك منها شيئاً ؛ إذ يأتي الآتي إليها لحماً وعظماً، ولا يرجع عنها الراجع إلا لحماً وعظماً، وبينهما سفاهة العظم واللحم حتى على السِّكـِّين القاطعة.

تأتي الأيام وهي في الحقيقة تفرُّ فرارها؛ فمن جاء من عمره عشرون سنةً فإنما مضت هذه العشرون من عمره، ولقد كان ينبغي أن تُصحَّح أعمال الحياة في الناس على هذه الأصل البيِّن، لولا الطباع المدخولة، والنفوس الغافلة، والعقول الضعيفة، والشهوات العارمة؛ فإنه مادام العمر مقبلاً مدبراً في اعتبار واحد، فليس للإنسان أن يتناول من الدنيا إلا ما يرضيه محسوباً له ومحسوباً عليه في وقت معاً، وتكونُ الحياة في حقيقتها ليست شيئاً، إلَّا أن يكونَ الضميرُ الإنسانيُّ هو الحيَّ في الحيِّ.

وما هي هذه القبور؟ لقد رجعتْ عند أكثر الناس مع الْمَوتى أبنية ميتة؛ فما قطُّ رأوها موجودةً إلا لينسَوا أنها موجودة، ولولا ذلك من أمرهم لكان للقبر معناه الحي المتغلغل في الحياة إلى بعيد؛ فما القبر إلا بناء قائم لفكرة النهاية والانقطاع، وهو في الطَّرَف الآخر ردٌّ على البيت الذي هو بناء قائم لفكرة البدء والاستمرار، وبين الطَّرفين الـمَعْبَد، وهو بناء لفكرة الضمير، الذي يحيا في البيت وفي القبر، فهو على الحياة والموت كالقاضي بين خصمين يصلح بينهما صُلحاً أو يَقضى.

القبر كلمة الصدق مبنيةً متجسِّمةً، فكل ما حولها يَتَكَذَّب ويتأوَّل، وليس فيها هي إلا معناها لا يَدْخُلُه كذبٌ، ولا يعتريه تأويل، وإذا ماتت في الأحياء كلمة الموت من غرور، أو باطل، أو غفلة، أو أثرة، بقي القبر مذَكِّراً بالكلمة، شارحاً لها بأظهر معانيها، وداعياً إلى الاعتبار بمدلولها، مبيِّناً بما ينطوي عليه أن الأمر كله للنهاية.

القبر كلمة الأرض لمن ينخدع فيرى العمرَ الماضيَ كأنه غير ماض، فيعمل في إفراغ حياته من الحياة بما يملؤها من رذائله وخسائسه؛ فلا يزال دائباً في معاني الأرض واستجماعها والاستمتاع بها، يتلو في ذلك تِلْوَ الحيوان ويقْتَاسُ به، فشريعته جَوْفُه وأعضاؤه، وترجع في ذلك حيوانيتُه مع نفسه الروحانية، كالحمار مع الذي يملكه ويعلفه، ولو سُئل الحمار عن صاحبه من هو؟ لقال: هو حِماري.

القبر على الأرض كلمةٌ مكتوبةٌ في الأرض إلى آخر الدنيا، معناها أن الإنسان حيٌّ في قانون نهايته ؛ فلينظرْ كيف ينتهي.

إذا كان الأمر كله للنهاية، وكان الاعتبارُ بها والجزاء عليها، فالحياةُ هي الحياةُ على طريقة السلامة لا غيرها، طريقةِ إكراه الحيوان الإنسانيِّ على ممارسة الأخلاقية الاجتماعية، وجعلِها أصلاً في طباعه، ووزن أعماله بنتائجها التي تنتهي بها؛ إذ كانت روحانيتُه في النهايات لا في بداياتها.

في الحياة الدنيا يكون الإنسان ذاتاً تعملُ أعمالَها؛ فإذا انتهت الحياة انقلبت أعمالُ الإنسان ذاتاً يُخَلَّد هو فيها؛ فهو من الخير خالدٌ في الخير، ومن الشر هو خالدٌ في الشر؛ فكأن الموتَ إنْ هو إلا ميلادٌ للروح من أعمالها؛ تولد مرتين: آتيةً وراجعة.

وإذا كان الأمرُ للنهاية فقد وجب أن تبطل من الحياة نهاياتٌ كثيرة؛ فلا يترك الشرُّ يمضي إلى نهايته بل يُحسَم في بدئه، ويُقتل في أول أنفاسه، وكذلك الشأنُ في كل ما لا يَحسنُ أن يبدأ، فإنه لا يجوز أن يمتدَّ: كالعداوة والبغضاء، والبخل والأثرة، والكبرياء والغرور، والخداع والكذب، وما شابه هذه أو شابَهَهَا؛ فإنها كلَّها انبعاثٌ من الوجود الحيواني، وانفجارٌ من طبيعته؛ ويجب أن يكون لكل منها في الإرادة قبرٌ كَيْ تَسْلَم للنفس الطيبة إنسانيتها إلى النهاية.

يا مَن لهم في القبور أموات !

إن رؤيةَ القبر زيادة ٌفي الشعور بقيمة الحياة، فيجب أن يكونَ معنى القبر من معاني السلام العقليِّ في هذه الدنيا.

القبر فمٌ ينادي: أسرعوا أسرعوا، فهي مدة لو صُرِفت كلها في الخير ما وَفَتْ به؛ فكيف يضيع منها ضياع في الشر أو الإثم؟

لو ولد الإنسان، ومشى، وأيفع، وشبَّ، واكتهل، وهرم في يوم واحد فما عساه كان يُضيِّع من هذا اليوم الواحد؟ إن أطولَ الأعمار لا يراه صاحبه في ساعة موته إلا أقصرَ من يوم.

ينادي القبر: أصلحوا عيوبكم، وعليكم وقتٌ لإصلاحها؛ فإنها إن جاءت إلى هنا كما هي، بقيت كما هي إلى الأبد، وتركها الوقتُ وهرب.

هنا قبر، وهناك قبر، وهنالك القبرُ أيضاً؛ فليس ينظر في هذا عاقلٌ إلا كان نظره كأنه حُكْمُ محكمةٍ على هذه الحياة كيف تنبغي، وكيف تكون؟

في القبر معنى إلغاء الزمان، فمن يفهم هذا استطاع أن ينتصر على أيامه ، وأن يسقط منها أوقات الشر والإثم، وأن يميت في نفسه خواطر السوء؛ فمن معاني القبر ينشأ للإرادة عقلها القويُّ الثابت، وكل الأيام المكروهة لا تجد لها مكاناً في هذا العقل، كما لا يجد الليل محلًّا في ساعات الشمس.

ثلاثةُ أرواح لا تَصلُح روحُ الإنسان في الأرض إلا بها: روح الطبيعة في جمالها، وروحُ المعبد في طهارته، وروحُ القبر في موعظته.

المصدر: وحي القلم- مصطفى صادق الرافعي- راجعه واعتنى به الدكتور درويش الجويدي –  المكتبة العصرية- بيروت  (2/132).