Posted on Leave a comment

الهجرة أمل وعمل

قال الله تعالى: {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِىَ ٱثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى ٱلْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَٰحِبِهِۦ لَا تَحْزَنْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُۥ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُۥ بِجُنُودٍۢ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِىَ ٱلْعُلْيَا ۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}

الهجرة والأمل

رغم كل الألم الذي ميز الفترة المكيّة، بقي الأمل حيا في نفوس المسلمين، تبعثه فيهم آيات القران الكريم، فإن مع العسر يسرا، وسيرة رسول الله ﷺ فيهم، حتى جاء الفرج بالإذن بالهجرة من مكة إلى المدينة.

ثلاث عشرة سنة من الخوف والألم والعذاب، انسدت فيها الأفق وغلقت فيها الأبواب.

ثلاث عشرة سنة، ما ترك فيها النبي ﷺ حلاًّ إلا جربه ولا طريقاً إلا سلكه لفتح مغاليق كثير من القلوب المتحجرة.  

اضطر ﷺ إلى أن يرحل إلى الطائف عله يجد فيهم ذوي عقل ومروءة فوجد فيها دناءةً أشد مما وجد في قريشٍ، فعاد حزيناً ﷺ، وقال تلك المناجاة البديعة لربه يشكو إليه فيها ضعف قوته وقلة حيلته وهوانه على الناس.

كما اضطر المسلمون الأوائل إلى الهجرة إلى الحبشة أكثر من مرة.

كل ذلك لم يفُت في عضده ﷺ شيئاً وما زاده إلى إيماناً وثباتا وتصميماً، وعندما اشتكى إليه بعض الصحابة، فقالو ألا تستنصر لنا قال ﷺ مصبّرًا ومبشّرًا “كان الرجل فيمن كان قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع علي رأسه فيشق باثنين، وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله أو الذئب علي غنمه ولكنكم تستعجلون” (أخرجه البخاري).

وفعلاً، حانت اللحظة التاريخية التي ستكون بداية إتمام الأمر وسير ركب الإيمان، ليس بين صنعاء وحضرموت فحسب، ولكن بين سواري قصور كسرى وحضائر الرومان، يشق طريقه على امتداد رقعة الأرض حتى لا يكاد يخلو موضع من الأرض من دعوة الإسلام ومعالم الإيمان. تلك كانت لحظة الهجرة من مكة إلى المدينة التي قلبت وجه التاريخ وانتقلت بالإسلام من مرحلة الدعوة إلى مرحلة الدعوة والدولة، ومن مرحلة الاستضعاف إلى مرحلة التمكين والاستعلاء.

إن من دروس الهجرة صناعة الأمل؛ الأملُ في موعود الله، الأمل في نصر الله، الأمل في مستقبل مشرق، الأمل في الفرج بعد الشدة، والعزة بعد الذلة، والنصر بعد الهزيمة.

كانت الهجرة مصنعا ومعلما للأمل عند الانطلاق، وعند الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا، وفي مواجهة الفارس سراقة عندما اكتشف مكان النبي ﷺ ولحق به، فلم يلتفت إليه الرسول ﷺ، ولم يلق له بالاً، يقول له أبو بكر يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا فيردد على مسمعه ﴿لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾ [التوبة: 40].

فتسيخ قدما فرس سراقة ويقف سراقة عاجزا، فيقول له رسول الله ﷺ في لفتة أمل ولحظة إعجاز: “كيف بك إذا ألبست سواري كسرى وتاجه”.

هكذا تعلمنا الهجرة في كل مراحلها وفصولها أن مع العسر يسرا وأن مع المحنة منحة وأن الفجر يولد بعد حلكة الظلام. تعلمنا ألا نيأس وألا نقعد عن الحركة والعمل.

وما أحوج المسلمين اليوم وهم في مواجهة كثير من المحن والأزمات، ما أحوجهم إلى صناعة الأمل، وقد أحسن الشافعي- رحمه الله تعالى –  حين قال:  

وَلَرُبَّ نازِلَةٍ يَضيقُ لَها الفَتى

ذَرعاً وَعِندَ اللَهِ مِنها المَخرَجُ

ضاقَت فَلَمّا اِستَحكَمَت حَلَقاتُها

فُرِجَت وَكُنتُ أَظُنُّها لا تُفرَجُ

وأحسن منه قول الله تعالى: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ [البقرة: 216].

وقوله تعالى: (حَتَّىٰٓ إِذَا ٱسْتَيْـَٔسَ ٱلرُّسُلُ وَظَنُّوٓاْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَآءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّىَ مَن نَّشَآءُ ۖ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ ٱلْقَوْمِ ٱلْمُجْرِمِينَ) [يوسف 110]

إن اليأس والقنوط لا ينسجمان مع روح الإسلام وقيمه، قال سبحانه: ﴿وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ [يوسف: 87].

قال ابن مسعود – رضي الله عنه -: “أكبر الكبائر الإشراك بالله والأمن من مكر الله والقنوط من رحمة الله واليأس من روح الله”.

الهجرة والعمل

لكن الأمل مع القعود والكسل والاستسلام، لا ينفع أمة ولا يرفع راية، بل يخزي بأهله ويوردهم المهالك، لذلك جاءت الهجرة كرمز للحركة ونبذ السكون، رمز للسعي وعدم التوقف، رمز لمواجهة التحديات وإيجاد الحلول.

