Posted on Leave a comment

رسالة الإمام والخطيب (3)

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه

الرسالة الأولي

الرسالة الثانية

د ـ خطاب الامام:

إذا كان الإمام إنما جعل ليؤتم به في صلاته، فإنه النبراس لأهل المسجد في شؤون حياتهم؛ فهم بهداه يقتدون. من ذلك أن يجتهد في تعليم الناس أمور دينهم وتحفيظهم ما شاء الله من كتاب ربهم، كل ذلك عبر برنامج منتظم حتى تأتيَ شجرته أكلها، “و أحب الأعمال الى الله أدومها وإن قل”  كما في الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم.

 ولا يفوت الامام أن يعظ اخوانه أيضا من حين لآخر برقائق تصقل القلوب، فعن ابن مسعود رضي الله عنه انه قال:” كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتخوّلنا بها) لموعظة( مخافة السآمة علينا “متفق عليه. فمن خلال حفظ الوحي والاتعاظ به والتفقه فيه يتم بناء شخصية المؤمن.

إن أهم محطة لتذكير الناس بالله وبواجبات دينهم هي خطبة الجمعة، وقد جعل الشارع الحكيم حضورها فرضا، واعتبر الانشغال أثناءها لغوا، فمنبر الجمعة يتبوأ من بين كل المنابر أرقى مقام، وخطبتها فرض دون غيرها والاستماع إليها لازم دون سواها.

قد يكون الإمام خطيب مسجد حيّه وقد يُعَيّن للخطبة غيرُه، ولا بأس في هذا إذا كان الإمام والخطيب على قلب رجل واحد؛ حتى لا ينقض هذا بدرسه ما أبرمه الآخر بخطبته لئلا يكونا {كالتي نقضت غزلها من بعد قوة انكاثا} (النحل 92) فيضيع أهل المسجد بينهما.

  نذكر بالمناسبة أمورا تعين الخطيب على أداء مهمته تتعلق أكثر بصلب موضوع الخطبة ومراعاة حال الحضور من المؤمنين دون التركيز على الفقه الشرعي للخطبة أو فن الخطابة والأداء ـ مما لا يقل شأنا ـ وكلاهما مبثوث في أدبيات يجمل بالخطيب الرجوع إليها في مظانّها.

ت ـ معالم للخطيب:

1ـ على الخطيب ـ قبل كل فعل ـ أن يتوجه الى الله بقلبه ليُعينَه ولا يكلَه الى نفسه، وعليه أن يجتهد ليخلص القول له وحده. فليست له ضمانة لقبول خطبته، بل عليه أن يفرح إذا وجد من يحمل عنه هذا الثقل لينجوَ أولا بنفسه، والمعين على هذا أن يستشعر ثقل المسؤولية الملقاة على عاتقه، فهو على منبره ينوب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في جزء من أمته، فأنّى له الى الاحسان إليهم إذا لم يتولّه الله بعونه ونصره.

2ـ إن مما يبارك خطبة الخطيب ويُبقي أثرها في قلب سامعها عدم التكلف فيها، وهو فرع عن الاخلاص، فمن يدعوا الى الله لا يدعوا الى نفسه، والتشدق بالكلام والتكلف في اختيار وتنميق الكلمات ليس من دأب السلف الصالح الذين هم أحكم وأعلم وأسلم، وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يقول: {وما أنا من المتكلفين} (ص 86).

 لا شك أن الفصاحة في الخطاب مطلب شرعي، واختيار أجمل العبارات غرض مَرعيّ ومَرضيّ؛ لكن هذا يكون سجية بعد تعلّم، وشرط الإتيان به فهم المخاطَب له. أَما أَن يخاطَب الإمام الناسَ من برج عال بكلمات لا تعيها آذانهم ولا تفقهها قلوبهم، فالخطاب يصير فتنة للسامع بل على الخطيب نفسه.

