Posted on Leave a comment

رسالة الإمام والخطيب (3)

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه

الرسالة الأولي

الرسالة الثانية

د ـ خطاب الامام:

إذا كان الإمام إنما جعل ليؤتم به في صلاته، فإنه النبراس لأهل المسجد في شؤون حياتهم؛ فهم بهداه يقتدون. من ذلك أن يجتهد في تعليم الناس أمور دينهم وتحفيظهم ما شاء الله من كتاب ربهم، كل ذلك عبر برنامج منتظم حتى تأتيَ شجرته أكلها، “و أحب الأعمال الى الله أدومها وإن قل”  كما في الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم.

 ولا يفوت الامام أن يعظ اخوانه أيضا من حين لآخر برقائق تصقل القلوب، فعن ابن مسعود رضي الله عنه انه قال:” كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتخوّلنا بها) لموعظة( مخافة السآمة علينا “متفق عليه. فمن خلال حفظ الوحي والاتعاظ به والتفقه فيه يتم بناء شخصية المؤمن.

إن أهم محطة لتذكير الناس بالله وبواجبات دينهم هي خطبة الجمعة، وقد جعل الشارع الحكيم حضورها فرضا، واعتبر الانشغال أثناءها لغوا، فمنبر الجمعة يتبوأ من بين كل المنابر أرقى مقام، وخطبتها فرض دون غيرها والاستماع إليها لازم دون سواها.

قد يكون الإمام خطيب مسجد حيّه وقد يُعَيّن للخطبة غيرُه، ولا بأس في هذا إذا كان الإمام والخطيب على قلب رجل واحد؛ حتى لا ينقض هذا بدرسه ما أبرمه الآخر بخطبته لئلا يكونا {كالتي نقضت غزلها من بعد قوة انكاثا} (النحل 92) فيضيع أهل المسجد بينهما.

  نذكر بالمناسبة أمورا تعين الخطيب على أداء مهمته تتعلق أكثر بصلب موضوع الخطبة ومراعاة حال الحضور من المؤمنين دون التركيز على الفقه الشرعي للخطبة أو فن الخطابة والأداء ـ مما لا يقل شأنا ـ وكلاهما مبثوث في أدبيات يجمل بالخطيب الرجوع إليها في مظانّها.

ت ـ معالم للخطيب:

1ـ على الخطيب ـ قبل كل فعل ـ أن يتوجه الى الله بقلبه ليُعينَه ولا يكلَه الى نفسه، وعليه أن يجتهد ليخلص القول له وحده. فليست له ضمانة لقبول خطبته، بل عليه أن يفرح إذا وجد من يحمل عنه هذا الثقل لينجوَ أولا بنفسه، والمعين على هذا أن يستشعر ثقل المسؤولية الملقاة على عاتقه، فهو على منبره ينوب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في جزء من أمته، فأنّى له الى الاحسان إليهم إذا لم يتولّه الله بعونه ونصره.

2ـ إن مما يبارك خطبة الخطيب ويُبقي أثرها في قلب سامعها عدم التكلف فيها، وهو فرع عن الاخلاص، فمن يدعوا الى الله لا يدعوا الى نفسه، والتشدق بالكلام والتكلف في اختيار وتنميق الكلمات ليس من دأب السلف الصالح الذين هم أحكم وأعلم وأسلم، وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يقول: {وما أنا من المتكلفين} (ص 86).

 لا شك أن الفصاحة في الخطاب مطلب شرعي، واختيار أجمل العبارات غرض مَرعيّ ومَرضيّ؛ لكن هذا يكون سجية بعد تعلّم، وشرط الإتيان به فهم المخاطَب له. أَما أَن يخاطَب الإمام الناسَ من برج عال بكلمات لا تعيها آذانهم ولا تفقهها قلوبهم، فالخطاب يصير فتنة للسامع بل على الخطيب نفسه.

3 ـ من السم القاتل أن يتعالى الخطيب على الناس؛ إن بقوله أو بشعوره وقلبه، فالأمور بالعواقب ـ ختم الله لنا بالحسنى ـ فعلى الخطيب أن يُنزل نفسه خادما لعباد الله بخطبه وفي هذا رفعتُه، ومن أدراه إن قُبلت منه خطبته أم ردّت عليه؟  ورُبّ متعلِّم خيرٌ من معلِّمه! {والعاقبة للتقوى} (طه 132) وليست للأفصح بل للأتقى {هو أعلم بمن اتقى} (النجم 32). إن هذه الخطرات لها في التأثير في الناس بركات، وليس هذا من الهوس في شيء.

4 ـ من مراعاة أحوال الناس التحدث الى الناس بلغتهم؛ فمن العبث التحدث في كل الخطبة بالعربية وحدها في بلد أوروبي المسجد فيه غاص بفئات لا تفقه قول الخطيب في شئ، ودون أن تترجم لهم خطبته ليستفاد من علمه. فلا بد من الانتباه الى هذا، فإن استطاع الخطيب أن يخاطب الناس باللغتين فأكرم به وأنعم! لأنه قد لا يتأتى لفئة من الحاضرين الفهمُ بغير العربية، ثم إن منهم المتعلم والاميّ والكبير والصغير. رزقنا الله الحكمة وفصل الخطاب.

5 ـ ليس للخطيب أن يطيل الكلام إطالة مملة حتى لا يُنسيَ آخرُ كلامه أولَه، وقد ورد في هذا حديث عن عمّار مرفوعا: “إن طول صلاة الرجل، وقصر خطبته مَئنّة من فقهه، فأطيلوا الصلاة. وأقصروا الخطبة “رواه مسلم.  ولكن لا يعني هذا الاخلال بالمعنى. فان التبيين أساس الخطبة، والناس ذوو مستويات متباينة مما يضطر الامام الى تفصيل في أمر لئلا يُحمل على غير وجهه، أضف الى هذا ضرورة الترجمة ـ في ديار الغرب خصوصا ـ مما يطيل ضرورةً وقتَ الخطبة. فهذا مما لا بد منه، وإنما المحظور التفصيل الممل الممكن تفاديه.

بعد الحديث عن مراعاة الاخلاص لله وأحوال الناس تجدر الاشارة الى ما يتعلق بموضوع الخطبة من حيث الاستدلال وحسن الاخيار.

6 ـ لا بد أن يعتمد الخطيب في خطبته أساسا كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وآله وسلم إذ عليهما مدار الامر، ولا بد من اعتماد ما صح من الآثار حتى لا يشوش على أحد من السامعين، ولنا في ما صحَّ سعة في كل باب من أبواب الخير. فإن اضطر الخطيب إلى ذكر حديث ضعيف للحثّ على فضيلة من الاعمال، فإن له ذلك بضابط الرواية دون أن يصير دأبه، ويجمُل به أن ينتقي من أطايب الكلام مما أُثر عن اللآل والصحب وأهل التقى ذوي السبق.