فلو ظل المسلمون مستضعفين في مكة المكرمة لظل الإسلام أسيرالاستضعاف ومائدة يتكالب عليها اللئام كما هو حال المسلمين اليوم، لكن الرسول خرج بقوم آثروا الآخرة على الدنيا والعزة على الدنية، وتحرّكوا بهذا الدين العظيم نحو التمكين والاستعلاء، نحو أفق أرحب ومجالات أوسع من الفداء والعطاء.

إن الهجرة رد على الذين يريدون أن يفصلوا بين الشعائر والشرائع، والدين والحياة وحصر الإسلام في المساجد والمحاريب، هي رد على الذين يريدون أن يفرغوا الإسلام من عمقه العقائدي وبعده السياسي ومنهجه الإصلاحي الشامل.

إن الهجرة حدث ربط بين الأرض والسماء، والدين والحياة والأمل والعمل، (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) (التوبة 105)   

إنها محطة تعلي من قيمة البذل والتضحية في النفوس من أجل المبادئ والقيم، ومن أجل الحق والعدل.

***

بقلم الشيخ/ كمال عمارة

Posted on Leave a comment

رسالة المساجد في أوروبا

لا تخفى أهمية المسجد في الإسلام ومركزيته في أي مجتمع إسلامي، فهو مكان للعبادة والتربية والتعليم، وإطار للتعاون والتآخي والتحابب، ومنطلق للتوجيه والإصلاح في كل مجالات الحياة، حيث يستمد دوره من رسالة الإسلام وخصائصه العامة، وأهمها الربانية والشمول والعموم. فالمسجد محور الحركة وحجر الرحى في كل مجتمع أو تجمع إسلامي، ويؤكد ذلك أن أول شيء قام به النبي ﷺ عندما هاجر إلى المدينة هو بناء مسجده المبارك، وكان ذلك من أول يوم، كما ورد في قول الله تعالى {لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى ٱلتَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ ۚ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُطَّهِّرينَ} (التوبة 108)

كما بين الله تعالى أهميته ومهمته وحدد معالم مرتاديه في قوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (النور:36-38).

وتكتسي وظيفة المساجد في أوروبا أهمية أكبر، كما تعترض مهمتها صعوبات وتحديات أخطر.

فهي لا تحظى برعاية ودعم الدولة كما هو الشأن في البلدان الإسلامية، ولا تخضع لمرجعية إدارية أو شرعية رسمية، ولا تحظى بتأهيل أئمتها والقائمين عليها من قبل جهات ومؤسسات أكاديمية. وإنما قامت، إقامةً وعمارةً وتسييراً، بجهود أبناء المسلمين الذين حرصوا أن يبنوا صروح الإيمان ويرفعوا الأذان في كل مكان حلوا فيه، حتى أضحت المساجد اليوم ظاهرة بارزة ومعلماً حاضرا في كل ربوع القارّة وصولا إلى مشارف القطب المتجمد الشمالي حيث يوجد فيه بُيُوت {أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ}.

وقد دفع هذا كثيرا من المتربصين الذي يزعجهم الوجود الإسلامي في الغرب، يحاولون الحد من تأثير هذه المساجد وتعطيل رسالتها، بداية بالاعتداءات وحملات الحرق والتدنيس التي تقوم بها عناصر متطرفة في أكثر من بلد إوروبي، مرورًا بالتعطيلات الإدارية ووصولا إلى الاستهداف الممنهج عبر حملات التضييق والإغلاق الجائرة كما حصل موخرا في فرنسا والنمسا.

ولكن من باب الإنصاف فإن هذه الظاهرة محدودة، قياسا بما تجده المساجد في كل أنحاء أوروبا من حرية العمل والدعوة وإقامة المناشط والعبادة، بشكل يفوق ربما واقع المساجد في البلدان الإسلامية حيث التوظيف السياسي والتضييق الأمني والوصاية الفكرية على الأئمة، ومن وحي التجربة الشخصية.

أذكر أنني أخطب في أوروبا منذ عشرين سنة ولم يتدخل أحد يوما في مهمتي، ولم تسألني يوماً جهة رسمية ولا غير رسمية لشيء قلته لم قلته ولا لشيء لم أقله لِم لَم تقله، رغم أنهم لديهم اطلاع جيّد ومستمر على رسالة المسجد وطبيعة الخطب، ولا أظن أن هذا متيسر لأي داعية أو خطيب في أي بلد مسلم والتجارب في ذلك كثيرة.

كما يجدر التذكير في هذا السياق بأن المحاكم النمساوية قد أنصفت المساجد التي تعرضت للتضييق مؤخرا وحكمت بعدم قانونية الإجراءات المتخذة ضدها، وهذه بادرة إيجابية، لكنها تضع مسؤولية أكبر على المسلمين في الحفاظ على مساجدهم كمؤسسات منفتحة خادمة للمجتمع تحكمها الشفافية والانضباط. وبخاصة أن هذه المساجد تعتبر مكان العبادة الوحيد، والحاضنة التربوية الاجتماعية الأهم للمسلمين في أوروبا والإطار الذي يجمع شملهم وينسق جهودهم في الشدة والرخاء والمنشط والمكره.

***

بقلم الشيخ/ كمال عمارة

يتبع بمقال: قضايا متجددة حول رسالة المساجد في أوروبا