Posted on Leave a comment

في الحاجة إلى الاعتكاف

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه

كثيرة هي السنن الواردة عَنْ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى الله عليه وآله وسلَّمَ، غير أن بعضها يكاد العمل به يُنسى فلا يُذكر إلاّ همسا. من ذلك سنة الاعتكاف، فعَن عبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ـ رضى الله عنهما أنه قَالَ : «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ» رواه البخاري. فما السبيل إلى إحيائها علّ قلوبنا تحيي بها.

‏إن من أهم ما تهفو إليه قلوب المؤمنين في شهر الصيام هو أن توافق ليلةَ القدر التي صحّ عن النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّمَ أنها في العشر الاواخر منه و بالأخص في لياليه الوترية، عن عائشةَ رضِيَ اللهُ عنها أنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه و آله وسلَّمَ قال: «تَحرُّوا ليلةَ القَدْر في العَشْر الأواخِر من رمضانَ»  رواه البخاريُّ ومسلم، و ، و عنها رضِيَ اللهُ عنها أنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه و آله وسلَّمَ قال: «تَحرُّوا لَيلةَ القَدْرِ في الوَتْر من العَشرِ الأواخِرِ من رمضانَ »  رواه البخاريُّ.  و لأجل إدراكها و نيل فضلها يُسنّ للمسلم الاعتكاف في هذه العشر ليصير بذلك مغمورا في رحمات الله، مبتهلاً إليه قائماً لياليها مرابطاً أيامها ذكراً و قراءةً و تدبراً، منتظراً الصلاة بعد الصلاة، راجياً من الله أن تمحى سيئاتُه و ترفع درجاتُه: عن أَبي هريرة رضِيَ اللهُ عنه أَنَّ رسولَ اللَّه صلَّى الله عليه و آله وسلَّمَ قالَ: «أَلا أَدُلُّكُمْ عَلى مَا يمْحُو اللَّهُ بِهِ الخَطَايَا، وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟ قَالُوا: بَلى يَا رسولَ اللَّهِ. قَالَ: إِسْباغُ الْوُضُوءِ عَلى المَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الخطى إِلى المَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلاةِ بعْد الصَّلاةِ، فَذلِكُمُ الرِّباطُ، فَذلكُمُ الرِّباطُ» رواه مسلم. وعَنْه رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ قَال: «… وَإِذَا دَخَلَ المَسْجِدَ، كَانَ فِي صَلاَةٍ مَا كَانَتْ تَحْبِسُهُ، وَتُصَلِّي – يَعْنِي عَلَيْهِ المَلاَئِكَةُ – مَا دَامَ فِي مَجْلِسِهِ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ، مَا لَمْ يُحْدِثْ فِيهِ » رواه البخاري ومسلم

جعل الله القرآن الكريم مُبارَكاً وللأنفس مُبارِكاً، وزاد من بركاته في الأيام والليالي المباركة وأعلاها ليلة القدر، حيث جعلها خيرا من ألف شهر، دون أن يحدد لفضلها عددا ـ وهو سبحانه الواسع العليم ذو الفضل العظيم ـ وما ذاك إلا ليتفضّل على عبده ويوسّع له في المدد إن هو تعرّض فشمّر واستعدّ، وفي هذا حديث مرفوع اختُلف في إسناده رواه الطبراني عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ أنه قال: « إن لربكم في أيام دهركم نفحات، فتعرضوا لها » ولأجل هذا نصح رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ أن تُلتمس ليلة القدر في العشر الاواخر من رمضان، والالتماس طلب جادّ !  

إنه ليجمل بأهل الفضل أن يحيوا هذه السنة الكريمة على قدر المستطاع ولو لأيام، بل ليوم وليلة حسب ما هو مقرر عند المالكية، فمن لم يستطع فله أن ينوي ذلك ولو لساعة عند الآخرين إذ الاصل في الاعتكاف مكوثُ مدّة في المسجد للعبادة، وقد نبّه القرآن ضمنيا إلى فضيلة الاعتكاف بذكره في سياق الحديث عن آيات الصيام {… وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} (البقرة 187)، بل ختمها به في تناسق بين الألفاظ والمعاني، حيث يُندب أن يُختم به شهر الصيام وهو أفضل أوقاته عند الفقهاء.