7 ـ مما يساهم في نجاح الخطيب في مهمته تنويع الحديث؛ ولكل مقام مقال، فقد يتحدث ي ما هو تعبدي وما هو أسري واجتماعي إلى غير ذلك مما تقتضيه مصالح المسلمين، كل ذلك في إطار التذكير بالله واليوم الاخر وبفضل القرآن والتعلق بجناب رسول الله صلى الله عليه وآله سلم، مع الوقوف مع أحداث ايام الله، خصوصا عندما تحلّ ذكرى من ذكرياتها كحادث الاسراء والمعراج، أو يبلغ زمان مبارك كأشهر الحج ورمضان، ولا يفوت الواعظ أن يوازن بين الترغيب والترهيب، وله في قصص القرآن وسيرة الصالحين مجال فسيح  بما فيه من عبر لأولي الالباب من المؤمنين.

8 ـ من المواضيع ما له صبغة دينية ومنها ما يتعلق بأحداث اعتادها العباد في البلاد من ذكريات وطنية وأحداث سياسية بل وعادات دينية تتعلق أحيانا بغير المسلمين أيضا. فقد يلزم الخطيب تسليط الضوء عليها حتى يعرف الناس حكم الشرع فيها فينضبطوا بهديه وحكمته. فتحقيق التفاعل السلمي مع المجتمع والدولة من بين مقاصد خطبة الجمعة، وهذا مما يدفع بالخطيب إلى الإنفتاح على شتى المعارف وتقوية رصيده فيها.

9 ـ مما يجمل بالخطيب الوقوف عنده بل يتحتم عليه أحيانا ما يقع من احداث في حيّه من خير أو شر، فليغتنم حضور الناس وإنصاتهم لوعظهم بتخويف ليرعَووا عن الشر وبترغيب ليمضوا في طريق الخير، من هذا ما يتعلق بالإصلاح بين الناس وبين الجيران أو بين أفراد العائلات لوصل رحم أو لمّ شمل.

10ـ لا بد للخطيب من الاستيثاق والتثبت من الوقائع والاحداث، فقد يقع أن يخطب في الناس بما لم يصح أصلا فيصير بذلك فتنة عليهم. وليس كل موضوع جدير أن يناقش في خطبة الجمعة، ولا يليق بالخطيب أن يجعل من الحَبّة قبة. فإن رأى أن من الحكمة التحدث في واقعة ألمّت بأهل المسجد أو بأهل البلد فليسدد القول ولا يجرح بل يوضّح وينصح حتى لا يؤتى غيره من قبله، ولنا أن نذكّر بأن مساجد سُدّت في مثل هذا لعدم فقه الخطيب للمآلات.

11- لا يليق بالخطيب أن يتحيّن من منبره فرصا للردود على من يخالف، فإنها ستتوالى عليه فيردى. ولم تجعل المنابر للانتصار للنفس وإن بلباس الدين، فالآراء قد تتباين ولكن لا نريد ذلك لقلوب المؤمنين.

12 ـ من أهم عوامل نجاح الخطيب وَحدة موضوع خطبته. فلطالما تحدَّث خطيب في كل شئ وما فُقه عنه شئ، أو خاطب الناس بما لا يوافق أحوالهم، فعليه أن يختار مسألة وينظر فيها وفي أهم ما يناسب الناس منها حتى يخرج الناس من جمعتهم بفائدة في دينهم أو دنياهم دون شتات في البال.

13ـ ليكن الخطيب إيجابيا في خطابه، غير مثَبّط ولا مقنِّط، فلا يعتمد جلد الذات والرجوع باللوم دوما على الامة في احوالها، بل يُذكِّر بسنة الله المتعلقة بالتولي والخذلان مع استنهاض الهمم ونفخ روح الرجاء والثقة في الله واليقين في النصر وإمكان التغيير مع إيراد أمثلة لنماذج ناجحة، حتى يكون بنّاءً لا هدّاما من حيث لا يشعر.

14 ـ وفي الختام نوصي الخطيب أن يعطي الخطبة حقها من التهييئ، ولا يُعوّل على حسن نيته أو على رضا الناس بخطابه، فالله أحق أن يُرضى.” والامام راع وهو مسؤول عن رعيته” كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه البخاري. ويعين على هذا حسن نظرة الخطيب الى عمّار بيت الله وأنهم أجدر بالاحترام لِما أخذوا من وقتهم لعبادة ربهم، فليجتهد في تحسين خطابه لما ينفعهم حقا في أنفسهم وآخرتهم.

بعد كل هذا تجدر الاشارة إلى أننا ضربنا صفحا عن ما يتعلق بعلاقة الامام والخطيب بلجنة المسجد ومسؤولية وحدود مهمات كل واحد. فلهذا الشأن مجال آخر يستشار فيه أهله ممن خبروا الميدان.

نسأل الله السداد في القول والعمل

أخوكم عبد الجليل حمداوي

Posted on Leave a comment

لمن أكتب؟ | العلّامة: محمود شاكر

لمن أكتب؟

محمود بن محمد شاكر (ت:1418هـ)

نُشر عام 1367هـ الموافق 1948م

بيني وبينها أيام معتقة كأنها خمر في دنان الزمان، فإذا ما قدَّر الله لنا أن نجتمع يوماً، طارت بلبي نشوة ترمي بي إلى عالم ساكن ناضر ناعم النسمات، فأفارق بها عالمـًا صاخبًا محترقًا، لافح الرياح، عاصف الأعاصير. واجتماعنا هو إحدى الأماني التي يقول في مثلها الشاعر:

أماني من سُعدَى رِواءٌ، كأنما              سَقَتْك بها سُعدَى على ظمأ بردا

وإذا اجتمعنا وتنهدت بيننا الأحاديث، فربما فاجأتني بالسؤال لا أتوقعه، فيردني سؤالها إلى نفسي ردًّا عنيفًا لا أملك معه إلا أن أديم طرفي إلى هذا الوجه الذي يُخفي وراءه نفسًا ثائرة، ولكنها ساكنة على ثورتها سكون الجبال الراسيات، ولست أدري أتلك إحدى لطائف الحيل التي تحب أن توقظني بها من غفوة الأحلام، أم تلك يقظة دائمة في نفس لا تطيق إلا أن تكون متيقظة حين يدعوها الهوى إلى إغفاءة تريحها من ثورة نفسها واضطرابها؟ وأي ذلك كان، فهي قد أخذتني أخذاً شديداً حين استوت في جلستها وقالت: حدثني، لمن تكتب هذا الذي تكتبه؟ إنهم جميعًا نيام يغطُّون، فلو قذفتهم بالشهب أو الصواعق لناموا على وقعها أو إحراقها.

