Posted on Leave a comment

العلماء والإصلاح | الإمام: محمد الخضر حسين «شيخ الأزهر»

العلماء والإصلاح

الإمام: محمد الخضر حسين «شيخ الأزهر» (ت:1377هـ)

نُشر عام 1349هـ الموافق 1930م

نود من صميم قلوبنا أن تكون نهضتنا المدنية راسخة البناء، رائعة الطلاء، محمودة العاقبة. ولا يرسخ بناؤها، ويروع طلاؤها، وتحمد عاقبتها، إلا أن تكون موصولة بنظم الدين، مصبوغة بآدابه، والوسيلة إلى أن يجري فيها روح من الدين يجعلها رشيدة في وجهتها، بالغة غايتها: أن يزداد الذين درسوا علوم الشريعة عناية بالقيام على ما استحفظوا من هداية، فلا يذروا شيئاً يشعرون بأنه موكول إلى أمانتهم إلا أحسنوا أداءه.

ينظر أهل العلم في حال الناس من جهة ما يتقربون به إلى الخالق، ويزنون أعمالهم ليميزوا البدعة من السنة، ويرشدوهم إلى أن يعملوا صالحاً.

ومن الذي لا يدرك أن البدع تقف كقطع من الليل المظلم، فتغطي جانباً من محاسن الشريعة الغراء، وهي – بعد هذا – ضلالات تهوي بأصحابها في ندامة وخسران؟

ينظرون في أحوال الناس من جهة ما يدور بينهم من المزاعم الباطلة، والأحاديث المصنوعة، وينفون خبثها نفي النار لخبث الحديد، يفعلون هذا ليكون الناشئ المسلم نقي الفكر، صافي البصيرة، لا يحمل في نفسه إلا عقائد خالصة، وحقائق ناصعة.

ينظرون في أحوال الناس من جهة ما يجري بينهم من المعاملات، فيصلحون ما كان فاسداً، ويصلون ما كان متقطعاً، وما شاعت المعاملات التي نهي عنها الدين في غير هوادة؛ كالربا، والميسر، إلا حيث قل من يعظ الناس في ارتكابها، ويبسط القول في شؤم عاقبتها.

ينظرون في أحوال الناس من جهة ما يمسهم من السراء والضراء، ويسعون ما استطاعوا في كشف الضر عنهم، ولو بعرض حالهم على أولي الشأن، وإثارة دواعيهم إلى أن يعالجوا العسر حتى ينقلب بفضل تدبيرهم يسراً.

يحدثنا الكاتبون في تاريخ الأندلس: أن العلماء المقيمين في ضواحي قرطبة، كانوا يأتون يوم الجمعة للصلاة مع الخليفة، ويطالعونه بأحوال بلدهم، وقال أحد علمائهم:

وأتعبُ إن لم يُمْنَحِ الناسُ راحةً

وغيريَ إن لم يُتْعِبِ الناسَ يَتْعَبُ

ينظر أهل العلم بعين الاحتراس إلى كل من يدعو إلى مذهب باسم الدين، ويتخذون الوسائل إلى الاطلاع على حقيقة قصده.

ومن أسباب وهن حبل الإسلام، وتقطع أوصاله: مذاهب يبتدعها ملاحدة يمكرون، أو جهال لا يفقهون.

أفلم يكن المذهب البهائي يعمل لهدم قواعد الإسلام، واستهواء أبنائه من خلف ستار؟! وقد أحس بعض أتباعه اليوم بقوة، فصاروا يخطبون على منابر النوادي، ويجهرون بشيء من مزاعمه، وعرف بعض خصوم الإسلام قصدهم، فقاموا يشدون أزرهم، ويرددون الثناء على مذهبهم.

نحن نعلم أن في كل أمة فئة يفتحون صدورهم لقبول كل دعوة توافق أهواءهم، أو تأتيهم في طلاء يلائم أذواقهم، ولكن نهوض العلماء بعزم وحكمة، إن لم يسحق آراء هذه الفئة سحقاً، فإنه يكشف عما فيها من سوء، فلا يسكن إليها إلا من هم إلى الحيوان الأعجم أقرب منهم إلى الإنسان.

يرقب أهل العلم كل حركة تقوم بها جماعة من الأمة، فينقدونها بالنظر الخالص، ويصدعون فيها بآرائهم مدعومة بالأدلة المقنعة، ولا تعد هذه المراقبة وهذا النقد خارجين عن خطة العالم الإسلامي، بل هما واجبان في عنقه، كواجب التعليم والإفتاء.

وإذا قصَّ علينا التاريخ أن فريقاً من أهل العلم قضوا حياتهم في بحث المسائل العلمية البحتة، فقد قصَّ علينا أن أمة من عظمائهم كانوا ينظرون في الشؤون العامة، ويمثلون السيرة التي تكسو صاحبها جلالة، وترفع له بين الخلائق ذكراً.

كان أهل العلم يوجهون هممهم إلى الوسائل التي تقي الأمة ممن يبغونها الأذى، فهذا أبو بكر ابن العربي قاضي أشبيلية رأى ناحية من سور أشبيلية محتاجة إلى إصلاح، ولم يكن في الخزانة مال موفر يقوم بسدادها، ففرض على الناس جلود ضحاياهم، وكان ذلك في عيد الأضحى، فأحضروها، وصرفت أثمانها في إصلاح تلك الناحية المتهدمة.

وكان محمد بن عبد الله بن يحيى الليثي قاضي قرطبة كثيراً ما كان يخرج إلى الثغور، ويتصرف في إصلاح ما وهي منها، حتى مات في بعض الحصون المجاورة لطليطلة.

وظهور العلماء في أمثال هذه المواقف يغرس لهم في نفوس الأمة ودًّا واحتراماً، ويورثهم في رأي أولي الأمر مقاماً كريماً، أفلا نذكر أيام كان أمراء الإسلام يعرفون في طائفة من العلماء رجاحة الرأي، وصراحة العزم، وخلوص السريرة، فيلقون إليهم بقيادة الجيوش، فيكفون بأس أعدائهم الأشداء؟ وما كان أسد بن الفرات قائد الجيش الذي فتح صقلية إلا أحد الفقهاء الذين أخذوا عن مالك بالمدينة، ومحمد بن الحسن في بغداد، وعبد الرحمن بن القاسم في القاهرة.

ينظر أهل العلم إلى ما غرق فيه بعض شبابنا من التشبه بالمخالفين، وتقليدهم في عادات لا تغني من الرقي شيئاً، وقد يرى بعضهم انحطاط كثير من أبنائنا في هذا التشبه والتقليد، فيعده قضاء مبرماً، ويملكه خاطر اليأس، حتى ينتكث من التعرض للشؤون العامة ومعالجتها، ولكن الذي يعرف علة هذا التسرع، ويكون قد قرأ التاريخ ليعتبر، يرى الأمر أهون من أن يصل بالنفوس إلى التردد في نجاح الدعوة، بله اليأس من نجاحها.

