Posted on Leave a comment

المؤتمر العالمي لمواقيت الصلاة

في إطار السعي لتوحيد الجهود لتحديد دقيق لمواقيت الصلاة الخاصة بالمدن الأوروبية، كي يتسنى لكل مسلم في كل دولة أوروبية معرفة أوقات الصلاة بعيدا عن الخلاف الحادث في اختلاف المواقيت؛ شارك مجموعة من أعضاء الأمانة العامّة للمجلس الأوروبي للأئمة في «المؤتمر العالمي للمواقيت» المنعقد بمدينة اسطنبول في الفترة من (19 – 20 صفر 1443 هـــ الموافق 26 – 27 أيلول 2021 م) .
وكانت من أبرز ثمرات المؤتمر؛ التحديد الدقيق لمواقيت الصلاة في بعض المدن الأوروبية.
يمكنك الاطلاع على المواقيت من خلال تحميل الضغط على الرابط وتحميل ملف المواقيت من هنا:

Posted on Leave a comment

البيان الختامي للمؤتمر العالمي للمواقيت

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى إخوانه من النبيين والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد

وقد شارك فيه عدد من السادة أعضاء هيئة أمناء المجلس الأوروبي للأئمة، في مقدمتهم الدكتور خالد حنفي عضو اللجنة العلمية، والشيخ طه عامر والشيخ وجيه سعد رئيس هيئة الأمناء، وبمشاركة الشيخ كمال عمارة رئيس المجلس.

فقد انعقد بفضل الله وتوفيقه المؤتمر العالمي للمواقيت في الفترة من 19 – 20 صفر 1443 هـــ الموافق 26 – 27 أيلول 2021 م بمدينة إسطنبول بتركيا، الذي نظمته رئاسة الشؤون الدينية التركية، والمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، وبمشاركة عددٍ من المؤسسات والمراكز الإسلامية الأوروبية كمؤسسة ملي جروش، والمركز الإسلامي في آخن، ومجلس مسلمي فرنسا، ومسجد باريس، وعددٍ من الاتحادات والروابط الإمامية الأوروبية، ومجموعةٍ من الأئمة ومدراء المراكز والجمعيات الإسلامية في الغرب.

ونظرًا لظروف جائحة كورونا فقد شارك عددٌ من الأئمة والدعاة والمعنيين بملف المواقيت في الغرب عبر تقنيات التواصل الشبكي.

وقد تشرف المؤتمر بحضور أصحاب الفضيلة:
الأستاذ الدكتور/ علي أرباش رئيس الشؤون الدينية التركية.
الأستاذ الدكتور/ عبدالرحمن حاجقلي رئيس المجلس الأعلى للشؤون الدينية التركية.
الشيخ العلامة الأستاذ الدكتور/ على محيي الدين القره داغي الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وعضو المجلس اللأوروبي للإفتاء والبحوث.
الأستاذ الدكتور/ صهيب حسن القائم مقام رئيس المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث.
الأستاذ الدكتور/ حسين حلاوة الأمين العام للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث.
الدكتور/ أكرم كلش الرئيس السابق للمجلس الأعلى للشؤون الدينية التركية.

وقد انعقد المؤتمر بعد عمل مستدام للجنة العلمية والذي بدأ في الثاني عشر من شهر مارس/ آذار 2016م، بعد الندوة العلمية التي نظمتها لجنة الفتوى بألمانيا وكان موضوعها: «حساب مواقيت الصلاة في ألمانيا ومدى إمكانية توحيد درجتها الحسابية»، التى شاركت فيها رئاسة الشؤون الدينية التركية، وعدد من أعضاء المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، والمراكز والمؤسسات الإسلامية في الغرب، وجمعية ملي جروش في ألمانيا، ثم حملت رئاسة الشؤون الدينية التركية من بعدها راية المشروع مع المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث ونسقت مع المعنيين بالملف من الفقهاء والفلكيين، والأئمة ومسؤولي المراكز الإسلامية في الغرب، فشكلت اللجنة العلمية واجتمعت ست مرات، ونظمت ندوة مختصة في المركز الإسلامي بآخن عام 2018م، كما شكلت فريقًا للرصد من الفقهاء والفلكيين، حيث قام بثلاث رحلات رصدية: الأولى في مدينة برلين بألمانيا، والثانية في مدينة براج بالتشيك، والثالثة في محافظة بُولُو بتركيا، ولم تكن ظروف الطقس والموقع مناسبة للرصد في المرتين الأوليين، وكانت أنسب في الثالثة لهذا سُجلت نتائج الرصد في تقرير عمل اللجنة وبُني عليها في المشروع الذي أقرَّه المؤتمر.

ثم قامت اللجنة بجمع التقاويم وطرق حساب مواقيت الصلاة المنتشرة والمعمول بها على الساحة الأوروبية، واشتغلت على تقييمها ودراستها وتحليل أوجه النقص أو الخلل فيها، أو عدم مناسبتها للواقع الأوروبي، ثم طلبت اللجنة في إعلان رسمي منشور تقديم مقترحات ومشروعات لحل إشكالية المواقيت وفق معايير حددتها، وقد قُدِّم إلى اللجنة ستة مشروعات متكاملة وبعد لقاءات مطولة وتقييم للمشروعات من جميع الجوانب انتهت إلى ترجيح مشروعٍ تم عرضه ومناقشته في المؤتمر، وقد سُبق المؤتمر بلقاءٍ موسعٍ ضَمَّ عددًا من الأئمة ومدراء المراكز الإسلامية في الدول الاسكندنافية عبر تقنية التواصل الشبكي، وقد عرض عليهم المشروع واستمعت اللجنة إلى ملاحظاتهم ثم عدَّلت مشروعها وفق ما ورد في هذا الاجتماع.

وقد افتُتح المؤتمر بآيات من الذكر الحكيم، تلتها كلمة الأستاذ الدكتور عبدالرحمن حاجقلي، تلتها كلمة الأستاذ الدكتور صهيب حسن، تلتها كلمة الشيخ الأستاذ الدكتور علي القره داغي، ثم ختمت الجلسة الافتتاحية للمؤتمر بكلمة الأستاذ الدكتور علي أرباش رئيس الشؤون الدينية التركية.

ثم تتابعت جلسات المؤتمر، حيث قدم فضيلة الأستاذ الدكتور علي القره داغي ورقةً تأصيلية وتأطيرية حول مقاصد المواقيت وحِكَمها، مُركِّزًا على فقه الميزان ومقصد التيسير والوحدة ورفع الحرج، وضرورة أن يكون مشروع اللجنة العلمية للمؤتمر سبيلًا لتقليل الخلاف، وسببًا في رفع الحرج عن المسلمين على الساحة الأوروبية.

ثم قدم الدكتور خالد حنفي عضو اللجنة العلمية ورقةً بحثيةً تناول فيها التأصيل الشرعي لمشروع اللجنة، وأجاب على أهم الإشكالات التي يمكن أن تَرِدَ على المشروع وفقاً لما تم التوصل إليه في لقاء ستراسبورغ وما بعده.

ثم عرض الشيخ عزير أزورتك عضو اللجنة العلمية المشروعات والمقترحات التي قُدِّمت للجنة العلمية للمؤتمر، وقارن بينها موضحًا الأبعاد الفلكية والجداول العملية للمشروع.

ثم قدَّم الدكتور أُنيس قرقاح عضو اللجنة عرضًا حول آفاق تنزيل المشروع وسبل تقليل الخلاف على الساحة الأوروبية.

ثم فُتح باب الحوار والمناقشة للمشروع مع المشاركين عن قُربٍ وعن بُعد في اليوم الأول والثاني للمؤتمر.