فلما أفقت على سؤالها، جعلت أردده في نفسي، وأنا أملأ عيني من صفاء هذه الينابيع التي تترقرق في وجهها وفي عينيها، وأخيراً قلت لها: لن أجيبك إلا حيث تقرأين كلامي، ودعينا لما بنا، فإن لقاءنا ساعةٌ فرَّت إلينا من هذا الفراق السرمدي.

لمن أكتب؟ لم أحاول قط أن أعرف لمن أكتب؟ ولِمَ أكتب؟ ولكني أحسُّ الآن من سرِّ قلبي أني إنما كنت أكتب، ولا أزال أكتب لإنسان من الناس لا أدري من هو، ولا أين هو: أهو حيٌّ فيسمعني، أم جنين لم يولد بعدُ سوف يقدر له أن يقرأني؟ ولست على يقين من شيء إلا أن الذي أدعو إليه سوف يتحقق يومًا على يد من يحسن توجيه هذه الأمم العربية والإسلامية إلى الغاية التي خلقت لها، وهي إنشاء حضارة جديدة في هذا العالم، تطمس هذه الحضارة التي فارت بالأحقاد والأضغان والمظالم، ولم يتورع أهلها عن الجور والبغي في كل شيء، حتى في أنبل الأشياء، وهو العلم.

لم يخامر قلبي يأس قط من هذه الفترة التي نعيش فيها من زمننا، ولم يداخلني الشك في حقيقة هذه الشعوب، وإن كانت لا تزال تعيش في بلبلة جياشة بأخلاط من الغرور والخداع والعبث، وفي أكفان من الفقر والجهل والمخافة، وفي كهوف من الظلم والاستبداد وقلة الرحمة، كل ذلك شيء أراه وأعرفه، ولكني أستشفُّ تحت ذلك كله نقاء وطهرًا وقوة تدب في أوصال هذه العالم الذي أوجِّه إليه كلامي، وهو خليق أن يتجمع للوثبة في الساعة التي كُتب له فيها أن يهبَّ مرة واحدة تذهل الناس كما أذهلتهم من قبل، وهو خليق أن يكون سرَّ الحياة الجديدة التي تضرب عروقها إلى عصور بعيدة في تاريخ البشر. ولعل هذه المحن التي أحاطت به من خارج، والتي استبطنته من داخل، هي حوافز البعث الجديد، وهي نار التمحيص التي تنفي خبثه كما ينفي الكير خبث الحديد.

أنا أعلم أن رجال السياسة عندنا لا يزالون أوزاعًا من خلق الله لا ندري كيف نشؤوا، وعلى أي شيء قامت شهرتهم، ولا إلى أين تمضي أهدافهم؟ وهم فوق ذلك كله قد لوثوا ضمائرهم وعقولهم وأخلاقهم وعزائمهم بأشياء لا يمكن أن تؤدي إلى خير، وهم قد أشربوا فتنة بأخلاق الساسة الطغاة الذين ابتُلي بهم الغرب، وامتُحنت بهم الحضارة الغربية. ولست أشك ساعة في أنهم لا خير فيها البتة، مهما دلَّ ظاهر تدليسهم أو تدليس الصحافة بأسمائهم على أنهم يفعلون خيرًا، أو أنهم سوف ينتهون إلى خير، ولست أرتاب البتة في أن الخير كل الخير هو في زوالهم جملة واحدة من مكانهم، لكي يتسنى لهذه الشعوب العربية والإسلامية أن تهتدي إلى الحق في حياتها وفي جهادها وفي أهدافها.

وأنا أعلم أن رجال العلم من أي أقسامه كانوا، لا يزالون يتعبدون أنفسهم لكثير مما لا نفع فيه لأممهم، بل لعلهم لا يزالون يترفعون عن هذه الشعوب الفقيرة الجاهلة، والتي هي شعوبهم، ظنًّا منهم أنها شعوب لا تستطيع أن تبلغ ما بلغ الناس في العلم، فضلًا عن أن يدركوا سوابق العلماء في هذه الفترة من زماننا، فضلًا عن أن يسبقوا أمم الحضارة الحاضرة في ميدان هذه العلوم. وهم في خلال ذلك – إلا من عصم الله – يبسطون ألسنتهم بسطًا شديدًا في أعراض هذه الشعوب، فيقرفونها بكل مسبة، ثم يصرفون وجوههم إلى أوربة وأمريكا وغيرهما كأنما هم منها ومن صميمها، لا من هذه الشعوب البائسة التي ظنوا أن الموت كتاب محتوم عليها.

وأنا أعلم أن أكثر أهل السلطان في هذا الشرق، لا يزالون يعيشون في عزلة لا يبالون قليلًا ولا كثيرًا بما فيه خير بلادهم، وأنهم يحتقرون جماهير الشعوب احتقارًا ينسرب في خاص كلامهم كما ينسرب في أكثر أفعالهم. وهم فئة قليلة فتنتها النعمة والترف واللذاذات، حتى ما تبالي أن تصبَّ على أممها ضروبًا من المظالم كان ينبغي أن تترفع عن ارتكابها، لا رحمة بالناس، بل مخافة من الناس، فالشعوب إذا هاجها ما يهجيها لم تبق على شيء وإن كان في بقائه خيرها.

وأنا أعلم أن أهل الدين – إلا من رحم ربك – قد رموا بدينهم ظهريًّا، وإن لبسوا لباسه، وتشبهوا على الناس وغرُّوهم باسم هذا الدين. وهم يأكلون باسم الدين نارًا حامية، وهم قد فقدوا بفقد آداب هذا الدين كل شيء يجعل لهم عند الناس مكانة ترفعهم عن الشبهات، وبذلك أصبحوا كالعامة التي تحتاج إلى من يقودها ويهديها.

وقصارى ما يقال هو أن الحياة في هذا الشرق على اختلاف نحله ومذاهبه وأديانه وأحزابه، قد صار كأهل سفينة جنَّ أكثر من فيها، وكلهم يريد أن يقود السفينة كما خيَّلت له طوائف وساوسه وأوهامه، مستبدًّا بما يرى من الرأي، ولكني مع ذلك لن أيأس ساعة من أهل الخير، لن أيأس من رجل أو رجال توقظهم هذه البلوى المحيطة بالجماعة، فيدفعها حبُّ الحياة وحبُّ الخير إلى نفض غبار القرون عن أنفسهم، ثم تنشط من عقالها إلى قيادة هذه الناس بقوة تنفث في هؤلاء جميعًا روحًا مسددة هادية تبرئهم مما أصابهم، وتستنقذ منهم من يصلح للبقاء والعمل في جيل جديد، له هدف معين، وله طريق لا يفارقه، وله همة جياشة تجعله يطوي المسافات المترامية طيًّا حتى يصل إلى غايته، لم يلحقه كلل ولا سآمة ولا إعياء.