وأذكر بهذا: أن كاتباً كتب في إحدى المجلات مقالاً تحت عنوان: (وحدة العالم) يدعو فيه إلى مسايرة أوربا في السفور ونحوه، وقال في علة الدعوة إلى هذه المسايرة: ليخرج الشرق والغرب في مدنية واحدة، وأشار على دعاة الإصلاح في الشرق بأن لا يقفوا في سبيل هذه المدنية، زاعماً أنهم لا يستطيعون مقاومتها، ولا يزيدون على أن يجعلوا سيرها بطيئاً، ورغب إليهم أن يحثوا الناس على المسارعة إلى قبولها.

والذين ينظرون إلى مدنية أوربا باعتبار، يبصرون فيها على البداهة ما لا يرتضيه العقل، ولا يقبله الشرع.

واختلاف الأمم بالحق خير من اتحادها على باطل، ولا يفوت الحكمة أن تجد نفوساً مهذبة، وعقولاً سليمة فتقبلها. فحقيق على العلماء أن يبتسموا لهذا الرأي تبسم الازدراء، ولا يقيموا لمثله وزناً إلا أن يكشفوا سريرته، ويعرضوا على الأنظار سوء مغبته.

والعالم بحق من يتدرَّع بالإيمان البالغ، والثقة بما وعد الله به الداعي إلى الحق من الظهور على أشياع الباطل، وإن أوتوا زخرفاً من القول، وسعة من المال، وكانوا أكثر قبيلاً.

لا ينبغي لأهل العلم أن يغفلوا عن سير أرباب المناصب والولايات، فمن واجبهم أن يكونوا على بينة من أمرهم، حتى إذا أبصروا عوجاً، نصحوا لهم بأن يستقيموا، أو رأوا حقًّا مهملاً، لفتوا إليه أنظارهم، وأعانوهم على إقامته.

أمر السلطان سليم بقتل مائة وخمسين رجلاً من حفاظ الخزائن، فبلغ هذا النبأ الأستاذ علاء الدين الجمالي، وكان متولياً أمر الفتوى، فذهب إلى السلطان وقال له: وظيفة أرباب الفتوى أن يحافظوا على آخرة السلطان، وهؤلاء الرجال لا يجوز قتلهم شرعاً، فعليك بالعفو عنهم. فغضب السلطان سليم، وقال له: إنك تتعرض لأمر السلطنة، وليس ذلك من وظيفتك، فقال الأستاذ علاء الدين: لا، بل أتعرض لأمر آخرتك، وإنه من وظيفتي، فإن عفوت، فلك النجاة، وإلا، فعليك عقاب عظيم، فانكسرت سورة غضب السلطان، وعفا عن الجميع.

ومتى كان في ولاة الأمور شيء من العدل، وكان في الداعي إلى الإصلاح حكمة وإخلاص، نجحت الدعوة في سعيها، وبلغت بتأييد الله مأربها.

يكون العالم رفيقاً في خطابه، ليناً في إرشاده، أما إذا أراده ذو قوة على أن يقول ما ليس بحق، أو يأتي ما ليس بمصلحة، أخذ بالتي هي أرضى للخالق، وكان مثالاً للاستقامة صالحاً.

أذكر أن أحمد بن طولون دعا القاضي بكار بن قتيبة إلى خلع الموفق من ولاية العهد، فأبى، فحبسه، وكرر عليه القول، فأصر على الإباءة، وبقي في السجن حتى ثقل ابن طولون في مرض الوفاة، فبعث إلى القاضي بكار يقول له: أردك إلى منزلتك، أو أحسن منها، فقال بكار للرسول: قل له: شيخ فان، والملتقى قريب، والقاضي الله عز وجل. فأبلغ الرسول ابن طولون ذلك، فأطرق ساعة ثم قال: شيخ فان، والملتقى قريب، والقاضي الله عز وجل. وأمر بنقله من السجن إلى دار اكتريت له.

وإنما يقوم العالم بإسداء النصيحة إلى ذي قوة، أو لا يوافقه فيما يخدش أمانته وتقواه، متى قدَّر مقامه العلمي قدره، وكان شأن العلم أسمى في نظره من كل شأن، وهذا الشعور هو الذي يهيئه – بعد داعية الغيرة – لأن يجاهد في سبيل الحق مستهيناً بكل ما يعترضه من أذى.

ومن أدب العلماء: أن ينصحوا للأمة فيما يقولون أو يفعلون، ويحتملوا ما ينالهم في سبيل النصيحة من مكروه، وكم من عالم قام في وجه الباطل، فأوذي فتجلد للأذى، وأجاب داعي التقوى متأسياً بقوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم اغفر لقومي؛ فإنهم لا يعلمون).

وممن جرى على هذا الخلق المتين: أبو بكر بن العربي يوم كان قاضياً بأشبيلية، قال في كتاب (القواصم والعواصم): حكمت بين الناس، فألزمتهم الصلاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى لم يك يرى في الأرض منكر، واشتد الخطب على أهل الغصب، وعظم على الفسقة الكرب، فتألبوا وألبوا، وثاروا علي، فاستسلمت لأمر الله، وأمرت كل من حولي ألا يدفعوا عن داري، وخرجت على السطوح بنفسي، فعاثوا عليَّ حتى أمسيت سليب الدار، ولولا ما سبق من حسن الأقدار، لكنت قتيل الدار، يعني بقتيل الدار: عثمان رضي الله عنه.

ولا يستحق لقب عالم أو مصلح ذلك الذي يدعو الناس إلى العمل الصالح، ويقبض عنه يده، أو ينهاهم عن العمل السيئ، ولا يصرف عنه وجهه، فمن أدب العلماء: أن يسابقوا الأمة إلى اجتناب ما يؤاخذ به، وعمل ما يحمد عليه؛ كأن ينفقوا في وجوه البر والمشروعات الصالحات ما ينفقه أمثالهم من المكثرين أو المقلين؛ فإن ذلك أدل على إخلاصهم، وأدعى إلى توقيرهم وقبول نصائحهم.

وإذا كان العدد القليل فيما سلف يكفي لحراسة الدين، وإرشاد من ينحرف عنه حتى يعود إليه، فلأن سلطان الإسلام يومئذ، وصوت غالب الجهل عليه خافت، أما اليوم، فالحال ما ترون وما تسمعون، فلا يمكن للدعوة أن تأتي بفائدتها إلا أن تضم المعاهد الإسلامية بين جدرانها طوائف كثيرة من أولي الغيرة والعزم، يصرفون جهدهم في الدفاع عن الدين، والدعوة إلى الخير، ويعيدون الدعوة مرة بعد أخرى.

