Posted on Leave a comment

أولويات مسلمي أوروبا في عامٍ جديد

يتطور الحضور المسلم بأوروبا من حيث الكم والكيف يوماً بعد يوم، وكى نتجنب تشتت الجهود، والانشغال  بالوسائل عن الغايات، والأعمال كثيرة الكلفة ضعيفة الأثر عن الأعمال الأكثر انتاجاً، فعلينا أن نرهق عقولنا قليلا لتحديد أفضل الأعمال من فاضلها، وأولاها بصرف الجهود والأوقات، لذلك يلزمنا أن ندندن حول عدد من الأولويات التي يجب أن ننغشل بها في المرحلة القادمة، وسوف أشير إلى عدد منها، تاركاً بقيتها إلى مقالات أخرى بحول الله تعالى.

العناية بالتربية والتكوين

تؤدي الأعمال  والأنشطة الجماهيرية دوراً كبيراً في التعريف بالإسلام وتعاليمه وأخلاقه وآدابه، إلا أنَّ من الخطأ الذي نقع فيه _ أحيانا – أن نصرف كثيراً من طاقاتنا في الوسائل العامة والبرامج الجماهيرية،إلى تتحول إلى غاية وهو في الأصل وسيلة، دون أن نراجع نتائجها، والأصل أن الوسيلة إذا تقاصرت عن تحقيق مقصودها وجب العدول عنها إلى غيرها، بعد التدقيق والتمحيص.

 وترانا نرهق كوادرنا من الشباب  حتى يستنفذوا قدراتهم، وعلى الجانب الآخر لا ننفق معشار هذا الجهد في العمل التكويني التربوي الذي يُفضى إلى صناعة القيادات واكتشاف المواهب وتوظيفها، مما يؤدي إلى ضمور العمل، ثم نشكو  من قلة العاملين.

والمتتبع لنشاط العديد من المؤسسات الإسلامية على الساحة الأوروبية يتجلى له بجلاء تراجع في الكفاءات والكوادر، وفقدان لطاقات عديدة لأسباب مختلفة، ما بين المرض أو التقاعد المبكر، أو حصاد كورونا لكثير من أهل الفضل، أو غير ذلك من الأسباب.

ولا ريب أننا أمام تحد كبير للحفاظ على مؤسساتنا، وحسن أدائها، وتطويرعملها، ومن ثمَّ يجب أن يتوجه قسط كبير مما نملك من الوقت والجهد والمال إلى التربية، إلى العناية بالجيل الناشيء، من مهد طفولته، إلى يفاعته، إلى شبابه.

والسؤال من أين نبدأ ؟

عمود الخيمة، ومفتاح الباب، وأساس البناء، وحجر الزاوية، هو المربي، فلا بديل عن العناية بالبدء به، اختياراً، وتكويناً، وتوجيهاً، وترشيداً، وبناءً. والقاعدة: “ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب “. فالوسيلة حكمها هنا من حكم الغاية.

إذاً، فليكن سعينا في العام الجديد، العناية بالمربي، بالمعلم، بتكوين الآباء، سيما في عصرنا الذي تتعرض له الأسرة لغوايات إبليسية مدججة بأخطر الأساليب والحيل الماكرة التي تبغي استئصال بنيانها، وهدم أركانها، ومسخ هويتها، وتعطيل وظيفتها، وإفساد فطرتها، وتلويث براءتها.

على المؤسسات الإسلامية والمساجد أن تصنع برامج تكوينية للمربين والمشرفين  وتنفق في ذلك الجهد والمال.

التربية الروحية دواء العصر

من أدواء عصرنا، أن رأس الإنسان أصبح أكبر من حجمه، فثَقُل به بدنه، ولم تعد تحمله أقدامه، وغدا يعاني من فرط الشهوات، وهزال الروح، فإنه وإن سكن قصراً مُنيفا ضاق عليه، وإن تسربل بالحرير قال ما أخشنه، وإن استهلك من الطعام أطيبه، حسد كانس الطريق إن وجده هاديء البال، مرتاح الضمير، وإن تسجَّى على لين الفراش، تقلَّب تقلُّب المحموم، يطارده القلق والأرق.

ومن ثم علينا أن نبذل جهداً كبيراً في تفعيل الوسائل التربوي التي تُطهر القلب وتُنقيه، وتُجمل الخلق وتُرقيه، وتُقوي الضمير وتُزكيه، وتُهذب السلوك وتُنميه.

وحسبنا القرآن العظيم دليلاً ومرشداً وموجها ًومعيناً، وهو الشفاء لما في صدرونا من الشهوات، ولعقولنا من الشبهات، ولحياتنا من المطامع والمتاعب.

ثم نُولي وجهنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سيرته المباركة لنستروح بها، ونستهدي به، ونقبس من أنوراه، ونتفيأ ظلال أصحابه الغُر الميامين، فنجدد بسيرتهم إيماننا، ونستجلب الرحمات بمحبتهم ومدراسة حياتهم، وإذا كانت الرحمات تتنزل بذكر الصالحين، فما بالنا إذا ذكرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا ذكرنا أصحابه عليه الرضوان.

العمل المشترك مع مؤسسات المجتمع المدني.

يتمتع المجتمع الأوروبي في عمومه بتعظيم دور المجتمع المدني وتأثيره في الحياة بمختلف مجالاتها، على عكس المجتمعات التي تسود فيها الأنظمة الاستبدادية، التي يتعاظم فيها حجم الدولة على حساب والأفراد والناس.

مساحات واسعة وفرص كبيرة لا نستفيد بها على الوجه  المأمول، وأعني بذلك فرص التشبيك مع مؤسسات المجتمع المدني.

 وما يزيد الشعور بالتقصير أن تلك المؤسسات حريصة على تشريك شرائح المجتمع  في الأعمال التي تدخل في اختصاصها. أذكر ذات مرة أنني تحدتث في خطبة الجمعة عن أهمية العمل التطوعي مع مؤسسات المجتمع المدني، وأنَّ رسالة المسلم تقتضي أن يكون له حضور ظاهر وأثر واضح، وبعد الفراغ من الصلاة سألني بعض الشباب قائلين : أليس الأَولى أن نركز على تنظيم أنفسنا أولاً، والعمل على إنجاح مؤسساتنا ومساجدنا، ثم نلتفت بعد ذلك إلى المجتمع والعمل التطوعي الذي تُحدثنا عنه؟

قلت : لو أننا انتظرنا حتى يكتمل بناء مساجدنا مادياً ومضمونياً ثم نخرج للمجتمع فأبشركم أننا سنبقى حبيسي  جدران مساجدنا، لا أثر لنا ولا دور، وبقاء الجماهير الغفيرة من الأوروبين لا يدرون عنا إلا ما يسمعوه من غيرنا، لا ما يروه ويقفوا على حقيقته من خلال معاملتنا ومشاركتنا في حمل هموم المجتمع وآماله وآلامه.

ترى لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بيننا،  هل يرضى بهذه الهمة الخامدة والغاية القاصرة؟

ألم يكن يصل الرحم، ويحمل الكَل، ويُكسب المعدوم، ويعين على نوائب الدهر؟

ألم يأمرنا الحق تبارك وتعالى أن نفعل الخير بشكل مطلق، كما في آخر سورة الحج.. وجعل صناعة الخير ثمرة طبيعية لتفاعل القلب مع الجوراج مدفوعا بقوة الإيمان بالله الرحمن الرحيم.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ۩ «سورة الحج 77»

إن الناس عامة لا تتأثر بالكلام الحسن، والبيان الرصين بقدر ما تتأثر بالفعل الذي ينشر السعادة، والسلوك الذي يرسخ للسلام، والمشاعر التي تُرسي المحبة والطمأنينة.

هل يعني كلامنا أن لا حضور لنا في جنبات العمل التطوعي بالمجتمع الأوروبي ؟

بالطبع لا، فإن كل مسلم حول العالم عليه أن يفخر بالنماذج العظيمة الرائدة المشرقة لمسلمي أوروبا الذين يتفانون في خدمة أوطانهم دون النظر إلى مغنم سوى  مرضاة الله تعالى وخدمة مجتماعتهم ورفاهيته، فأينما التف  على مستوى أوروبا قاطبة، وجدت آلاف المساجد التي تُسهم بصدق في أمن وسلامة المجتمع الأوروبي من خلال خطابها المعتدل، وحضها المسلمين دوما على أن يكونوا مواطنين صالحين منتجين نافعين للناس… كل الناس، على اختلاف عقائدهم وألوانهم.