وانتهى المؤتمر إلى القرارات والتوصيات الآتية:

  1. اعتماد مشروع اللجنة العلمية في صنع التقاويم (مواقيت الصلاة)، والذي يعتمد طريقة ثلث الليل الشرعي، وحساب أقل مدةٍ للليل والنهار على خمس ساعات وتتخلص فيما يلي:

أ‌. لا يجوز إهمال العلامات الشرعية لأوقات العبادات إلا مع مشقة غير معتادة، واقتُصر في التقدير على الأزمان التي يظهر فيها الحرج والمشقة.

ب‌. الفجر هو -كما تم قبوله في اجتماع ستراسبورغ- بياض معترض في الأفق الشرقي- يدخل لمَّا تقترب الشمس إلى الأفق ب 18 درجة.

ت‌. العشاء يدخل وقتها بغيبوبة الشفق الأحمر في الأفق الغربي، وهي تتحقق بنزول الشمس تحت الأفق ب 17 درجة.

ث‌. يُقدَّر لوقت الفجر والعشاء في الفترة التي تغيب فيها العلامات بالتقدير على ثلث الليل الشرعي، ويُعتمد في حساب الثلث في الأيام التي تغيب فيها علامة الفجر على آخر يومٍ حدثت فيه العلامة.

ج‌. يُقدر لوقت الفجر والعشاء إذا وُجدت العلامات وكان في الالتزام بها حرج ومشقة غير معتادة بأن دخل وقت العشاء أو الفجر بعد ثلث الليل الشرعي.

  1. تشكيلُ لجنةٍ مصغرة من الفقهاء والفلكيين لمتابعة تطبيق المشروع، والعمل على إعداد مواقيت الصلاة ونشرها، ولتكون في تواصلٍ دائمٍ مع المراكز والمؤسسات الإسلامية في الغرب فيما يتعلق بتطبيق المشروع وتنزيله في الأقطار والمدن.
  2. متابعة تطبيق المشروع فيما فوق 60 درجة، ورصد وتقييم الإشكالات الناتجة عن التطبيق وتعديلها.
  3. إنشاء صفحة على شبكة الانترنت لتسهيل الحصول على المواقيت وفق ما قرره المؤتمر.
  4. إطلاق تطبيق هاتفي مجاني لمعرفة أوقات الصلاة في مدن العالم وفق معايير اللجنة العلمية.
  5. تنظم اللجنة العلمية عددًا من اللقاءات على الساحة الأوروبية للتعريف بالمشروع والإجابة على الأسئلة والإشكالات التي ترد على تطبيقه في بعض المناطق.
  6. يؤكد المؤتمر على ما قررته المجامع الفقهية من مشروعية الجمع بين الصلاتين في الفترة التي يقع فيها الحرج والمشقة الشديدة في أداء الصلاة وفق المشروع المعتمد.
  7. يوصي المؤتمر السادة الأئمة والدعاة، ومدراء المراكز والمؤسسات الإسلامية في الغرب، وعموم المسلمين إلى وحدة الصف وجمع الكلمة، وتجنيب المسلمين تعدد المواقيت ونظم حساب الصلاة في البلد الواحد أو المدينة الواحدة على نحو يُشكِّك الناس في عبادتهم ويوقعهم في الحرج والمشقة، ولا يعكس الصورة الحضارية العالمية للإسلام.

وقد قدَّم الحضور الشكر الجزيل لتركيا رئيساً وحكومةً وشعبًا على استضافة المؤتمر، ولرئاسة الشؤون الدينينة التركية، والمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، واللجنة العلمية، وكل من بذل جهدًا أو وقتاً لإتمام هذا المشروع وإخراجه للنور.

والله تعالى نسأل أن يوفقنا لجمع الكلمة ووحدة الصف، وعمل الخير وخير العمل، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

Posted on

روجيه جارودي .. لمحات من حياته

فيلسوف فرنسي ربته والدته على المسيحية الكاثوليكية وكان أبوه ملحدا، بينما آمن هو بالإسلام وقال إنه “دين المستقبل”. انتقد “الإرهاب الغربي”، وواجه الفكر الصهيوني بكتابه “الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية“.

المولد والنشأة
ولد روجيه غارودي يوم 17 يوليو/تموز 1913 بمدينة مرسيليا الفرنسية لأم كاثوليكية وأب ملحد، واعتنق البروتستانتية وهو في الرابعة عشرة من العمر.

الدراسة والتكوين
حصل بسبب تفوقه على منح الدولة في جميع مراحل التعليم، ودرس في كل من جامعة مرسيليا وجامعة “إيكس أون بروفانس”، ونال درجة الدكتوراه عن النظرية المادية في المعرفة من جامعة السوربون بباريس عام 1953، ودكتوراه ثانية من جامعة موسكو عام 1954.

التوجه الفكري
عاش تجارب فكرية مختلفة، فقد ربته والدته على المسيحية الكاثوليكية في الوقت الذي كان فيه أبوه ملحدا. تبنى الفكر الشيوعي وأصبح واحدا من رموزه داخل الحزب الشيوعي الفرنسي الذي التحق به وهو في العشرين من عمره وظل فيه حتى طرد منه 1970 لانتقاده اللاذع للغزو السوفياتي لتشيكوسلوفاكيا 1968. انتقل بعدها للضفة الأخرى وأعلن إسلامه في 2 يوليو/تموز 1982.

صار واحدا من دعاة حوار الأديان السماوية ووحدتها مع إيمانه بأن الإسلام هو دين المستقبل، وهو عنوان كتاب له قال فيه “أظهر الإسلام شمولية كبرى في استيعابه لسائر الشعوب ذات الديانات المختلفة، فقد كان أكثر الأديان شمولية في استقباله للناس الذين يؤمنون بالتوحيد، وكان في قبوله لأتباع هذه الديانات في داره منفتحا على ثقافاتهم وحضاراتهم”.

الوظائف والمسؤوليات
عين غارودي عام 1937 أستاذا للفلسفة، وزاوج بين مهنة التدريس والبحث العلمي بعدما أسس المعهد الدولي للحوار بين الحضارات في باريس.

التجربة الفكرية والسياسية
شارك في حركة المقاومة ضد النازيين في فرنسا بداية أربعينيات القرن العشرين, فاعتقلته حكومة فيشي الموالية للنازيين ونقل إلى مدينة الجلفة جنوب الجزائر خلال 1940-1942.

انتخب عام 1945 نائبا في البرلمان الفرنسي، ونال عضوية مجلس الشيوخ (1946-1960) حيث ترأس اللجنة الثقافية الوطنية، وتوجه في الستينيات إلى عالم الأديان من خلال عضويته في الحوار المسيحي الشيوعي.

جرب الجمع بين الكاثوليكية والشيوعية فلم يجد نفسه فيهما، وبدأ يميل منذ السبعينيات إلى الإسلام الذي أعلن اعتناقه إياه في المركز الإسلامي بجنيف عام 1982 وغير اسمه من روجيه إلى “رجاء”.

ألّف بعد هذا التحول كتبا عديدة منها “الإسلام يسكن مستقبلنا”، فاستـُدعي لعشرات المؤتمرات والندوات والمنتديات، خاصة بعدما كشف في عدد من كتبه حقيقة الحروب التي خاضها ويخوضها الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، ومنها كتاب “أميركا طليعة الانحطاط”، فتعززت مع مرور السنوات شعبيته في العالم العربي والإسلامي.

ناصر قضايا عربية وإسلامية كقضية فلسطين، وواجه الصهيونية بشراسة خاصة بعد مجزرة صابرا وشاتيلا في لبنان عام 1982، حيث أصدر بيان إدانة لها وقعه معه الأب ميشيل لولون، والقس إيتان ماتيو، ونشر في جريدة لوموند الفرنسية يوم 17 يونيو/حزيران من العام نفسه بعنوان “معنى العدوان الإسرائيلي بعد مجازر لبنان”.

