Posted on Leave a comment

ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبرائنا فأضلونا السبيلا – الإمام: محمد عبده

الإسلام دين علَّم الناس أن يعتمدوا في سعادتهم الدنيوية والأخروية على أعمالهم النفسية والبدنية، وفضَّل أهل العمل والكسب على المنقطعين لعبادة الله المعتمدين في أمر معاشهم على من يمونهم من أهليهم أو غيرهم وأقام لكل قاصر وليًّا يتولى شؤونه ويعنى بتربيته، حتى يرشد ويقوى على العمل، وعند ذلك يدعه وشأنه، وجعل لكل عاجز قيمًا يتعهده وينفق عليه ويقوم بأمره الذي عليه مدار حياته، وجعل هذه الولاية والقيام في الأقربين؛ لأنهم أولى بالمعروف، وأقرب إلى العناية الصحيحة بأمر الصغير والعاجز، على ترتيبٍ معروفٍ في فن الفقه، فمن لم يكن له أقارب فعلى أهل وطنه من المسلمين الذين جعلهم الإسلام عائلة واحدة، وفرض عليهم القيام بأمر بعضهم، على ترتيب يراعى فيه الأقرب فالأقرب نسبًا وجوارًا ووطنًا وديناً. بل فاض عدل الإسلام وعمت رحمته فعلم الآخذين به أن يشملوا بعنايتهم هذه كل من تفيأ ظلالهم ودخل في سلطانهم من أي دين كان، فهو يحض على تربية اليتيم وإطعام الجائع وكسوة العاري واعتهاد الضعيف وتجهيز الميت من غير المسلمين إذا لم يوجد لهؤلاء أولياء من ذويهم وأقاربهم، وجعل ذلك حقًّا على المسلمين للذميين، على تفصيل يعرف من الفقه.

ومن وظائف الحكام إلزام المسلمين بما ذكر مع مراعاة شروطه إذا هم قصروا فيه.

وغرضنا من هذه الكلمات هنا بيان أن تعميم التربية واجب في الإسلام، وكما تجب تربية كل صغير حتى يكبر ويرشد، يجب الأخذ على يد كل كبير إذا اجترح السيئات واقترف المنكرات، أو أخل بالآداب العامة وعبث بمصالح الناس، وذلك بإلزامه بترك المنكر فعلاً أو إرشاده إلى ذلك قولاً. ومن أخل بهذا الواجب هبط إلى أسفل درج الإسلام وسقط في أضعف الإيمان الذي ليس بينه وبين الكفر إلا خطوة

واحدة (إذ لا معنى لكونه أضعف الإيمان إلا هذا) وهذا على تقدير أنه ساخط على من فعل القبيح منكرًا له في قلبه، كما ورد في الحديث الشريف. وفرض مع هذا أيضًا القيام بالأمر بالمعروف والدعوة إلى الخير وإنذار الناس بعواقب التفريط لعلهم يرجعون.

على هذا كان الإسلام في مبدأ ظهوره، ولو ظل أهله على منهاجه القويم وصراطه المستقيم لما ضل أحد منهم عن سعادته، ولما أهمل أمر التربية والإرشاد من الكافة، انفردت به فئة من الناس سارت في الجادة زمنًا، وانحرفت عنها أزمانًا، وجعلت عنايتها في التربية الروحية فقط، وأفرطت في الزهادة، كما أفرط الذين من قبلهم، فأهملوا مصالح الدنيا ولم يوفوا البدن حقوقه، وذلك مما جاء الإسلام لتعديله … وبالجملة: إنهم حتى في طور كمالهم لم تكن تربيتهم وإرشادهم على الوجه الذي يكفل للأمة سعادة الدارين. ولذلك لم يتبع طريقتهم في كل عصر إلا بعض الناس، وصاروا فرقة مستقلة سميت الصوفية، عدها بعض المؤرخين من الفرق المشتقة من الإسلام المخالفة لسائر الفرق في الأصول، كالمعتزلة والشيعة وأهل السنة. وكيف لا وقد عاملهم فقهاء أهل السنة وحكامهم بأشد ما عاملوا به سائر الفرق، فحكموا ببدعة بعضهم وكفروا كثيرًا من أكابر شيوخهم وقتلوا منهم خلقًا كثيرًا، ثم غلوا بعد ذلك في تعظيمهم والتسليم الأعمى لهم غلوًّا كبيرًا.