إن  رصيد المسلم من حب الخير وصناعته، والعطف على الضعفاء والكف عن إيذاء الناس وحفظ أموالهم  وأعراضهم رصيد وافر، ذلك لأن القرآن الكريم – الذي يجهله رسالته ملايين البشر-  هو من يؤسس للرفاهية الروحية، والسلامة المجتمعية، والراحة النفسية، والطمأنينة القلبية.

عشرات الألوف من الشباب المسلم الأوروبي يمثلون اليوم والغد أملاً كبيراً لأوروبا في المحافظة على المكتسبات الحضارية، والنهوض الاقتصادي، والتطور العلمي.

وقد أثبتت أزمة كورونا في العاميين الماضيين المسؤولية العظيمة التي أظهرتها المؤسسسات الإسلامية قاطبة في الحفاظ على سلامة المجتمع رغم ما تطلبته من خسائر مادية كبيرة، سيما والغالبية الساحقة من المساجد لا تتلقى درهماً ولا ديناراً من هنا أوهناك.

ولو أردتَ تتبع ملامح الإسهام الحضاري لمسلمي أوروبا لمجتماعتهم، فهذا ما يقصر عنه مقال أو كتاب، بل يستدعي ذلك دراسات وافية.

إننا لا نرسم صورة مثالية، بل نرى مساحات الإشراق والإنجازات، وفي الوقت ذاته نعاين جوانب الخلل والتقصير، فنحمد الله تعالى على التوفيق لفضائل الأعمال، ونستغفر من النقص والتأخر، ثم نبحث عن الثغرات الخالية فنسدها، قدر الوسع والطاقة.

ما آمله في عامنا الجديد أن يكون لكل مسجد وكل جمعية صغيرة أو كبيرة سهم وافر في العمل التطوعي مع مؤسسات المجتمع المدني، مثل / التطوع ساعات في الإطفاء/ مع جمعيات الرفق بالحيوان/ جمعية المحافظة على البيئة / جمعيات مكافحة العنصرية / أطباء بلا حدود / إلخ….

صناعة النفسية الإيجابية عند مسلمي أوروبا

منذ نزل القرآن الكريم على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم ” اقرأ بسم ربك الذي خلق “، منذ هذا اليوم فتح  الرحمن الرحيم طريق النور والأمل للإنسانية، فمن يقرأ بسم الله، ويكتب بسم الله، ويشق طريقه في الحياة بسم الله،ويتعلم بسم الله،  ويُعلم الجاهل بسم الله، ويلتمس سبيل النجاة للحيارى بسم الله، ويعمل ويُنتج بسم الله، ويقطع البر والقفر بسم الله، ويعبر البحر  ويخترق الجو بسم الله، ويقارع الظالمين بسم الله، ويصلح ما اعوجَّ من السلوك والأفكار والمشاعر بسم الله،  لن يعرف اليأس إلى قلبه باباً، ولن يتسلل الشك إلى عقله، ولن يهتز يقينه أمام موجات الماكرين هنا أو هناك.

كلماتٌ يجب أن تختفي من قاموس المسلم في الشرق والغرب، تلك التي تُعبر عن سخط أو تشاؤم أو قنوط، ففي عصرنا وفي كل عصر نجد الصعوبات الفردية والأسرية والجماعية، وتلك طبيعة الحياة، والحكمة من وقوع الأكدار في هذه الدار، كما ذكر القرآن الكريم في عديد السور، وإلا لما خلق الله الجنة والنار في الآخرة.

لن يقول يوما : لا أقدر، ولن يتردد في إيمانه بأن له إردة حرة، ولن يعجز، وسيرى  النور ويعيش بالأمل يحدوه العمل، ومن أمَرهُ أن يردد في كل صلاة :  ”  إياك نعبد وإياك نسعين ” سيمده بالصبر والقوة والعزيمة، وإن ضعف يوما – لأنه بشر – سيربط الله على قلبه، وإن سأل الله تعالى العون سيجد برد اليقين وضياء الإيمان يفتح له الطريق.

قد يخفق المرء في عمله الخاص أو العام، غير أنه لن يجلس باكياً على اللبن المسكوب يعض أصابع الندم، بل سينطلق معتبراً من الأخطاء، يعوض فشل الأمس بنجاحات كثيرة، يعرف بعدها حكمة الله تعالى في زلته الماضية بعد أن تألَّم وتعلَّم. وحينها يعلم أن ثمن الخطأ أقل بكثير مما تعلمه وتداركه، وليس في ذلك دعوة لاستصغار الأخطاء، إنما حفز للمسلم أن يستقبل ولا يستدبر، إلا بقدْر ما يقيه عثرات الماضي.

تلك هى النفسية الإيجابية التي لا تستسلم للمصاعب والتحديات، ولا تنهزم نفسيا، بل تقابل التحديات بالأفكار العملية والبرامج التطبيقية. وحسبنا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: “استعن بالله ولا تعجز”  رواه مسلم

نريد في عامنا الجديد أن نحدد أهم الملفات التي يجب أن نحقق فيها إنجازات كببيرة، ونقطع فيها خطوات جادة، مستعين بالله تعالى، متوكلين عليه، موقنين بتوفيقه وعونه، متجردين من حولنا مستمطرين الغوث من الله جل جلاله.

طه سليمان عامر

رئيس هيئة العلماء والدعاة بألمانيا

عضو المكتب التنفيذي للمجلس الأوروبي للأئمة

نقلا عن مدونات الجزيزة بتصرف يسير

Posted on Leave a comment

عراقيل العقل – أحمد محمود عمورة

لن أتحدث عن “المغالطات المنطقية” التي “تُضلِّل” بل عن “العراقيل” التي «تُعطِّل»، فالمغالطات تؤدي إلى «الالتباس» والعراقيل إلى «الاحتباس» وكلاهما تبديد لنعمة وبركة العقول الوقّادة النقّادة.
سأتناول ٤ حالات عقلية Mindsets تنتاب المثقفين والعباقرة والمفكّرين والحالمين، وتُعرقل “الإنجاز”:
١- Learning for entertainment:
*التعلم للمتعة* (القراءة للقراءة): وليس للمنفعة (المثقف الذاتي).
٢- New idea syndrome:
*مُتلازمة “الفكرة الجديدة”: إعصار من الأفكار غير المثمرة (المتوقِّد عبقرية ولكنه مُشتَّت ومُشتِّت).

٣- Over Thinker
المُفرِط في التفكير: إلى درجة الإدمان (المُفكّر محدود الأثر).
٤- Perfectionist:
من ينشُدُ الكمال: والكمال عزيز (الحالِم السارح في الملكوت).

هذه حالات للعقل قد ينتقل بينها نفس الشخص، وهي طاقات جبّارة ولكنها مُعطَّلة ومُعطِّلة، ولكن إذا تيسر لها من يؤمن بها ويجبر عجزها “بسكريتاريا” تنظم “الفوضى الخلّاقة” و”فرق عمل” تترجم الأفكار إلى دراسات، و”حاضنات أفكار” تترجم الدراسات إلى مبادرات، فإنها تصبح أهم مناجم الأمم ومصانع نجومها “فالناس معادن” بحاجة إلى اكتشاف وتعدين.

بقلم: أحمد محمود عمورة

Posted on Leave a comment

من قصص المسلمين الجدد في أوروبا .. لمحة من كتاب “الولادة من رحم المعاناة”

“المسلمون الجدد” … كيف أسلموا ؟!

سؤال مهمٌّ حاولت الكاتبة المبدعة مريم منصور الإجابة عليه بنجاحٍ كبيرٍ.

يُصلّون معنا في مساجدنا في أوربا، ويشاركوننا مختلف المناشط الدعوية والتربوية وغيرها، ويتبوأ بعضُهم أدواراً قياديّةً رائدةً في الكثير من المراكز والمؤسسات الإسلامية في أوربا، بل إنّ بعضهم اقتحم ميدان الكتابة وأبدع فيه، معبّراً عن تجربته الشخصية من ناحية، ومُنافِحاً – من ناحية أخرى – عن تعاليم دينِهِ الجديد الذي ارتضاه لنفسه بعد رحلة معاناة من الشك إلى اليقين، فكان هو/هي بدوره/ها سبباً في هداية باحثين عن الحقيقة سلكوا الطريق نفسها من بعده/ها وساروا على نفس خطواته/ها، أو ربما سلكوا إلى الهداية طريقا أطول وأصعب، ولكنهم وصلوا هم أيضاً.