شن عليه الإعلام الموالي لإسرائيل والصهيونية حملة شعواء، وصوره على أنه عنصري ومعاد للسامية وقاطعته صحف بلاده، إلا أنه لم يتراجع عن مواقفه، وفي مرحلة هامة من تاريخ الرجل أصدر كتاب “الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية” عام 1995.

وشكك في الرواية الصهيونية للهولوكوست، فحكمت عليه محكمة فرنسية عام 1998 بالسجن سنة مع وقف التنفيذ، وغرّمته 120 ألف فرنك فرنسي (50 ألف دولار)، متهمة إياه بالعنصرية، وبإنكار جرائم ضد الإنسانية.

وقد قال غارودي في هذا الصدد: “اليهودية ديانة أحترمها، أما الصهيونية فهي سياسية أحاربها”.

أنشأ في مدينة قرطبة الإسبانية متحفا للتراث الأندلسي للاحتفاء بتجربة التعايش الإيجابية بين أتباع الديانات السماوية أيام الحكم الإسلامي في الأندلس.

المؤلفات
ألف غارودي عشرات الكتب، وكانت البداية برواية “البارحة واليوم” عام 1945، ثم كتاب “الشيوعية ونهضة الثقافة الفرنسية”. ومن أشهر كتبه “الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية”, و”فلسطين أرض الرسالات السماوية”، و”الأصوليات المعاصرة: أسبابها ومظاهرها”، و”محاكمة الصهيونية الإسرائيلية”، و”الولايات المتحدة طليعة الانحطاط”، و”كيف نصنع المستقبل؟”، و”الإسلام وأزمة الغرب”، و”الإرهاب الغربي”، و”المسجد مرآة الإسلام”.

الجوائز
حصل غارودي على جوائز عديدة، منها ميدالية الشرف لمقاومته الفاشية الهتلرية بين عامي 1941 و1944، وجائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام عام 1985.

الوفاة
توفي روجيه غارودي يوم 13 يونيو/حزيران 2012 في ضاحية شامبيني سيرمارن الباريسية، ولم يعثر أصدقاؤه ومحبوه على قبر له، لأن أسرته -حسب روايات عديدة- قررت إحراق جثمانه وعدم دفنه على الطريقة الإسلامية، وهو الأمر الذي فسره كثيرون بأنه تم بضغوط جهات خافت منه حيا وميتا.

Posted on Leave a comment

الكرامة الإنسانية

قال تعالى: ﴿وَلَقَد كَرَّمنا بَني آدَمَ﴾ وقال عز من قائل: ﴿إِنَّ أَكرَمَكُم عِندَ اللَّهِ أَتقاكُم إِنَّ اللَّهَ عَليمٌ خَبيرٌ﴾.
الإنسان مخلوق مُكرّم ومنعّم ومُستخلف ومُكلّف:

  • فهو مُكرّم من الله تعالى في الملأ الأعلى: خلقه الله بيده وصوّره في أحسن تقويم ونفخ فيه من روحه وعلّمه الأسماء كلها وأسجد له الملائكة وخلق له زوجَه وأسكنهما الجنة وابتلاه بالشجرة وتاب عليه وأهبطه إلى الأرض مؤيدا بالتسخير والتدبير والتفكير والتذكير والتحذير، تسخير ما في السماوات وما في الأرض، وتدبير الملائكة المدبرات أمرا والحفظة الذي يحفظونه من أمر الله والكرام الكاتبين الذين يحفظون عليه أعماله، والتفكير بصلاحه ومصالحه ومصيره، والتذكير له: عبر هدايات الرسل والكتب، وتربية الوالدين ونصيحة المحبين وواردات الألطاف الإلهية ومطارق القدر، والتحذير من فتنة شياطين الجن والإنس بالشهوات والشبهات.
  • وفي الأرض: هو مُستخلَفٌ ومُكلّف، فهو مستخلَف من السلالتين سلالة الطين وسلالة الماء المهين أَصلَيْ الحياة والنسل، ومُكلّف بالوحي الإلهي شهادة وعبادة وبالهدي النبوي قدوة وأسوة ودعوة وبالوعي الرباني تفكرا وتدبرا وبالسعي الإنساني في الأرض إثارة وعَمارة دينا وتمدينا وتمكينا.

والاستخلاف والتكليف لهما مراتب:
فأعلاها مقام النبوة والرسالة، ثم الصدّيقية والتحديث والحكمة والبصيرة والإلهام والفراسة والرؤيا الصالحة، وفي حفظ النبوة نصرة بالحواريين ووراثة من الربانيين (إمامة وخلافة وولاية ورواية ودراية ورعاية، من العبّاد والمجاهدين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا).

  • والإنسان مُستخلف بالاستخلاف العام “الإيمان”: ﴿إِنّي جاعِلٌ فِي الأَرضِ خَليفَةً﴾ ف “الإنسان رئيس بطبعه بمقتضى الاستخلاف الّذي خُلِقَ له” ابن خلدون في المقدمة.
  • ومُكلّف بالتكليف الخاص “الأمانة”: ﴿إِنّا عَرَضنَا الأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالأَرضِ وَالجِبالِ فَأَبَينَ أَن يَحمِلنَها وَأَشفَقنَ مِنها وَحَمَلَهَا الإِنسانُ﴾
    وغايتهما (الاستخلاف والتكليف) حفظ الانتظام العام: بحفظ النظامين نظام الأمة ونظام العالم.
    ١- حفظ نظام الأمة بالكتاب الهادي والميزان العادل والشريعة المطهرة: “القصد العام من التشريع هو حفظ نظام الأمة واستدامة صلاحه بصلاح المهيمن عليه وهو نوع الإنسان. ويشمل صلاحه صلاح عقله، وصلاح عمله، وصلاح ما بين يديه من موجودات العالم الذي يعيش فيه” ابن عاشور في المقاصد.
    ٢- وحفظ نظام العالم بالقانون والقوة: “حفظ نظام العالم، وضبط تصرف الناس منه على وجه يعصم من التفاسد والتهالك” ابن عاشور في المقاصد، وقال “مُراد الله في الأديان كلها، منذ النشأة إلى ختم الرسالة واحد، وهو حفظ نظام العالم وصلاح أحوال أهله”.
    وأصل حفظ الانتظام العام بنظاميه هو بناء “رؤية العالم” التي تنبثق من وحي يعصم من الضلال وهدي يعصم من التحريف وتقوى تعصم من الهوى وهمّة تتشوّف إلى الفردوس الأعلى:
    ورؤية العالم: مفتاحها الفاتحتان، فاتحة الوحي “إقرأ باسم ربك الذي خلق” وفاتحة الكتاب “الحمد لله رب العالمين” فالاستفتاح بسم الله استعانة والتلاوة بحمد الله عبادة، فالحمد كله لله حقيقة واستحقاقا واستغراقا والله هو الحق المبين وهو بائن من خلقه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ورب للعالمين وإله له الخلق الأمر، الخلق (غيبا وشهادة) مادة ومُدّة ومَدَدَا ونواميس وسُننا، والأمر (شرعا وقدرا) والشرع وحيا وهديا، والقدر على ما جرى به القلم في اللوح المحفوظ وسطّره الحفظة في الصحائف وقضاه الله من المصائر.

    وختامه هو “مصير العالم”: بطيّ السماء كطيّ السجلّ للكتب وتبدل الأرض غير الأرض والسموات وقيامة الأموات وبرزوا لله الواحد القهار فإلى جنة أو نار، فإن كان مؤمنا فهو مُنعّم من الاحتضار إلى البرزخ إلى الحشر وصولا إلى الفردوس الأعلى، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه.