وستنبت المعاهد الإسلامية – إن شاء الله – كثيراً من العلماء القوامين على نحو ما وصفناه، ولا سيما حين يأخذ التعليم بالأزهر الشريف نظامه الأسمى، ويجري مثل هذا النظام في غيره من المعاهد الإسلامية؛ كجامع الزيتونة في تونس، وجامع القرويين في فاس، ويقوى الأمل في أن تؤتي هذه المعاهد الثمرة الغزيرة الطيبة، متى نظر إليها أولو الأمر برعاية، وعاملوا النشء المتخرجين منها بما يدل على أنهم يحترمون الشريعة، ويقدرون ما تثبته في الأمة من رشد وإصلاح.

المصدر: كتاب (موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين، دار النوادر بسوريا، ط1، 1431هـ، (5/116)

Posted on Leave a comment

قلوب جديدة | للعلامة: محمود شاكر

تأتي النائبة من وراء الغيب مسرعة متوهجة تتوقَّد، ثم تنغمس في الدم فتسمع الحياة نشيشها فيه، وتضطرب الروح، وتتفرَّق النفس، ويتألَّم القلب، وتتبعثر الإرادة، ويحار العقل، ويكون مع ذلك كلِّه أمل ممض نافذ يجعل الحي يستشعر معاني الموت، وهو لا يزال حيًّا بعدُ، فالمصيبة بطبيعتها توجد في الحياة حركة سريعة طائرة مخبولة تخرج الحياة كلها عن دستورها ونظامها بعنف وقسوة، فيعقب هذه الموجة المتلاطمة السريعة فترة خاملة بليدة تنقل الحي من جوٍّ إلى جوٍّ حتى يتسنَّى له أن يستقرَّ ويهدأ، فإذا لم يقرِّر لنفسه هذا النظام الذي تتطلَّبه المصائب لم يزل في موج واضطراب، وفزع وحيرة، وتتضاعف المصيبة الواحدة حتى تكون– من جراء عواقبها عليه– مصائب عدة.

وقد تنزل المصيبة بالرجل فينفتر لها ويتبلَّد عليها، ويستنيم في بعض أحزانها، ولكنَّه لا يلبث حتى يشعر أنَّ في دَمِه أصواتًا تتداعى فيه، كما يتداعى الجند إذا تفرَّق على ضربة عدوِّه في الميدان، يجتمع المتفرِّق، ويتألَّف الشاذُّ، وتتضامُّ القوى، ويعود الأمر على أشُدِّه كأحصن ما كان. فإذا تداعى الدم، وزأر القلب، واهتزَّت الروح، وأصاخت النفس، وارتدَّت العواطف المنهزمة إلى مواقعها وحصونها من إنسانها، وجد الرجل كأنَّ قلبًا جديدًا قد انتفض في صدره، فنفض المصيبة وأعوانها نفضة الطلِّ عن غصن مورق.

والشعوب كالرجال، وأمرها كأمرها، والشعب إذا ابتُلي ببلاء مصبوب عليه بمصائبه ونواكبه،  يستطيع أن يستردَّ ما يضيع من قوَّته في تيار المصيبة، وأن يستعيد شبابه الثائر مرة أخرى، ولكن الفرق بينهما هو فرق ما بين الواحد إذا استقلَّ، والجمع إذا تعاون، فشرط الاستقلال الإرادة والنفاذ بها، وشرط التعاون المشاركة بين الأفراد المستقلين بالإرادة والعزم، والحرص على اجتناب التخالف، واطِّراح الفرقة، ونبذ الهوى، والعناد على الهوى.

وأمر الشعب هو أغمض الأمرين، وأشدهما، وأحقهما بالرعاية والنظر والتدبير، فإنَّ مصائب الشعوب قلَّما تكون فتراتها إلا جيلًا أو أكثر، يقع في خلاله من النقص والتدمير والضعف، وذهاب النشاط الحافز، وطغيان الجهل المستبدِّ، واضطراب أمر الجماعة ونظامها، إلى ما وراء ذلك، يكون تحطيمًا كاملًا لأكثر الإنسانية الشعبية، وإذا تحطَّمت إنسانية الشعب في المصيبة أردفت وراءها مصائب، إذ يقع النسل إلى الحياة؛ لتقتله الحياة بفتورها وبلادتها وقلة احتفالها، ويتبدَّد ذلك النور الإلهي الذي يأتي مع المولود من وراء الغيب، ويبدأ يمشي في الحياة المظلمة بالبصر المكفوف عن النفاذ في أسوار المستقبل.

وعلاج الشعوب في هذه الحالات لا يتأتَّى ولا يمكن ولا يكون، إلا بعلاج الأفراد أنفسهم، وأخذهم بالجدِّ في تدبير الحياة والاستعداد لها، وتحمُّل المشقَّات العظيمة في سبيل إيجاد الفرد الذي يستطيع أن يجعل في صدره قلبًا جديدًا أبدًا بعد كلِّ نازلة أو مصيبة، والقلب الجديد المتجدِّد هو سرُّ الشعلة الذاهبة دائمًا إلى المساء سامية طامحة، مطالبة بحقِّها في السموِّ، عالمة بواجبها في إضاءة الظلمات المتكاثفة من حولها بنور جديد.

أما استكانة الأفراد، وإخلادهم للراحة، واستمتاعهم باللذة، وإغماضهم في طلب المنفعة الفردية المستأثرة، ونفضهم عن أنفسهم تكاليف النظر الاجتماعي الشعبي، ودبيبهم إلى الغايات بالخطو المسترق من أسماع الشعب، لا يبالون أن يكون هلاك غيرهم من أُمَّتهم في بعض ما يجتلبون به قليلًا من أسباب الحياة لأنفسهم- فذلك كلُّه جريمة بعيدة الأثر في قتل الروح المعنوية للشعوب، وفي إيجاد المثل الأسوأ للنسل، بل هو سرقة صحيحة الشرط الذي يُوجب عقابها، فالشعب كلٌّ كامل، فكلُّ جزء منه انتفع بشيء كان من حقِّ الجميع أن ينتفع به على تقدير حقِّ الانتفاع، فذلك استبداد بحقِّ الغير، واستلاب منه لما يوجب الاجتماع أن يكون على صورة بعينها، ولغرض بذاته، وفي تسليمه بقدرتنا، وفي موضع هو له.

وليست السرقة في الحقيقة إلا هذا الضرب من الاستلاب، فسارق الشعب يخون الشعب، ويخون نفسه، ويمنع غيره من الانتفاع بحقِّ الحياة التي أُوجدوا فيها جميعًا؛ ليعملوا لها جميعًا متعاونين متظافرين.