3 ـ من السم القاتل أن يتعالى الخطيب على الناس؛ إن بقوله أو بشعوره وقلبه، فالأمور بالعواقب ـ ختم الله لنا بالحسنى ـ فعلى الخطيب أن يُنزل نفسه خادما لعباد الله بخطبه وفي هذا رفعتُه، ومن أدراه إن قُبلت منه خطبته أم ردّت عليه؟  ورُبّ متعلِّم خيرٌ من معلِّمه! {والعاقبة للتقوى} (طه 132) وليست للأفصح بل للأتقى {هو أعلم بمن اتقى} (النجم 32). إن هذه الخطرات لها في التأثير في الناس بركات، وليس هذا من الهوس في شيء.

4 ـ من مراعاة أحوال الناس التحدث الى الناس بلغتهم؛ فمن العبث التحدث في كل الخطبة بالعربية وحدها في بلد أوروبي المسجد فيه غاص بفئات لا تفقه قول الخطيب في شئ، ودون أن تترجم لهم خطبته ليستفاد من علمه. فلا بد من الانتباه الى هذا، فإن استطاع الخطيب أن يخاطب الناس باللغتين فأكرم به وأنعم! لأنه قد لا يتأتى لفئة من الحاضرين الفهمُ بغير العربية، ثم إن منهم المتعلم والاميّ والكبير والصغير. رزقنا الله الحكمة وفصل الخطاب.

5 ـ ليس للخطيب أن يطيل الكلام إطالة مملة حتى لا يُنسيَ آخرُ كلامه أولَه، وقد ورد في هذا حديث عن عمّار مرفوعا: “إن طول صلاة الرجل، وقصر خطبته مَئنّة من فقهه، فأطيلوا الصلاة. وأقصروا الخطبة “رواه مسلم.  ولكن لا يعني هذا الاخلال بالمعنى. فان التبيين أساس الخطبة، والناس ذوو مستويات متباينة مما يضطر الامام الى تفصيل في أمر لئلا يُحمل على غير وجهه، أضف الى هذا ضرورة الترجمة ـ في ديار الغرب خصوصا ـ مما يطيل ضرورةً وقتَ الخطبة. فهذا مما لا بد منه، وإنما المحظور التفصيل الممل الممكن تفاديه.

بعد الحديث عن مراعاة الاخلاص لله وأحوال الناس تجدر الاشارة الى ما يتعلق بموضوع الخطبة من حيث الاستدلال وحسن الاخيار.

6 ـ لا بد أن يعتمد الخطيب في خطبته أساسا كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وآله وسلم إذ عليهما مدار الامر، ولا بد من اعتماد ما صح من الآثار حتى لا يشوش على أحد من السامعين، ولنا في ما صحَّ سعة في كل باب من أبواب الخير. فإن اضطر الخطيب إلى ذكر حديث ضعيف للحثّ على فضيلة من الاعمال، فإن له ذلك بضابط الرواية دون أن يصير دأبه، ويجمُل به أن ينتقي من أطايب الكلام مما أُثر عن اللآل والصحب وأهل التقى ذوي السبق.

7 ـ مما يساهم في نجاح الخطيب في مهمته تنويع الحديث؛ ولكل مقام مقال، فقد يتحدث ي ما هو تعبدي وما هو أسري واجتماعي إلى غير ذلك مما تقتضيه مصالح المسلمين، كل ذلك في إطار التذكير بالله واليوم الاخر وبفضل القرآن والتعلق بجناب رسول الله صلى الله عليه وآله سلم، مع الوقوف مع أحداث ايام الله، خصوصا عندما تحلّ ذكرى من ذكرياتها كحادث الاسراء والمعراج، أو يبلغ زمان مبارك كأشهر الحج ورمضان، ولا يفوت الواعظ أن يوازن بين الترغيب والترهيب، وله في قصص القرآن وسيرة الصالحين مجال فسيح  بما فيه من عبر لأولي الالباب من المؤمنين.

8 ـ من المواضيع ما له صبغة دينية ومنها ما يتعلق بأحداث اعتادها العباد في البلاد من ذكريات وطنية وأحداث سياسية بل وعادات دينية تتعلق أحيانا بغير المسلمين أيضا. فقد يلزم الخطيب تسليط الضوء عليها حتى يعرف الناس حكم الشرع فيها فينضبطوا بهديه وحكمته. فتحقيق التفاعل السلمي مع المجتمع والدولة من بين مقاصد خطبة الجمعة، وهذا مما يدفع بالخطيب إلى الإنفتاح على شتى المعارف وتقوية رصيده فيها.