مَن هم الصوفية وما هو شأنهم؟ قال الإمام القشيري في رسالته ما حاصله:

إن المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتسم أفاضلهم في عصرهم بتسمية علم سوى الصحابة، إذ لا أفضلية فوقها، ثم سمي من أدركهم التابعين، ثم من أدركهم تابعي التابعين، ثم تباينت المراتب، فقيل لخواص الناس ممن لهم شدة عناية بأمر الدين: الزهاد والعباد، ثم ظهرت البدع وحصل التداعي من الفرق، فكل فريق ادعوا أن فيهم زهدًا، فانفرد خواص أهل السنة المراعون أنفاسهم مع الله تعالى، الحافظون قلوبهم عن طوارق الغفلة باسم التصوف، واشتهر هذا الاسم لهؤلاء الأكابر قبل المائتين من الهجرة.

وقال العارف الشهاب السهروردي في عوارف المعارف بعد ما ذكر الصحابة والتابعين ما حاصله: (ثم لما بعُد عهد النبوة وتوارى نورها واختلفت أيضًا الآراء وكدر شرب العلوم شرب الأهوية، وتزعزعت أبنية المتقين، واضطربت عزائم الزاهدين، وغلبت الجهالات وكشف حجابها، وكثرت العادات وتملكت أربابها، وتزخرفت الدنيا وكثر خطابها – تفرد طائفة بأعمال صالحة وأحوال سَنية، واغتنموا

العزلة واتخذوا لنفوسهم زوايا يجتمعون فيها تارة وينفردون أخرى، أسوة أهل الصُّفة، تاركين الأسباب، مبتهلين إلى رب الأرباب، فأثمر لهم صالح الأعمال وسَني الأحوال، وتهيأ صفاء الفهوم لقبول العلوم، وصار لهم بعد اللسان لسان وبعد العرفان عرفان، وبعد  الإيمان إيمان، كما قال حارثة: (أصبحت مؤمنًا حقًّا) لما كوشف بمرتبة الإيمان غير ما عهد، فصار لهم بمقتضى ذلك علوم يعرفونها تعرب عن أحوال يجدونها، فأخذ ذلك الخلف من السلف، حتى صار رسمًا مستمرًّا وخبرًا مستقرًّا في كل عصر وزمان، فظهر هذا الاسم بينهم وتسموا به، فالاسم سمتهم والعلم بالله صفتهم والعبادة حليتهم والتقوى شعارهم وحقائق الحقيقة أسرارهم).

أقول: يعلم من كلام هذين الإمامين في التصوف وغيرهما أن ما كانوا عليه لا يمكن أن تكون عليه الأمة بتمامها؛ لأن العزلة والانفراد وترك العمل للدنيا يفضي إلى ضعف الأمة واضمحلالها وينتهي ذلك بزوالها. وأنه قد تجددت لهم علوم ومعارف وأحوال لم تكن تعهد عند سلفهم من الصحابة والتابعين، وذلك كالكلام على ما وراء الحس والعقل من العوامل الغيبية، وهو ما يسمونه علم الأسرار، قال ابنالفارض رحمه الله تعالى:

وثم وراء العقل علم يدق عن … مدارك غايات العقول السليمة ولهم علوم كثيرة جدًّا تعلم أسماؤها من كتاب الفتوحات المكية، وإنما جاءهم ذلك من الرياضات والمجاهدات النفسية، والعناية بمعرفة ما انطوى عليه الروح الإنساني من الخواص والمزايا، والقوى الإدراكية والتأثيرية، ومن ذلك ما يسمونه الكشف والإمداد والتصرف بالهمة. ولقد سبقهم إلى ذلك فلاسفة اليونان والهنود، ولكن الصوفية وصلوا منه إلى غاية لم ينته إليها غيرهم. وكل هذا من علم أسرار الكون وطبائع الخلق، كالعلم بنواميس النور والكهربائية وخواصهما، ولكنه لما جاء بصبغة دينية من رجال الدين حدث عنه ما أشرنا إليه من حط الفقهاء والحُكام على أهله وتكفيرهم وسفك دمائهم، كما فعلوا مع الفلاسفة الذين بحثوا في بقية أسرار الخلق، وصبغوا علمهم بصبغة الدين وخلطوه بعلم العقائد الذي سموه (علم الكلام) وكان اضطهادهم للصوفية أشد من اضطهادهم للفلاسفة، كما يعلمه من قرأ التاريخ، وما ذلك إلا لأن علم الصوفية الغريب عن فهم الفقهاء أمَسُّ بالدين، بل هو ثمرة التمسك بفضائل الدين وآدابه، كما يقول عامة أصحابه، ولذلك مزجوه بالقرآن والسنة مزجًا، ولكن جاء بعضه مخالفًا لظاهر الشرع.

ليس غرضنا من هذه المقالة بيان مواضع الخلاف بين الفقهاء والصوفية، ولا بيان الصواب والخطأ في ذلك، وإنما نقول إن الصوفية انفردوا بركن عظيم من أركان الدين، وهو التهذيب علمًا وتخلقًا وتحققًا، ولم يكن أمرهم في أول العهد إلا عملًا صالحًا وتخلقًا بالأخلاق الفاضلة. ثم لما دونت العلوم في الملة كتب شيوخ هذه الطائفة في الأخلاق ومحاسبة النفس، فجاءوا بما قصرت عنه الفلاسفة الأولون، ثم حدث فيهم الخوض في الكلام على ما وراء الحجاب، وشرح ما تنتجه المجاهدة من الأذواق والمواجد وعجائب الخيال، ومزجوا كلامهم بالفلسفة العقلية والطبيعية والعلمية، وسلكوا في فهم القرآن مسلك طوائف الباطنية الذين كانوا أعظم صدمة على الإسلام، فذهبوا إلى أن للقرآن معاني غير ما تعطيه اللغة وأساليبها وإشاراتها، وزعم الباطنية أنها هي المقصود بالذات، وقد جاء الصوفية من ذلك بالصحيح والفاسد والباطل الذي ينابذ القرآن والدين بالكلية، وقد ورد في حسان الأخبار وصحاحها: (من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار) والمراد برأيه هواه الذي يؤيد مذهبه. نعم، إن لبعض الصوفية فهمًا في القرآن ترقص له العقول، وتعجز عنه العلماء الفحول، وقد أنكر الإمام الغزالي على المتصوفة نحو تأويل فرعون بالقلب القاسي، والاحتجاج على مجاهدته بقوله تعالى {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} (طه: 24) وإن كان الغرض به صحيحًا، ولهم من تحريف الكلم عن مواضعه ما هو أشد من هذا كقول بعضهم في قوله تعالى: {إِنَّ المُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا} (النمل: 34) : الملوك هي الله (تعالى عن ذلك) ، والقرية: (القلب) والإفساد: تبديل الصفات المذمومة بالممدوحة، وكقول بعضهم في قوله تعالى {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِه} (البقرة: 255) : من ذل ذي يشفع، أي: من أذل نفسه ينال مقام الشفاعة عند الله تعالى. وقد قال ابن الصلاح الفقيه الشهير في فتاويه: وجدت عن الإمام أبي الحسن الواحدي المفسر أنه قال:

صنف أبو عبد الرحمن السلمي حقائق التفسير، فإن كان اعتقد أن ذلك تفسير فقد كفر، ثم قال: وأنا أقول: إن الظن بمن يوثق به منهم إذا قال شيئًا من ذلك أنه لم يقله تفسيراً، ولا ذهب مذهب الشرح للكلمة، فإنه لو كان كذلك كانوا قد سلكوا مسلك الباطنية، وإنما ذلك منهم تنظير ما ورد به القرآن والنظير يذكر بالنظير، ومع ذلك فيا ليتهم لم يتساهلوا بمثل ذلك؛ لما فيه من الإيهام والإلباس.