وعدم شعور السارق الـمُغْمِض [الماضي] في سرقته، المستطيل بها، المصرِّ عليها- دليل قائم أبدًا على انعدام إحساس القلب فيه، وإذا عدم القلب إحساسه- أي: حركته في الحياة- رقَّ وتخرَّق وبلي، وأخذه المحق من كلِّ وجه، فلا يمكن أن يعدَّ في القلوب، ولا أن يجري عليه حكم القلب الحيِّ في قبوله للتجدد والحياة المستأنفة من أولها مشرقة، كميلاد الفجر مع كلِّ صباح.

وإذا ابتُلي الشعب، ثم أخرج منه هذا البلاء رجالًا كان من صفتهم ما ذكرنا؛ من الاستكانة، واللهو، والعبث، واهتبال اللذات على مدِّها وتطويحها- كان هؤلاء بلاء آخر على الشعب ومستقبل الشعب، وكانوا فوق ما وصفنا جثثًا مطروحة على طريق الشعب، تعتاقه عن مسيره إلى الغاية التي تنبغي له أن يسير إليها، وإذن فهو بين اثنين: إما أن يطأ الشعب على جثث الشعب، وإما أن ينتظر حتى يمتهد لأجياله طريقًا آخر، يكون فيه السير حثيثًا، لا تقوم في سبيله عقبات كهذه. وكلا الأمرين تعويق، وتخذيل، وإضاعة، وبلاء من البلاء.

ومن ذلك، فإنَّ الحياة تأبى إلا أن تجعل لأحيائها أساليب كثيرة منها ينفذون، فاليأس- من أن يكون في هذه الجثث صلاح بعدُ- أمرٌ لا تكاد تقبله الحياة إلا بعد طول التجربة والامتحان، ولم يبقَ إلا الأمل في أن يكون إصلاح هذه الجثث وبعثها، وإيجاد قلوب جديدة في جثمانها، أمرًا مقاربًا ممكنًا مستطاعًا يجب العمل له، والحرص عليه، والاحتيال في تصريفه احتيالًا صحيحًا مدبرًا، يفضى بنا إلى الغاية منه.

وقد تسهَّل في هذا العصر خاصة ما لم يكن في العصور الخالية، فالطريق إلى إسماع الناس، ودعوتهم، وتنبيههم- صارت أقرب وأسرع، فالطباعة، والصحافة، والمذياع، وسائر أساليب الدعوة- تمكِّن لصاحب الصوت أن يبلغ بصوته حيث أراد إلى من شاء على الوجه الذي يحب.

ولكن نشأت مع هذه الأشياء عوائق بقدرها جعلت الدعوة بهذه الطرق أقل أثرًا مما يُراد منها أو يُرجى فيها، ولم يكن وجودها في الحقيقة إلا طريقًا جديدًا لإفساد الأساليب الصحيحة في الدعوة للإصلاح الكامل، الذي يراد به تجديد القلوب، أي تجديد حياة الشعب تجديدًا نفسيًّا عميقًا ثابتًا.

ومع هذا فما أحسب أنَّ الأمر قد أحبط إلا من ناحية واحدة، هي فقدان الصوت المستجاب في كلِّ قلب. فإذا وُجد هذا الصوت للعالم، فقد يتغيَّر كلُّ شيء، ويصبح تجديد القلوب أمرًا سهلًا على صاحبه، ومالك أمره، والقائم عليه. وإذا أتت ساعة خلاص العالم من فتنة الحضارات المتجبـِّرة الطاغية المتوحِّشة، فقد يكون عمل العامل في تجديد قلوب البشر، هو الفتح الصحيح للتاريخ الجديد للعالم، ويمضي عصر، ويأتي عصر، ويومئذ يقف لفظ واحد في التاريخ؛ ليدلَّ على نوع الحضارة التي نعيش فيها، فيسمَّى هذا العصر (عصر القلوب المتحجرة).

قلوب جديدة: هذه هي غرض الحضارة  الجديدة التي يتمخَّض عنها العالم اليوم، فإذا عرفنا الغرض فما يصعب علينا أن يقوم كلُّ أحد منَّا بالتجربة بعد التجربة؛ لإيجاد قلب جديد في صدره مكان قلبه المتحجِّر.

 إنَّ الشباب لا يضيع مع طول العمر، ولكنَّه يضيع مع طول العبث، والحياة لا تفنى مع شدة الجهد، ولكنها تفنى في شدة الغفلة، والعقل لا يكلُّ مع طول الفكر، ولكنَّه يكلُّ مع طول الاستخفاف بالفكر، وشباب الشعوب وجهودها وأفكارها هو الحضارة كلها، وأصل الحضارة في القلب الشابِّ العامل المفكِّر الذي لا يسكن، ولا ييأس، ولا يقسو حتى يتحجر.

فهل يستطيع العالم أن يبدأ التجربة على الانفراد، فإذا جاء الداعي للحقِّ بالحقِّ، وجد أعوانه لإنشاء القلوب الجديدة في كلِّ مكان في الأرض؟!

بقلم: العلامة: محمود شاكر

المصدر: كتاب (جمهرة مقالات الأستاذ محمود محمد شاكر)، الناشر: مكتبة الخانجي بالقاهرة، ط1، 2003م، (2/866).

Posted on Leave a comment

إعلان الميثاق العالمي للأئمة والعلماء

إعلان الميثاق العالمي للأئمة والعلماءإعلان الميثاق العالمي للأئمة والعلماء

قام سبعة من رواد مجالس العلماء ومجالس الأئمة في العالم بوضع ميثاق تاريخي للأئمة والعلماء في الغرب، وهو يحتوي على مبادئ عامة تسعى إلى تحقيق شبكة تواصل وتعارف لغرسها في أطر العمل العام وتشجيع الأئمة والعلماء الآخرين على تبنيها.
وقد توافقت المجالس المؤسسة للميثاق على العمل معًا للتعاون على البر، والسعي في تقديم الصالح النافع للمجتمعات في العالم.
وتهدف شبكة الأئمة والعلماء العالمية إلى تبادل المعرفة، وتعزيز المبادئ الأصيلة لرسالة الإسلام، والحفاظ على الهوية الإسلامية للمسلمين الذين يعيشون في الغرب.

المجالس المتعاونة هي:
المجلس الأوروبي للأئمة (ECI)
المجلس البريطاني للعلماء والأئمة (BBSI)
مجلس الأئمة الوطني الأسترالي (ANIC)
المجلس الكندي للأئمة (CCI)
اتحاد أئمة أمريكا الشمالية (NAIF)
مجلس العلماء المتحد بجنوب إفريقيا
مجلس العلماء من نيوزيلندا.

نص الميثاق (باللغة الإنجليزية)

The Global Imams & Scholars’ Charter

Seven of the world’s leading scholars and imams councils and boards have developed a historic charter for Western imams and scholars.