فأنا أكتب لرجل أو رجال سوف يخرجون من غمار هذا الخلق، قد امتلأت قلوبهم بالقوة التي تنفجر من قلوبهم كالسيل الجارف، تطوح بما لا خير فيه، وتروى أرضاً صالحة تنبت نباتًا طيبًا.

ومهما كان من أمر تلك الطوائف التي ذكرتها، ومهما كان رأيها في هذه الشعوب التي تنتمي إليها، ومهما عدت شعوبها سائمة ترعى أيامًا معدودة حتى تتخطفها أرماح الأجل، فمن هذه (السائمة) سوف ينفرد رجل يقود الشعوب بحقها؛ لأنه منها: يشعر بما كانت تشعر به، ويألم لما كانت تألم له، وينبض قلبه بالأماني التي كانت تنبض في قلوبها. وهو وحده الذي يعرف كيف يرفع عن عيونها حجاب الجهل، ويطرح عن كواهلها قواصم الفقر، ويملأ قلوبها بما امتلأ به قلبه من حب هذه الأرض التي تعيش فيها مضطهدة ذليلة خائفة.

إنه الرجل الذي قد خُلطت طينته التي خلق منها بالحرية، فأبت كل ذرة في بدنه أن تكون عبدًا لأحد ممن خلق الله على هذه الأرض، فهو يشرق من جميع نواحيه على أجيال الناس كلها كما تشرق الشمس، ترمي بأشعتها هنا وهنا، ولا يملك الناس إلا أن ينصبوا لها وجوههم وأبدانهم؛ ليذهب عنهم هذا البرد الشديد الذي شلَّهم وأمسك أوصالهم عن الحركة. وهو يسير بينهم فتسري نفسه في نفوسهم، فتموج الحياة فيهم بأمواجها التي لا يقف دونها شيء مهما بلغت قوته أو جبروته.

ألا إن الشرق العربي لينتظر صابرًا كعادته هذا الرجل، وإني لأحس أن كل شرقي قد أصبح اليوم يتلفت لا من حيرة وضلال، بل توقعًا لشيء سوف يأتي قد أنَى [حان ودنا] زمانه، ففي كل نفس منه خاطرة تختلج. وهذا الإحساس فينا هو الذي يحملني على الإيمان بأن ذلك كائن عن قريب، وأننا قد أشرفنا على زمن قد كتب الله علينا فيه أن نجاهد في سبيله، ثم في سبيل الحق والحرية والعدل؛ لأننا نحن أبناء الحق والحرية والعدل، قد ارتضعنا لبانها منذ الأزل البعيد. وكل ما دخل علينا في القرون الماضية من المظالم والأكاذيب والاستبداد، لم يستطع أن يخفت ذلك الصوت الذي تتجاوب به نفوسنا باسم الحق والحرية والعدل.

إن هذه الشعوب التي تُرى اليوم كأنها على بلادها أسمال بالية ممزقة، قد بدأت تحسُّ أن عليها أن تتجدد أو أن تزول، وطبيعة الحياة تأبى لها أن تزول، فهي لابد أن تتجدد . وهذا الدافع وحده سوف يمهد للرجل المنتظر أن يزأر زئيره فتصغى له آذان الملايين من أبناء الشرق، ثم تنطلق من مجاثهما إليه مجيبة لندائه، فإذا انطلقت إليه أرسالًا [جماعات واحدة بعد الأخرى]، فيومئذ لن يقف في طريقها أولئك الساسة المنافقون، ولا أولئك العلماء المتبجحون، ولا أولئك الديَّانون المخادعون، بل سوف يصيرون تبعًا، وقد طال ما خيلت لهم نفوسهم أنهم الرؤوس والسادة.

فأنا إن كتبت، فإنما أكتب لأتعجل قيام هذا الرجل من غمار الناس، لينقذنا من قبور جثمت علينا صفائحها [حجارة عراض توضع فوق القبور] منذ أمد طويل. وليس بيننا وبين هذا البعث إلا القليل، ثم نسمع صرخة الحياة الحرة العادلة يستهل بها كل مولود على هذه الأرض الكريمة التي ورثناها بحقها، ليس لنا في فِتر [مسافة ما بين السبابة والإبهام] منها شريك.

المصدر: كتاب (جمهرة مقالات الأستاذ محمود محمد شاكر، مكتبة الخانجي بالقاهرة، ط1، 2003م، (1/555)

Posted on Leave a comment

رسالة الإمام والخطيب (2) | الشيخ: عبد الجليل حمداوي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه

ج ـ الزاد والصفات:  

إن مسؤولية الإمام منوطة بتعليم الخير للناس وتذكيرهم بالله واليوم الاخر، ولكي يخوض بسلام غمار هذا الجهاد، جهاد الكلمة والتبليغ، فان عليه أن يسعى لترسيخ قدمه في أرض العلم والعبادة حتى يَصلُح ويُصلِح؛ فلا بد له في هذا من زاد:

1 ـ الزاد الإيمانية:

أول صفة ذكرها القرآن لمعمّري المساجد هي الإيمان بالله واليوم الاخر {إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر …} (التوبة 18)، وحيث أن الإمام رأس في مسجد الله فإنه يلزمه أن ينتبه الى هذا الأصل الأصيل حتى لا تكون كلماته خاوية بل مباركة باقية. وإن الإيمان يزيد وينقص حسب ما يأتيه العبد من طاعات أو معاص، فليجعل الإمام التقوى زاده: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} (البقرة 197).  لا شك ان من أعظم مولدات الإيمان ذكر الله وتلاوة القرآن وصحبة الصالحين ومجالستهم كذا باقي الطاعات، فليأخذ الإمام منها حظّه علّه يسير قُدُما في طريق الصلاح والاصلاح، فقد يُعرف الحق ولا يُؤتى لضعف الإيمان وقلة زاد الروح، ونحن نقرأ في الذكر الحكيم أن الله يخاطب من عباده أهلَ الإيمان لامتثال أوامره بقوله: {يا ايها الذين ءامنوا.. “. فعلى هذا المعوَّل.

