Posted on Leave a comment

القلق الفقهي

أقصد بالقلق الفقهي، ذلك الهمّ المعرفي والانشغال الذهني الذي تثيره بعض المسائل الفقهية التي تكاد تكون محسومة في مدارس الفقه وبين طلبة العلم، وصارت لها سطوة على العقول، رغم أنها لا تستند إلى أدلة قطعية الثبوت أو قطعية الدلالة، ورغم ما لها من آثار كبيرة على حياة المكلفين وانتظام حياتهم، وما يسببه بعضها من حرج ومشقة في عباداتهم.

أقصد بالقلق الفقهي أيضا، ذلك الحسّ النقدي الموجه إلى قضايا تربينا عليها في المراحل الأولى للتحصيل العلمي، وتلقيناها في المعاهد الشرعية والجامعات، على أنها مسلمات شرعية دينية، غير أنها لا تعدو أن تكون مسلمات مذهبية أو اختيارات فقهية جاءت في سياق تاريخي واجتماعي مختلف تماما عما نعيشه نحن اليوم.  

فكيف لا يقلق من يقرأ قوله تعالى لا إكراه في الدين، ويعرف مكانة الحرية في المنظومة الإسلامية، من فكرة قتل المرتد لمجرد ردّته، ودعوى الإجماع عليها.  

وكيف لا نقلق من حصر تعريف الإسلام في الذل والانقياد والإنكسار، وإغفال السلم النفسي والأمن الاجتماعي، وهي معان في أصل الكلمة اللغوي وجذرها اللفظي.

وكيف نأنس لتعريف عقد الزواج في الإسلام بأنه عقد انتقال ولاية أوعقد تمليك، ليختلفوا فيما بعد، هل هو تمليك ذات أم تمليك استمتاع، وتعريف المهر بأنه مال مقابل البضع أو مقابل الاستمتاع، في حين وصفَ القرآنُ الزواج بأنه السكن والمودة والرحمة، وجعل المسؤولية فيه مشتركةً، وخاطب المتزوجين ب: لكم وتسكنوا وبينكم.

وأي فرصة للمجتمعاتنا العربية والإسلامية في التحرر من الاستبداد والانعتاق من قيد التخلف، مع وجود هذا الإرث المثقل بأحكام حرمة الخروج على الحاكم وتبرير الظلم وتحريف مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهماً وممارسة.  

ثم كيف يطمئن المرء إلى هذا المسلك الممنهج في تضييق مساحات الفعل الاجتماعي والنشاط الإنساني في مجال فقه المرأة والأسرة، والنشاطات الاجتماعية، ومجالات الإبداع الفني، من خلال تضخيم بعض الأحكام وتوسيع دائرة التحريم.

وقس على ذلك كماًّ هائلا من الأحكام في كل الأبواب الفقهية، من باب الطهارة والنجاسات إلى أبواب الدماء والحدود مرورا بأبواب العقود والمعاملات،

كحكم مس المصحف لغير المتوضئ، والطلاق الثلاث بلفظ واحد، وفتاوى عقود التأمين والبيوع الحديثة، وفتاوى المرأة في علاقتها بلباسها وطهارتها وصلاتها ومسجدها وقرآنها وعلاقتها بالرجل ، كما في حلها وسفرها، وأحكام العلاقة بغير المسلمين وفقه الأقليات المسلمة في الغرب، وغيرها من الأحكام التي اكتسبت هالةً كبيرةً من التقديس، دون أن تكون مستندة إلى أدلة قطعية الورود أو قطعية الدلالة، بل ربما تسير عكس مقررات القرآن ومبادئ الإسلام العليا.     

ورغم أن هذه القضايا المنتشرة المستطيرة لا يكاد يخلو منها كتاب فقه، فإن تاريخ الفكر والتشريع الإسلامي لم يَعْدِم يوما ذلك الحسّ النقديّ وعدم الخضوع لسطوة الكثرة أو دعاوي الإجماع، فتأسس تيار علميٌّ حقق التوازن في قراءة الأدلة ونقد الآراء وإرساء منهج علميّ يقوم على الجمع بين النصوص وتقديم الكليات على الفروع، والمقاصد العامة على الجزئيات، والإعلاء من مبادئ العدل والحرية والقيم الإنسانية العليا.