The British Board of Scholars & Imams (BBSI), Australian National Imams Council (ANIC), European Council of Imams, Canadian Council of Imams (CCI), North American Imams Federation (NAIF), United Ulama Council of South Africa, and Ulama Council of New Zealand have come together to collaborate on mutually beneficial work.

The Global Imams and Scholars Network aims to share knowledge and promote traditional and orthodox principles and the message of Islam and preserve the Islamic identity for Muslims living in the west.

The Global and Imams & Scholars’ Charter are general principles the network seeks to inculcate within their work and encourage other imams and scholars to adopt.

Posted on Leave a comment

إن تنصروا الله ينصركم | من سنن الله في النّفس والحياة

ورد هذا القانون في سورة محمّد عليه السّلام وهي السّورة التي يسمّيها بعض الصّحابة سورة القتال وهي مدنية بدون خلاف. قال تعالى (يا أيّها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبّت أقدامكم). هو قانون في جملة إسمية شرطية مشروطة. وعد صادق لا يتخلّف. كأنّما العلاقة بين العبد وربّه هي كذلك علاقة تعاقدية. بل هي كذلك. هو ميثاق الإيمان والتّوحيد والطّاعة ولزوم الصّراط المستقيم. ومن ذلك أنّه سبحانه لم يكره أحدا على إيمان ولا على كفر. لو شاء لأكره النّاس كلّهم على هذا أو ذاك. ولكنّه خيّرهم جميعا بقوله سبحانه (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر). عدا أنّه حذّرهم مغبّة الكفر وتوعّدهم بتحمّل المسؤولية كاملة وفردية يوم القيامة. ألا ما أطيب أن تكون العلاقة مع الله سبحانه علاقة تعاقدية حرّة. للإنسان فيها إرادته وحرّيته ومسؤوليته.

وأيّ تكريم أعلى من هذا التّكريم. وأيّ تحرير أولى من هذا التّحرير؟ ليس الله سبحانه ضعيفا حتّى يحتاج إلى نصير. إذ هو وحده الوليّ النّصير. إنّما جاء التّعبير مركّزا ليفيد أنّه من ينصر ما يحبّ الله سبحانه ينصره الله سبحانه. إن تنصروا الله معناها إن تنصروا ما يريد هو سبحانه نصره وإعلاءه وتحريره وتكريمه وتفضيله وإظهاره. من دين فيه قيم وكتب وأعمال وأقوال. وغير ذلك ممّا هو معروف. عبّر عن كلّ ذلك بنصرة الله سبحانه لتعظيم الأمر. كأنّما الذي ينصر تلك القيم هو ينصر الله نفسه. هو شبيه بقوله مرّات كثيرات أنّ من يطع الرّسول فقد أطاع الله. لأنّ الرّسول يتكلّم باسم الله وحده سبحانه. وهو مقام لا يتقلّده إلاّ رسول يوحى إليه. بمثل ذلك فإنّ من ينصر دين الله وقيمه في كلّ حقل ومجال وفي كلّ زمان ومكان قدر الإمكان فهو منصور من الله سبحانه. شروط النّصر إذن واضحة جليّة لا تحتاج إلى أحد يزيد بيانا. وليس فيها مزيد لمستزيد. هو شرط واحد لا ثاني له. نحن اليوم في حالة رثّة من حيث أنّنا أمّة احتلت أرضها وديست كرامتها وافترستها الدّيون وانهالت عليها الحراب من كلّ صوب وحدب. كيف المخرج؟ كيف ننتصر ونستعيد مجدنا التّليد؟ كلمة واحدة تلخّص طريق الانتصار: نصر الله سبحانه. أي نصر القيم التي جاء بها دينه عقيدة وخلقا وعبادة وشرائع وشعائر واعمالا وأقوالا وعلوما ومعارف. وغير ذلك مما ورد في الوحي. هل هناك بعد هذا الوضوح من وضوح؟ لنا في تاريخ النّبوّة مثالان كبيران: مثال بدر العظمى. إذ نصر القوم ربّهم سبحانه فنصرهم. ومثال أحد إذ خذل بعض القوم نبيّهم فخذلوا. وأمثلة أخرى كثيرة. بل في المعركة الواحدة ـ الطّائف مثلا ـ يكون نصر وخذلان معا. انخذل بعضهم ـ بل أكثرهم إلاّ قليلا ـ من حوله عليه السّلام في بداية المعركة فخذلوا. فلمّا ثابوا وآبوا نصروا. هو قانون صارم لا يحابي أحدا ولو كان نبيّا مرسلا. ولا يظلم ربّك أحدا.

قانون صارم مطّرد ماض لا يتخلّف. صيغ صياغة مقتضبة جدّا بجملة إسمية شرطية: إن تنصروا الله ينصركم. يسري ذلك على كلّ زمان وعلى كلّ مكان وعلى كلّ قوم. وما تثبيت الأقدام إلاّ صورة من صور النّصر وليس تثبيت الأقدام الوارد في هذا السّياق عدا معنى على تثبيت القلوب في الحياة كلّها إذ لا يثبت قدم حتّى يثبت فؤاد. ليس النّصر المقصود في هذا القانون مقصورا على النّصر في المعارك. ولكنّه النّصر في الحياة كلّها. حتّى مع الإنسان ونفسه. الحرب مثل الصّلاة. لا تستقيم صلاة حتّى تستقيم حياة. فلا خشوع في تلك حتّى يكون خشوع غالب في هذه. ومثل ذلك الحرب. لا نصر في حرب حتّى يكون نصر في الحياة التي قبلها. ولا ثبات في تلك حتّى يكون ثبات غالب في هذا. الإنسان ليس زرّا كهربائيا يعبث بها. إنّما هو نظام عاطفيّ روحيّ عقليّ نفسيّ معنويّ لا تغشاه التّحوّلات بالفجاءة إنّما هي معركة ترويض وتأديب وتزكية وتطهير دائبة دائمة. وممّا يقوّي جانب هذ القانون أنّه جاء مسبوقا بالنّداء الوصفيّ الثّابت لأمّة الإيمان (يا أيّها الذين آمنوا). وهو موضع دستوريّ كما يقول بعضهم. وهذا مفهوم لأنّه لا ينصر الله قوم كفروا به