***

بقلم: أحمد محمود عمورة

Posted on

مضار الغلظة في التربية – العلامة محمد رشيد رضا

تكلمنا في مقال سابق عن اللين والقوة في التربية، ووعدنا بتفصيل مضار
التربية، ونقول: إن مَن يُربي ولده، أو تلميذه بالغلظة والخشونة، ويعامله بالقسوة
والإهانة يطبع في نفسه أخلاقًا فاسدة، وسجايا رديئة؛ تكون سبب شقائه في أحواله
وعلة خذلانه في أعماله، فمن تلك السجايا:
(1) بُغض الوالد المربي ونحوه، والتربية الصحيحة النافعة لا تقوم إلا
على أساس المحبة. وبُغض الولد لوالده أو معلمه، يحمله على عدم تلقي شيء من
نصائحه بالقبول في نفسه؛ لأنه يُعد تلك النصائح إهانة وتعذيبًا، وتحكمًا سببه القوة
والاستعلاء، ومَن لا يُحب والده ومعلمه، لا يحب وطنه وأمته بالضرورة.
(2) الظلم عند القدرة، والتحكم بالغير عند الإمكان، والانتقام لمجرد شفاء
الغيظ وإجابة داعي الغضب.
(3) الكذب، فإن مَن يتوقع الانتقام على عمل أو قول يعتقد أنه لا يُرضي
مربيه – يندفع إلى إنكاره.
(4) المكر والحِيَل.
(5) الذلة والمَهانة.
(6) الغِلْظة والقسوة.
وهذه الصفات في الظاهر كالمتناقضة، ولكن آثارها تُشاهَد فيمن يتربون هذه
التربية السُّوأَى؛ فإن أحدهم يقسو أشد القسوة على مَن دونه، ويذل أقبح الذل لمَن
فوقه، فهو بعيد عن الفضيلة وكرامة النفس في كل حال.
وإن أمة هذا شأن أفرادها لا يمكن أن تسود على غيرها، أو تستقل في نفسها؛
لأن كرامة النفس وفضيلتها هما روح السيادة والاستقلال.
(7) الرضا بالضَّيم وهضم الحقوق – مهما كانا – من قوي أو حاكم ظالم.
(8) عدم الرضا بالحق طوعًا؛ حيث يهضم حقوق الآخرين إذا قدر، كما
يخنع لهم إذا هضموا حقوقه.
وهاتان الرذيلتان مرتبطتان بما تقدم ومِن آثاره، وهكذا ترتبط الرذائل بعضها
ببعض؛ فتكون سلسلة واحدة.
(9) الخيانة.
(10) الحقد.
(11) الحسد.
(12) الوقاحة والتهتُّك:
فإن مَن يُعامَل بالإهانة قولاً وفعلاً يذهب حياؤه بالضرورة، ويزول انفعاله،
مما يذم ويجلب اللائمة؛ لاعتياده عليه من أول النشأة، وكفاك بفقد الحياء بلاءً؛
فإنه ينبوع الفضائل والكمال، والزاجر النفسي عن سيئات الأعمال، لا سيما إذا كان
ميزان الحُسن والقُبح هو الشرع، وقد جاء في الحديث الشريف: (لِكُلِّ دِينٍ خُلُقٌ،
وخُلُقُ الإِسْلاَمِ الْحَيَاءُ)

(13) وطوءة الهمة:
لأن عُلوّ الهِمَّة لا يكون إلا لأصحاب النفوس الشريفة العزيزة. وإن علوّ الهمم
ركن من أركان تقدم الأمم؛ ولذلك قال – صلى الله عليه وسلم -: (عُلُوُّ الْهِمَّةِ مِنَ
الإِيمَانِ) .

(14) ضعف الإرادة وخمود العزيمة:
وأي جوهر لا ينسحق بشدة الضغط؟ وأي نار لا تنطفئ بفيضان طوفان
الجَوْر والإهانة؟ ، وهل ينجح فرد من الأفراد تجرف إرادتَه وعزيمتَه سيولُ الجور
والاستبداد؟ ! كلا.
(15) فَقْدُ الاستقلال الشخصي:
لأن الذين يربُّون أولادهم بالشدة والعنف لا يدَعون لهم مجالاً للاستقلال في
شؤونهم والاعتماد في مصالحهم على أنفسهم؛ فيكون أحدهم كَلاًّ على مولاه أينما
يوجِّههُّ لا يأتِ بخير! ، فهل يستوي هو ومَن يُرَبَّى على مبدأ الاستقلال والاعتماد
على سعيه في كل الأعمال؟ ! كلا {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} (النجم:9).
(16) فقد الاستقلال الفكري والعقلي:
وسببه أن من شِنْشِنَة هؤلاء القُساة – الذين يُربون الأولاد بالشدة والفظاظة –
أنهم لا يقبلون لمَن يربونه رأيًا، ولا يستحسنون له فكرًا – وإن كان حسنًا في نفسه-
ولا يجعلون لهم حقًا في إبداء رأي أو اقتراح أمر أو المشاركة في مصلحة،
وإن ظهر منهم شيء من هذا قُوبلوا بالتفنيد واللّوم الشديد؛ فتَخْمُد نار لَوْذَعيتهم،
وينشئون على التقليد الأعمى، فإذا أخذوا بعد الكبر في الاشتغال بالعلوم، أو
الأعمال التي يُحتاج فيها إلى الفكر والرَّوِيَّة – لا ينجحون أبدًا، لا سيما إذا كان
تعليمهم على نسق تربيتهم كما هو الغالب في بلادنا، أو في الشرق كله؛ وذلك لأن
مَن يرى قُصارى نجاحه أن يعلم ما قيل – من غير تمييز ولا تزييل – لا يهتدي إلى
تحرير الدلائل، ولا يقف على حقائق المسائل؛ لأن الأقوال في كل شيء متعارضة
والآراء في كل مشكلة متناقضة، فمَن لا يجتهد يخيب، (ولكل مجتهد نصيب) .
(17) فقد الحرية في القول والعمل:
وهو الذي يحمل على ما ذكرنا أولاً من الكذب والمكر والحيلة، وعندي أن
التربية الصحيحة الكاملة تتوقف على معرفته جميعَ شؤون المُرَبَّى النفسية والعملية،
ولا يمكن أن يقف المربي على هذا إلا بالتحبُّب إلى المربَّى وإعطائه الحريةَ التامة
في إبداء كل ما يعنُّ له، وإطلاع مربيه عليه، ولا تنجلي هذه المسألة إلا بشرح
طويل لا تسعه هذه النُبذة.
ويكفينا أن نقول: إذا علم الوالد أو المعلم أن الذي يربيه قد عرض له
الرسيس (أول الحب)، وخاف عليه الشغف والولوع في العشق، ولم يقدر على
أن يحُول بينه وبين الغرام، من حيث لا يشعر – فينبغي له أن يجذبه بزمام اللطف
ويسلس له؛ حتى يكاشفه بما في نفسه، ويستشيره في كل أمره؛ وبذلك يتسنّى له
أن يقيَه مصارع الهوى، ويقف به في الحب عند حدود الشرف.
(18) الدناءة.
(19) اللؤم.
(20) كُفر النعمة.
هذا أقبح وأضرّ ما يتولد من الغلظة والقسوة في التربية من الرذائل، ولو
استملينا الفكر لأمْلى علينا غير ذلك؛ لا سيما إذا لاحظنا ما يحتفُّ بالغلظة من هُجْر
القول وسيء العمل؛ مما يُهوِّن على الوِلدان القذْع بألفاظ الفُحش وبذاءة اللسان، ولو
قلت: إن من سيئات هذه التربية الاندفاع إلى ارتكاب الجنايات الكبرى كالسرقة
والغصب والضرب، بل والقتل بنحو سُمٍّ أو غيره – لكنت غير مبالغ، فعلى مَن
يهمهم تربية أولادهم أن يُمعنوا النظر فيما ذكرنا، وعسى أن يلتفت إليه الذين
يتكلمون في ضعف الأمة، ويبحثون عن أسباب قوتها؛ فيوافقون على أن سوء
التربية أصل كل فساد، وبإصلاحها يتم كل رشاد.
ونسأل الله تعالى أن يهبنا جميعًا التوفيق والسداد.