لعلنا نستثقل أمر الاعتكاف فنتثاقل عنه ونحن أحوج ما نكون إليه. نحتاج في هذا إلى إمعان النظر وتقليب الفكر ليتبين الأمر.

للعبد حاجات في الدين والدنيا يكدح من أجلها وقد يبلغ بعضها أو جلّها، وفي كل أطواره هو محتاج إلى ربه من أجل ضبط سيره، وأيم الله إن الاعتكاف لفرصة كبرى تفتح للعبد أبوابا للخير أولُها إصلاح القلب الذي عليه المعوّل. ورحم الله الامام ابن عطاء الله القائل: «ما نفع القلبَ شيء مثل عُزلة، يدخل بها ميدانَ فكرة». إنّ ميدان الفكر يحتاج إلى الذّكر وكلاهما أساس لبناء القلب لعله يصحّ من العبد فيصحّ.

ذكر الامام الغزالي في كتاب التفكر من الإحياء من مجاري الفكر ما يوسّع آفاق النظر القلبي في الكون والنفس وفي علاقة الإنسان بربّه وبغيره. إنّ الواجبات والمندوبات كثيرة والأعمار قصيرة ولا بركة لها في غير مجال القران الكريم. فعلى المؤمن أن يقف وقفة تأمل ومحاسبة لتصحيح السير قبل أن ينقطع به، وذلك من خلال تدبّره لكلام ربّه.

من أجل هذا نسوق تساؤلات يشترك فيها المؤمنون والمؤمنات بطرحها على أنفسهم بكامل الصدق:  ماحقيقة إيماني ومعرفتي ؟ وماذا قدمت من أعمال ليوم غد؟ وماذا عملت فيما علمت؟ وما حقيقة إخلاصي فيما فعلت؟ ما موقعي بين الناس في دنيا الناس؟ بل ما مقامي عند رب الناس؟ وهل أنا مما ينتفع به الناس؟ وهل أحسنت الاستفادة من الناس؟ كلّ الناس! وهلمّ جراّ. ولكلّ هموم وشجون

 في زحمة الدنيا وهمومها قد تفوت العبدَ فرصةُ هذه التأملات، لذا فالأجدر به أن يستغل هذه الأيام والليالي المباركة للتدبر في آلاء ربه وسبر أغواره نفسه حتى تنجلي له صورتها فيعرف بفضل الله مكامنَ الخير والشر منها ليزكّيها. فإنّ تزكيتها منوطة به لا بغيره بل هي رأس الواجبات، وقد أقسم الله في سورة الشمس على هذه الحقيقة بمختلف ظواهر هذه الكون لشدة تقلّبات هذه النفس. فلا بد من تزكيتها، ولا يحصل لها ذلك إلاّ بالتعلق والإنابة إلى بارئها سبحانه القائل: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَىٰ مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (النور 21)، والله سميع الدعاء عليم بحال وصدق من مدّ يد قلبه وتوجّه إليه.

ما أعظم العبرة في أن يذكر الله الدعاءَ في قلب سياق آيات أحكام الصيام، ولا شك أنّ الاعتكاف معين عليه ظاهرا بفتح مجال التفرغ له وباطنا بإزالة الشواغل الصارفة عن إجابته: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: «ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لَاهٍ» رواه الترمذي والحاكم.

 وحول ضرورة الدعاء أوصى رسول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ بطلب العفو عند التماس ليلة القدر لأنه من أهم مستلزمات العبادة، عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت: قلتُ يا رسولَ اللهِ، أرأيتَ إن علمتُ أيَّ ليلةِ القدرِ ما أقولُ فيها؟ قال: قولي: اللهمَّ إنك عفوٌّ تُحبُّ العفوَ فاعفُ عنِّي» أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجة وأحمد.

إنّ العفو هو مفتاح معراج الروح لأنّ محو الذنوب أساس طهارة القلوب لتصلح للقرب من علّام الغيوب، ولا انتفاع للعبد بغير سلامة قلبه في المآل: {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ. إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}. (الشعراء 89).

ليس لنا أن نحجّر واسعا فندّعي أنّ الاعتكاف هو السبيل الأوحد لنيل فضل ليلة القدر، وإنما نذكّر أنه أفضل ميدان للذكر والفكر، لترتيب أولويات الملفات قبل الفوات.