9 ـ مما يجمل بالخطيب الوقوف عنده بل يتحتم عليه أحيانا ما يقع من احداث في حيّه من خير أو شر، فليغتنم حضور الناس وإنصاتهم لوعظهم بتخويف ليرعَووا عن الشر وبترغيب ليمضوا في طريق الخير، من هذا ما يتعلق بالإصلاح بين الناس وبين الجيران أو بين أفراد العائلات لوصل رحم أو لمّ شمل.

10ـ لا بد للخطيب من الاستيثاق والتثبت من الوقائع والاحداث، فقد يقع أن يخطب في الناس بما لم يصح أصلا فيصير بذلك فتنة عليهم. وليس كل موضوع جدير أن يناقش في خطبة الجمعة، ولا يليق بالخطيب أن يجعل من الحَبّة قبة. فإن رأى أن من الحكمة التحدث في واقعة ألمّت بأهل المسجد أو بأهل البلد فليسدد القول ولا يجرح بل يوضّح وينصح حتى لا يؤتى غيره من قبله، ولنا أن نذكّر بأن مساجد سُدّت في مثل هذا لعدم فقه الخطيب للمآلات.

11- لا يليق بالخطيب أن يتحيّن من منبره فرصا للردود على من يخالف، فإنها ستتوالى عليه فيردى. ولم تجعل المنابر للانتصار للنفس وإن بلباس الدين، فالآراء قد تتباين ولكن لا نريد ذلك لقلوب المؤمنين.

12 ـ من أهم عوامل نجاح الخطيب وَحدة موضوع خطبته. فلطالما تحدَّث خطيب في كل شئ وما فُقه عنه شئ، أو خاطب الناس بما لا يوافق أحوالهم، فعليه أن يختار مسألة وينظر فيها وفي أهم ما يناسب الناس منها حتى يخرج الناس من جمعتهم بفائدة في دينهم أو دنياهم دون شتات في البال.

13ـ ليكن الخطيب إيجابيا في خطابه، غير مثَبّط ولا مقنِّط، فلا يعتمد جلد الذات والرجوع باللوم دوما على الامة في احوالها، بل يُذكِّر بسنة الله المتعلقة بالتولي والخذلان مع استنهاض الهمم ونفخ روح الرجاء والثقة في الله واليقين في النصر وإمكان التغيير مع إيراد أمثلة لنماذج ناجحة، حتى يكون بنّاءً لا هدّاما من حيث لا يشعر.

14 ـ وفي الختام نوصي الخطيب أن يعطي الخطبة حقها من التهييئ، ولا يُعوّل على حسن نيته أو على رضا الناس بخطابه، فالله أحق أن يُرضى.” والامام راع وهو مسؤول عن رعيته” كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه البخاري. ويعين على هذا حسن نظرة الخطيب الى عمّار بيت الله وأنهم أجدر بالاحترام لِما أخذوا من وقتهم لعبادة ربهم، فليجتهد في تحسين خطابه لما ينفعهم حقا في أنفسهم وآخرتهم.

بعد كل هذا تجدر الاشارة إلى أننا ضربنا صفحا عن ما يتعلق بعلاقة الامام والخطيب بلجنة المسجد ومسؤولية وحدود مهمات كل واحد. فلهذا الشأن مجال آخر يستشار فيه أهله ممن خبروا الميدان.

نسأل الله السداد في القول والعمل

أخوكم عبد الجليل حمداوي

Posted on Leave a comment

لمن أكتب؟ | العلّامة: محمود شاكر

لمن أكتب؟

محمود بن محمد شاكر (ت:1418هـ)

نُشر عام 1367هـ الموافق 1948م

بيني وبينها أيام معتقة كأنها خمر في دنان الزمان، فإذا ما قدَّر الله لنا أن نجتمع يوماً، طارت بلبي نشوة ترمي بي إلى عالم ساكن ناضر ناعم النسمات، فأفارق بها عالمـًا صاخبًا محترقًا، لافح الرياح، عاصف الأعاصير. واجتماعنا هو إحدى الأماني التي يقول في مثلها الشاعر:

أماني من سُعدَى رِواءٌ، كأنما              سَقَتْك بها سُعدَى على ظمأ بردا

وإذا اجتمعنا وتنهدت بيننا الأحاديث، فربما فاجأتني بالسؤال لا أتوقعه، فيردني سؤالها إلى نفسي ردًّا عنيفًا لا أملك معه إلا أن أديم طرفي إلى هذا الوجه الذي يُخفي وراءه نفسًا ثائرة، ولكنها ساكنة على ثورتها سكون الجبال الراسيات، ولست أدري أتلك إحدى لطائف الحيل التي تحب أن توقظني بها من غفوة الأحلام، أم تلك يقظة دائمة في نفس لا تطيق إلا أن تكون متيقظة حين يدعوها الهوى إلى إغفاءة تريحها من ثورة نفسها واضطرابها؟ وأي ذلك كان، فهي قد أخذتني أخذاً شديداً حين استوت في جلستها وقالت: حدثني، لمن تكتب هذا الذي تكتبه؟ إنهم جميعًا نيام يغطُّون، فلو قذفتهم بالشهب أو الصواعق لناموا على وقعها أو إحراقها.

فلما أفقت على سؤالها، جعلت أردده في نفسي، وأنا أملأ عيني من صفاء هذه الينابيع التي تترقرق في وجهها وفي عينيها، وأخيراً قلت لها: لن أجيبك إلا حيث تقرأين كلامي، ودعينا لما بنا، فإن لقاءنا ساعةٌ فرَّت إلينا من هذا الفراق السرمدي.

لمن أكتب؟ لم أحاول قط أن أعرف لمن أكتب؟ ولِمَ أكتب؟ ولكني أحسُّ الآن من سرِّ قلبي أني إنما كنت أكتب، ولا أزال أكتب لإنسان من الناس لا أدري من هو، ولا أين هو: أهو حيٌّ فيسمعني، أم جنين لم يولد بعدُ سوف يقدر له أن يقرأني؟ ولست على يقين من شيء إلا أن الذي أدعو إليه سوف يتحقق يومًا على يد من يحسن توجيه هذه الأمم العربية والإسلامية إلى الغاية التي خلقت لها، وهي إنشاء حضارة جديدة في هذا العالم، تطمس هذه الحضارة التي فارت بالأحقاد والأضغان والمظالم، ولم يتورع أهلها عن الجور والبغي في كل شيء، حتى في أنبل الأشياء، وهو العلم.

لم يخامر قلبي يأس قط من هذه الفترة التي نعيش فيها من زمننا، ولم يداخلني الشك في حقيقة هذه الشعوب، وإن كانت لا تزال تعيش في بلبلة جياشة بأخلاط من الغرور والخداع والعبث، وفي أكفان من الفقر والجهل والمخافة، وفي كهوف من الظلم والاستبداد وقلة الرحمة، كل ذلك شيء أراه وأعرفه، ولكني أستشفُّ تحت ذلك كله نقاء وطهرًا وقوة تدب في أوصال هذه العالم الذي أوجِّه إليه كلامي، وهو خليق أن يتجمع للوثبة في الساعة التي كُتب له فيها أن يهبَّ مرة واحدة تذهل الناس كما أذهلتهم من قبل، وهو خليق أن يكون سرَّ الحياة الجديدة التي تضرب عروقها إلى عصور بعيدة في تاريخ البشر. ولعل هذه المحن التي أحاطت به من خارج، والتي استبطنته من داخل، هي حوافز البعث الجديد، وهي نار التمحيص التي تنفي خبثه كما ينفي الكير خبث الحديد.