***

بقلم: العلّامة/ محمد رشيد رضا

المجلد رقم «2» ربيع الأول – 1317 هـ – مضار الغلظة في التربية

Posted on Leave a comment

قضايا متجددة حول رسالة المساجد في أوروبا

تناولنا في المقال السابق رسالة المسجد وخصوصيتها في الواقع الأوربي، وقد أشرنا إلى الخصائص التالية، نوردها مبوبةً تقريباً للفهم ومدخلاً لبسط بعض القضايا المتعلقة بالمساجد، ممّا يكثر التطرق إليه بين المسلمين الأوروبيين.

الفرص والمساحات المتاحة:

  • حرية الدعوة وممارسة الشعائر والعبادات.
  • حرية إقامة المساجد وإدارتها.
  • وجود بعض القوانين الداعمة لدور العبادة والأنشطة ذات الطابع الأسري أو الاجتماعي.

العوائق

  • غياب الدعم الرسمي.
  • غياب المرجعية الشرعية الموحدة.
  • قلة الكفاءات الشرعية والإدارية المسيِّرة.

التحديات

  • تنامي التيار العنصري داخل أوروبا والاعتداءات المتكررة على المساجد.
  • التضييقات الإدارية والمضايقات الأمنية لعمل المساجد في بعض البلدان الأوروبية.
  • ضعف الإمكانات المالية.
  • تعدد التيارات المذهبية والفكرية وغياب رؤية موحدة لإدارة المساجد وطبيعة مهمتها.

مع الإشارة إلى أن هذه العناصر متعلقة برسالة المسجد خصوصاَ وليس بالواقع الدعوي عموماً، حيث إن الفرص والعوائق والتحديات على هذا المستوى الأعم، أكثر وأشد تنوعاً وتعقيدا.

دعونا نركز في هذا المقام على توجهين اثنين يتجاذبان رؤية المسلمين الأوروبيين للمساجد ودورها، واحد يميل إلى الانفتاح والفعالية المجتمعية وآخر يميل إلى التقوقع والانغلاق. ولحسن الحظ فإن التوجه الأول هو الغالب على الساحة اليوم. فبالإضافة إلى الدور الأساسي في احتضان عبادة المسلمين وشعائرهم، وتربية الأجيال وتعليمهم وحفظ هويتهم؛ فإن للمساجد في أوربا دوراً أساسياً في الرعاية والوساطة الأسرية والمساهمة في الجهود المجتمعية العامة، بل تطورت هذه الرسالة لدى كثير من المساجد والمراكز الإسلامية في أوروبا إلى مستوى المشاركة السياسية واحتضان المنتديات لعرض البرامج الحزبية وتشجيع المسلمين على الإدلاء برأيهم والمساهمة في المحطات الانتخابية.

كل ذلك يتم في جو من الشفافية والانفتاح ييسر لكل من أراد من المواطنين الأوروبيين من غير المسلمين، زيارة المساجد للاطلاع على مناشطها وخطبها وسير الحياة اليومية فيها، سواءً عبر ما يُسمى بـ ” اليوم المفتوح” أو عبر محطات أسبوعية ثابتة، وقد سرني كثيرا ما رأيته في زيارة لمسجد النور في مدينة «ترومسو» شمال النرويج، وكانت الشمس لا تغرب فيها أيام الزيارة، وقد توقعت أني سأجد مسجداً معزولاً عن محيطه، يؤمه قليل من الناس في صلاة الجمعة، فإذا بي أفاجأ بتنظيم محكم يقوم عليه مسلمون من أصل نرويجي، وخلف الصفوف أعدت كراسٍ مخصصة لغير المسلمين الراغبين في حضور الجمعة ، وكانت مملوءة بالكامل وأكثر الضيوف من الشباب، ومثلهم من الشابات في قسم النساء، وزاد المشهد جمالاً إعلان أحد الشباب إسلامه بعد الخطبة. وعند انتهاء الصلاة أقام المسجد غداءً على شرف الضيوف الحاضرين، وقد سألت أحد الشباب النرويجيين، لاحظت فيه انفتاحا وتبسطا أكثر من رفاقه، إن كانت هذه هي الزيارة الأولى له للمسجد، فأجاب بأنها الزيارة الرابعة ولن تكون الأخيرة، وأنه يفكر في الإسلام ولم يعد الطريق طويلا على حسب قوله، وقد لفت انتباهي أنه كان يصلي معنا في الصف الأول عندما أقيم لصلاة العصر. هذا الحديث عن مسجد في مدينة لا تشرق فيها الشمس في أقصى الشمال، وهو حال أكثر المساجد الأوروبية من حيث الانفتاح والشفافية والمشاركة المجتمعية.

ورغم هذا التوجه العام، يطفو على السطح من حين لآخر تشويش أو تشكيك في المنطلقات الشرعية، انطلاقا من رؤية مغلقة محبطة، أو اجتهادات فقهية لا تراعي البعد المقاصدي أو خصوصية الواقع الأوروبي. ومن الأمثلة على ذلك مسألة التوسع في استقبال غير المسلمين في المساجد، أو الفتيات المسلمات غير المحجبات أو الشباب الذي ابتلي ببعض المعاصي والمخالفات.

التوسع في دخول غير المسلمين إلى المساجد في أوروبا:

قد يكون استحضار الخلاف الفقهي حول هذه المسألة مقبولا في البلاد الإسلامية، ولكني لا أرى له مسوغا في البلاد الأوروبية التي تحتضن المساجد وترعاها، وتنتصب في قلب أحيائها ومدنها، ويحيط بها غير المسلمين من كل جانب، بالإضافة إلى أن مهمة دعوة غير المسلمين إلى الإسلام وتأليف قلوبهم، أو على الأقل كسب تعاطفهم وتعاونهم، تندرج ضمن أولويات المساجد ومهامها الأساسية.

فكيف يمكن أن يكون هذا ممكنا دون اعتماد سياسة الانفتاح وتيسير الزيارة والتشجيع عليها لكل من رغب فيها من غير المسلمين، وبخاصة أنه لا دليلَ صريحاً صحيحاً على حرمة ذلك أو حتى كراهته، بل إن النصوص الشرعية طافيةٌ شافيةٌ بجواز ذلك والترغيب فيه، متى دعت إليه حاجة أو كان بقصد دعوتهم وتوضيح شعائر الإسلام لهم. وكل ما ورد في خلاف ذلك مما يوهم التحريم، إما محمول على المسجد الحرام خصوصا ً، أو ما كان من باب إذلال المسلمين والاعتداء على حرمة المسجد، وهذا متفق على عدم قبوله طواعية . 

فقد روى أبو هريرة – رضي الله عنه –  أن رسول الله ﷺ بعث خيلاً قِبَل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له : ثمامة بن أثال، فربطوه بسارية من سواري المسجد ” (متفق عليه البخاري(462)، ومسلم (1764))،  ووجه الدلالة أن ثمامة أدخل المسجد وربط بسارية من سواريه وهو مشرك، وعن عثمان ابن أبي العاص-رضي الله عنه- أن وفد ثقيف قدموا على رسول الله ﷺ فأنزلهم المسجد حتى يكون أرق لقلوبهم” (رواه ابن خزيمة (601))، وتنبه هنا إلى كلمة حتى يكون أرق لقلوبهم.  وعن أنس بن مالك –رضي الله عنه- قال: بينما نحن جلوس مع النبي ﷺ في المسجد دخل رجلٌ على جمل، فأناخه في المسجد، ثم عقله، ثم قال لهم: أيكم محمد؟ والنبي ﷺ بين ظهرانيهم، فقلنا: هذا الرجل الأبيض المتكئ….” (البخاري(63) ومسلم(12)) وروى أبو هريرة – رضي الله عنه – أيضاً قال: إن اليهود أتوا النبي ﷺ وهو جالس في المسجد في أصحابه، فقالوا: يا أبا القاسم في رجل وامرأة زنيا منهم” (رواه أبو داود(488))

وكان أبو سفيان يدخل مسجد المدينة وهو على شِرْكِهِ، واستقبل النبي ﷺ نصارى نجران في مسجد المدينة، ولما حان وقت صلاتهم صلوا في المسجد إلى المشرق، وقال فيهم ﷺ “دَعُوهُمْ “. وقد ترجم البخاري في صحيحه دخول المشرك المسجد، في إشارة إلى مذهبه في جواز ذلك، على عادته في التبويب، وأورد حادثة ربْط ثُمامة بن أُثال التي سبق ذكرها (الحديث 462) وعلى هذا الرأي أكثر الأئمة، وقَصَرَهُ الشافعي على الضرورة أو الحاجة.