اللهمَّ إنك عفوٌّ تُحبُّ العفوَ فاعفُ عنِّا. آمبن

أخوكم عبد الجليل حمداوي

Posted on Leave a comment

إنّ الحسنات يذهبن السّيئات | من سنن الله في النّفس والحياة

 ورد هذا القانون في سورة هود المكية. ومناسبته أنّ رجلا نال من امرأة لا تحلّ له شيئا. منهم من قال إنّه نال منها قبلة أو قبلات. ومنهم من قال إنّه نال منها أكثر من ذلك عدا الإيلاج. جاء هذا الرّجل إلى النّبيّ محمّد عليه السّلام متطهّرا فنزل عليه ـ عليه السّلام ـ قوله سبحانه (أقم الصّلاة طرفي النّهار وزلفا من اللّيل إنّ الحسنات يذهبن السّيئات ذلك ذكرى للذّاكرين). فقال الرّجل: أهذا لي خاصّة؟ قال عليه السّـــــــــــلام: لا بل هو للنّاس عامّة. وهو مستفاد من قوله سبحانه (ذلك ذكرى للذّاكرين).

هذا قانون من قانون التديّن قوامه أنّ من أساء فأحسن أذهب صالح عمله سوءه. ويؤكّده حديثه عليه السّلام (اتق الله حيثما كنت وأتبع السّيئة الحسنة تمحها وخالق النّاس بخلق حسن). كما أفاد هذا أنّ الصّلاة من الحسنات التي تذهب السّيئات وهو ما يصدّقه قوله عليه السّلام (الصّلاة إلى الصّلاة والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان والعمرة إلى العمرة مكفّرات لما بينهنّ).

زاد بعضهم: إذا اجتنبت الكبائر. ويغلب أنّها زيادة تفسيرية من بعض الصّحابة. ومعلوم أنّ السّيئات التي تذهبها الحسنات ليس منها العدوان على الإنسان عرضه وماله وبشرته وما يتقوّم به ويتبلّغ. وليست الصّلاة هنا ـ على عظم قدرها وأنّها محطّة تكفير دون ريب ـ عدا مثالا من الحسنات. إذ ثبت أنّ الصّحابة يتصدّقون عندما يقترف بعضهم سوء ليس فيه قصاص ولا حدّ ولا تعزير. وهو ما يصدّقه قوله عليه السّلام (الصّدقة تطفئ غضب الرّحمان). الصّلاة إذن والصّدقة محطّات تكفير. ولكنّ التّكفير لا يتوقّف عندهما فحسب. ذلك أنّ هذا يلتقي مع قانون آخر وهو أنّه عندما يكون التّكفير من جنس السّيئة يكون غفران الله سبحانه على مرمى حجر أو هو أقرب. يصدّق ذلك أنّ من وقع في عرض أخيه يكفّر عن ذنبه بالذبّ عنه. ومن فوائد هذا القانون كذلك أنّ السّيئة هنا ليست هي الكبيرة سواء بالعودة إلى سياق مناسبة الآية أو إلى السّياق العامّ. إذ لو كان شأن هذا الرّجل مع تلك المرأة أكثر من ذلك ـ بأن واقعها مثلا ـ فلا تكفيه حسنة الصّلاة. إنّما لا مناص من العقوبة المعروفة إذا رفع الأمر إلى القاضي. هنا تشتبك نصوص من الوعظ مع نصوص من الفقه. يشغب هذا كثيرا على كثير من النّاس إذ يعتصم بعضهم بالفقه الذي هو باتّ في التّمييز بين السّيئة والكبيرة وأنّ الأولى تكفّرها مثل تلك الأعمال في حين أنّ الأخرى أثقل من ذلك. ويعتصم آخرون بالمواعظ التي وردت على ألسنة بعض الصّحابة أو غيرهم ممّن ألف فيها (السّكندريّ مثلا). من ذلك ما قاله أحد الصّحابة أنّه لا صغيرة مع إصرار ولا كبيرة مع استغفار. هذه وردت مورد الوعظ. إذ لا يسلّم الفقه أنّ بعض الكبائر سيما المتعلّقة بحقوق العباد يذهبها الاستغفار. كما أنّ السّيئة ـ التي عبّر عنها كثيرون باسم الصّغيرة ـ أو هي اللّمم في قول بعضهم يذهبها الاستغفار وتجدّد التّوبة. سيما أنّ بعضها لا يسلم منها أحد عدا من عصم الله سبحانه من الأنبياء.