قوام الأمة: مال وحرمات

ورد هذا القانون مبثوثا في موضعين. قال سبحانه في الموضع الأول منه في سورة النّساء (ولا تؤتوا السّفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما) وقال في الموضع الثّاني في سورة المائدة (جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للنّاس والشّهر الحرام والهدي والقلائد). العبرة هنا بقوله في الموضعين (قياما). وعند جمع الموضعين ـ إذ لا فقه إلاّ باستقراء موضوعيّ لا موضعيّ ـ نفيد أنّ قيام الأمّة بأمرين عظيمين هما: المال والحرمات الدينية. هو قانون منسجم الانسجام كلّه مع ثقافة الإسلام. أي رعاية الجانب المادّيّ والجانب المعنويّ في الآن ذاته. في الإنسان فردا وأسرة وجماعة. الإسلام منسجم كلّ الانسجام مع الإنسان ذاته. فهو يرعى تركيبه المزدوج. لا يتعسّف عليه ولا يحرجه أو يثرّبه. الذين لم يرعوا ذلك الازدواج في الغابر والحاضر فشلوا فشلا ذريعا وهجرهم الإنسان. تلك هي أكبر نقطة قوّة في الإسلام ـ وإن كان كلّه قوّة ـ أنّه يرعى الإنسان فطرة مزدوجة وجبلّة مركّبة. المال وما يرمز إليه من قوّة وريش وما إلى ذلك هو قيام للأمّة. أي لا مناص منه لقيامها. والقيام ضدّ الضّعف والقعود والاستكانة. ومثل ذلك الكعبة البيت الحرام وتعظيم الشّعائر والحرمات بصفة عامّة. ذلك هو أيضا قيام للأمّة.

ربّما اختار الحجّ هنا بسبب أنّه شعيرة تحتوي على العبادات الأخرى. إذ فيه الصّلاة وفيه الصّيام أحيانا وفيه إنفاق المال في إيماء إلى الزّكاة وفيه الجهد البدنيّ وفيه الاجتماع والاشتراك. بل فيه الجهاد كذلك. إذ هو جهاد حقيقيّ. سيما للبعيد والضّعيف. ولكن يظلّ المقصود هو الدّين كلّه بكلّ شعائره وشرائعه. وليس الحجّ هنا ـ سياقا ـ إلاّ ترميزا. لا مناص للأمم كلّها من قيام ماليّ لحضارة الحياة وطيب العيش ومن قيام دينيّ لزكاة الرّوح وطهارة النّفس ومنافع أخرى ومصالح لا تعدّ ولا تحصى. وما عدا ذلك حضارات عوراء وثقافات حولاء وزبد راب سرعان ما تعبث به الرّياح.  تضييع المال بمثل تضييع الدّين. ألسنا نرى اليوم أنّ المال وحده لا يغني من الله شيئا إذ تبرّجت دول وتغوّلت حكومات ولكنّها أشدّ خواء من البطون الجائعة. وبمثلها شعوب مسلمة يفترسها الجوع وهي مؤمنة ويستبدّ بها الألم من كلّ جانب وهي تقيّة ولكنّها تقوى فاسدة؟ هذا قانون عظيم ينبّه الأمّة المسلمة بصفة خاصّة أنّ القيامين مطلوبان. صنوان لا يفترقان. فلا يغني أحدهما عن الآخر في الدّنيا على الأقلّ: القوّة المالية وما تعنيه وما تقتضيه بكلّ آثارها والقوّة الدّينية بما تعنيه وما تقتضيه وبكلّ آثارها كذلك. قوّة مالية بدون قوّة روحية هي شريعة غاب مفترسة مستبدّة مآلها السّقوط المدوّي. وقوّة روحية عزلاء منزوعة الدّسم الماليّ الماديّ معرّضة إلى العدوان في كلّ طرفة عين. ولم ترد كلمة (قياما) بهذا المعنى عدا في هذين الموضعين بما يجعل المرء جازما مطمئنّا أنّ قيام الأمّة بأمرين: المال دنيا والدين روحا

بقلم الشيخ: الهادي بريك

Posted on Leave a comment

قانون الأسباب | من سنن الله في النّفس والحياة

نصّ القرآن الكريم مرّات لا تحصى على قانون الأسباب الذي قوامه أنّه لا تؤكل ثمرة إلاّ من بعد جهد وسبب. من ذلك أنّه أخبرنا عن مريم البتول عليها السّلام إذ هي تحت النّخلة توشك أن تضع وليدها عيسى عليه السّلام. قال لها (وهزّي إليك بجذع النّخلة تساقط عليك رطبا جنيّا). السّؤال هو : أليس هو الذي كتب عليها هذا سبحانه أن تحمل بدون ذكر مسّها وهي فتاة حليمة كريمة تخاف قالات النّاس وأهلها؟ أليس الأجدر إذن أن يأمر هو نفسه سبحانه النّخلة بأن تساقط عليها رطبا جنيّا تأكله وييسّر لها الولادة وربّما يهوّن عليها آلام الوضع؟ ومن يصدّق أنّ امرئ ـ حتّى لو كان قويّا شديدا ـ يمكنه أن يهزّ إليه بجذع نخلة فتساقط عليه من رطبها؟ لا أحد. فما بالك بمريم البتول وهي فتاة صغيرة على وشك الوضع وخائفة. العبرة هي إذن أنّ الله سبحانه أمرها بأن تهزّ إليها بجذع النّخلة ليعلّمنا نحن أنّه لا شيء من دون سبب.

حتّى عندما يتعلّق الأمر بالمعجزات النّبوية. فكيف إذا كان الأمر خارج دائرة المعجزات النّبوية؟ سقوط الرّطب الجنيّ لم يكن بأثر من هزّ مريم البتول عليها السّلام لجذع النّخلة. إنما كان بأمره سبحانه النّخلة أن تفعل ذلك. بمثل ما أمر النّار أن تكون على خليله إبراهيم عليه السّلام بردا وسلاما. وفي مشهد آخر يعلّمنا أنّه لا شيء بدون سبب بشريّ قال سبحانه لعبده موسى عليه السّلام (واضرب بعصاك الحجر). من يصدّق أنّ ضربة موسى بعصاه الحجر هي التي جعلت الماء ينبجس انبجاسا جعل الإسرائيليين كلّهم ببطونهم الاثني عشرة يشربون؟ لا أحد. إنّما هو أراد أن يعلّمنا أنّه لا مناص من سبب يأتيه موسى عليه السّلام.