قال الله تعالى: {وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لمّا صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون} (السجدة 24). يتبيّن من هذه الآية أن الإمامة في الدين منوطة بامتلاء القلب بالإيمان، “فهو بحق مادة الصبر واليقين، فقد روى الطبراني عن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه -، أنه قال: “اليقينُ الإيمان كلُّه، والصَّبرُ نصفُ الإيمان”.  وكيف يوقن بآيات الله من ضعف إيمانه به سبحانه؟ وما استأهل سيدنا إبراهيم عليه السلام أن يكون للناس إماما إلا بإتمامه كل الابتلاءات بنجاح لقوة إيمانه بالله سبحانه القائل: {وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما …} (البقرة 124).

الزاد العلمي:

عن ابن مسعود الانصاري أن رسول الله صلى الله عليه وآله سلم قال: “يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله ، فان كانوا في القراءة سواءً فاعلمهم بالسنة، فان كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة”. رواه مسلم  وزاد الحاكم: ” فان كانوا في الهجرة واحدا فأفقههم فقها، فان كانوا في الفقه واحدا فأكبرهم سنّا. ” من خلال هذا الحديث المبارك بروايتيه يتضح في حق الإمام أهمية العلم بالكتاب والسنة والفقه فيهما، كذا السبق في الهجرة التي تأخذ صورا شتى عبر التاريخ روحها السبق في الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين.

نُجمل الآن في سطور أهم ما يحتاج اليه الإمام:

  • التحصيل الشرعي: يجمل بإمام المسجد أن يجمع في صدره كتاب الله وما تيسر من أحاديث وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ الوحي أصل العلم النافع. ثم إن عليه أن يتفقه في دين الله دراية وتنزيلا ليكون منارا لأهل المسجد وحيّه وجمع كلمتهم، خصوصا في عصر ـ نعيشه ـ تضاربت فيه الآراء حتى صارت في بعض الأحيان فتنة لا رحمة ـ أعاذنا الله ـ.
  • ضبط اللغة: إذا كان لزاما على الإمام أن يُتقن العربية لفهم نصوص الوحي إذ بها أُنزل، فان عليه ايضا أن يكون قادرا على مخاطبة أهل بلده بلغتهم، إذ القصد التبيين: {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم.} (إبراهيم 4) وما أرسل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا الناس إلى كافة عربِهم وعجمهم، فاقتضى هذا تبليغ دعوته الى سائرهم وهي مهمة أتباعه الى يوم القيامة، وعلى رأسهم الائمة والخطباء.
  • فقه الواقع والبناء: مرّ بنا في الحديث النبوي أعلاه أن الأقدم هجرة مقدم في الإمامة على الأفقه في الشرع إذا علم الأساسي من مقتضاها، وهي لفتة ضرورية ليفقه الإمام أن من صلب دعوته بذل الجهد في ذات الله ومع جند الله، وهو ما يؤهله لينتظم في سلك المهاجرين حيث “لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية ”  . متفق عليه. ولا يمكنه هذا الا بفقه واقعه المحيط به مما يتعلق ببلده خصوصا وبأمّته عموما حتى لا يكون كالذي ينعق بما لا يسمع، فأهل الباطل يمكرون ليل نهار، فلا بد له من يقظة تقيه وأهلَ مسجده شرَّ الماكرين. ثم إن هذا الاطلاع على مختلف التيارات الفكرية ضروري لبناء الشخصية المؤمنة، وهو لا شك من أهم مهام الإمام، فالإنسان ابن بيئته، والمؤثرات ذات شعب!

3 ـ الزاد الخُلقي:

إذا كان الإمام يدل على الخير بقوله فانه يكون أبلغ بيانا بصلاح حاله، وفي مثل هذا قيل: ” حال واحد في ألف خير من وعظ ألف في واحد “فعلى الإمام أن يتسم بالرحمة دون هوان وبالقوة دون عنف وبسعة صدر تستوعب كلَّ عُمّار مسجده وأهل حيه ومن غير سذاجة، فلا بد له من حسن استماع وإنصات إلى من حوله ومواساتهم ومشاركتهم في أفراحهم وأتراحهم.  كل هذا في حدود الشرع حتى لا تزل قدمه نحو تملّق أو جفاء، وهما على طرفي نقيض ـ عصمنا الله ـ وإرضاء كل الناس غاية لا تدرك، {والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين} . (التوبة 62)

وإنه ليقبح أشدّ القبح أن يدعوَ الإمام الناسَ إلى فعل خير هو أبعد ما يكون عنه، أو إلى اجتناب منكر هو أول فاعله، فقد قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لمَ تقولون ما لا تفعلون. كبر مقتًا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون.} (الصف 2). قد تقتضي ضرورة ما أن يدل الإمام على فعل خير لم يُوفَّق اليه، حال بينه وبين فعله حائل، لتوضيح غامض او استنهاض نائم، ليدل على الخير أهلَه، فما هذا بالمحظور إذا صحت النية وتَوَقّد العزم.

في معرض الحديث عن مّن يعمر مساجد الله ذكر الله صفةً الإمام أولى الناس بها وهي في قوله تعالى: {…و لم يخش الا الله} (التوبة 18).  فلربما يقف الإمام مواقف تخور فيها عزيمته بسبب إغراء أو تهديد فينسى أنه يأمّ الناس بشرع الله وفي سبيل الله؛ فإذا به ينقطع عن حبل الله لإرضاء بعض العباد بسخط الله، فليتوكل على الله ولا يخش غيره، فإنّ الكذب في الدين أشدّ وبالا من الكذب في أمور الدنيا، وشتان بين المرونة التي تقتضيها الحكمة أحيانا وبين التزلّف إلى الناس أو التخوف منهم مما لا يليق بمن يتحدث باسم الله. من هذا ما قد يحدث في بعض مساجد الله من فتن يُحتاج فيها أن يصدَّق الصادق ولا يُستأمن الخائن، وأن يُسكَت الجاهل فلا يتحدث بجهله وهواه جاهدا ليُمليَ على الناس كيف تقام الصلاة وتخطب الخطب وتساس الأمور.

نسأل الله السداد في القول والعمل

أخوكم عبد الجليل حمداوي

يتبع

Posted on Leave a comment

رسالة الإمام والخطيب 1 | الشيخ: عبد الجليل حمداوي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه

قال الله تعالى: {وربك يخلق ما يشاء ويختار} (القصص 68)”. لقد اصطفى سبحانه وتعالى بحكمته من الإنسان أنبياءه وأولياءه، ومن الزمان أيام نعمائه، ومن المكان بيوته ومساجده، فحقّت بهذا للمساجد أعظم نسبة إذ هي بيوت الله، وإن كانت البيوت كلُّها لله وحده، فلا جَرَم انّ هذه النسبة مشعرة بقداسة المسجد وعمق رسالته، لذا كان لزاما أن تُوظَّف الجهود لأهمّ عنصر فيه، ألا وهو الإمام والخطيب الذي بهما تقوم قائمته بتلاؤم مع عناصر أخرى محلّ ذكرها غير هذه الصفحات.