ولقد كان هذا التوجه أكثر حضوراً ووضوحاً في عهد الصحابة رضوان الله عليهم، مقارنة بالعصور التي تلته، مما يؤكد طبيعة هذا الدين وروح هذه الشريعة التي تتسم بالتحرر العقلي والبناء المنطقي والاحتكام إلى مرجعية واضحة شفافة متمثلة في القران الكريم وما صح من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وربما كان تشبع الصحابة بهذه الروح وقربهم من عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وتتلمذهم على يديه، هو الذي قوى فيهم تلك الملكة النقدية والرؤية المنهجية الواضحة.  

وقد حمل هذه الراية جلُّ الصحابة رضوان الله عليهم، ومن أبرزهم أبو بكر وعمر وعلي وابن عباس وابن مسعود وأبو ذر وغيرهم.

فأبو بكر وقف في وجه المرتدين، مخالفا بذلك أكثر الصحابة وقراءتهم لبعض النصوص، ولولا موقفه الحكيم هذا، لربما شهد خط الإسلام مساراً آخر غير الذي سار فيه.

 أما عمر، فحدث ولا حرج، فقد كانت له جرأة كبيرة واجتهادات عظيمة خالف فيها ظاهر النص لمصلحة راجحة أو لاعتبار مقاصدي أولى أو لظروفٍ وأنماطِ حياة مستجدة، فكان أول ما عمل به عمر أن رد سبايا أهل الردة إلى عشائرهم، وقال: «إني كرهت أن يصير السبي سنة على العر» (تاريخ اليعقوبي 1/160)، ومنع في عهده المؤلفة قلوبهم من الزكاة، لحمله الآية المصرحة بذلك على حالة الضعف والحاجة الى استمالة المترددين أو النافذين، ومنع قسمة أرض العراق والشام، مثلما هو منصوص عليه في القران والسنة، لاعتبارات مشهورة مشهودة، واعترض على حديث فاطمة بنت قيس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجعل لها حين طلقها زوجها سكنى ولا نفقة، فقال: «لا نترك كتاب الله وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم لقول امرأة، لا ندري لعلها حفظت، أو نسيت، لها السكنى والنفقة، قال الله عز وجل: {لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة » (مسلم).

ومما يوضح منهج الفاروق أكثر، تشديده، هو وأبو بكر، في قبول الحديث، وأمر بالإقلال من التحديث حتى لا يتشاغل الناس بالتحديث عن حفظ القران، وقد روى الذهبي بسنده ان عمر حبس ابن مسعود وأبا الدرداء وأبا مسعود الأنصاري لإكثارهم من التحديث (تذكرة الحفاظ 1/7)، وأوصى وفده إلى العراق بقيادة قرظه بن كعب فقال لهم: “جودوا القرآن وأقلوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، امضوا وأنا شريككم” (فلما قدم قرظة، قالوا: “حدثنا؛ فقال، نهانا عمر”. (تذكرة الحفاظ 1/8 وسنن الدارمي) كما أنه عدل عن تدوين السنة بعد جولة استشارة واستخارة، كل ذلك بغية تجويد الرواية وسد باب الخطأ أو الكذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنع التشويش على العامة والحفاظ على القرآن الكريم مرجعية عليا وحكما على ما عداه.     

أما الشاهد الأكبر وحامل لواء هذا المنهج النقدي فكان عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم. فقد كانت قوية الشخصية، شديدة الشكيمة، حادة الذكاء، واسعة العلم رضي الله عنها، مما جعلها تعارضُ كبار الصحابة وتستدرك عليهم وتصوب القضايا العويصة بمنهجية واضحة واستدلالات قوية.

وقد بلغت هذه المعارضات العشرات، جمع أكثرها الإمام الزركشي في كتابه: ”الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة”. ونؤكد في هذا السياق أن استدراكات عائشة ليست بمبنية كلها على زيادةِ علمٍ حصّلته من قربها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل أكثرها مبني على منهجية نقدية تفهم الحديث على ضوء نصوص القرآن، وتبوّب أولويات الفهم والتنزيل بحسب أصول الأحكام ومقاصد التشريع.