لا مناص للمؤمن من الجمع بين قوانين الفقه في دقّته وصرامته وبين حليات المواعظ. ولكنّهما يتكافلان معا على صناعة الشّخصية المسلمة المتوازنة. ودون شغب من الموعظة على الفقه ولا من الفقه على الموعظة. هذا تعالج معروف في تاريخنا بين هؤلاء وأولئك. ولكن يظلّ للموعظة وقعها ما نأت عن سنّ القوانين ويظلّ للفقه سلطانه ما لزم الدّقة والتأصيل. وما يهمّنا هنا هو أنّ هذا القانون سنّه القرآن الكريم نفسه. وهو تبشير للمؤمنين ونأي بهم عن اليأس والقنوط ودفع لهم نحو الإيجابية واعتراف بالواقعية وبقصور الإنسان وتأكيد لرحمة الله سبحانه. جاء هو كذلك ـ كالعادة تقريبا ـ مرتديا جملة إسمية مؤكّدة. كما جاء عامّا للذّاكرين جميعا. إذ ليس في هذه القوانين من خصوصية بزمان أو مكان أو فلان. يستنكر بعض الشّباب كيف يقع هذا من رجل يفترض أنّه صحابيّ ـ على خلاف معروف في تعريف الصّحابيّ ـ. كيف يقبّل امرأة لا تحلّ به أو ربّما كيف ينال منها أكثر من ذلك؟ هؤلاء عليهم أن يفقهوا حقّ الفقه أنّ الشّريعة لم تأت لتصنع من عالم الإنسان فضاء ملائكيّا خالصا. إنّما جاءت لتزكّي النّاس وتطهّرهم وتفتح أمامهم أبواب الأمل فلا يقنطوا من رحمة الله سبحانه. ومن أروع ما صاغ السّكندريّ قوله (ربّ معصية ورّثت ذلاّ خير من طاعة ورّثت كبرا). ومن رحمة الله سبحانه بنا أنّه أخبرنا أنّ من يجتنب الكبائر فحسب يغفر له ما اقترف من السّيئات وهي التي يسمّيها النّاس صغائر. الذين لا يرحّبون بهذا على خطر عظيم ويعسر جدّا أنّ يفيئوا إلى الله سبحانه فيئة صادقة كفيلة بالغفران

سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم

ورد هذا القانون في سورة فصّلت المكية. هو وعد منه سبحانه ـ بل ربّما يكون وعيـــــدا ـ أنّه مظهر دينه بما يري النّاس من آياته العظمى أنّه الإله الواحد الأحد الأوحد فهو الجدير بالعبادة. الآيات المقصودة هنا يغلب أن تكون من جنس الآية التي جاء بها القرآن الكريم. أي آية العقل والإقناع ومخاطبة النّفوس والإحاطة بها من كلّ الجوانب ترغيبا لها في الإيمان ونبذ الكبر الذي يثمر الكفر. قد يري الله سبحانه النّاس في زمن ما ومكان ما آياته الخارقة التي تظلّ الأعناق لها مشرئبّة. هذا ممكن ووراد ولكنّه ـ بعد اكتمال الدّين وإتمام النّعمة ـ ليس هو الأصل. هذا موضوع شغل الكتاب العزيز فيما لا يحصى من المواضع أنّه لن يلبّي الرّغبات الجانحة المجنونة للنّاس أنّه ينزّل عليهم آية من السّماء خارقة. كما كان يفعل بالأقوام السّالفين. كما بيّن سبحانه في مرّات كثيرات أنّهم لا يطالبون بتلك الآيات الخارقات بسبب نقص في الرّسول أو بسبب نقص في كتابه الذي جاء به. ولكن بسبب كبر آثم في صدروهم. إذ يريدون معاندة الوحي وتعجيز الرّسول والسّخرية منه والتّفصّي من الإيمان فيعمدون إلى المطالبة بآيات خارقات ولا يكفّون عن ذلك. لا يستطيع المرء الجزم بأنّ تلك الآيات المادية انتهى دورها بالكلّية.