أـ حول الإمامة:

إن الحديث عن الإمام ومتعلقاته مبثوث في كتب الفقه وفروعه، وغرضنا عبر هذه السطور ذكر إشارات عن دوره في المسجد وثقل رسالته بين الناس. إذ هو القدوة المتَّبَع.

والأئمة صنفان: منهم من يدعوا الى الله وجنته: {وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا} (السجدة 24) ومنهم من يدعو إلى النار: {وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار} (القصص 41). والإمامة نوعان: كبرى وصغرى. فالأولى متعلقة بأمور الدنيا والدين وسياسة أمور المسلمين، والثانية متعلقة بالصلاة وأحوال مساجد المسلمين، فإن كانت الصغرى تابعةً للكبرى تنظيما وتسييرا، فإنها أصلُها إشعاعا وتنويراً، وفي هذا المعنى قال فاروق الأمة رضي الله عنه“:إن أهم أمركم عندي الصلاة ، بل جعلها المصطفى صلى الله عليه وآله سلم عموده وركنه الركين في وصيته الخالدة لسيدنا معاذ بن جبل رضي الله عنه فيما رواه الترمذي.

الإمامة في الدين مقام تهفوا إليه قلوب عباد الرحمن الصالحين حيث يدعونه: {واجعلنا للمتقين إماما} (الفرقان 74)، ولا شك أن إمام المسجد وخطيبه من هذا الصنف الكريم، وجدير بمن رام حيازة هذا الفضل أن يكون ذا مجموع حَسَن من الخلق والعلم في الدين وعلى نباهة فيما يقتضيه القيام بأمور مساجد المسلمين.

على إمام المسجد أن يستشعرـ بدايةـ فضل الله عليه أن أَقامه مقاما عليًّا، وشغله بذكره وإمامة بعض مسلمي بلاده، والنعمة تستوجب شكرا؛ وأعظمه أن توظّف في طاعة الله. وإنه لحقيقٌ على الإمام أن يفقه مقاصد الشرع من بناء مساجد الله لتحقيق هذه النسبة المباركة في الواقع والمعنى كما في الصورة والمبنى.

ب ـ  رسالة المسجد:

روى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “أَحبّ البلاد الى الله مساجدها”.. لأجل هذا حَوَت كتب الفقه من أحكام المساجد ما يليق بجلال وجمال هذا الحب الإلهي من خلال نصوص الوحي، ونوَدّ في هذه الصفحات أن نكتفي بذكر بعض أبعادها التربوية والدعوية لئلا تزل قدمٌ بعد ثبوتها، حتى يتبين لإمام المسجدِ دوره الأليق بقداسته. فلإن كان القرآن قد حدثنا عن أوصاف عمّار بيت الله، فإن مهمة الإمام منوطة بتحقيقها في نفسه ونفوس إخوانه من عمّار بيوت الله وبردّ وجهتها الى الله بمدافعة من يريد تضليل عباد الله، ولتوضيح هذا المعنى نذكر هنا بعض ما ييسَّره الله مستهدين بآياته سبحانه.

1 ـ إن منطلق المساجد وغايتها هو الله وحده انتسابا وذكرا، قال جلّ وعلا: {وأن المساجدَ لله فلا تدعوا مع الله أحدا} (الجنّ 18) وقال أيضا: {في بيوت أذن الله أن تُرفَعَ ويذكَرَ فيها اسمه} (النور 36). فهي بيوت لله، وشُيِّدت لإقامة ذكره؛ فلتصطبغ بصبغة الله دون النزول بها الى أهواء رعناء أو عصبيات عمياءَ، فالإمام يَأُمُّ عباد الله بشرع الله تعالى للتقرب إليه وحده، ولا ينافي هذا أن يميل فقهيا أو ينتمي دعويا الى فئة من دعاة الخير، وهم بفضل الله كُثر.  لكن المحظور هو الركون إلى الهوى ومحاولة ليّ أعناق نصوص بعدما يتبيّن الحقّ والهدى. هدانا الله الى سواء الصراط.

2 ـ لا جرم أن ذكر الآخرة لصيق بذكر الله تعالى القائل: {…يسبح له فيها بالغد والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله واقام الصلاة وإيتاء الزكاة، يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والابصار} (النور 36-37). فمساجد الله بُنيت أساسا لذكر الله والآخرة من أجل أن تصفوَ نفوس عمّارها وتتطلّع الى الأفق الوضيء الأَبديّ، وتتخفّف من ثِقل الارض والعالم الدنيويّ. إنّ هذه الحقيقة قد تضمر في قلوب المؤمنين بالغفلة عنها وعدم التّذكير بها، فلطالما صارت بعض بيوت الله أماكن لأحاديثَ دنيوية محضة لا تمتّ الى الذكر بصلة، وأعظِم بها من مصيبة في الدين، فقد قال صلى الله عليه وسلم “: من سمع رجلا ينشد ضالة في المسجد فليقل: لا ردها الله عليك.فان المساجد لم تبن لهذا”.  فعلى امام المسجد التصدي لهذا الباطل وإرجاع اهل المسجد الى الرشد بما أوتي من حكمة، {ولينصرنَّ اللهُ من ينصره. إن الله لقويّ عزيز} (الحج 40).

3 -لِكلمة “بيت” دلالة عظمى على ما تقتضيه من تنظيم للوسائل لتحقيق مقصد سَنيّ هو تحصيل سكينة ربانية فيه تفوق سكينة البيت الأسري المطلوب تحقيقها في قوله تعالى: {والله جعل لكم من بيوتكم سكنا} (النحل 80). فإذا ما أفرغت المساجد من روحها وفقدت جاذبيتها وصار بعض عمارها يتحاشى التردّد إليها تفاديا للخصام النكد الحاصل بين أهلها، فإن هذا لمؤذن بالخطر لأن الأصل أن تهفو القلوب إليها حيث السكينة مأواها…

4 ـ اذا كان المسجد يبنى أساسا لإقامة ذكر الله واليوم الآخر فانه أيضا العنصر الاساسي لتوازنٍ مطلوبٍ بين مقتضيات عبادة الله سبحانه، إذ منها ما يتعلق بحقوق الله ومنها ما يتصل بحقوق عباده، ولهذا الغرض قال تعالى: {انما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش الا الله فعسى اولئك ان يكونوا من المهتدين} (التوبة 18)، وفي آية النور السابق ذكرها: ” {رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة واتاء الزكاة يخافون يوما تتقلّب فيه القلوب والأبصار} (النور 37). فقد جعل الله إتيان الزكاة من صلب هذا الأمر حيث ذَكَرها بين إقام الصلاة وتعلّق القلب باليوم الاخر في سياق الحديث عن عمّار بيوته في ربط عجيب بين حقوق الله وحقوق عباده، وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تأمر بالطهارة وتنهى عن كلّ ما يؤذي المسلمين في مساجدهم ولو بريح كما ورد في شأن الثوم والبصل.