لذلك نجدها قد بنت نقدها لرأي عبد الله بن عمرو بن العاص في نقض النساء رؤوسهن عند الغسل على مبدأ رفع الحرج وفِعْلِها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا عجبا لابن عمرو هذا! وهو يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رؤوسهن؛ أفلا أمرهن أن يحلقن رؤوسهن؟! لقد كنت أغتسل أنا ورسول الله ﷺ من إناء واحد، فما أزيد على أن أفرغ على رأسي ثلاث إفراغات” (صحيح مسلم)

وقالت في حديث: «من غسَّل ميتا اغتسل، ومن حمله فليتوضأ» (أبو داود والترمذي، ضعيف والصحيح أنه موقوف على أبي هريرة)، (سبحان الله! أَمواتُ المسلمين أَنجاسٌ؟! وهل هو إلَّا رجلٌ أَخذ عودًا فحمله؟)

 وفي وجوب المحرم في سفر المرأة قالت: «ليس كل النساء تجد مَحْرَماً» (صحيح ابن حبان: 6/442)

وفي معارضة وجوب اعتداد المُتوَفَّى عنها زوجها في بيت زوجها، أفتت المرأة المتوفى عنها زوجها بأن تعتد حيث شاءت (تفسير القرطبي البقرة 234)  

وقالت لامرأة جاءت تستفتيها في النمص: “أميطي عنك الأذى وتصنّعي لزوجك” (مصنف عبد الرزاق) مخالفة بذلك جمهور الصحابة.  

وخطأت أبا هريرة فيما رواه في الصحيحين “لأن يمتلئ جوفُ أحدكم قيحاً ودماً خير من أن يمتلئ شِعْراً” وقالت: “لم يحفظ [أبو هريرة]! إنما قال: من أن يمتلئ شِعراً هُجِيتُ به”. (فتح الباري)

ومن أشهر معارضاتها إنكارها لحديث ابن عمر وأبيه عمر وكثير من الصحابة  أن الميت« يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ ببكاء أهله عَلَيْه” وهو في الصحيحين، فقد ورد ((أن ابن عباس ذكر لعائشة ما قاله عمر بعد وفاته، فقالت: رحم الله عمر، والله ما حدَّث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله ليعذب المؤمن ببكاء أهله عليه، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الله ليزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه، حسبكم القرآن: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [فاطر: 18] ))، وقد أولت عائشة رضي الله عنها هذا الحديث أكثر من تأويل، ورد ذلك عنها في الصحاح والسنن . (فتح الباري 3/152).

كما ردت حديث إسماع الموتى لأنس بن مالك في الصحيحين لتعارضه – برأيها – مع القرآن الكريم في قوله تعالى: {إنك لا تسمع الموتى} و {وما أنت بمسمعٍ مَنْ في القبور}.

ولم تُخْف شدة غضبها ورفضها لحديث ابن عمر في صحيح البخاري: “إن كان الشؤم في شيء ففي الدار والمرأة والفرس” وبينت أنه ورد في سياق الحكاية عن أهل الجاهلية فقالت: والذي نزّل القرآنَ على محمد ما قاله رسول الله قَطّ، إنما قال: إن أهل الجاهلية كانوا يتطيرون من ذلك”. (انظر شرح الحديث في فتح الباري)

كما شددت النكير على حديث أَبِي هُرَيْرَةَ في الصحيحين: “يَقْطَعُ الصَّلاَةَ الْمَرْأَةُ وَالْحِمَارُ وَالْكَلْبُ” وقالت: “شبهتمونا بالحُمُر والكلاب، والله لقد رأيت النبي ﷺ يصلي وأنا على السرير بينه وبين القِبلة مضطجعة”. (فتح الباري)

وقد سار تلامذتها على منهجها نفسه، ومن أهمهم ابن عباس الذي يرى رأيها في قطع المرأة الصلاة والوضوء من حمل الجنازة وسفر المرأة من غير محرم، كما خالف عمرَ في إمضاء الطلاق الثلاث باللفظ الواحد، وتوسع في الترخص حتى أطلق أبو جعفر المنصور كلمته الشهيرة ” تراخيص ابن عباس وشدائد ابن عمر”  