بل ذهب أبو حنيفة إلى القول بجواز دخول غير المسلم المسجد الحرام والْحَرَمَ، وحَمَلَ نجاسته في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُواَ المسجدَ الحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا) (التوبة: 28) على أنها نجاسة معنوية، وحمل قربان المسجد على المُكْثِ فيه، كما حمل دخول الحرم على الاستيطان فيه، أو أن ذلك محمول على دخولهم استيلاءً واستعلاء أو طائفين عراة كما كانت عادتهم في الجاهلية.

ولا يخفى أن مدار حديث الفقهاء واختلافهم إنما هو حول المساجد في دولة الإسلام وبلاد المسلمين، لا في بيئة غير بيئتها ودولة غير دولتها، مما يقتضي اجتهادا معاصرا يراعي اختلاف الحالات والمآلات.

وان كانت الاجتهادات التقليدية القديمة نفسها تتسع لما عليه المساجد الأوروبية اليوم من انفتاح على محيطها وخدمة لمجتمعاتها ودعوة مباشرة لرسالة الإسلام.

مع التأكيد أيضاً، أن ذلك مرتبط بتحقيق مصلحة معتبرة، ومشروط بعدم تعطيل الرسالة الأساسية للمسجد ومراعاة أحوال المصلين، وعدم تضررهم من ذلك، وهذا أمر راجع إلى تقدير واجتهاد القائمين على المساجد، وقد صار هيناً والحمد لله، وجرت عليه العادة فأصبح معتادا، وتحققت منه مصالح عظيمة.

وليس من الضروري إلزام الزائرات للمسجد، غير المسلمات، بلباس محدد أو تغطية كامل الجسد، لأنهن غير مخاطبات بفروع الشريعة، ومخافة أن يحد ذلك من إقبالهن على سماع شرع الله والاطلاع عليه عن قرب. وبخاصة أن كثيرا من الزائرين والزائرات يأتون إلى المساجد مباشرة من أماكن عملهم أو دراستهم في إطار زيارات مدرسية أو مهنية، وقد يكفي تنبيههم مسبقا بحرمة المسجد وأن تكون الهيئة على قدرٍ من الاحتشام. ولقد عهدنا في الأوروبيين احتراما لهذه الإرشادات واستجابة كبيرة لها.   

أما من الناحية العملية فإن المساجد تسلك في هذا السبيل أحد خيارات ثلاثة:

فبعضها يهيئ عشرات العباءات ويلزم الزائرات بارتدائها عند دخول المسجد

والبعض الآخر يكتفي بالطلب مسبقا بقدرٍ من الاحتشام

في حين يهمل البعض الآخر هذا الأمر ويسيء اختيار أوقات الزيارات وأماكنها، فتحصل إخلالات لا تليق بالمسجد وتسيء لمرتاديه. فالمساجد بيوت الله، وهي أطهر الأماكن وأحبها إلى الله تعالى، ولا يجوز التقصير في الحفاظ على طهارتها وسموّها وراحة المصلين فيها، وقد جاؤوا راغبين في الانقطاع عن زخم الحياة الخارجية وفتنها، طامعين في لحظات صفاء روحي وصلة بالله تعالى لا يشوبها شيء.

والأمر موكول إلى القائمين على المساجد في تقدير كيفية التعامل مع ضيوف المسجد ورواده من غير المسلمين، بحسب توقيت الزيارة ومكانها وبرنامجها، من غير تشدد منفر ولا تساهل مخلٍّ.

كما يجب أن يستعد القائمون على المساجد بشكل جيد لاستقبال هؤلاء الضيوف وتوفير سبل الراحة والاستفادة المثلى من الزيارة، فقد بينت التجربة أن للزيارة الأولى تأثيرا كبيراً وانطباعات مهمة، وبخاصة حين يفاجأ الزائرون بصورة مخالفة تماما لما يروج له في الإعلام من تشويه وافتراء.

وأكثر ما يجب الانتباه إليه في هذا المجال أن يكون المستقبل متقنا للغة القوم إن لم يكن من جنسهم، كريم النفس جميل الأدب، حاضر البديهة.    

دخول غير المحجبات المسلمات إلى المساجد الأوربية ومشاركتهن في المناشط:

هذه مسألة تثير أيضا بعض الجدل في أوساط أعضاء ومشرفي المساجد والمراكز الأوربية، وإن كان أغلبهم قد اختار الحل الأسهل بوضع قيود على دخول الفتيات والنساء المسلمات غير المحجبات. ولكن هل هذا هو الحل الأنسب للمسلمين في الغرب؟ ألم يكن مسجد رسول الله ﷺ مفتوحا لكل المسلمين فيدخله الكافر مستوضحا والعاصي مستغفراً، والمفطر في رمضان يشهد على نفسه بالهلاك؟ أليس المسجد في أوربا هو المحضن التربوي الوحيد المتاح لفتياتنا وفتياننا؟ فإذا أغلقناه دونهم، فأي سبيل سيختارون؟ وإلى أي بدائل سيتجهون؟ وأوروبا كلها تتزين لهم بملاهيها وزخرفها ونواديها؟

ثم أي دليل شرعي يمنع من احتضان العاصين من شبابنا وشاباتنا في مساجدنا ومراكزنا؟ أم هو الجمود والهروب من الواقع وغياب الحكمة في التعامل مع تحدياته.

وقد فصلنا القول في جواز دخول الكافرات إلى المساجد في بلاد المسلمين، فما بالك بالمؤمنات غير المحجبات، بلْه ما تتميز به مساجد أوروبا ومراكزها من خصوصية في البيئة والرسالة وما تحتاجه من فقه يراعي هذه الخصوصية ويستجيب لمتطلبات الواقع ومقاصد التشريع.

مع الإشارة هنا، إلى أن أكثر المساجد والمراكز الإسلامية في أوربا عبارة عن مقار عادية مسوغة عبر الكراء، وما كان منها مملوكا مستقلا فغالبا ما يتضمن مرافق عديدة لا تمثل فيها قاعة الصلاة إلا نسبة ضئيلة، مما يوفر مرونة في تنظيم المناشط واستيعاب كل الفئات من المسلمين من غير تعطيل لأداء الصلوات أو تشويش عليها.