5 – بين مصطلحي “المسجد”  و”الجامع” خصوص وعموم، فالمسجد يكون جامعا إذا كانت تُصلّى فيه الجمعة، وهذا فيما يبدو ما عليه أحوال المسلمين على العموم. فلعل الربط بين “المسجد”  و” الجامع” في سياق الحديث عن بيت الله يوقظ في الحسّ ذلك الترابط بين علاقة العبد بربّه وبإخوانه من  حوله لأن بيت الله بُني للسجود بين يدي الله والتحبُّب إليه لكن في جمع من المؤمنين، حيث إن صلاة  الجماعة فيه سنّة مؤكّدة إن لم تكن واجبا كما عند الحنابلة. فالذلة على المؤمنين من ثمرات التذلل بالسجود لرب العالمين. فالمسجد جامع بين أشباح وأرواح المؤمنين يلتقون فيه للتقرب الى مولاهم فإذا لهم فيه مآرب اخرى؛ تقتضيها ضرورات الحياة. بهذا يصير المسجد الأساس في التربية واللبنة الأولى في البناء من خلال لمّ الشمل على أساس التقوى خلافا لمن شهد الله عليهم بالنفاق ببناءهم لمسجدٍ ضرارا وتفريقا بين المؤمنين، كما ورد في سورة التوبة.

6 ـ من سنن الله مدافعة أهل الباطل لإحقاق الحق واعلاء كلمته، قال تعالى: {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا، ولينصرن الله من ينصره. ان الله لقوي عزيز} (الحج 40).  ففي هذه الآية كشف لكيد الحاقدين الذين يغيظهم ذكر اسم الله في معابد أقيمت لذكر الله. فهم بحقٍّ المفسدون في الأرض: {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض} (البقرة 251) فعلى الامام أن يتحلى بيقظة تجعله يتصدى لمكائد أهل الباطل المفسدين الظالمين الساعين لخراب بيوت الله: {ومن أظلم ممّن منع مساجد الله ان يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها} (البقرة 114) فهي اذا معركة بين الحق والباطل، يستمدّ لها أهل الحق العونَ من الله ثمّ من إخوانهم منطلقين من بيت الله حيث الامام فيه رأسه وأساسه من أجل الإصلاح ودرء الفساد.

نسأل الله السداد في القول والعمل

بقلم الشيخ: عبد الجليل حمداوي

يتبع

Posted on Leave a comment

ندعو الله وتتأخر الإجابة.. فلماذا؟

ندعو الله وتتأخر الإجابة ….فلماذا؟

يدعو المؤمن ولا يجاب له وقد يكرر الدعاء ويطول الزمان ولا يرى أثرا للدعاء… فكيف يتعامل المؤمن مع تلك الحال؟

يجيب الإمام ابن الجوزي
(مع إضافات وتصرف منا):

أن هذا من البلاء الذي يحتاج إلى الصبر.
و يذكر من حكمة تأخير الله تعالى الإجابة ما يلي:

أولاً: لو لم يكن في تأخير الإجابة إلا أن يبلوك الله في محاربة العدو (الشيطان) لكفى في الحكمة.

وقد ثبت بالبرهان أن الله عز وجل مالك وللمالك التصرف بالمنع والعطاء فلا وجه للاعتراض عليه.

هو خالقنا ونحن عبيده ونعمه علينا تترى ظاهرة وباطنة.

ثانيا: قد ثبتت بالأدلة القاطعة حكمته جل وعلا، فربما رأيتَ الشيء مصلحة والحكمة لا تقتضيه، وقد يخفى وجه الحكمة فيما يفعله الطبيب من أشياء تؤذي في الظاهر يقصد بها المصلحة، فلعلَّ هذا من ذاك.

ثالثاً: قد يكون التأخير مصلحة والاستعجال مضرة.
والله يعلم وأنتم لا تعلمون.

رابعا: قد يكون امتناع الإجابة لآفة فيك، فربما يكون في مأكولك شبهة، أو قلبك وقت الدعاء في غفلة، أو تُزاد عقوبتك في منع حاجتك لذنبٍ ما صدقتَ في التوبة منه.

خامسا: ربما كان في حصول مطلوبك زيادة إثم، أو تأخير عن مرتبة خير، فكان المنع أصلح.

سادسا: ربما كان فقْد ما فقدتَه سبباً للوقوف بالباب واللجوء إلى الله تعالى وكثرة التضرع والبكاء، فإذا حصل لك ما تريد انشغلت به عن الله جلَّت قدرته.

وإنما البلاء المحض، ما يشغلك عنه، فأما ما يقيمك بين يديه ففيه جمالك.

ونضيف/
سابعاً: لو لم يكن من الدعاء إلا شعور المؤمن أنَّ له ربا قادراُ يقف على بابه ويدعوه فيمتلئ قلبه بالسكينة والطمأنينة والراحة والقوة….. لكفى.

ثامنا: قد ثبت بالدليل أن الله تعالى يعطي على الدعاء من خير الدنيا والآخر ودفع البلاء ما يجعل المؤمن يطمئن بالاً وخاطراً.

تاسعاً: الدعاء في ذاته مقصود وجوهر العبادات كلها (الدعاء) وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم الدُّعاءُ هو العبادةُ ثمَّ قرأ {وَقال رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ} رواه أبو داود.

عاشرا: في انتظار الإجابة ولو طالت تحقيق معنى العبودية فيعرف المسلم نفسه بالضعف والفقر ويعرف ربه بالقدرة والغنى.

الله أجب دعاءنا وحقق رجاءنا.
وما زويتَ عنا فارزقنا يقينا في حكمتك، ورضنا بقضائك حتى لا نُحب تعجيل ما أخَّرت ولا تأخير ما عجَّلت.