هناك جانبٌ آخرُ من جوانب حياتهم، غالباً ما نغفل عنه كلما اقتربنا منهم وسألناهم عن قصة إسلامهم منتظرين منهم أن يسمعونا الأمور الإيجابية التي نحب سماعها، دون الالتفات إلى النواحي الإنسانية والنفسية في تجاربهم وتجاربهنّ. وهذا بالضبط ما ركّزت عليه المؤلفة، متتبّعةً رحلة “الولادة من رحم المعاناة” من أفواه أصحابها، فأخرجت للنور: “عشر قصص واقعية لأشخاص أنار الإسلام حياتهم وبعث فيها الأمل”.

جلستِ الكاتبةُ مع كل بطلٍ وبطلةٍ من أبطال روايتها واستمعت لهم بآذان صاغية، وحسٍّ مرهفٍ، وقلبٍ واجفٍ، ثم أعادت صياغة حكاية الرحلة إلى الإسلام بأسلوب أدبي وقصصي جميل وشيق يجعلك تحلق في سماء القصة متنقّلاً بين خطواتها، متشوّقاً إلى النهايات الجميلة: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله.

لقد نجحت الكاتبة في صياغة القصة بطريقة تُشعِرُكَ أنكَ تقرأُ قصةً كُتِبت بأيدي أصحابها أنفسهم، وليس نقلاً عنهم ومحاورةً لهم.

لقد أضاءت الأخت مريم على جانبٍ توثيقيٍّ مهم لم يسبق لي الاطلاع عليه بين دفتي كتاب واحد.

تقول المؤلفة:

“في غمرةِ فرَحِنا بإسلامِ أحدهم، وعُرسِ التّكبير والتّهليل، وسَكْبِ الدموع فرحاً، ولنا الحق في ذلك، قد ننسى ما عاناه هذا الشخص في طريقه.

لِشدَّة ما تأثرتُ بِحُرقَتِهم للوصول إِلى الهدف المنشود، وتلوُّعِهم في البدايات، أحببتُ أن أُسلِّط الضوءَ على بعض الأمور التي سبَّبت لهم المتاعب، وكادت تُثقِل خُطاهُم، عسانا بِذِكرها نزدادُ حمداً لله على نعمٍ قد لا ندرك قيمتها، بينما تكون هي مفتاحَ السعادة والنَّعيم لغيرنا”.

صدر الكتاب في سويسرا في صيف 2021، ويحتوي على عشر قصص إسلام، ومقدمتين وخاتمة، في 200 صفحة من الحجم المتوسط.

وفي الختام لا يفوتني التحفظ على كلمة “المسلمين الجُدُد” التي لم تستعملها الكاتبة حقيقة، وإنما استعملتُها لشُيُوعِها بيننا كمصطلحٍ، ذلك أن بعضَهم قد مضى على إسلامه ثلاثة عقود، أو أربعة، أو ربما أكثر، ولا زلنا نقول “مسلمون جدد” !!

ترقبوا قريباً حواراً مع الكاتبة لمزيد من الإضاءة حول موضوع الكتاب.

وكتبه: علي بن مسعود/ سويسرا

Posted on Leave a comment

فن الخطابة | الإمام: محمد الطاهر بن عاشور

ما هي الخطابة؟

إن الخطابة وإن كانت فنًّا من فنون الإنشاء، وكانت القواعدُ المتقدمة والشروط المقررةُ مطردةً فيها لا محالة، غيرَ أنَّ صاحبها لما كان أشدَّ اعتمادًا على البَداهة والارتجال منه على الكتابة، تعيَّن أن يُذكَر لها من الضوابط والشروط ما لا يجري مثله في عموم صناعة الإنشاء، كما كان للشعر من الضوابط ما يختصُّ به عن الإنشاء، وإن كان هو في الأصل فنًّا من أفانينه.

ولقد رأينا من المتقدِّمين ممن ألَّف في صناعة الإنشاء لم يُعَرِّجوا على ذكر ما هو من خصائص الخطابة؛ حتى إنك لتجد شيئًا من قواعدها في خلال مطوَّلات كتب المنطق، ولا تجد ذلك في كتب الأدب، غيرَ أنَّ المناطقة خَصَّوها بضَرْبٍ من ضروب الحُجَّة، وهو ما يتركَّب من قياسات مظنونةٍ أو محمولَةٍ على الصِّدق، وأما المعنيُّ بها عند علماء الأدب فهو شامل لجميع أقسام الحجة؛ إذ الخطيب قد يأتي بجميعها وإن كان الغالبُ عليه بيانَ القياسات المظنونة؛ إذ هو لا يتعرض للقطعيَّات إلا عند الاحتجاج بها، ولا يتعرض للشعر والسَّفْسَطَة إلا نادرًا؛ لئلا يعرِّضَ نفسه للتكذيب أو الاستخفاف.

فيمكن أن نعرِّفها بأنها: كلامٌ يحاوَلُ به إقناعُ أصناف السامعين بصحَّة غَرَضٍ يقصِدُه المتكلِّم لفِعْلِه أو الانفعالِ به.

فقولنا: (كلام) خرجت به الرسائلُ العامة، والمكاتيب، والتقاليد الموجَّهة للبلدان، وشمل ذلك الكلام المنظوم والمنثور؛ إذ يجوز أن تشتمل الخطبةُ على نَظْم، أو يكون جلُّها نظمًا _كما سيأتي _.

وقولنا: (يحاول به إقناع أصناف السامعين) يخرجُ التدريس؛ فإنه كلامٌ يحاول به إقناع صِنْفٍ واحد من السامعين، وهم طلبة فنٍّ خاص في موضع خاص، ولا يُسمَّى ذلك في العرف خطابةً ولا صاحبُه خطيبًا، وإن كان له عونٌ كبيرٌ على مَلَكَة الخطابة، وتعلُّقٌ شديدٌ بأصولها. ويخرج ما يخاطَب به شخصٌ واحدٌ، كالمناظرات العلميَّة، ومُرَافعات الخصوم والوكلاء لدى القضاة؛ فإنها لا تُسمَّى خطابةً عرفًا، وإن كانت شديدةَ التعلُّقِ بقواعدها، وفي الحديث: “ولعلَّ بعضَكم يكون ألحنَ بحجَّتِه من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع”.

وقولنا: (بصحة غَرَضٍ يقصده المتكلم) نريد منه التعميمَ ليشمل كلَّ غرض تصَدَّى الخطيب لترويجه، سواء كان المراد حَمْلَ الناس على فعله، كالحثِّ على طلب العلم والجهاد، أم اعتقادَهم صوابَه كالخطبة في إرضاء الناس بأمر واقع، ويشمل ذلك الخطبَ التي يَرُدُّ بها الخطيبُ على الغير، أو يعتذرُ بها عن فعله أو فعل غيره، أم الكفَّ عن فِعْلٍ كالمواعظ وتسكين الثورات، أم تحصيلَ عِلْمِهم به كالخطب التي تُقَال على ألسنة الملوك والرؤساء لإعلامٍ بقانون أو فَتْحٍ أو نحو ذلك، ويشملُ ذلك

التعليمَ الذي يتعرَّضُ له الخطيب، مثل الخطب الدينية التي يُتعرَّضُ فيها لتعليم بعضِ الواجبات، فإنَّها لا تُتَلَقَّى بوصف قواعدَ علميَّة، ولكن بوصف تعليماتٍ عامَّةٍ تستوي فيها الناس، أو بوصف التنبيه على تركها وإهمالِها، وبهذا الاعتبار تصيرُ غرضًا للمتكلِّم يحاولُ الإقناعَ بصحته.

ويخرجُ بها ما يُقرأ على المنابر من عقود البيعات السُّلطانية ونحوها، كالتقاليد فلا تُسمَّى خُطبًا، وإنما القصد من ذلك إشهارُها وإعلانُها.

وقولنا: (لفِعْلِه أو الانفعالِ به) إشارةٌ إلى غاية الخطيب من الخَطابة، وهي إما فعل المخاطبين شيئًا يريده أو اعتقادهم شيئًا يُعلِمُهم إيَّاه. وقد انطبق التعريف على المعرَّف.