أنا أعلم أن رجال السياسة عندنا لا يزالون أوزاعًا من خلق الله لا ندري كيف نشؤوا، وعلى أي شيء قامت شهرتهم، ولا إلى أين تمضي أهدافهم؟ وهم فوق ذلك كله قد لوثوا ضمائرهم وعقولهم وأخلاقهم وعزائمهم بأشياء لا يمكن أن تؤدي إلى خير، وهم قد أشربوا فتنة بأخلاق الساسة الطغاة الذين ابتُلي بهم الغرب، وامتُحنت بهم الحضارة الغربية. ولست أشك ساعة في أنهم لا خير فيها البتة، مهما دلَّ ظاهر تدليسهم أو تدليس الصحافة بأسمائهم على أنهم يفعلون خيرًا، أو أنهم سوف ينتهون إلى خير، ولست أرتاب البتة في أن الخير كل الخير هو في زوالهم جملة واحدة من مكانهم، لكي يتسنى لهذه الشعوب العربية والإسلامية أن تهتدي إلى الحق في حياتها وفي جهادها وفي أهدافها.

وأنا أعلم أن رجال العلم من أي أقسامه كانوا، لا يزالون يتعبدون أنفسهم لكثير مما لا نفع فيه لأممهم، بل لعلهم لا يزالون يترفعون عن هذه الشعوب الفقيرة الجاهلة، والتي هي شعوبهم، ظنًّا منهم أنها شعوب لا تستطيع أن تبلغ ما بلغ الناس في العلم، فضلًا عن أن يدركوا سوابق العلماء في هذه الفترة من زماننا، فضلًا عن أن يسبقوا أمم الحضارة الحاضرة في ميدان هذه العلوم. وهم في خلال ذلك – إلا من عصم الله – يبسطون ألسنتهم بسطًا شديدًا في أعراض هذه الشعوب، فيقرفونها بكل مسبة، ثم يصرفون وجوههم إلى أوربة وأمريكا وغيرهما كأنما هم منها ومن صميمها، لا من هذه الشعوب البائسة التي ظنوا أن الموت كتاب محتوم عليها.

وأنا أعلم أن أكثر أهل السلطان في هذا الشرق، لا يزالون يعيشون في عزلة لا يبالون قليلًا ولا كثيرًا بما فيه خير بلادهم، وأنهم يحتقرون جماهير الشعوب احتقارًا ينسرب في خاص كلامهم كما ينسرب في أكثر أفعالهم. وهم فئة قليلة فتنتها النعمة والترف واللذاذات، حتى ما تبالي أن تصبَّ على أممها ضروبًا من المظالم كان ينبغي أن تترفع عن ارتكابها، لا رحمة بالناس، بل مخافة من الناس، فالشعوب إذا هاجها ما يهجيها لم تبق على شيء وإن كان في بقائه خيرها.

وأنا أعلم أن أهل الدين – إلا من رحم ربك – قد رموا بدينهم ظهريًّا، وإن لبسوا لباسه، وتشبهوا على الناس وغرُّوهم باسم هذا الدين. وهم يأكلون باسم الدين نارًا حامية، وهم قد فقدوا بفقد آداب هذا الدين كل شيء يجعل لهم عند الناس مكانة ترفعهم عن الشبهات، وبذلك أصبحوا كالعامة التي تحتاج إلى من يقودها ويهديها.

وقصارى ما يقال هو أن الحياة في هذا الشرق على اختلاف نحله ومذاهبه وأديانه وأحزابه، قد صار كأهل سفينة جنَّ أكثر من فيها، وكلهم يريد أن يقود السفينة كما خيَّلت له طوائف وساوسه وأوهامه، مستبدًّا بما يرى من الرأي، ولكني مع ذلك لن أيأس ساعة من أهل الخير، لن أيأس من رجل أو رجال توقظهم هذه البلوى المحيطة بالجماعة، فيدفعها حبُّ الحياة وحبُّ الخير إلى نفض غبار القرون عن أنفسهم، ثم تنشط من عقالها إلى قيادة هذه الناس بقوة تنفث في هؤلاء جميعًا روحًا مسددة هادية تبرئهم مما أصابهم، وتستنقذ منهم من يصلح للبقاء والعمل في جيل جديد، له هدف معين، وله طريق لا يفارقه، وله همة جياشة تجعله يطوي المسافات المترامية طيًّا حتى يصل إلى غايته، لم يلحقه كلل ولا سآمة ولا إعياء.

فأنا أكتب لرجل أو رجال سوف يخرجون من غمار هذا الخلق، قد امتلأت قلوبهم بالقوة التي تنفجر من قلوبهم كالسيل الجارف، تطوح بما لا خير فيه، وتروى أرضاً صالحة تنبت نباتًا طيبًا.