أقول: وقد وقع بالفعل الالتباس فضلّ به كثير من الناس، وما كان من غرائب الصوفية صحيح المعنى في ذاته كان خطوة موصلة لأباطيل الباطنية عند غير البصير المحقق، والذي يدرك الفرق قليل، والتفسير المطبوع المنسوب لسيدي الشيخ الأكبر هو لبعض الباطنية، وفيه من تحريف القرآن ما لم يأت بمثله محرفو التوراة، ومع ذلك تزين به المكاتب وتحترمه العلماء، وقد قال العلامة النسفي في عقائده: النصوص على ظواهرها، والعدول عنها إلى معانٍ يدعيها أهل الباطن إلحاد. قال العلامة التفتازاني: وقصدهم بذلك نفي الشريعة بالكلية.

هذا من شر ما ترتب على مذهب التصوف من مضرة الأمة، وهو ما ذكرناه أولاً من الإفراط في الزهادة وترك الفعل للدنيا، وقد نفر أهل العلم والتعليم من النظر في كتبهم، لا سيما في هذا الزمان. ومن العجيب أن أهل هذا العصر يقدسون شيوخ الصوفية ولا يعترضون على أحد منهم، ولا على شيء من عادات أهل طرائقهم، وإن كان بدعة وضلالاً، بل يقيمون النكير على من أنكر عليهم ولو بالحق، ومع ذلك لا يلتفتون لكتبهم ولا يتدارسونها، وإن كانت لأئمتهم الذين جمعوا بين علمي الظاهر والباطن زعمًا أن هذه كماليات لا يطالعها إلا من أراد أن يتفرغ لها! وبذلك اندرس علم تهذيب الأخلاق الذي هو روح الدين وقوامه، لأنه لا يوجد إلا في كتبهم وكتب الفلاسفة، وكتبهم هي التي تذكره على الطريقة الدينية. أليس من العجيب أن الأزهر – أعظم المدارس الدينية عند المسلمين – لا يُقرأ فيه علم تهذيب الأخلاق الذي لا دين بخلافه؟ إنني كنت أطالع في كتب الأخلاق والتصوف قبل طلب العلم، وكنت مولعًا بها، وأذكر أنني قلت لبعض شيوخنا: اقرأ لنا الجزء الثالث من إحياء علوم الدين بدلاً من مقامات الحريري القليلة الجدوى، فأبى علي ذلك متعللاً بما لا حاجة لشرحه! فالصوفية قد نفروا العلماء من كتبهم بما ذكرناه من شأنهم، فشدة زهادتهم في الدنيا كانت سببًا لزهادة المسلمين في الدنيا والآخرة معًا، وكلامهم في الغوامض التي تخالف ظواهر الشرع مع التسليم لهم فتحت بابًا لإفساد العقائد، وصار كل زنديق يدخل ما يشاء في كتب الدين منسوبًا لأولياء الصوفية، وقد شرحنا بعض هذه المفاسد في مقالات سابقة، ولا سيما مقالات الموالد ومقالات سلطة مشيخة الطريق الروحية، وبينا سريان النزغات الوثنية في المسلمين بسببهم. ومن يستطيع اليوم أن يتجرأ بالإنكار على شيء من شؤونهم وإن برَّأ منه الأئمة العارفين الذين ينسبونه لهم؟ أي عاقل يصدق أن السيد عبد القادر الجيلي وهو إمام في كل العلوم والمعارف الإسلامية يقول: أعطيت سجلاًّ مد البصر، فيه أسماء أصحابي ومريدي إلى يوم القيامة، وقيل لي: قد وهبوا لك! أيقول هذا عبد القادر؟ والنبي الأعظم صلى الله عليه وسلم يقول لبنته سيدة النساء: (يا فاطمة يا بنت محمد، اعملي لا أغني عنك من الله شيئًا) . هل الذين قال الله تعالى فيهم: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ} (التوبة: 31) كانوا يلقبون أولئك الأحبار والرهبان بأعظم مما لقب به هذا العبد الخاضع لله تعالى عبد القادر الجيلي، الذي ذكروا من ألقابه التي ينادى بها: (يا محيي الرمم، يا بارئ النسم، يا ضياء السموات والأرض) هل قالوا فيهم أعظم من قول بعض جهلاء أهل الطريق:

(إن أحد مريدي الغوث الأعظم مات فسأله الملكان عن ربه ودينه ونبيه فأجابهما بأنه لا يعرف إلا شيخه عبد القادر، فأراد الملكان أن يوقعا به العذاب، فجاء الغوث الأعظم فشفع له وأنجاه الله) اللهم إن هذا ضلال مؤدٍّ للإباحة، يتبرأ منه الشيخ عبد القادر قدس الله سره الطاهر، وكل من يؤمن بالله واليوم الآخر ومثله فيكتب أهل الطريق كثير.

سيقول السفهاء من الناس: إن مثل هذه الانتقادات لا ينبغي أن تنشر في الجرائد، ولكن الكتب التي هي فيها قد طبعت مرارًا كثيرة، وتوجد في كل بقعة من بقاع الأرض يتبوأها المسلمون، ولا نجد لها منكرًا، فهل هذا هو الدين؟

وسيقول آخرون منهم: إن ذكرها كان لغرض من الأغراض. ونحن نقول: إن الذي يحاسب على المقاصد والنيات وخطرات القلوب هو الله تعالى، وما دام الكلام حقًّا فلا يُعترض عليه (لنا الظاهر والله يتولى السرائر) .

وقد تبين بهذا ومما نشرناه قبلاً كيف كانت إطاعة هؤلاء الرؤساء مضلة للأمة، ولو أردنا أن نشرح حالة القوم اليوم لجئنا بالعجب العجاب، وكفاك أن مقام الإرشاد ينال بإجازة تشترى بريال واحد، وما من أحد ينكر أن الفرق بين هذا الخلف وذلك السلف كالفرق بين الثرى والثريا، وفقنا الله لمرضاته وألهمنا رشدنا لنتدارك ما مضى.

بقلم: الإمام محمد عبده

مجلّة المنار: المجلد رقم (1)  19 رجب – 1316هـ 

Posted on Leave a comment

كيف ننتفع بالقرآن؟

من تجربة علمية وعملية في محاولة الانتفاع بالقرآن وطلب العون من الله في ذلك أحاول أن ألخص هذه التجربة في الآتي:

لا يكتمل الانتفاع بالقرآن إلا بتوافر عناصر أربعة هي:

الإيمان والتلاوة والتدبر والعمل.

وتحت هذه الأربعة تندرج علوم القرآن كلها وكل ما كتب عن الانتفاع بالقرآن والتعامل معه قديما وحديثا، وبطبيعة الحال تحت كل عنصر تفاصيل ومسائل ووسائل ومنهجيات كثيرة لا يتسع المقام لبسطها هنا.

ونعني بالإيمان: أن يكون التالي للقرآن مؤمنا مصدقا بما جاء في القرآن وأنه يمثل الهداية، ولذلك جاء القرآن بكثير من أوصاف القرآن مثل أنه شفاء وهدى ورحمة وفرقان وضياء وذكرى وبشرى، وكما قال سبحانه: “وَنُنَزِّلُ مِنَ ٱلْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ۙ وَلَا يَزِيدُ ٱلظَّلِمِينَ إِلَّا خَسَارًا” فالانتفاع إنما يكون للمؤمنين به.

ونعني بالتلاوة: كل ما يتعلق بالعناية بقراءة اللفظ والحروف بصورة صحيحة وأن تكون الأجواء مناسبة ولائقة بهذه التلاوة، وكما قال سبحانه: “الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَـئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ”.