[منافع الخطابة]

إن الخطابة ركنٌ عظيمٌ من آداب الاجتماع البشري، فبها يحصل تهذيب الجمهور وحملُهم على ما فيه صلاحهم، وتسكين جَأْشِهم عند الرَّوْع، وبثُّ حماسهم عند اللقاء، وبها تحصل مُحَاجَّة المموِّهين عليهم والمعنِّتين لهم؛ إذ الجمهور إنما يتألف من أفرادٍ لا تبلغ عقولُهم بسرعةٍ إلى إدراك البراهين النظرية، ولا تهتدي من تِلقاء نفسها إلى الغايات الحقيقية، فناسب أن يُعدَل عند خطابهم إلى الأمور الإقناعية، وهي المشهورات الموصِّلة إلى ما يوصِّل له البرهان ولو خالفته في الطريق، وقد يخاطِب الخطيب قومًا من الخاصة إلا أن المَقام يكون نابيًا عن سلوك طريقة البرهان، إما لقِصَر الوقت واحتياج البرهان إلى طُولٍ، وإما لأنَّ في البرهان خَفَاءً وتدقيقًا وتفاوتًا في قَبول الناس له، أو مُكَابرةً في الاعتقاد فيُصَار إلى الإقناعيات والتمثيلات والمسلَّمات لتُمْكِنَ

معارضة الخصم الألدِّ وإيقاظ الغالط الغافل، فلذلك كان الخطيب في حاجةٍ إلى معرفة محاسن الأشياء وأضدادها ليتوسَّل بذلك إلى مناقضة ضَالٍّ مروِّج أو إرشاد جاهل غيرِ متيقِّن. وحسبك من منفعة الخطابة أن الله تعالى شرع لنا الخطبة عند كلِّ اجتماع مهم من جُمُعة وعيد وحج، وذلك أنَّ النُّفوس تميل في طِباعها لمتابعة الشهوات وتتجهَّم الاتِّباع لمقتضى الأخلاق الفاضلة، فإذا لم تتكرر عليها الدعوة إلى الفضائل بالخطب غلبت عليها أضداد الفضائل والعدالة، وليس كلُّ صِنْفٍ من أصناف الناس بصالحٍ لتلقِّي ذلك وحدَه من مطاوي كتب التهذيب وأوراق الحكمة، ولا كلُّ صالحٍ لذلك بفاعلٍ، فلا جَرَم وجبَ التذكير عند المجتمعات العامَّة لأنها تحشُر أصناف الناس.

ولقد كان الشعرُ أغلبَ على العرب، وكان الشاعر مُقدَّمًا عندهم على الخطيب في الجاهلية -كما قال أبو عمرو بن العلاء- لفَرْط حاجتهم حينئذٍ إلى الشعر الذي يُقيِّد عليهم مآثرهم، ويفخِّم شأنهم، ويُهَوِّل على عدوِّهم، فلما كثر الشعر والشعراء واتخذوا الشعر مَكسِبةً وتسرَّعوا به إلى أعراض الناس، صار الخطيب عندهم فوق الشاعر، ومع ذلك فلم يُحفظ من خُطَبهم شيءٌ كثيرٌ؛ لأنَّ الشعر كان أسرعَ إلى الحفظ وأعلق بالذهن، ولما جاء الإسلام وتأسَّس الدينُ ارتفع شأن الخطابة، وقُيِّدت آثارُها بشيوع الكتابة.

[أصول الخطابة]

اعلم أن أصول الخطابة من حيث إنها كلامٌ مُنشَأ لا تفارق الأحوالَ الثلاثة التي شرحناها في كيفية إنشاء المعنى من القسم الأول في الإنشاء، وهي: المعنى الأصلي، وتفصيله، وإيضاحه، المشار إليها بقول ابن المعتز: “البلاغة: أن تغوصَ لحظةُ القلب في أعماق الفِكْر، وتجمعَ بين ما غاب وحَضَر، ثم يعود القلبُ على ما أَعمَلَ فيه الفِكْرَ فَيُحكِمُ سياق المعاني، ويُحسِن تنضيدَها، ثم يبديها بألفاظٍ رشيقةٍ مع تزيين مَعارِضِهَا، واستكمال محاسنِها”.

وكل ذلك محتاجٌ إلى طبع سليم، فقد قال أبو داود بن جرير: “رأس الخطابة الطبع”، =ولكن الذي يختلف هو كيفية التفصيل والتنسيق، وكيفيةُ الإيضاح والتعبير، فأما كيفية التفصيل فسيأتي جلُّها في معرفة أركان الخطبة، وأما كيفية التنسيق فهو في الخطابة: أن يتمكن الخطيب من الموضوع الذي يتصدَّى للتكلُّم فيه، ويجمعَ أصولَه ويستحضر غايته والغرضَ الذي يرمي إليه، ويتصوَّر ذلك بوجه مجمل،

ثم يأخذ في تفريعه قبل التكلُّم لكيلا يُرْتَجَ عند الشروع، ثم إنه يُحسِن ربطه ويناسب في الانتقال لكيلا يَشِذَّ عليه وقتَ الاشتغال بالتكلم بعضُ ما كان أعدَّه، فإن لوقت التكلم ضيقًا غيرَ ما يكون من السَّعَة في حال التفكر، فإذا أَخَذ بعضُ المعاني بأيدي بعض، وحَسُن رَبْطُ بعضه ببعض، كان أسهلَ استحضارًا وأقربَ تناولاً للسامع والناقل؛ لأنَّ بعضه يُذَكِّر ببعض، ومن هذا ما يُعبَّر عنه بـ (حُسْن التخلُّص)، ثم يَعقُب ذلك تقريرُ المعنى -على حسب ما تقدم في نقد المعاني- ثم الاستدلال عليه، وذلك لا يعسُر على الخطيب إن هو أحسن تنسيقَ أصول خطبته؛ لأنه يتمكَّن منها كمال التمكُّن.

ثم إن الخطيب لا يستغني عن الاستكثار من استحضار معانٍ صالحة في أغراض شتَّى يحتاج إليها في الاستدلال على فضل شيء أو ضدِّه؛ لتكون له عونًا عند الاندفاع في الخطابة، وتخفيفًا عن ذهنه من شدة التحضير، ولأنَّه إن لم ينفتح له بابُ القول في غَرَضٍ ارتجاليٍّ يأخذْ من تلك المعاني ما يدفع عنه عيبَ الإرْتَاج والحُبْسَة، وقد روي أن عثمان – رضي الله عنه – لما قام عندما بويع بالخلافة أُرتِجَ عليه فقال: “أما بعد، فإنَّ لكل قادمٍ دهشةً، وأنتم إلى إمامٍ فعَّال أحوجُ منكم إلى إمامٍ قوَّال، وإن أَعِشْ فستأتيكم الخطبُ على وجهها”. وكذلك روي أن داود بن علي قام للخطبة، فلما قال: (أما بعد) أُرتِجَ عليه فقال: “أما بعد، فقد يجِدُ المُعسِرُ، ويُعسِرُ الموسِرُ، ويُفَلُّ الحديد، وإنما الكلام بعد الإفحام

كالإشراق بعد الظلام. وقد يَعزُب البيان، ويَعتَقِمُ الصَّوابُ، وإنما اللسان مُضْغَةٌ من الإنسان، يَفْتُر بفتوره إذا نَكَل، ويثوب بانبساطه إذا ارتجل. ألا وإنَّا لا ننطِق بَطَرًا، ولا نَسكتُ حَصَرًا، بل نسكت معتبرين، وننطِقُ مرشِدين، ونحن بعد ذلك أُمَرَاءُ القولِ، فينَا وَشَجَت أعراقُه، وعلينا عَطَفَتْ أغصانُه، ولنا تهَدَّلتْ ثمرتُه، فنتخيَّرُ منه ما احْلَوْلَى وعَذُب، ونَطِّرِحُ منه ما امْلَوْلَح وخَبُثَ، ومِنْ بعدِ مقامِنا هذا مَقام، ومِنْ بعد يومنا أيام”. فبذلك كان في إرتاجه أبلغَ منه في ارتجاله، ولولا أن هذه المعاني كانت حاضرةً في ذهنه حتى صار بها خطيبًا في بيان أحوال الخطيب لسكت وحُبِسَ لسانُه.

ولا بد للخطيب من التنبُّه إلى مواقع النقد والاعتراض، وهي الأشياء التي يظنُّ أنَّ في السامعين من ينكرها؛ لمخالفة اعتقادٍ أو مخالفة هوى، فيَعُدُّ ذِهْنَه للجواب عنها، وقد قيل: إنَّ عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – كان قد أعدَّ لكل حادثةٍ جوابًا. وسيأتي بيانٌ لذلك في الكلام على الخطيب.

