Posted on Leave a comment

يوم عرفة وتجديد العهود

    نحو  تلك البقاع المباركة التي تهوي إليها نفوس المؤمنين،  ويسير إليها عباد الرحمن  فرادى وجماعات يأتون من كل فج عميق، استجابة لنداء الملك الجليل جل جلاله  حين أمر سيدنا  إبراهيم  عليه السلام:  {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ* ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}   سورة الحج: 27-29 .

أتوا من كل فج عميق ليسعدوا بلحظات الرضا آملين في القبول من الله تعالى وشعارهم: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك.

 متذللين للواحد القهار، معلنين حقيقة عبوديتهم وتوحيدهم، في مشهد يجسد كل معاني الأخوة التي أكرمنا الله بها. 

وبعد أن حطَّت بهم مطايا الشوق إلى بيت الله الحرام، وتنعموا برؤية الكعبة المشرفة وطافوا وسعوا وقلوبهم بالله موصولة ينتظرون يوم الحج الأكبر، يوم الغفران الأعظم، يوم العتق من النار، يوم ينظر الله إلى عباده على عرفات وهم في مشهد الضراعة والافتقار، لا صوت لهم إلا لبيك، ولا نشيد لهم إلا لبيك، ولا أمل يهيمن عليهم إلا نيل القرب من الله وهم يصرخون…. لبيك .

يوم عرفة

خير يوم أشرقت شمس الحياة عليه، إنه يوم المناجاة والدعاء والذكر والقلوب المنكسرة.

إنه يوم العيد لأهل الموقف كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يوم عرفة ويوم النحر وأيام منى عيدنا أهل الإسلام) رواه أبو داود وصححه الألباني.

وهو يوم الدعاء والضراعة

يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله:

” ويوم عرفة فريد في معناه ومظهره، لا تسمع فيه إلا تأوهات التائبين، وأنين الخاشعين، وضراعة المفتقرين، إنها الإنسانية المستجيرة بربها، النازلة بساحته مؤملة في خزائن لا تنفد، وعطف لا يغيض“.

 قال النبي محمد صلى الله عليه وسلم “خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير” رواه أصحاب السنن

ويوم العتق من النار قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة) رواه مسلم

وهو يوم مباهاة الله بأهل عرفة أهل السماء

 قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يباهي بأهل عرفات أهل السماء) رواه أحمد.

إنه يوم تفرح الأرض كلها وتأنس به، لكثرة الذاكرين والتائبين لربهم، وهو يومِ غيظٍ للشيطان وحِلفه.

يوم عرفة 

نجدد فيه ولاءنا وانتماءنا الروحي والفكري والشعوري إلى ديننا العظيم الذي أكلمه الله تعالى ورضيه لنا عقيدة وعبادة وشريعة وآدابا وأخلاقا وسلوكا، (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ۚ …. (3)  سورة المائدة

وما وفد الحجيح الذين انبعثوا من أقطار الأرض إلا جزءاً من كياننا، قاموا بحق النيابة عن الأمة للوقوف بين يدي الملك الجليل ليجددوا عهدنا هناك، أن إلهنا واحد، وقبلتنا واحدة، وديننا واحد، لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين ولو كره الظالمون والجاحدون والمبطلون والمرجفون.

 ويؤكد هذا المعنى الشيخ محمد الغزالي بقوله: “إن مناسك الحج تنمية لعواطف المسلمين نحو ربهم ودينهم، وماضيهم وحاضرهم، ويكفي أنها تجمعهم من أطراف الأرض شعثا غبرا لا تفريق بين ملك وسوقة، ولا بين جنس وجنس، ليقفوا في ساحة عرفة في تظاهرة هائلةٍ، الهُتافُ فيها لله وحده، والرجاء في ذاته، والتكبير لاسمه، والضراعة بين يديه، فقر العبودية ظاهر، وغنى الربوبية باهر، ومن قبل الشروق إلى ما بعد الغروب لا ذكر إلا لله، ولا طلب إلا منه سبحانه”.