وقد أرشدنا الله تعالى إلى أن نقول سلاماً، ونقرب رحمة الله من عباده، ونحببهم في طاعته، قال الله تعالى: وَإِذَا جَآءَكَ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِـَٔايَٰتِنَا فَقُلْ سَلَٰمٌ عَلَيْكُمْ ۖ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ ۖ أَنَّهُۥ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوٓءًۢا بِجَهَٰلَةٍۢ ثُمَّ تَابَ مِنۢ بَعْدِهِۦ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُۥ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (الأنعام 54)

وقد تبينت أهمية هذا المنهج وجدواه، رغم ما يتطلبه من جهد وصبر، من خلال تجارب عديدة ، فقد كان أحد المساجد يعاني من ارتياده من قبل بعض الشباب المسلم المبتلين بالاتجار بالمخدرات، بحكم موقعه في وسط المدينة، فعزمت الإدارة على منعهم من الدخول، خوفا من تشويه صورة المسجد، غير أن الإمام رفض ذلك، واقترح بعض الإجراءات العملية التي تحفظ سمعة المسجد ولا تحرم أولئك الشباب من بيت الله والصلاة فيه ، فكان ذلك عوناً لبعضهم على التوبة والرجوع الى الطريق المستقيم. والأمثلة على ذلك كثيرة لا يكاد يخلو منها مسجد في أوروبا.

ولا يجب علينا أن نتكلف او نبالغ في تنبيه وتذكير هؤلاء المرتادين الغافلين أو الغافلات بشكل مباشر وفظ قد يؤدي إلى نفورهم أو جرح مشاعرهم، بل نترفق بهم ونراعي ظروفهم ، ويسعنا في التعامل معهم أضعف الإيمان إذا تعذرت أو تأخرت سبل الإصلاح.  

لا شك أن إصدار قرار إداري بعدم دخول غير المحجبات إلى المسجد أو انخراطهن في مناشطه، وتعليقه على مدخله، هو أسهل الحلول! لكن كم نفوساً تائقة إلى الصلاح صددناها بذلك؟ وكم فرصا ضيعناها؟ وكم طرقاً للتواصل مع الناس قطعناها؟ ومتى كانت التحديات الدعوية تحلّ بالهروب منها واعتزال الناس؟ ويحضرني بهذا الصدد حديثٌ طالما ردَّدناه وقلّما طبقناه واستحضرناه عند مواجهة الصعوبات في الدعوة وهو قول النبي ﷺ: «المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم». (رواه الترمذي)   

ويمكن إجمال مقاصد تشجيع الشباب المسلم على ارتياد المساجد والمراكز الإسلامية الأوربية، وإن كانت الفتاة غير محجبة أو الفتى متلبساً بمعصية في النقاط التالية:

  • تيسير التواصل معهم لترشيدهم وتعليمهم مبادئ الدين وتعاليم الإسلام.
  • توفير البدائل الحسنة لشبابنا المسلمين، لقضاء أوقات الفراغ والابتعاد عن أماكن المجون المنتشرة في كل مكان.
  • الحفاظ على هويتهم وتمنين صلتهم بدينهم.
  • توظيف طاقاتهم وذوي التخصص منهم في خدمة المشاريع الدعوية والمصلحة العامة.
  • تحبيبهم في المسجد وتقوية ثقتهم في رسالته والقائمين عليه ليكونوا رصيدا للدفاع عنه ودعمه على اختلاف مواقعهم وتفاوت التزامهم.

وأخيرا، لا يخفى ما لهذين الموضوعين من ارتباط وثيق بفقه الدعوة وآدابها، وضوابطها وأصولها، وما يجب أن يتحلى به الداعية والقائمون على المساجد والمراكز الإسلامية من علمٍ شرعي وفهمٍ مقاصدي وإلمام بالواقع وتفاصيله. وهذا مَهيعٌ واسعٌ يجب أن تُستنهضَ له هممٌ وتُجندَ له طاقات.  

***

بقلم الشيخ: كمال عمارة

Posted on Leave a comment

عبادات عظيمة

“عبادات عظيمة”

  • عبادة الجهر: بالحق والدعوة وإظهار النعم والشعائر.
  • وعبادة السرّ: بإخفاء النية والطاعة والصدقة والكرامة والحوائج التي يستعان على قضائها بالكتمان.
  • وعبادة الستر: بإخفاء الذنب والعيب من نفسك أو غيرك.
  • وعبادة السَحَر: دعاء واستغفارا وصلاة.
  • وعبادة البِشر: والتبسّم في وجه أخيك، وتبشير الناس بالإيمان والخير.
  • وعبادة اليُسر: تيسيرا على الناس في الفتوى وعلى الأهل والعمال في تكاليف الحياة والتكفّل بالفقراء وعدم التكلّف للأغنياء.
  • وعبادة العُذر: للناس ومسامحتهم والتجاوز عن أخطائهم وإقامة عثراتهم.
  • وعبادة الذكر: لله بالحب واللب واللسان، وللنبي ﷺ بالصلاة عليه والاتباع لهديه وسنته وسيرته، وللوحي بحلاوة التلاوة والتدبّر وللعلم بالتعلم والتعليم، وللفضل بالوفاء، وللذنب للتَوب.
  • وعبادة الفكر: في الآلاء والآيات والهدايات والمآلات.
  • وعبادة الشكر: على السراء والصبر: على الضراء.
  • وعبادة النصر: على الأعداء والظفر في المناظرة والمعركة.
  • وعبادة الذُّخر: بإخلاص الأعمال واحتسابها لوجه الله تعالى إلى يوم يَسُرُّك في القيامة أن تراه.

****

بقلم/ أحمد محمود عمورة

Posted on Leave a comment

الهجرة أمل وعمل

قال الله تعالى: {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِىَ ٱثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى ٱلْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَٰحِبِهِۦ لَا تَحْزَنْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُۥ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُۥ بِجُنُودٍۢ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِىَ ٱلْعُلْيَا ۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}

الهجرة والأمل

رغم كل الألم الذي ميز الفترة المكيّة، بقي الأمل حيا في نفوس المسلمين، تبعثه فيهم آيات القران الكريم، فإن مع العسر يسرا، وسيرة رسول الله ﷺ فيهم، حتى جاء الفرج بالإذن بالهجرة من مكة إلى المدينة.

ثلاث عشرة سنة من الخوف والألم والعذاب، انسدت فيها الأفق وغلقت فيها الأبواب.

ثلاث عشرة سنة، ما ترك فيها النبي ﷺ حلاًّ إلا جربه ولا طريقاً إلا سلكه لفتح مغاليق كثير من القلوب المتحجرة.  

اضطر ﷺ إلى أن يرحل إلى الطائف عله يجد فيهم ذوي عقل ومروءة فوجد فيها دناءةً أشد مما وجد في قريشٍ، فعاد حزيناً ﷺ، وقال تلك المناجاة البديعة لربه يشكو إليه فيها ضعف قوته وقلة حيلته وهوانه على الناس.

كما اضطر المسلمون الأوائل إلى الهجرة إلى الحبشة أكثر من مرة.

كل ذلك لم يفُت في عضده ﷺ شيئاً وما زاده إلى إيماناً وثباتا وتصميماً، وعندما اشتكى إليه بعض الصحابة، فقالو ألا تستنصر لنا قال ﷺ مصبّرًا ومبشّرًا “كان الرجل فيمن كان قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع علي رأسه فيشق باثنين، وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله أو الذئب علي غنمه ولكنكم تستعجلون” (أخرجه البخاري).

وفعلاً، حانت اللحظة التاريخية التي ستكون بداية إتمام الأمر وسير ركب الإيمان، ليس بين صنعاء وحضرموت فحسب، ولكن بين سواري قصور كسرى وحضائر الرومان، يشق طريقه على امتداد رقعة الأرض حتى لا يكاد يخلو موضع من الأرض من دعوة الإسلام ومعالم الإيمان. تلك كانت لحظة الهجرة من مكة إلى المدينة التي قلبت وجه التاريخ وانتقلت بالإسلام من مرحلة الدعوة إلى مرحلة الدعوة والدولة، ومن مرحلة الاستضعاف إلى مرحلة التمكين والاستعلاء.

إن من دروس الهجرة صناعة الأمل؛ الأملُ في موعود الله، الأمل في نصر الله، الأمل في مستقبل مشرق، الأمل في الفرج بعد الشدة، والعزة بعد الذلة، والنصر بعد الهزيمة.