وبمثل ذلك عندما قال له (واضرب بعصاك البحر). الأمر نفسه. إذ لا يصدّق أحد أن ضربة موسى عليه السّلام هي التي شقّت البحر فكان كلّ فرق كالطّود العظيم. إنّما أراد أن يعلّمنا أنّه حتى في المعجزات النّبوية لا مناص من سبب بشريّ وجهد إنسانيّ ـ هو رمزيّ لا فعليّ ـ فكيف يكون الأمر معنا نحن؟ الأمثلة هنا كثيرة. من ذلك أنّه كثّف قانون الأسباب في قصّة ذي القرنين. إذ ظلّ يقول مرّة من بعد مرّة (ثمّ أتبع سببا). كلّما توجّه إلى جهة ما من الأرض قدّم لذلك بإتّباعه سببا. حتّى الأنبياء عليهم السّلام لا مناص لهم من الأخذ بالأسباب. فمن قصّر في ذلك لا ينال ما كان يريد. أليس كان جديرا بأن يحمي سبحانه نبيّه محمّدا عليه السّلام وهو عائد من الطّائف؟ لم يستجير إذن بمشرك؟ كلّ ذلك لنتعلّم نحن أنّه لا فوز ولا نجاح ولا عمل ولا كسب إلاّ من بعد الأخذ بالأسباب قدر الإمكان. انقسم النّاس في هذا أقساما شتّى فمن قائل أنّ الأسباب هي الحاكمة. ومن ذلك قدّسوا العلم تقديسا. ومن قائل أنّ الأسباب لا عبرة بها سواء أخذ بها الإنسان أم أهملها. ومن قائل أنّ الأسباب مخلوقة من الله سبحانه ككلّ مخلوق. فهو شيّد كونه وخلقه واجتماع عباده على أسباب وسنن وأقدار من أخذ بها فاز ومن فرّط فيها لم ينل مراده. وأنّ الله سبحانه لا يخرق الأسباب في العادة. إلاّ في مناسبات قليلة. وأكثرها ذهب مع آخر بعثة نبويّة. القول الأخير هو القول الإسلاميّ الذي يتوسّط بين الذين يعبدون الأسباب عبادة وبين الذين لا يعيرونها أيّ اهتمام. نحن اليوم أجدر النّاس بالاعتبار بقانون الأسباب الذي أخذت به أمم وشعوب من حولنا فتقدّمت ونمت وتأبّت عن شروخ اجتماعية كبرى وصمدت في وجه محن. وهو القانون ذاته الذي فرّطت فيه أمّتنا في القرون الأخيرة فقعدت بها السّبل. لو لم يكن هذا موثّقا في الوحي لاكتشفته العقول بما جهّزها الباري سبحانه. فكيف وهو منصوص عليه هناك ونراه رأي العين من حولنا؟

لئن شكرتم لأزيدنّكم

ورد هذا القانون في سورة إبراهيم المكية وذلك بقوله (وإذ تأذّن ربّكم لئن شكرتم لأزيدنّكم ولئن كفرتم فإنّ عذابي لشديد). هو قانون مؤكّد بمؤكّدات قوية. منها أنّه جاء بإذن من الله سبحانه. بل بإذن مؤكّد هو نفسه بفعل مزيد. إذنه سبحانه هي إرادته وكلمته ومشيئته. هو الفاعل لما يريد. كما تأكّد هذا القانون بلام التأكيد وبالنّون المضعّفة. وهي للتّأكيد كذلك.

كلّ ذلك ليملأ الأفئدة المؤمنة بعلوية هذا القانون وصرامته. بل إنّه مؤكّد بمؤكّد آخر. وهو نفي ضدّه. إذ قال (ولئن كفرتم فإنّ عذابي لشديد). هو قانون متوازن متعادل. وقال أهل اللّسان أنّ أقوى صيغة لتأكيد أمر يكون بنفي ضدّه. كما في قوله سبحانه (لا إله إلاّ الله). فإذا شيّدت الحقيقة على نفي ضدّها فهي أقوى وأرسخ. الشّكر المقصود هنا الإقرار بالله سبحانه والاعتراف به إلها واحدا أحدا أوحد وربّا بمثل ذلك وحاكما وبمختلف ما وصف به نفسه سبحانه بما يفضي إلى عبادته. وليس كالعبادة شكرا. إذ فيها الرّكوع والسّجود والذّكر والحمد وغير ذلك. والشّكر درجات لا تحصى. محلّها الأوّل هو الفؤاد الذي لا يطّلع عليه إلاّ هو سبحانه واللّسان يصدّق ذلك. والجارحة تنفّذ أشواق الفؤاد وأقوال اللّسان. هو شرط مشروط ووعد موعود: لئن شكرتم لأزيدنّكم. الزّيادة هنا تحتمل زيادة في مناسيب الشّكر التي تحيل بدورها إلى زيادات أخرى في العبادة. كما أنّها تحتمل زيادة في الحياة الطّيبة. والمعنيان يتكاملان ولا يتصادمان. مصداق ذلك كثير منه قوله سبحانه (ولو أنّ أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السّماء والأرض). وقوله كذلك (ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم). يغلب أن يكون القول الفصل هنا في الزّيادة أنّها زيادة في الحياة الطّيبة التي وعد بها سبحانه المؤمنين في الدّنيا. إذ الحياة الطّيبة درجات. عدا أنّ الحياة الطّيبة لا تعني انفكاك الابتلاء عن الإنسان. ولا تعني كذلك عدم تعرّضه إلى محن واختبارات وامتحانات وعنت ورهق ومشاقّ. طيب الحياة في الإسلام في رضى الفؤاد أوّلا. وسكينة المهجة ثانيا. وسلامة القلب ثالثا. وما تيسّر من بعد ذلك من المال والمتاع فهو كاف وزيادة.

ألسنا نرى اليوم بأمّ أعيننا كيف أنّه كلّما ارتفعت درجات التّرف ارتفعت معها درجات الانتحار وانتشار أمراض الكآبة؟ ولكن وردت الزيادة هكذا مرسلة مطلقة عامّة. لتكون شاملة جامعة. الله يزيد عباده دوما. ألست تقرأ في القرآن الكريم أنّه في الآخرة ـ لأهل الجنّة ـ للمؤمنين زيادة؟ اختلفت كلمة المفسّرين في هذه الزّيادة. ولكنّها زيادة. وكلّ زيادة هي زيادة خير. من يكون رضيّا يزاد رضى ومن يكون هنيئا يزاد هناء. الجزء الثّاني من القانون ـ بل هو زوجه وصنوه الذي يعضده ولا يخذله ـ هو (ولئن كفرتم فإنّ عذابي لشديد). لم يقل هنا: لأزيدنّكم. لأنّ زيادة الكفر ليست زيادة. وإن كانت زيادة فلا تنسب إلى الله سبحانه. وهو ما يرجّح بقوّة أنّ الزّيادة الأولى هي زيادة شكر ورضى. ولا ينفي ذلك زيادة مال ومتاع وقوّة. يحمل القانون البشرى والنّذارة معا حدبا على سنّة القرآن في الجمع دوما وفي كلّ موضع بين التّرغيب والتّرهيب لعلّ النّفوس ترعوي وتنزجر وتثوب إلى الله سبحانه