لا إله إلا الله خالقنا ورازقنا، إليه نتوجه بالعبادة والسؤال والرجاء والخوف. 

وما قولنا لبيك إلا صدى لعهد التوحيد القديم الذي أخذه علينا ونحن في صلب أبينا آدم عليه السلام.

وما قولنا لبيك إلا إعلانا أننا عبيد لله وحده. (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85) سورة آل عمران

وما قولنا يا إلهي “لبيك” إلا انخلاعاً من الدنيا وطاعة لله حينما ينادينا للوقوف بين يديه. 

– نقف في الصلاة خمس مرات ونقول لبيك.

– نسير خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقول لبيك.

– لا نبتغي غير القرآن كتاباً، لأننا منك وإليك ونقول لبيك.

– لا نطيع مخلوقاً في معصيتك، وشعارنا لبيك.

– نوالي أحبابك ونعادي أعداءك، وقلبنا ولسانا يردد لبيك.

–  نمتثل أمرك ونهيك ونقول لبيك لا شريك لك لبيك

– نُعظم ما عظَّمتَ، ونرفع من رفعتَ، ونضع ما وضعتَ، ولكنا لك لبيك.

– نُعظم ما عظَّمتَ، ونرفع من رفعتَ، ونضع ما وضعتَ، ولكنا لك لبيك.

إنها شعار يوم عرفة وما أعظمها من كلمة تملأ قلبك أمنا وإيمانا وعزة ويقينا وراحة وسكينة.

لبيك رب البرايا            في الكون كوخاً وقصراً

لبيك نبض فؤادي         لبيك سراً وجهراً

لبيك حِسَّا خفياً          وأنت بالسر أدرى

لبيك طيناً تهاوى        فاجبر إلهي كسراً

لبيك في كل حين       لبيك شفعا ووتراً

لبيك ما كان عيش     في الناس حلواً ومراً

لبيك أرجو ثواباَ        لبيك أرفض وزراً

فجد إلهي بعفو           وذُد عن النفس شراً

وامسح عن الصدر غمَّا   واملأ فؤاديَ خيراً

واغمر فؤاديَ نوراً     واجعل عطائي براً

بغير عفوك تمسي      الحياة بوراً وقفراً

وإن رضيت إلهى     ملأت روضىَ عطراً

وكل حبة رملٍ       تصير وردا وزهراً

فكن إلهى حصني      وكن إلهى ذخراً

والليل إن طال ربي    فأتبع الليل فجراً

{من قصيدة للشاعر يوسف العظم}

يوم عرفة والمواثيق المنقذة

إنه اليوم الذي أعلن فيه رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم ميثاق الحق ومبادئ العدل ومنارات الهدى فانسالت على لسانه الشريف تلك التعاليم نورد بعضها بإيجاز:

صيانة الدماء والأموال والأعراض

 إن دماء كم وأموالكم حرام عليكم إلى أن تلقوا ربكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا.   

أداء الأمانة وحفظ الحقوق

فقال :

فمن كانت عنده أمانة فليؤدِّها إلى من ائتمنه عليها.

حفظ الأخوة وحقوقها

 إنما المؤمنون إخوة، فلا يحل لامرئ مال أخيه إلا عن طيب نفس منه..

الحذر من الشقاق واختلاف القلوب وتنافر الأرواح

فلا ترجعن بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض، فإني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا بعده، كتاب الله وسنتي. 

ترك المباهاة بالمواهب والتمسك بمصدر النعم وأساس التفاضل

أيها الناس: إن ر بكم واحد، وإن أباكم واحد، كلُّكم لآدم، وآدم من تراب، أكرمكم عند الله أتقاكم، وليس لعربي على أعجمي فضل إلا بالتقوى.

ولنا وقفات مع خطبة الوداع بحول الله تعالى.

والحمد لله رب العالمين.