Posted on Leave a comment

الترقي الأخلاقي من خلال الصوم

الحمد لله،  و الصلاة و السلام على رسول الله و آله و صحبه و من والاه.

تنزّه ربنا عزّ و جلّ عن العبث في شأنه كلّه، في خلقه و أمره. {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ۗ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (الأعراف 54). فقد سخّر للإنسان الخلائق طرّاً و أرسل لأصلاحه الرسل بشرائعه تتراً، {وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} (الرعد 8).

فلَإن كان تحقيق المصلحة مطلبا في الشرع بضوابطه كما يقرّره أهل المقاصد، فإنّه يجمل بنا أن نفقه من تشريع الصوم بعض المقاصد، تفريعا عن المقصد الأسمى و هو نيل التقوى كما ذكرته آية الصوم : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة 183)، و ذلك من خلال تأمّل بعض ما صحّ من أحاديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في باب الصوم ممّا له علاقة بخصائص الإنسان الجسمية و العقلية و الروحية.

خلق الله الإنسان في أحسن تقويم و أودع فيه من الخصائص العجيبة أن جعله مجمع الطين و الروح بل ملتقى الأرض و السماء، في تسوية صدر عنها إلهامُه فجوره و تقواه، فقد قال ربنا في سياق أطول قَسَم في القرأن: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا . فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} (الشمس 7-8).

و لا شك أن رفعة الإنسان منوطة بمقام روحه، و أبونا آدم عليه السلام لم تسجد له الملائكة إلا بعدما نفخ الله فيه من روحه، و إن كان له من قبل نوع تكريم أن خلقه الله من طين، غير أن الله أتمّ عليه النعمة بالروح. {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن طِينٍ  فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ.} (ص 71-72).

وقد ذكر علماء التربية و السلوك من أهل ملّتنا كالغزالي و ابن قيم من بين آخرين – رحم الله الجميع – خصائص للإنسان قد تنزٍل به إلى مسافل الشيطان و قد يرتفع بها إلى مصافّ ملائك الرحمان، من ذلك الصفات الحيوانية  بقسميها البهيمي و السبعي و الشيطانية و المَلَكية. فمن النزول في دركات الصفات البهيمية و الشيطانية إلى العروج في درجات الصفات المَلَكية يتقاسم الناس حقيقة أنفسهم و إنسانيتهم. و لله درّ أبي الفتح البستي رحمه الله القائل :

يا خادمَ الجسمِ كمْ تَشقَى بِخِدْمَتِهِ .. أتَطلُبُ الرِّبْـحَ فيما فيه خُسـرانُ

أقْبِلْ على النفسِ واسْتكمِلْ فَضائِلَها .. فَأَنْتَ بالنفسِ لا بالجسمِ إنسـانُ

حول الصفات البهيمية: معلوم أن بعض المباحات من حاجات الإنسان تصير من الممنوعات للصائم في نهار رمضان، و هي ما يتعلق بالأكل و الشرب و الجماع مما يشترك فيه مع الحيوان. و لقد أراد الشارع الحكيم أن يتخفّف المؤمن من ثقلة حاجات جسمه ليرقى بروحه و يكتشف حقيقة ذاته و ما أودع الله فيه من أسراره فشرع له الصوم. غير أن الإحجام عن إتيان هذه المباحات لا يأتي أكله إلا بالإمتثال لوصفة ربانية تحافظ على توازنه من خلال ضبط باقي صفاته و خلاله.

حول الصفات السبعية: عنْ أَبي هُرَيرَةَ رضيَ اللَّه عنهُ قالَ : قالَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم: « إِذا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحدِكُمْ ، فَلا يَرْفُثْ وَلا يَصْخَبْ ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ ، أَوْ قاتَلَهُ ، فَلْيَقُلْ : إِنِّي صائمٌ» متفقٌ عليه.

الرّفث كلمةً جامعةً لما يريد الرجل من المرأة في سبيل الاستمتاع بها، و عليه فإن معناه في هذا يعود إلى ما ذُكر أعلاه، غير أنه يطلق في العموم على الفحش من القول كما في مختار الصحاح.