ونعني بالتدبر: كل ما يتعلق بالمعنى وفهم الآيات على وجهها الصحيح، بحيث يعرف ماذا يريد الله تعالى منها من خلال أدوات التدبر والفهم وكما قال سبحانه: “كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ”.

ونعني بالعمل: أن يتحول كل ما مر من العناصر الثلاثة إلى عمل وتطبيق في النفس والواقع المعاش، وهو المقصود النهائي من إنزال الكتاب، وكما قال سبحانه: “وَٱتَّبِعْ مَا يُوحَىٰٓ إِلَيْكَ وَٱصْبِرْ حَتَّىٰ يَحْكُمَ ٱللَّهُ ۚ وَهُوَ خَيْرُ ٱلْحَٰكِمِينَ”.

ويزداد الانتقاع بالقرآن كلما ازداد وجود هذه العناصر الأربعة ويقل بنقصانها.

فإذا أخذنا مثلا قوله تعالى: “ٱتْلُ مَآ أُوحِىَ إِلَيْكَ مِنَ ٱلْكِتَٰبِ وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ ۖ إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ تَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَآءِ وَٱلْمُنكَرِ ۗ وَلَذِكْرُ ٱللَّهِ أَكْبَرُ ۗ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ، كان علينا:

أولا: أن نؤمن أن تلاوة الوحي دافعة لإقامة الصلاة، وإقامتها ستنهانا عن الفحشاء والمنكر فهي من أعظم الذكر، وأن الله مطلع علينا عليم بأحوالنا.

وثانيا: أن نتقن قراءة وتلاوة هذه الآية بحروفها ومخارجها وصفاتها حق تلاوتها من غير استعجال ولا تكلف.

وثالثا: أن نتدبر في معاني هذه الآية وهي أن إقامة الصلاة ثمرة لتدبر الوحي، وأن ترك الفحشاء والمنكر ثمرة للانتفاع بالصلاة، وأنه كلما نهتنا صلاتنا أكثر كان انتفاعنا أكبر، ذلك أن الصلاة هي أكبر الذكر لما فيها من عبادات متنوعة أو أن ذكر الله أكبر من كل شيء في الوجود أو أن ذكر الله لنا أكبر من ذكرنا له، وأن الله يعلم كل ما نصنع فالإخلاص له واجب.

ورابعا: أن ينعكس كل ذلك على أحوالنا فنتلو القرآن، ونقيم الصلاة بأوقاتها وشروطها وأركانها وخشوعها، وننتهي عما تنهينا عنه من معصية، وأن نستشعر مراقبة الله لنا وعلمه بأحوالنا.

فإن قيل: هل هذه العناصر الأربعة لا بد فيها من الترتيب؟

قلنا: نعم لكنه ترتيب تكاملي وليس ترتيبا زمنيا، ونقصد بالتكاملي بمعنى أن لا عمل بدون تدبر ولا تدبر بدون تلاوة ولا انتفاع بتلاوة دون إيمان لكنها تعمل مجتمعة وتزداد وتنقص مجتمعة في وقت واحد.

وإن قيل: فأين الحفظ من هذه الأربعة؟

قلنا: إن الحفظ ليس عنصرا مستقلا بل هو أداة ووسيلة تعين على تحقيق هذه الأربعة وتقويها، من خلال حفظ الآيات واستحضارها الدائم إيمانا وتلاوة وتدبرا وعملا، فهو نور على نور وفضل على فضل وأجر فوق أجر، لكنه بمفرده لا يستقل بالنفع دونها بل هو معها يسندها ويقويها.

ولذلك كانت أنفع طريقة للحفظ أن تكون متزامنة ومقترنة مع هذه الأربعة ومن جرب عرف.

اللهم ارزقنا الإيمان بالقرآن … وتلاوة القرآن … وتدبر القرآن … والعمل بالقرآن … 

د. سعد الكبيسي