لفضيلة الشيخ: طه عامر

Posted on Leave a comment

نوم في النور… ويقظة في الظلام

نوم في النور… ويقظة في الظلام

في مشاركة دعوية، بمعرض الكتاب السنوي ببرشلونة قبل ثلاث سنوات، تتزين الساحات الكبرى والشوارع والحدائق بدور النشر ومنتجاتها من غذاء الروح والعقل، تصبح برشلونة كلها معرض كتاب مفتوح لملايين الزائرين من إسبانيا وأوروبا، إنه عيد الكتاب “سان جوردي” وفيه جرت العادة أن يتهادى النساء والرجال والشيب والشباب بينهم ” كتابا ووردة حمراء” لأسطورة تاريخية لا مجال لذكرها…
نخرج منذ 12سنة في هذا العرس الثقافي والأدبي الجميل، بخيام جميلة وسلسلة إصدارات إسلامية باللغة الإسبانية عن الإسلام ثقافة وحضارة ورسالة ودين.
فرصة رائعة للاحتكاك بالقرّاء مباشرة بعيدا عن حواجز الإعلام و شبكات اللا تواصل..
نوعية من القرّاء يقبلون بلهفة عجيبة على إصداراتنا، بل منهم من يبحث عنّ خيامنا كل سنة ويزورنا ليقتني آخر الإصدارات…
لا يخلو هذا اليوم من نقاشات راقية واستفسارات عميقة عجيبة من المارة!!!
شيخ إسباني في التسعين يطلب المصحف المترجم المعاني بالإسبانية، ويقول أنه يبحث عنه منذ سنوات وفي بيته 3 ترجمات لمستشرقين لم تشف غليله، وشعر بالتلاعب في ترجمات النصوص لتناقضات صارخة فيها!! أعطيته ترجمتنا؛ فسحب منديلا أبيضا من جيبه وأمسك المصحف المترجم لمعاني القرآن الكريم بلطف وقبّله، قلت: لماذا تحمله بمنديل؟؟
قال: قرأت في غلاف أحد الترجمات أنه “لا يمسّه إلا المطهّرون”!!!
تصفحه فترة… سأل عن ثمنه، قلت: هو هدية لك..
أخرج كل القطع النقدية التي في جيبه وقال: هذا تبرع لتطبعوا المزيد من وحي السماء!!!
كتالاني آخر مع عشيقته العربية… تهلل وجهه برؤية كتب عن الإسلام بالكتلانية والإسبانية وأخذ يتصفح ويسأل ويستفسر، وخليلته العربية البعيدة عن الدين تريد سحبه والابتعاد عنا تخشى عليه الهداية وقد عاشت معه سنينا تحجب عنه دين الله لكي لا يلتزم حسب قوله!
لحظات وتمرّ سائحة عربية بملابس فاضحة… ما إن عرفت أننا من مركز إسلامي ورأت المصاحف بدأت تصرخ في وجوهنا: أتيتم إلى أوروبا النور والحضارة بكتب الظلامية ودين التخلف والرجعية؟؟
قلت لها: مرحبا بك في بلد يجرّم ازدراء الأديان والعلمانية العنيفة المتطرفة وجه آخر للداعشية التي تقتل المخالفين …. واصلت تهجمها وصراخها الهستيري قبل تمرّ دورية الشرطة فانتبهت أنها ليست في عربستان وأي بلاغ منا له تبعات… فاختفت بين الحشود…
مسيحي عربي من بين الزوّار، يستنكر علينا توزيع المصاحف المترجمة، وكيف تمنع الدول العربية توزيع الإنجيل، قلت له: منع توزيع الأناجيل ظلم، ولو كانت لي سلطة لأمرت بتوزيع الكتب السماوية بكل اللغات في كل البلدان، دع الناس تقرأ لتحمد الله على نعمة القرآن!!!
أغرب من رأيت في أحد المعارض، فتاة كتلانية صغيرة تدرس في الاكمالية، جاءت مع والدتها، وهي تحمل مجموعة كتب عن الوجودية والفلسفة وعلم الفلك، قالت لأمها و هي تشير إلى المصحف مترجم المعاني: هذا الكتاب الوحيد الذي ينقصني من الكتب السماوية، و بقيت لنصف ساعة تتصفحه وأمها تتصفح كتبا أخرى… و بدأت بسيل الأسئلة الجارف…
قالت: من هو العقل المدبّر للوجود؟؟
قلت لها: حسب معتقدنا كمسلمين هو الله الواحد الخالق
قالت: ما هو كنهه؟؟ كيف كان؟؟ ولم يزل إلى الآن؟؟
قلت: لا تخالطه الظنون
وصفه لا صفة له، وكونه لا أمد له … لا تخالطه الأشكال والصور.. . ولا تغيّره الآثار والغِيَر…
قالت: قرأت في علم الفلك كثيرا… ووصلت لقناعة أن العقل المدبّر لابد أن يكون أعظم من هذا الكون لأن الكون كلّه لوحة فنية صغيرة من تشكيله، وأنه قديم في القِدم وغابر في الزمن!!! أجبتها: نعم، الزمن عندنا يقاس بالشمس والقمر… و المكان أرض وكواكب.. وكل هذا ذرة من خَلقه…
قالت: طرحت سؤالا على راهب الكنيسة عن الزمان واليوم والمكان بالنسبة للربّ!!! فغضب من إعمالي العقل في فهم الإنجيل!!!!
قلت لها: إن التفكير عندنا فريضة إسلامية وتفضلي افتحي المصحف في سورة الحجّ الآية 47، ستجدين جوابا عن مقدار اليوم عند الإله الخالق
فقرأت بالإسبانية معنى قوله تعالى: “وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ”
و في سورة المعارج: (فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ)
فاضت عيناها بالدمع وهي تقول: أنا أبحث عن حقيقة الكون ومن أبدعه ونظّمه وأتعطش لمعرفته معرفة خاصة…
قلت لها: هو أقرب لك من شريان الوريد الذي يورد الدمّ إلى قلبك.. فقط ناديه بإخلاص و تجرد وتفكّر.. سيدلّك على الطريق إليه برويّة وأناة.
أخذت مجموعة من الكتب والمصحف وغاصت في طلب الهداية حتى أُشرب قلبها بالإيمان…

مئات الآلاف من أمثال هذه الصبية، من شيب وشباب ونساء ورجال، قضوا حياتهم كاملة في البحث عن الله وذاته وصفاته… وفعله في الأنفس والآفاق…. لا يعرفون العربية ولا يجذبهم شيء من سلوك العرب والمسلمين بل تصدّهم أخلاقنا في أغلب الاحيان …. لكن الحق سبحانه وتعالى يغار على قلب عباده المتشوقين إليه، فيدلّهم به عليه…
رحمة الله على الشيخ محمد الغزالي الذي أوجز ظاهرة تفكّر الأوروبيين في الإسلام وتبلّد مشاعر المسلمين وعقولهم عن التفكر في الله تعالى ومُلكه وملكوته فقال: الناس اثنان… رجل نام في النور (مسلم ينام على نور الوحي ولا يتأثر) ورجل استيقظ في الظلام (غير المسلم حين يبحث عن الله دون معرفته بنور الاسلام).

للشيخ: سليم عمارة.