وأما كيفية الإيضاح والتعبير فقد قال أبو هلال العسكري: “الرسائل والخطب مُتشَاكِلَتَان في أنهما كلامٌ لا يلحقه وَزْنٌ ولا تَقْفِيَة،

وكذلك من جهة الألفاظ والفواصل؛ فألفاظُ الخطب تشبه ألفاظ الكِتَاب في السهولة والعذوبة، وكذلك فواصل الخطبة مثلُ فواصل الرسائل، والفرق بينهما أن الخطبة يُشافَه بها بخلاف الرسالة”. وقال في الباب الرابع: “أجناس الكلام ثلاثة: الرسائل، والخطب، والشِّعْر، وكلُّها تحتاج إلى حُسْن التأليف وجودة التركيب”. وعليه فكل ما قررناه في قسمي الإنشاء المعنوي واللفظي يجري بعينه ها هنا. ولم نزل نرى الخطابة والكتابة يجريان على سَنَنٍ واحد في اللهجة، ويتلوَّنَان تبعًا لأذواق العصور المختلفة بلونٍ واحدٍ، إلا أنه لا بد لنا من إيضاح الفرق بين الرسالة والخطبة الذي أشار له أبو هلال بقوله: “الفرق بينهما أنَّ الخطبة يُشَافَه بها بخلاف الرسالة” لكيلا يَظُنَّ الواقفُ عليه أن ذلك قُصَارى الفَرْق، وإنما هو يَنْبُوعُ فروقٍ كثيرة؛ إذ لا يخلو حال الكلام المشافَه به من مخالفةٍ لحال الكلام المكتوب المبعوث به، وقد حَضَر لنا من ذلك فروقٌ كثيرة:

أحدها: أن الخطابة يشافَه بها جمعٌ من الناس، فهي من هذا الوجه أولى باستعمال الألفاظ السهلة التناول للجمهور، مع بَسَاطة المعاني وقلة تركيبها والإغراب فيها.

ثانيه: أنها لذلك يجب أن تكون جُمَلها شديدةَ الارتباط قريبةَ التآخي، بحيث لا يحسُن فيها تطويلُ الاستطراد ولا بُعْدُ مَعَاد الضمائر والإشارات ونحوها؛ إذ ليس لذهن سامعِها من التمكُّن في التفهم ما لذهن قارئ الرسالة.

ثالثها: أن السجع الذي هو فنٌّ من فنون الإنشاء لا يحسُن كلَّ

الحُسْنِ في الخطابة، خصوصًا الخطابة التي تُقَال لجماهير الناس وعامتهم؛ لأنَّ السجع لا يخلو عن تكلُّف ألفاظٍ تحجُب ذهن السامعين عن كمال فَهْم المعاني، فإن اغتُفِر فيها السجعُ فإنما هو ما يقع عَفْوًا بلا تكلُّف، أي السجع الذي يطلبُ المتكلِّمَ لا الذي يطلبُه المتكلِّمُ.

رابعها: أن الخطابة لَمَّا كان شأنَها الارتجالُ -ولو كانت مُحَضَّرةً أو مُنقَّحَةً، فينبغي أن تكون صورتُها صورةَ الارتجال- فلذلك كانت جديرةً بطرح كلِّ ما تُشَمُّ منه رائحةُ التصنُّع. نعم، لا نجهل أنَّ الخطابة ضَعُف التَّبْريزُ فيها من أواسط القرن الخامس شيئًا فشيئًا، وصارت الخُطَب مهيَّئةً من قَبْل إلقائِها، وصار الخطباءُ يلقونَها من الأوراق فمالوا فيها إلى المحسِّنات اللفظية التي غلبت على إنشاء تلك العصور فما دونها، إلا أنَّ تَكاثُرَ ذلك لم يَحُلْ بصاحب الذوق السليم مِنْ أن تُخَالجه السَّمَاجةُ عند سماعها، وهذا هو الذي أيقنَنَا بأنَّ كثيرًا من الخُطَب المنسوبة لسيِّدنا عليٍّ – رضي الله عنه – في كتاب (نهج البلاغة) هي من موضوعات أدباء الشيعة، وإن شئتَ مثالاً لهذا وذاك فدونك الخطبَ النبوية

وخطب فصحاء العرب، ثم انظر الخطب المنبرية المجموعة في الدواوين كخطب ابن نباتة، والخطب التي تضَمَّنَتْهَا المقاماتُ الحريريَّة.

ولتمام الاستعانة على التنسيق والتعبير اللذين هما ملاك أصول الخطابة تعيَّن على الخطيب التملِّي من رواية أقوال الخطباء؛ فإنَّ في ذلك معرفةً لمعانٍ جامعةٍ وألفاظ بارعةٍ، وقد نقل الجاحظُ عن أبي داود بن جرير أنه قال: “رأسُ الخطابة الطَّبْعُ، وعَمودُها الدُّرْبَة، وجَنَاحاها روايةُ الكلام”. وذلك ليعتادَ سهولةَ التعبير.

كما لا غُنْيَة للخطيب عن معرفة أحوالِ الأمم ومحامِدهم ومَذَامِّهم؛ فإن ذلك مما يعرِض للخطيب، ويُعِينُه على التكلُّم في المجامع؛ ليأخذ من ذلك أمثالاً صالحةً أو تحذيراتٍ نافعةً، ولأنه يستعين به على تأييد أنصارِه أو الحَطِّ من أعدائهم، وقد حَضَر الخطيبُ خالد بن صفوان الأهتمي بمجلس أبي العباس السَّفَّاح، ففخر عليه ناسٌ من بَلْحارث بن كعب، وأكثروا في القول، فقال له السَّفَّاح: مالك لا تتكلم؟ فقال له: أخوالُ أمير المؤمنين وعَصَبَتُه. فقال له: فأنتم أعمامُ أمير المؤمنين وعَصَبَتُه. فقال خالد حينئذٍ: وما عسى أن أقول لقومٍ كانوا بين نَاسِجِ بُرْد، ودَابغِ جِلْد، وسَائِسِ قِرْد، وراكب عَرْدٍ (الحمار)، دَلَّ عليهم هدهد، وغَرَّقَتْهُم فأرة، ومَلَكتهم امرأة”. أشار إلى أنهم من بقايا سَبَأ. وقد قال فيه مَكِّيُّ بن سَوَادَة -الشاعر، وجَمَع في شِعْره ما يلزمُ الخطيب-:

عَليمٌ بتنزيلِ الكلامِ مُلَقَّنُ … ذَكُورٌ لِمَا سَدَّاهُ أوَّلَ أوَّلا

يَبُذُّ قَريعَ القومِ في كلِّ مَحْفِلٍ … وإن كان سحبانَ الخطيبَ ودَغْفَلا

ترى خُطَباءَ القومِ يومَ ارتجاله … كأنَّهمُ الكِرْوانُ عايَنَّ أجْدَلا

وكذلك معرفة ما يكثرُ الدعاء إليه مثل منافع المَدَنِيَّة ومنافع التعليم، ومثل استحضار الخطيب السِّيَاسيِّ لعلائق الأمم وتواريخ حوادثها، ولذِكْرِ مفاخر أمته ودولتها، واستحضار ما يَذُبُّ به عن سياستِه ممن يَنتقِدُهَا.

من كتاب: أصول الخطابة والإنشاء

بقلم: محمد الطاهر ابن عاشور (1296 – 1393 هـ = 1879 – 1973 م) رئيس المفتين المالكيين بتونس وشيخ جامع الزيتونة وفروعه بتونس.