وفي معارضته لحكم الوضوء مما مست النار الذي رواه أبو هريرة، أشار ابن عباس إلى بُعده عن الحكمة واليسر، دون الإشارة ابتداءً إلى ما يعلمه من نسخ الحديث، فقال له:«يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، أَنَتَوَضَّأُ مِنَ الدُّهْنِ؟ أَنَتَوَضَّأُ مِنَ الحَمِيمِ؟ »، فرد عليه أبو هريرة، مثبتاً منهجه الخاص في الأخذ بظواهر النصوص: «يَا ابْنَ أَخِي، إِذَا سَمِعْتَ حَدِيثًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا تَضْرِبْ لَهُ مَثَلًا» (سنن الترمذي)

والأمثلة على قوة حضور هذا التوجه في عصر الصحابة كثيرة، يمكن الوقوف عليها في مظانها، والمقصد من إيراد بعضها هو الإشارة إلى وجود هذه الملكة النقدية والروح التحررية لدى الصحابة رضوان الله عليهم في روايتهم ودرايتهم، ووجود نسق اجتهادي يراعي المقاصد والأولويات ويضبط التعامل مع النصوص فهماً وتنزيلاً. بل كانت هذه سمة عصور الانفتاح وازدهار العلوم والريادة الحضارية الإسلامية. والعجيب أن هذا التوجه، بل قل هذه المدرسة، قد ضعفت جيلا بعد جيل حتى استقر جزء من الفقه، بشقيه الأكبر والأصغر، على أقوال جامدة واختيارات بعيدة عن مقاصد الشرع وروح العصر.

ولا يجولنَّ بخاطر القارئ أننا ندعو إلى ما يسمى بتاريخية / تاريخانية النص أو العقلانية المنفلتة، كما هو ديدن البعض، وإنما ندعو إلى الانفتاح على تراثنا الفقهي كله دون إقصاء، وإحياء الاجتهاد المقاصدي، ومراجعة الأحكام الفقهية التي لا تتسق مع ما قرره القران من مبادئ عليا وقضايا كلية، إضافةً إلى التسامح والمرونة مع الآراء المخالفة.

هذا، ولم يخل عصرٌ منذ وفاة النبي صلى الله عليه وسلم من قائمٍ لله بحجة ومجدد لمعالم الدين وأحكامه، كعمر بن عبد العزيز وفقهاء الأمصار من التابعين، وفقهاء المذاهب الأربعة في المائة الثانية، والبخاري في الثالثة، وابن حزم الأندلسي في القرن الرابع، وصلاح الديون الأيوبي في الخامس، والعز بن عبد السلام في السادس، وابن تيمية وتلميذه ابن القيم والإمام الشاطبي في المائة السابعة، وابن خلدون ومحمد الفاتح في الثامنة، كلٌّ بحسب مجاله، ثم اشتد الخمول الفكري والجمود المذهبي في القرون المتأخرة حتى سيطرا على الحياة العلمية والثقافية والاجتماعية، ولم يكن مجال الفقه والتدين بمعزل عن ذلك، رغم ظهور عدد من المصلحين المجددين في العصور المتأخرة، كالأفغاني وعبدة وابن عاشور ومحمد الغزالي والألباني والشيخ القرضاوي، وغيرهم من أعلام الفقه والفكر والإصلاح.  

ومما يحز في النفس أن هذه المادة التراثية المثيرة “للقلق الفقهي” كانت مسرحا لعبث فئتين فزادوها رهقا، الفئة الأولى، من تصدى لها من غير المتمكنين في أصول الأحكام وقواعد الاستدلال، فميَّعوا وحرَّفوا، أما الفئة الثانية فاتخذت منها مادة للتشكيك في تراثنا الإسلامي كله إن لم يكن في الإسلام كدين، وحاولت النيل من رموزه وأعلامه.    

لذلك نحن في حاجة حقيقة إلى عدول خالفة على منهج العصور النيرة السالفة، يتصدون إلى ما أشكل من مسائل العلم والدين، ينفونَ عنها تحريفَ الغالينَ وانتحالَ المبطلينَ وتأويلَ الجاهلينَ.

والله الموفق وهو الهادي إلى أقوم السبل

بقلم الشيخ/ كمال عمارة