بقلم الشيخ: الهادي بريك

Posted on Leave a comment

من يعمل سوء يجز به | من سنن الله في النّفس والحياة

ورد هذا القانون في سورة النّساء المدنية. حزن الصّحابة عليهم الرّضوان إذ ظنّوا أنّ الجزاء على السّوء يكون يوم القيامة. فلمّا سألوه عن ذلك عليه السّلام طمأنهم بقوله أنّ ذلك في الحياة الدنيا. القانون وارد بصيغة العموم (من). ليشمل كلّ إنسان. والجملة شرطية صارمة. وهذا من فضل الله سبحانه أنّه يعجّل بعض العذاب لعباده في الدّنيا لتحريرهم من عذاب الآخرة ووقايتهم منه. إذ أنّ عذاب الآخرة أخزى وأشقى وأبقى. وهو متوافق مع قانون سابق (ظهر الفساد في البرّ والبحر بما كسبت أيدي النّاس). عدا أنّه ربما يكون هذا القانون الذي نحن بصدده الآن متعلّقا بالفرد ويكون القانون السّابق متعلّقا بالأمم والشّعوب. ولكنّ المعنى واحد. ولا يتنافى هذا مع عدم تعجيل العذاب لعباده في الدّنيا. ذلك أنّه ما يصيب المرء في الدّنيا هو تكفير عنه. وليس هو تعجيل للعذاب بالكلّية. وهو ما صدّقه حديثه عليه السّلام إذ قال أنّه ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا همّ ولا حزن ولا أذى ولا غمّ حتّى الشّوكة يشاكها إلاّ كفّر الله بها من خطاياه.

وقد روى هذا أبو هريرة وأخرجه الشّيخان. إذا كان هذا خاصّا بالمؤمن فهو تفضيل له وتكريم. فهو لا يستدرج ولا يمدّ له حتّى يظنّ أنّه لن يؤاخذ. وفي كلّ الحالات فإنّ هذا القانون من رحمة الله سبحانه بعباده. فمن تنبّه لهذا القانون إذ يصاب بأيّ مصيبة صغيرة أو كبيرة (حتّى الشّوكة يشاكها) فإنّه يعلم أنّ ذنبا اقترفه أو سوء أتاه. وهي فرصة ليستغفر ويتوب إلى الله سبحانه. القانون لا يحمل صرامته فحسب. ولكن كذلك يحمل للمؤمن ذكرى ليكون حاضرا الزّمان والمكان والحال فيتيقّظ ويتنبّه. ولا وجود لامرئ ـ من المؤمنين أنفسهم عدا الأنبياء المعصومين عليهم السّــــــــــــــلام ـ يفلت من إتيان أيّ معصية مهما دقّت أو قلّت أو صغرت أو كانت لمما. ومن ذا فإنّ هذا القانون كفيل بتطهيره قبل رحيله. وبتذكيره بسبب مصيبته. وقوله سبحانه (يجز به) يعني أنّه لن يؤاخذ بذلك يوم القيامة. إذ لا يحاسب المرء مرّتين. ومن ذا قال العلماء أنّ الكفّارات في الدّنيا مطهّرات. وهو الأرجح. فضلا من ذي الفضل سبحانه. والله سبحانه أرحم من أن يعاقب عبده المؤمن مرّتين

الصّلح خير

ورد هذا القانون في سياق معالجة المشكلات الطّارئة بين الزّوجين في سورة النّساء المدنية. وليس هو خاصّا بذلك السّياق. إنّما هو قانون عامّ. وذلك هو نظم القرآن الكريم فهو يقرّر سننه في أكناف سياقاتها ابتداء. ولكنّها تتعدّى ذلك السّياق لتكون محكّمة. سيما أنّه جاء في ثوب جملة إسمية. كان كذلك ليثبّت نفسه. إذ ما ورد في جملة إسمية حقّه التّثبيت والتّرسيخ. الصّلح خير دوما. وهو في هذا السّياق خير من الطّلاق رحمة بالأسرة وبمن في الأسرة سيما من الذّريّة وخير للعائلات المتصاهرة وللمجتمع وللأمّة وللبشرية. الصّلح خير من تهديم مشروع وتحطيم شجرة وتعطيل بئر. ولذلك عقّبه بقانون آخر قال فيه سبحانه (وأحضرت الأنفس الشحّ). في إشارة إلى أنّ النّفوس عادة ما تنفر من الصّلح. سيما إذا كانت في حالة غلبة وقهر وعلوّ. ولكنّ الصّلح يكون خيرا دوما بين النّاس فرادى وجماعات وأحزاب ودولا وقبائل وجيران وشركاء ومنظمات وغير ذلك. وخير ما قيل في الحرب: أيسر طريق لربحها هو تفاديها. الطّلاق حرب واشتعال المشاكل المدمّرة حرب. ولذلك جاء الإسلام يرسي دعائم السّلم والأمن والتّفاهم بين النّاس بدون هوادة. حتّى إنّه قال سبحانه (كتب عليكم القتال وهو كره لكـــــم). ومن يحبّ الموت حبّا؟ لا أحد. ولكنّ يكون الموت في سبيل الله وفي سبيل المستضعفين ـ كما قال الله سبحانه نفسه ـ تحريرا للقيم التي أرادها الله سبحانه وأمر بها وتحريرا للمقهورين. ألم يسمّ نفسه سبحانه السّلام. وجعل السّلام تحية النّاس بينهم بعضهم مع بعض؟ وقال عليه السّلام مقيّدا هذا الصّلح (إلاّ صلحا أحلّ حراما أو حرّم حلالا).

فهذا لا صلح فيه. لأنّ الصّلح عمل إسلاميّ صالح والإسلام لا يتناقض. فلا يكون صلحا جائرا ضدّ شريعة الله سبحانه ليحلّ حراما بيّنا صحيحا صريحا أو ليحرّم على النّاس مباحا. ولكن يتسلّل المنافقون هنا ليدثّروا الاستسلام والقهر والاستعباد والرّق والاحتلال بدثار الصّلح. وتنطلي الحيلة على بعض المسلمين السّذج. الصّلح خير عندما يكون في صالح الطّرفين أو الجهتين أو المتخاصمين. أمّا عندما يكون جائرا قاهرا ظالما فليس هو صلح. إنّما هو قهر مضاف مركّب. عندما يهجم عليك أحد في بيتك ليحتلّ منه غرفة أو أكثر فإنّ الحديث عن الصّلح هنا نفاق مكذوب يتسلّى به الجهلى وينفقه الحمقى. وبمثل ذلك عندما يهجم عليك أحد في بلادك ووطنك وأرضك. يكون الصّلح مشروعا مطلوبا عندما يكون النّاس في حالة تشارك في شيء ما أو أمر ما. ثمّ يكون خلاف. من مثل حالة الزّوجية. الزّوجان في حالة تشارك. أمّا عند الحرابة والقهر والظّلم فلا صلح ولكن مقاومة وجهاد

بقلم الشيخ: الهادي بريك