ولكن يستطيع المرء أن يطمئنّ إلى أنّ الأصل في الآية التي على أسّها يؤمن النّاس أو يكفرون إنّما هي حصرا وقصرا القرآن الكريم الذي يخاطب العقول والنّفوس والأرواح ويحيلها إلى النّظر في تضاريس الكون وتضاريس النّفس وتضاريس التّاريخ حتّى يكسبوا إيمانا صحيحا سالما متجدّدا. ذلك هو الأصل ولكنّه سبحانه قد ينزل بعضا من تلك الآيات المادية في زمن ما ومكان ما لحكمة يعلمها وحده سبحانه. هو قانون في ثوب وعد أو وعيد. هو وعد لأنّ القرآن الكريم ولاّد بآياته العقلية التي يحيل النّاس فيها على أنّه معجز ـ ليس من النّاحية البيانية كما نقول نحن اليوم وبالأمس كسلا منّا أو عجزا وقصورا ـ إنّما هو معجز بكلّ ما فيه من تشريعات عقدية وقيمية وتعبّدية وأسرية عائلية ومالية اقتصادية وإدارية وسياسية وغير ذلك. مناط الإعجاز فيه شامل جامع. ولكن تأخّرنا كثيرا حتّى نصوغ ذلك في مدوّنات تترجم إلى اللّغات التي يرطن بها النّاس من حولنا. وهو وعيد كذلك إذا احتملنا أنّه سبحانه ينزل يوما ما آيات مادية خارقة.  تكون تلك الآيات في الآفاق وفي الأنفس. الآفاق ليس بمعناها المادّي فحسب. إنّما هي آفاق علمية معرفية عقلية. في الآفاق العائلية الأسرية اليوم مثلا تبيّن لكثيرين ـ من مفكّرين إنجليز مثلا ـ أنّ التّشريع الإسلاميّ في بناء الأسرة وإدارتها وعلاجها هو الأنسب. في الآفاق التحرّرية تبّين كذلك لكثير من الغربيين والغربيات في العقود الأخيرة أنّ الحرّية المزعومة التي لا تعرف حدودا هي حرّية الحيوانات والعجماوات وليست هي الحرّية المناسبة للإنسان.

من الأمثلة النّاصعة على ذلك الإعلامية الألمانية التي أنتجت باقة طيّبة من الكتب في هذا الاتجاه والتي وقع طردها من المؤسّسات الإعلامية الفضائية الألمانية بسبب ذلك (إيفي هرمان). وأمثلة أخرى يضيق عنها المجال هنا. هي آفاق كثيرة ستظهر فيها ـ بل بدأت بالظّهور ـ آيات الله سبحانه أنّه هو الحقّ. وأنّ تشريعه في كلّ مجال وحقل هو الأنسب للإنسان. ستظهر هذه الآفاق في المجال الماليّ الاقتصادي عمّا قريب إن شاء الله بسبب ما ترزح منه البشرية جمعاء قاطبة تحت وطأة المعاملات الرّبوية التي أنهكت أزيد من أربعة أخماس البشرية. وآفاق أخرى تنظر دورها. وهي آيات في النّفوس كذلك. المقصد الأسنى من إراءة الله سبحانه النّاس آياته في الآفاق وفي أنفسهم هو تبيّن الحقّ. قال سبحانه (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتّى يتبيّن لهم أنّه الحقّ). يتبيّن للنّاس جميعا أنّ هذا الكتاب هو الحقّ. وهو من عند الحقّ سبحانه. وقوله الحقّ الذي ليس بعده إلاّ الضّلال. هذا من رحمة الله سبحانه بالنّاس. هو لا يحيلهم إلى النّظر في الكون والتّاريخ فحسب. وإنّما يبيّن لهم آياته في آفاق حياتهم وآفاق معاشهم وفي أنفسهم. كيف يكون ذلك في أنفسهم؟ ربّما يكون في الحياة الفردية لكلّ واحد منهم إذ أنّ الإنسان أبصر بحاله وبنفسه. وربّما يكون ذلك في الجهاز النّفسيّ لكلّ واحد منهم إذ الإنسان هو جهاز نفسيّ مركّب معقّد مزدوج التّركيب. وليس البدن إلاّ وعاء يحفظ ذلك الجهاز إلى حين. وربّما يكون ذلك في البدن ذاته بما تقدّمت فيه علوم الطبّ والتّشريح وغير ذلك. كلّ ذلك محتمل من قوله سبحانه (وفي أنفسهم). الآفاق تكون بعيدة والنّفوس تكون قريبة. وهو تقابل بينهما جميل يعني أنّ الآيات عندما تأتي تجمع القريب بالبعيد والأقصى بالأدنى.

بقلم الشيخ/ الهادي بريك