Posted on Leave a comment

ما أكثر القول وأقل العمل – الإمام محمد عبده

إن من أخس الأوصاف وأدناها أن يقول الإنسان ما لا يفعل، وأن يدل غيره على ما ضل عنه، وأن يعيد على الناس ما لا يعيبه هو على نفسه، وذلك أن من كانت هذه صفته فهو جاهل من وجه، ومعترف بنقصه من وجه آخر، وخبيث المقصد دنيء الهمة من الوجه الثالث، أما جهله فلا أنه ادعى بما ليس فيه من علم أو فضل، مع كون الناس لا يرون أثرا ظاهرا لعلمه أو فضله، بمعنى أنه لم يؤلف تأليفا نفيسا مثلا ينتفع به عموم الناس، ويعترف بنفاسة ما فيه العقلاء والمتبصرون من أي أمة، ولم يكشف حقيقة، ولم يحل حقيقة، واعتقد أن سامعيه يصدقونه فيما يدعيه، فقد جهل أن النفوس مجبولة على تطبيق المسموعات على المشاهدات وواقع الأمر، فإن لم تجدها مطابقة رمت بها في وجه قائلها، فتقلب دعواه مقتا عليه، ويسقط من قلب الناس أجمعين، إذ لم يروا له أثرا يفيدهم سوى أنه يخبر عن نفسه بأوصاف لا حقيقة لها، وكذلك إذا أرشد إلى غاية هو متوجه صوب ضدها، ويظن أن الناس يسترشدون بإرشاده فهو لا محالة مطبق الغفلة مركب الجهل، إذ لا يعلم أن الأفعال تؤثر ف بالنفوس أضعاف ما تؤثر الأقوال، فإن القول عند النفس يحتمل التصديق والتكذيب، فتتردد في مفهومه، فلا يقودها إلى العمل إلا بعد تكرار وتذكار، أما الفعل فهو أمر مشهور ينطبع في النفس أشد انطباع، فتندفع إليه خصوصا إن كانت فيه لذة معجلة، وإن عاب على غيره وصفا هو موجود فيه فقد جهل أن ذكره لعيب الغير ينبه الأذهان للنقص القائم بنفسه، فإن المتكبر مثلا إذا ذم الكبر في غيره فقد ذم في نفسه من حيث لا يشعر، فهو جاهل بنفسه وبما يعود عليها وهو ظاهر.

وأما اعترافه بنقصه وعجزه فلأنه لم يصدر منه ذلك ـ أي الدعوي بما ليس فيه وترغيب الناس فيما لا يرغبه لنفسه أي فيما ليس بمتصف به بل هو منحرف عنه وذكره لمثالب الغير وهي فيه ـ إلا لأجل أن يبين للسامعين كماله وفضله، ويظهر لهم وصوله لما يهديهم إليه، وخلوه من النقص الذي يلوم عليه الغير، حتى يعظموه، ويقوموا له بقضاء بعض حاجاته، حيث علم أن الكمال الذي يدعيه هو مناط التعظيم وجلب المنافع، وكأنه بذلك ينادي على نفسه بأنه لم يبلغ من ذلك شيئا، لأنه لو بلغ الكمال الذي يدعيه لكانت نتائج ذلك الكمال ناطقة برفعة قدره، شاهدة بعلو مقامه، سواء ادعي ذلك عن نفسه أو لم يدع، وسواء غيره أو كمل، ولم يكن هناك داع لمحه لنفسه أو ذمه لغيره، بل تكون آثار فضله فاعلة في النفوس، جاذبة لها إليه بذاتها، فمن تكلف الإطراء على نفسه بوصف من الأوصاف الفاضلة، أو رام إظهار كماله بالحط من قدر غيره، فذاك معترف بأنه خال من الفضيلة، حيث لم تشهد له الحقيقة فاضطر إلى النداء بالكذب، ليقنع السامعين بأنه كذلك.

وأما خبث مقصده ودناءة همته، فلأن من هذه صفته لا يريد أن يكون ذا فضيلة قط، ولا يبتغي الوصول إلى كمال، ولكنه يطلب عيشا حيثما اتفق، فإذا جلس إلى بعض البسطاء أو غيرهم طلب التلبيس على عقولهم، ليقرر في نفوسهم انه بالصفة التي يذكرها عن نفسه، أو يرشد إليها، وأنه خال من العيب الذي يسب به غيره، ليوقروه فيكتسب منهم مساعدة على بعض أغراضه الخسيسة، أو يستفيد منهم حطاما يسد به بابا من أبواب نهمته وشرهه، فهو في ذلك بمنزلة المتشعبذين أو المختلسين أو السارقين، ونحو ذلك من كل ذي حيلة خسيسة لجلب الأموال، ولا يختلف عن هؤلاء إلا بالاسم فقط، حيث يقال إنه غش الناس بحكاية الكذب عن نفسه، وهو المسمى في عرفنا (بالفشر ويقال لصاحبه فشار).

فالقول الذي لا يعضده الفعل يحسب من أردأ الأوصاف وأقبحها؛ لأنه يشعر بوجود أوصاف تشهد البداهة بقبحها، ومن الأسف أن الوصف يوجد في كثير من أهالي بلادنا، بل في الغالب منهم، بل لا يوجد القائل الفاعل إلا قليلا جدا (وإننا نخجل من تسجيل مثل ذلك في الجرائد، ولكن أي فائدة في إخفاء عيب فينا عرفه الغير منا، فحق علينا أن نذكر به لعلها تنفع الذكرى).

إننا إن طرقنا المجالس الخصوصية في بواطن البيوت، والأندية العمومية في الأماكن العامة، لا نعدم قائلا عن نفسه: إنه قرأ من العلوم معقولها ومنقولها، وطالع الكتب العالية، ووقف على المباحث الجليلة وكشف بواطن الدقائق الخفية، واستطلع الأسرار، وكان مع ذلك مشهورا في زمن الاشتغال بالفطنة والذكاء، وتوقد الفكر وقوة الحافظة ونحو ذلك، وآخر يقول: إنه بلغ من الاقتدار على الإقناع في الجدل والإفحام عند المخاصمة، وتفهيم الطالب عند الاستفادة، حدا لا يصل العالمون إلى غباره، وإن له من طريق الإقناع والإفهام ما لا يتيسر لغيره معرفتها، وإنه يحيي بكلامه الأذهان الميتة، ويحشر إليها صور المعلومات، ويودع فيها أسرار الكائنات، ولو سألت كل واحد من الذين يظن فيهم وصف العلم والتعليم لرأيته يحدث عن ذاته بكل الذي قلناه، ويقول: لو كان الناس يسلكون هذا المسلم الذي أسلكه لانتشر العلم وعمت المعرفة.

لكننا إذا رجعنا إلى الواقع ونفس الأمر، رأينا أن التآليف والتصانيف مفقودة، وإن وجد منها شيء كان ناقصا، إما من جهة المعنى وإما من جهة اللفظ، بحيث لا تدل عبارته عل يما قصد منها، فيكون كعدمه، والطالبون للعلوم على اختلافهم قاصرون عن إدراك ما أضاعوا عمرهم فيه، ودليلنا على ذلك احتياجهم دائما إلى غيرهم، وعدم قدرتهم على الاستقلال بعمل يعملونه في نفس العلم أو الصناعة التي تعلموها، فتارة يحتاجون إلى الأجانب، وأخري إلى بعض الوطنيين ـ (وربما نبين هذه الجملة في وقت آخر).

ومن الناس من إذا ذاكرته في المنافع العامة والمصالح الكلية أخذ يشرح غوامضها، ويبين الواجب فيها، والطرق الموصلة إلى جلب المنافع ورفع الضار، والوسائل المؤدية إلى تقويم حال الأمم وارتفاع شأنها، من رفع منار العدالة، وبث روح العلم وتقرير المساواة وما شاكل ذلك، ثم إذا فوض إليه أمر من تلك المصالح رأيته أبعد الناس عن الخير وأقربهم إلى الشر، واستنكف عن المساواة، واستهجن معني العدالة، وإن كان يعبر عن نفسه بلفظها، وسار مع أغراضها وشهواته، وجعلها قانونا يتبع، ويعد كل ذلك حقا، وهو في درجة وعظه الأولي لم يخجل ولم يتلعثم له لسان في النصح ودعوي معرفة الحق، ولو أن أحدا عارضه بحق في أي جزئية عقب ترغيبه في قبول النصح والمساواة لرأيته يتذمر ويتضجر، ويود أن يفتك بمن يناقضه في بعض آرائه ويهدي نصحا في بعض أعماله.