ومهما كان من أمر تلك الطوائف التي ذكرتها، ومهما كان رأيها في هذه الشعوب التي تنتمي إليها، ومهما عدت شعوبها سائمة ترعى أيامًا معدودة حتى تتخطفها أرماح الأجل، فمن هذه (السائمة) سوف ينفرد رجل يقود الشعوب بحقها؛ لأنه منها: يشعر بما كانت تشعر به، ويألم لما كانت تألم له، وينبض قلبه بالأماني التي كانت تنبض في قلوبها. وهو وحده الذي يعرف كيف يرفع عن عيونها حجاب الجهل، ويطرح عن كواهلها قواصم الفقر، ويملأ قلوبها بما امتلأ به قلبه من حب هذه الأرض التي تعيش فيها مضطهدة ذليلة خائفة.

إنه الرجل الذي قد خُلطت طينته التي خلق منها بالحرية، فأبت كل ذرة في بدنه أن تكون عبدًا لأحد ممن خلق الله على هذه الأرض، فهو يشرق من جميع نواحيه على أجيال الناس كلها كما تشرق الشمس، ترمي بأشعتها هنا وهنا، ولا يملك الناس إلا أن ينصبوا لها وجوههم وأبدانهم؛ ليذهب عنهم هذا البرد الشديد الذي شلَّهم وأمسك أوصالهم عن الحركة. وهو يسير بينهم فتسري نفسه في نفوسهم، فتموج الحياة فيهم بأمواجها التي لا يقف دونها شيء مهما بلغت قوته أو جبروته.

ألا إن الشرق العربي لينتظر صابرًا كعادته هذا الرجل، وإني لأحس أن كل شرقي قد أصبح اليوم يتلفت لا من حيرة وضلال، بل توقعًا لشيء سوف يأتي قد أنَى [حان ودنا] زمانه، ففي كل نفس منه خاطرة تختلج. وهذا الإحساس فينا هو الذي يحملني على الإيمان بأن ذلك كائن عن قريب، وأننا قد أشرفنا على زمن قد كتب الله علينا فيه أن نجاهد في سبيله، ثم في سبيل الحق والحرية والعدل؛ لأننا نحن أبناء الحق والحرية والعدل، قد ارتضعنا لبانها منذ الأزل البعيد. وكل ما دخل علينا في القرون الماضية من المظالم والأكاذيب والاستبداد، لم يستطع أن يخفت ذلك الصوت الذي تتجاوب به نفوسنا باسم الحق والحرية والعدل.

إن هذه الشعوب التي تُرى اليوم كأنها على بلادها أسمال بالية ممزقة، قد بدأت تحسُّ أن عليها أن تتجدد أو أن تزول، وطبيعة الحياة تأبى لها أن تزول، فهي لابد أن تتجدد . وهذا الدافع وحده سوف يمهد للرجل المنتظر أن يزأر زئيره فتصغى له آذان الملايين من أبناء الشرق، ثم تنطلق من مجاثهما إليه مجيبة لندائه، فإذا انطلقت إليه أرسالًا [جماعات واحدة بعد الأخرى]، فيومئذ لن يقف في طريقها أولئك الساسة المنافقون، ولا أولئك العلماء المتبجحون، ولا أولئك الديَّانون المخادعون، بل سوف يصيرون تبعًا، وقد طال ما خيلت لهم نفوسهم أنهم الرؤوس والسادة.

فأنا إن كتبت، فإنما أكتب لأتعجل قيام هذا الرجل من غمار الناس، لينقذنا من قبور جثمت علينا صفائحها [حجارة عراض توضع فوق القبور] منذ أمد طويل. وليس بيننا وبين هذا البعث إلا القليل، ثم نسمع صرخة الحياة الحرة العادلة يستهل بها كل مولود على هذه الأرض الكريمة التي ورثناها بحقها، ليس لنا في فِتر [مسافة ما بين السبابة والإبهام] منها شريك.

المصدر: كتاب (جمهرة مقالات الأستاذ محمود محمد شاكر، مكتبة الخانجي بالقاهرة، ط1، 2003م، (1/555)