كانت الهجرة مصنعا ومعلما للأمل عند الانطلاق، وعند الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا، وفي مواجهة الفارس سراقة عندما اكتشف مكان النبي ﷺ ولحق به، فلم يلتفت إليه الرسول ﷺ، ولم يلق له بالاً، يقول له أبو بكر يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا فيردد على مسمعه ﴿لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾ [التوبة: 40].

فتسيخ قدما فرس سراقة ويقف سراقة عاجزا، فيقول له رسول الله ﷺ في لفتة أمل ولحظة إعجاز: “كيف بك إذا ألبست سواري كسرى وتاجه”.

هكذا تعلمنا الهجرة في كل مراحلها وفصولها أن مع العسر يسرا وأن مع المحنة منحة وأن الفجر يولد بعد حلكة الظلام. تعلمنا ألا نيأس وألا نقعد عن الحركة والعمل.

وما أحوج المسلمين اليوم وهم في مواجهة كثير من المحن والأزمات، ما أحوجهم إلى صناعة الأمل، وقد أحسن الشافعي- رحمه الله تعالى –  حين قال:  

وَلَرُبَّ نازِلَةٍ يَضيقُ لَها الفَتى

ذَرعاً وَعِندَ اللَهِ مِنها المَخرَجُ

ضاقَت فَلَمّا اِستَحكَمَت حَلَقاتُها

فُرِجَت وَكُنتُ أَظُنُّها لا تُفرَجُ

وأحسن منه قول الله تعالى: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ [البقرة: 216].

وقوله تعالى: (حَتَّىٰٓ إِذَا ٱسْتَيْـَٔسَ ٱلرُّسُلُ وَظَنُّوٓاْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَآءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّىَ مَن نَّشَآءُ ۖ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ ٱلْقَوْمِ ٱلْمُجْرِمِينَ) [يوسف 110]

إن اليأس والقنوط لا ينسجمان مع روح الإسلام وقيمه، قال سبحانه: ﴿وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ [يوسف: 87].

قال ابن مسعود – رضي الله عنه -: “أكبر الكبائر الإشراك بالله والأمن من مكر الله والقنوط من رحمة الله واليأس من روح الله”.

الهجرة والعمل

لكن الأمل مع القعود والكسل والاستسلام، لا ينفع أمة ولا يرفع راية، بل يخزي بأهله ويوردهم المهالك، لذلك جاءت الهجرة كرمز للحركة ونبذ السكون، رمز للسعي وعدم التوقف، رمز لمواجهة التحديات وإيجاد الحلول.

فلو ظل المسلمون مستضعفين في مكة المكرمة لظل الإسلام أسيرالاستضعاف ومائدة يتكالب عليها اللئام كما هو حال المسلمين اليوم، لكن الرسول خرج بقوم آثروا الآخرة على الدنيا والعزة على الدنية، وتحرّكوا بهذا الدين العظيم نحو التمكين والاستعلاء، نحو أفق أرحب ومجالات أوسع من الفداء والعطاء.

إن الهجرة رد على الذين يريدون أن يفصلوا بين الشعائر والشرائع، والدين والحياة وحصر الإسلام في المساجد والمحاريب، هي رد على الذين يريدون أن يفرغوا الإسلام من عمقه العقائدي وبعده السياسي ومنهجه الإصلاحي الشامل.

إن الهجرة حدث ربط بين الأرض والسماء، والدين والحياة والأمل والعمل، (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) (التوبة 105)   

إنها محطة تعلي من قيمة البذل والتضحية في النفوس من أجل المبادئ والقيم، ومن أجل الحق والعدل.

***

بقلم الشيخ/ كمال عمارة

Posted on Leave a comment

رسالة المساجد في أوروبا

لا تخفى أهمية المسجد في الإسلام ومركزيته في أي مجتمع إسلامي، فهو مكان للعبادة والتربية والتعليم، وإطار للتعاون والتآخي والتحابب، ومنطلق للتوجيه والإصلاح في كل مجالات الحياة، حيث يستمد دوره من رسالة الإسلام وخصائصه العامة، وأهمها الربانية والشمول والعموم. فالمسجد محور الحركة وحجر الرحى في كل مجتمع أو تجمع إسلامي، ويؤكد ذلك أن أول شيء قام به النبي ﷺ عندما هاجر إلى المدينة هو بناء مسجده المبارك، وكان ذلك من أول يوم، كما ورد في قول الله تعالى {لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى ٱلتَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ ۚ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُطَّهِّرينَ} (التوبة 108)

كما بين الله تعالى أهميته ومهمته وحدد معالم مرتاديه في قوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (النور:36-38).

وتكتسي وظيفة المساجد في أوروبا أهمية أكبر، كما تعترض مهمتها صعوبات وتحديات أخطر.

فهي لا تحظى برعاية ودعم الدولة كما هو الشأن في البلدان الإسلامية، ولا تخضع لمرجعية إدارية أو شرعية رسمية، ولا تحظى بتأهيل أئمتها والقائمين عليها من قبل جهات ومؤسسات أكاديمية. وإنما قامت، إقامةً وعمارةً وتسييراً، بجهود أبناء المسلمين الذين حرصوا أن يبنوا صروح الإيمان ويرفعوا الأذان في كل مكان حلوا فيه، حتى أضحت المساجد اليوم ظاهرة بارزة ومعلماً حاضرا في كل ربوع القارّة وصولا إلى مشارف القطب المتجمد الشمالي حيث يوجد فيه بُيُوت {أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ}.

وقد دفع هذا كثيرا من المتربصين الذي يزعجهم الوجود الإسلامي في الغرب، يحاولون الحد من تأثير هذه المساجد وتعطيل رسالتها، بداية بالاعتداءات وحملات الحرق والتدنيس التي تقوم بها عناصر متطرفة في أكثر من بلد إوروبي، مرورًا بالتعطيلات الإدارية ووصولا إلى الاستهداف الممنهج عبر حملات التضييق والإغلاق الجائرة كما حصل موخرا في فرنسا والنمسا.

ولكن من باب الإنصاف فإن هذه الظاهرة محدودة، قياسا بما تجده المساجد في كل أنحاء أوروبا من حرية العمل والدعوة وإقامة المناشط والعبادة، بشكل يفوق ربما واقع المساجد في البلدان الإسلامية حيث التوظيف السياسي والتضييق الأمني والوصاية الفكرية على الأئمة، ومن وحي التجربة الشخصية.

أذكر أنني أخطب في أوروبا منذ عشرين سنة ولم يتدخل أحد يوما في مهمتي، ولم تسألني يوماً جهة رسمية ولا غير رسمية لشيء قلته لم قلته ولا لشيء لم أقله لِم لَم تقله، رغم أنهم لديهم اطلاع جيّد ومستمر على رسالة المسجد وطبيعة الخطب، ولا أظن أن هذا متيسر لأي داعية أو خطيب في أي بلد مسلم والتجارب في ذلك كثيرة.

كما يجدر التذكير في هذا السياق بأن المحاكم النمساوية قد أنصفت المساجد التي تعرضت للتضييق مؤخرا وحكمت بعدم قانونية الإجراءات المتخذة ضدها، وهذه بادرة إيجابية، لكنها تضع مسؤولية أكبر على المسلمين في الحفاظ على مساجدهم كمؤسسات منفتحة خادمة للمجتمع تحكمها الشفافية والانضباط. وبخاصة أن هذه المساجد تعتبر مكان العبادة الوحيد، والحاضنة التربوية الاجتماعية الأهم للمسلمين في أوروبا والإطار الذي يجمع شملهم وينسق جهودهم في الشدة والرخاء والمنشط والمكره.

***

بقلم الشيخ/ كمال عمارة

يتبع بمقال: قضايا متجددة حول رسالة المساجد في أوروبا