ومنهم من يقول إن كل مصيبة ألمت بالنوع الإنساني لم يكن منشؤها إلا التباغض والتحاسد، وتفرق الكلمة، والميل إلى المنافع الشخصية، وعدم الاكتراث بمنافع العامة، ونحو ذلك من الأقوال الصحيحة المسلمة، ولو أنك لاقيت كل يوم ألف شخص لرأيته يقر بذلك ويعترف به، مدعيا أنه يميل كل الميل إلى الاتحاد والائتلاف، وإنما تأتي النفرة من غيره، ثم لو أتي إليه مطالب بحق في وقت المذاكرة لرأيته يعد هذه المطالبة أمرا كبيرا، وإن كانت بغاية من اللطف والإنسانية، والتوى من الغيظ التواء الثعبان، ولو دعي إلى إغاثة ملهوف، أو إزالة مكروه عن بعض إخوانه الداخلين تحت إمرته، رأيته يتعالى ويتعذر أو يتمنع ويستكبر ويقول: ليس هذا من خصائصي، ولو طلب إلى تأسيس أمر خير يفيد الزراعة أو الصناعة، أو يساعد على التربية الحقة، يستصغر ذلك ويسفه آراء طالبيه، ويقول: ماذا يعود على شخصي من ذلك؟ وما لي وللعامة؟ دعهم في شأنهم يرزقهم الله من غيري!! كأن جنابه يظن أن المحبة والاجتماع والألفة التي يدعيها ويميل إليها يجب أن تكون له من العير، لا في مقابل منفعة، ولا جزاء لدفع مضرة، بل لابد أن ينفعه الناس وهو لا ينفعهم، وما أجهل أمثال هؤلاء السفهاء وأضل رأيهم ـ (ومن العجيب أنهم كثير جدا).

ومنهم من ينتقد على الظلمة ومرتكبي الجرائم وفاسدي الإداري وسيئ التدبير، ثم تراهم واقعين فيما ينتقدون على الغير، كأن محل الانتقاد أن يكون الفعل صادرا عن سواهم ذكرتهم لا يعرفون في العالم قبيحا ولا حسنا، ولا صحيحا ولا فاسدا، وإنما هي ألفاظ ورثوها نطقا ولم يتفهموها حق الفهم، وألفوا استعمالها في مواقع مخصوصة، فهم يستعملونها كما سمعوها بدون أن يعلموا حقيقة أو يقفوا لها على مرمى، وحقيقة أمرهم أنهم جهلاء أنذال عديمو الشرف الإنساني حقيقة، ووجودهم في الهيئة الاجتماعية شؤم عليها، وهم في رتبة الحيوانية الأولي، لا يعترفون بالحقائق الثابت، بل لا يرون حسنا إلا ما يصل إلى إحساساتهم الظاهرة من اللذائذ الوقتية، فإذا مضي وقتها ذهلت أذهانهم عنها، ولا ينتهون لحسنها إلا إذا وردت عليهم مرة أخري، وهكذا ولا يرون قبيحا إلا ما يصل إلى إدراكاتهم من المؤلفات الوقتية، فإذا زال ألمها غفلوا عنها كأنها لم تمسهم، فإن رأوها لاحقة بغيرهم لم يعدوها مؤلمة، ولم ينظروا إليها نظر الآسف المستنكر، فيختلف عندهم حس الشيء وقبحه بالإضافة إلى أنفسهم تارة وإلى غيرهم تارة أخرى، وليس عندهم صورة ثابتة لماهية الحسن وماهية القبيح، ولا حقيقة النافع أو حقيقة الضار، وإنما هي أهواؤهم يعبرون عنها بالألفاظ المصطنعة، كالمصلحة العامة، والمنفعة العمومية، والحقوق الوطنية، وما شاكل ذلك فهم لا يسلمون من شر ما يقولون وما يفعلون، فجهلهم لا محالة يعود عليهم بعاقبة بئس العاقبة.

ولكنا لا نحب ذلك، ونود أن يكون الفعل أكثر من القول، وأن يكون كل شخص من أبناء بلادنا – صغيرا كان أم كبيرا – مجدا في نيل الفضيلة الثابتة، التي يلهج بتحسينها وإجراء مقتضاها، حتى تكون بذاتها شاهدا عدلا على أهلية صاحبها لما يقول، وتنشر الأعمال الصالحة المنطبقة على الشرائع والقوانين، فتسير المصالح على صراط مستقيم، وينال كل شخص حظه الحقيقي من ثمرت أتعابه الآتية على وجه منتظم، فيعود بالنفع على العامة والخاصة، أما الفخفخة وكثرة اللغو فإنها من شدة العجز لا تعيد ولا تبدي، وسنعود إلى هذا الموضوع مرة أخري عند الفرصة إن شاء الله

بقلم: الإمام محمد عبده

مجلّة المنار: العدد (9) تاريخ الإصدار 17 مايو 1898

Posted on Leave a comment

من فقه خطيب الجمعة

يقول صلى الله عليه وسلم: “إِنَّ طُولَ صَلَاةِ الرَّجُلِ وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ فَأَطِيلُوا الصَّلَاةَ وَاقْصُرُوا الْخُطْبَةَ وَإِنَّ مِنْ الْبَيَانِ لسِحْرًا”. رواه مسلم.
وقد اتفق علماء الأمة قديما وحديثا على أن من علامات فقه الخطيب أن يطيل في الصلاة ويقصر في الخطبة ويوصل المقصود بأبلغ عبارة وهنا أمور أربعة:


أولها: إن المقصود بالخطبة هو إيصال فكرة أو مجموعة أفكار بطريقة بيانية واضحة ومبهرة ومختصرة ومتسلسلة ومركزة وساحرة كما سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث فهو أدعى لقبول الناس لها وعدم نسيانها بسبب الكلام والتطويل الكثير.
وثانيها: وهذه من عجائب فقه العبادات في الإسلام أن تكون الصلاة أطول من الخطبة ومن المعلوم أن أطول ما في الصلاة هو القيام وأن ركن القيام هو موضع تلاوة القرآن وهذا يدل على أن الشرع يريد من المسلم أن يكثر من سماع القرآن في الجمعة لخصوصيتها فكما يكون التذكير بالكلام والموعظة في الخطبة كل أسبوع يكون هناك تلاوة مميزة للقرآن في النهار كل أسبوع أيضا ومن لم يتعظ بالقرآن فقد لا يكون له من كلام الخطيب واعظ.
وثالثها: إن الخطبة لا تكون قصيرة مخلة ولا طويلة مملة ويستثنى من ذلك طول الخطبة عند الحاجة لبيان أمر يقتضي التطويل من نازلة أو ازمة أو بيان لشيء مبهم كما إن المقصود بتطويل الصلاة ليس التطويل المفرط الذي لا يراعي المريض والضعيف وذا الحاجة لكنه تطويل مقدور عليه.
ورابعها: إن كل ذلك يحتاج في تطبيقه إلى تدرج وحكمة من الخطيب بحسب المدينة والحي ومستوى المصلين ويسبق كل ذلك توعية شرعية كافية بالموضوع.

Posted on Leave a comment

قيمة الجمال في الإسلام

بقلم الشيخ/ عبدالمجيد نوار التلمساني

في عالمنا اليوم الكثير من المصطلحات التي تعبر عن الأناقة والجمال والذوق في مختلف جوانب حياة الإنسان، فهل أهتم الإسلام بهذه المعاني؟

إن الجمال قيمة من القيم الأساسية التي نطقت بها الآيات في الكتاب المسطور والكون المنظور كليهما. والمتأمل في النصوص الشرعية -قرآنا وسنة- يجد أنها تؤكد على العناية بالجمال باعتباره قيمة أساسية، سواء تعلق الأمر بجمال الظاهر أو جمال الباطن، وتعمل على تنمية الإحساس الجمالي لدى المسلم، وتهذيب سلوكه وأخلاقه.

ولقد يصعب الحديث عن قيمة الجمال في الإسلام وقيمه الحضارية، في الوقت الذي تم فيه تشويه صورة الإسلام الجميلة من طرف أعدائه وبعض أتباعه، ولهذا كان من الواجب على كل المخلصين أن يبذلوا المجهود من أنفسهم لإبراز صورة الإسلام الحقيقية من خلال سلوكهم قبل أقوالهم.

فطرَ الله النفوسَ على الإحساس بالجمال:

فطرَ الله النفوسَ على الإحساس بالجمال وحبِّه والميل إليه، وحبِّ الزينة والتجمُّل بها والأُنس بها، وشرع من الدين ما يتمم هذه الفطرة الجميلة ويرعاها؛ ليزداد الإنسان جمالا إلى جماله، ونورا إلى نور فطرته وعقله، كما قال اين القيم رحمه الله وهو يتحدث عن الإنسان المؤمن: ” فجاءت مادة الوحي فباشرت قلبه، وخالطت بشاشته، فازداد نورا بالوحي على نوره الذي فطره الله تعالى عليه؛ فاجتمع له نور الوحي إلى نور الفطرة؛ نور على نور”.

فالإحساس بالجمال وحبِّه أمر فطري، قائم في بنية النفس الإنسانية، بل يعتبر دليلاً على سلامة الطبع واستقامة الفطرة.