لقد كان من هديه صلى الله عليه وآله وسلم النهي عن الغضب. و في هذا الحديث يحثّ عليه الصلاة و السلام على ضبط الهوى و الغضب بنهيه عن الفحش و الصخب و لو تعرّض المؤمن للشتم و السبّ، و كأنه يذكّره أن فترة صومه هي أعظم فرصة له ليتحلّى بالحلم فيرقى بأدبه. و قد ورد عنه أنه قال فيما أخرجه الترمذي : «الصوم نصف الصبر». و هل الصبر إلا ضبط النفس!

حول الصفات الشيطانية:

عنْ أَبي هُرَيرَةَ رضيَ اللَّه عنهُ  قال : قال النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم : «مَنْ لَمْ يَدعْ قَوْلَ الزُّورِ والعمَلَ بِهِ فلَيْسَ للَّهِ حَاجةٌ في أَنْ يَدَعَ طَعامَهُ وشَرَابهُ» رواه البخاري.

إتيان الزور قولا و عملا ترجمة لنفسية اصطبغت بروح الشيطان. و بتدبر آيات القرآن التي تذكر الشيطان نجد أن من أعظم وسائله تزيين سوء العمل : {… وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ} (النمل 24). و تزينه للسوء تزوير للحقائق بل هو عين الزّور، و لا يخفى ترابط كلمتي الزور و التزوير لفظا و معنى.

و بتزوير الحقائق تُبث العداوات بين الناس، لذا جعل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الزور فيما صح عنه من أكبر الكبائر لما يتولد عنه من فوات حقوق الناس و نشر العداوات، فصاحب الزور موال للشيطان في المقصد. و صدق الله إذ يقول : {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ …} (المائدة 91). بهذا يكون الزور قد جمع أطراف الشر و سيلة و مقصدا باقتفاء أثر الشيطان، و في مجال الصوم يسهل الترفع عن هذا المرض فلا يهوي العبد إلى دركات الصفات الشيطانية.

في سبيل الإرتقاء إلى الصفات الملكية : شهر الصيام هو شهر القرآن. و ارتباط الملائكة بالقرآن ظاهر لكل من قرأ آيات ربه. فهو {فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ . مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ . بِأَيْدِي سَفَرَةٍ . كِرَامٍ بَرَرَةٍ} (عبس 13-16). و قد {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} (193الشعراء) و هو جبريل عليه السلام.

عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال: “كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أجودَ الناس، و كان أجودُ ما يكونُ في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريلُ يلقاه في كل ليلة من رمضان، فيُدارسه القرآن، فلَرسولُ الله صلى الله عليه وسلم حين يلقاه جبريلُ أجودُ بالخير مِن الريحِ المُرسَلة”؛ متفق عليه.

إذا كانت روحانية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تزداد تألقا بفضل لقاء جبريل في معرض تلاوة القرآن و مدارسته و هو من هو في سماء الطهر و النور، فإن فرصة لقاء ملائك الرحمان تبقى متاحة للمؤمن حسب مقامه، و يشهد لهذا ما صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من تنزّل الملائكة على أهل الذكر و القرآن. و بفضل لقاء الملك يزداد جود العبد فيصير معطاءً و أكثر بركة وعطاءً.

تلكم طرق معارج الروح يفتحها شرع الله عبر الصوم في شهر الطهر حيث المجال يسمح بالإرتقاء في مقامات الإصطفاء، فإن مردة الشاياطين تصفّد في رمضان فيضعف بفضل الله إغواؤها.

عنْ أَبي هُرَيرَةَ رضيَ اللَّه عنهُ  أَنَّ رسولَ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قالَ: «إِذا جَاءَ رَمَضَانُ ، فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الجنَّةِ ، وغُلِّقَت أَبْوَابُ النَّارِ ، وصُفِّدتِ الشياطِينُ» متفقٌ عليه .

جعلنا الله ممن تقبل أعمالهم فيرقون. آمين

كتبه الراجي عفو ربه، عبد الجليل حمداوي