قال الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله: “والطباع السليمة قاضية باستلذاذ النظر إلى الأنوار والأزهار والأطيار المليحة الألوان الحسنة النقش المتناسبة الشكل.. ولا أحد ينكر كون الجمال محبوبًا بالطبع”.

قال ابن القيم رحمه الله في حديثه عن الجمال الظاهر: “والقلوب كالمطبوعة على محبته، كما هي مفطورة على استحسانه”.

أما صاحب الظلال رحمه الله فهو لا يراه فطرة في الإنسان فحسب، بل يراه فطرة الوجود كله، قال رحمه الله: “ونظرة إلى السماء كافية لرؤية هذه الزينة. ولإدراك أن الجمال عنصر مقصود في بناء هذا الكون، وأن صنعة الصانع فيه بديعة التكوين جميلة التنسيق، وأن الجمال فيه فطرة عميقة لا عرض سطحي”.                                                                                                                                     

إن الدخول إلى النفس من باب الجمال، هو منهج قرآني ونبوي.

فالقرآن الكريم ليس حقًّا فحسب، وإنما هو حقّ جميل، معجز في جماله. ولو كان الإنسان عقلاً فقط لكان القرآن كتاب حقائق علمية، ولكن فطرة الله في الإنسان أنه يتذوق الجمال، فوق كونه يعقل المنطق.  والنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن داعية حق فحسب، بل زينه الله الخالق المبدع بزينة الجمال؛ فكان أجمل الناس خَلقًا وخُلُقًا {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} القلم. وفي حديث البراء بن عازب رضي الله عنه: “كان رسول الله أحسن الناس وجهًا وأحسنهم خلقًا، ليس بالطويل الذاهب ولا بالقصير”.

إن الله جميل يحب الجمال

عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً، ونعله حسنة، قال: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس”. وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنَّ اللهَ تعالى جَميلٌ يحبُّ الجَمالَ، ويحبُّ مَعالِي الأَخلاقِ، ويكرَهُ سَفسافَها”.

قال ابن القيم رحمه الله: “وهو سبحانه كما يحب الجمال في الأقوال والأفعال واللباس والهيئة، يبغض القبيح من الأقوال والأفعال والثياب والهيئة؛ فيبغض القبيح وأهله، ويحب الجمال وأهله”. ويقول رحمه الله: “ومن أعز أنواع المعرفة معرفة الرب سبحانه وتعالى بالجمال وهي معرفة خواص الخلق وكلهم عرفه بصفة من صفاته وأتمهم معرفة من عرفه بكماله وجلاله وجماله سبحانه ليس كمثله شيء في سائر صفاته. ومن أسمائه الحسنى “الجميل”، وجماله – سبحانه – على أربع مراتب: جمال الذات، وجمال الصفات، وجمال الأفعال، وجمال الأسماء. فأسماؤه كلها حسنى، وصفاته كلها صفات كمال، وأفعاله حكمة ومصلحة وعدل ورحمة. وأما جمال الذات، وما هو عليه، فأمر لا يدركه سواه، وليس عند المخلوقين منه إلا تعريفات تَعرَّف بها إلى من أكرمه من عباده”.

قالَ ابْن عَبّاس رضي الله عنهما: “حجب الذّات بِالصِّفاتِ وحجب الصِّفات بالأفعال فَما ظَنك بِجَمال حجب بأوصاف الكَمال وستر بنعوت العظمة والجلال”.

وكيف يعبر أحد عن جماله عز وجل وقد قال أعلم الخلق به صلى الله عليه وسلم: “لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك”. أخرجه مسلم

ومن أجمل ما قيل في هذا الباب كلمة لابن القيم رحمه الله يقول فيها: “ويُعبد بالجمال الذي يُحبه من الأقوال والأعمال والأخلاق، فيُحب من عبده أن يُجمل لسانه بالصدق، وقلبه بالإخلاص والمحبة والإنابة والتوكل، وجوارحه بالطاعة، وبدنه بإظهار نعمه عليه في لباسه، وتطهيره له من الأنجاس والأحداث والأوساخ، والشعور المكروهة.. فيعرفه بالجمال الذي هو وصفه، ويعبده بالجمال الذي هو شرعه ودينه”.

وأعظم النعم رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة

في الجنة أعظم نعمة أنعم بها على عباده؛ هي تشريفهم وإكرامهم بالنظر إلى جمال وجهه الكريم، كما قال تعالى:{وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة} القيامة/22-23 . وعن صهيب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إذا دَخَلَ أهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ، قالَ: يقولُ اللَّهُ تَبارَكَ وتَعالَى: تُرِيدُونَ شيئًا أزِيدُكُمْ؟ فيَقولونَ: ألَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنا؟ ألَمْ تُدْخِلْنا الجَنَّةَ، وتُنَجِّنا مِنَ النَّارِ؟ قالَ: فَيَكْشِفُ الحِجابَ، فَما أُعْطُوا شيئًا أحَبَّ إليهِم مِنَ النَّظَرِ إلى رَبِّهِمْ عزَّ وجلَّ. وفي رواية: وزادَ ثُمَّ تَلا هذِه الآيَةَ: {لِلَّذِينَ أحْسَنُوا الحُسْنَى وزِيادَةٌ} [يونس: 26]”. كان ابن عمر رضي الله عنهما ‏يقول: “أكرم أهل الجنة على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية”.

كان النبي صلى الله عليه وسلم أرقى مثال للجمال

فهو عليه الصلاة والسلام معدن الحسن والجمال، يقول الحافظ ابن حجر: “فهو ( أي: المُصطفى – صلى الله عليه وسلم) كلُّ الكمال، وجُلُّ الجلال، وجُنَّةُ الجمال، عليه أفضل الصلاة والسلام”، بحيث يقول كل من نعته: “لم يُرَ قبله ولا بعده مثلُه”. ويرحم الله حسان بن ثابت الأنصاري الذي قال في مدحه صلى الله عليه وسلم:

وأَحسنُ منكَ لم ترَ قطُّ عيني***وَأجْمَلُ مِنْكَ لَمْ تَلِدِ النّسَاءُ

خُلِقْتَ مبرءاً منْ كــلّ عيبٍ***كأنكَ قدْ خُلقتَ كـما تشاءُ

ومن قصيدة البردة للبصيري رحمه الله:

فهو الــــذي تَمَّ معنـاهُ وصورتُهُ***ثمَّ اصْطَفَـــاهُ حبيبًا بــارئ النسمِ

مُنَـزَّهٌ عـن شـريكٍ في محاسِــنِهِ***فجَـوهَرُ الحُسـنِ فيه غيرُ منقَسِـمِ

هذا وقد استفاضت الأحاديث النبوية الشريفة والآثار المروية التي تدل على كمال خلقته الشريفة وجمال صورته صلى الله عليه وسلم. يقول أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: “ما رأيت شيئاً أحسن من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كأن الشمس تجري في وجهه”. وسأل أبو عبيدة الربيع بنت معوذ: صفي لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقالت: “يا بني لو رأيته رأيت الشمس طالعة”. وأيّ رُقي في الجمال يبلغ ذلك الذي وصفه به خادمه أنس بن مالك رضي الله عنه: “ما شممت عنبرًا قط ولا مسكًا ولا شيئًا أطيب من ريح رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا مسست قط ديباجًا ولا حريرًا ألين مسًّا من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان أزهر اللون، كأن عرقه اللؤلؤ” (رواه مسلم).

ويقول جابرُ بن سمُرة: “رأيتُ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في ليلة أُضحيان فجعلتُ أنظرُ إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وإلى القمر وعليه حُلَّةٌ حمراء، فإذا هو عندي أحسنُ من القمر”؛ رواه الترمذي.

وقد روى الترمذي عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مَا بَعَثَ اللَّه نَبِيًّا إِلَّا حَسَن الْوَجْه حَسَن الصَّوْت وَكَانَ نَبِيّكُمْ أَحْسَنهمْ وَجْهًا وَأَحْسَنهمْ صَوْتًا”.

جمال ابتسامة النبي صلى الله عليه وسلم:

كان الصحابة يرصدون ملامح وجه النبي صلى الله عليه وسلم في أدق تفاصيلها: ففي وصفٍ: “وكان رسول الله إذا سر استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر، وكنا نعرف ذلك منه”، وفي وصفٍ: “تبرق أسارير وجهه”، وفي وصف: “حتى رأيتُ وجهَ رسولِ اللهِ يتهلَّلُ كأنه مذهبةٌ”.