Posted on

التربية النفسية – العلّامة محمد رشيد رضا

تدور التربية النفسية على قطبي الترغيب والترهيب؛ إذ هي عبارة عن الحث على الفضائل والكمالات والتنفير عن الرذائل والنقائص، فالترغيب يحدث الرجاء والأمل بالمثوبة وحسن الجزاء على العمل الصالح، والترهيب يورث الخوف والرهبة من العقوبة. ووقوع البلاء على العمل القبيح.

والخوف والرجاء هما الجناحان اللذان يطير بهما المؤمن في جو السعادة الدنيوية حتى ينتهي إلى مقعد الصدق في جوار الحق.

الترغيب حليف اللين، والرأفة والترهيب قرين الشدة والغلظة، ولكل من الأمرين موضع يليق به ووقت لا يصلح فيه سواه.

ووضع الندى في موضع السيف في العلى مضر كوضع السيف في موضع الندى
وقد بحث علماء التهذيب في مسألة تغليب الخوف على الرجاء وعكسه وليس هذا موضع بيان ذلك، وإنما نقول هنا: إن تربية الأطفال يُختار فيها اللين على القسوة ويغلب الترغيب على الترهيب. خلافًا لجماهير الشرقيين الذين لا يفهمون من تربية الطفل إلا شفاء الغيظ بنهره وسبه وإهانته وضربه كلما عمل عملاً لا يرضى به أبواه أو أستاذه أو غيرهما من الأولياء والقُوَّام.

وجدير بمن يسلك هذا المسلك في تربية أولاده أن يعتقد أن التربية لا تنفع ولكن قد تضر؛ لأن هذه المعاملة – معاملة الغلظة والإهانة – تُفسد الأخلاق وتسيء الأعمال. ولا أذم هذا لأنني أستحسن ما يقابله عند الأغنياء والمترفين من قومنا الذين يرخون لأولادهم العنان ويتركونهم لطبيعتهم يتمتعون بأهوائهم ويسمونهم (مدلَّلين) .

كلا، إن هذا شر من ذاك وليس هو مرادنا باللين الممدوح. وكيف نجعل هذا الإهمال من التربية والعامة أنفسهم لا يسمونه تربية، أمَا تسمعهم يقولون: (فلان مدلل لم يتربَّ) !


وهذا القول صحيح وإن كان مبنيًّا على فاسد وهو أن التربية هي الإهانة والغلظة في المعاملة كما علمت تفريط وإفراط، والحق في الاعتدال وهو المطلوب في كل حال.

أما مضرة الغلظة والخشونة وآثارهما فهي من وجوه كثيرة، وإننا نمثل لك بعضها تمثيلاً.

إذا كنت تهين ولدك وتشتمه عند صدور الذنب منه لأجل أن يكف عنه ولا يعود إليه – فلا شك أنك تطبع في نفسه بذلك رذائل كثيرة تتولد منها ذنوب لا تُحصى، كل واحد منها ربما تزيد مضرته على مضرة الذنب الذي كان سبب الإهانة، وإذا كان الذنب الذي أُهين من أجله مما يتولد من تلك الرذائل فيزداد رسوخًا ويقوي الملكة؛ لأن الأعمال حسنها وقبيحها تطبع الملكات في النفوس، وقلما تكون الإهانة – لا سيما القولية – سببًا لترك الذنب وكثيرًا ما تكون مغرية به وباعثة للإصرار عليه.

وإنما يحال بين الوليد وبين الأفعال الذميمة التي يكون معرضًا لاقترافها بقطع أسبابها عليه، من حيث لا يدري كما سنوضحه فيما بعد.

***

بقلم: العلّامة/ محمد رشيد رضا

المجلد رقم (2) 24 محرم – 1317هـ التربية النفسية

Posted on Leave a comment

خواطر حول الهجرة النبوية

كان القائم على إدارة الهجرية النبوية هو أفضل الخلق ﷺ، والذي علّمنا دروسًا كثيرة في هذه الرحلة المباركة منها:


«حب الوطن»
ضربت لنا الهجرة النبوية مثالًا كبيرًا عن الحب والولاء للوطن، حيث قال عبد الله بن عدي بن الحمراء: رأيتُ رسولَ اللَّهِ ﷺ واقفًا على الحزوَرةِ فقالَ: «واللَّهِ إنَّكِ لخيرُ أرضِ اللَّهِ، وأحبُّ أرضِ اللَّهِ إلى اللَّهِ، ولولا أنِّي أُخرِجتُ منكِ ما خرجتُ»

وضرب أصحاب النبي ﷺ أروع الأمثال في حب الوطن، فكان كلاً منهم شديد الحزن على فراق وطنه وأهله ولكنهم كانوا مضطرين لذلك.

«التضحية»
إذا نظرنا في هجرة النبي ﷺ وأصحابه فسنجد الكثير من التضحيات الكبيرة لله عز وجل، بداية من النبي ﷺ وأصحابه المهاجرين، حتى موقف الأنصار الذين استقبلوهم ونصروهم.
ولعلّ أبرز مواقف التضحية وأشهرها في الهجرة النبوية، هو موقف الصحابي «علي بن أبي طالب»: ذاك الفدائي العظيم، الذي بات في فراش النبي ﷺ ليلة الهجرة، معرّضا نفسه للقتل على يد المشركين، ولكنّه وهب نفسه في سبيل الدفاع عن الدين ورسوله.

«الصداقة»
تُظهر لنا الهجرة النبوية، أعظم صداقة عرفها التاريخ، في أوضح صورة لها «أبو بكر الصديق» رضي الله عنه
ومواقفه مع النبي ﷺ في الهجرة كثيرة، حتى أنه هو الذي طلب الصحبة من النبي ﷺ: فقال “الصحبة يا رسول الله” ثم بكى أبو بكر حينما وافق النبي ﷺ على صحبته، كما تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: «فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحدا يبكي من الفرح، حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذ».

«الأمانة»
نرى في هجرة النبي ﷺ أهميّة الأمانة وقيمتها، حيث أمر النبي ﷺ علي بن أبي طالب “رضي الله عنه” بأن يرد الأمانات التي كانت عند النبي ﷺ إلى أهلها، على الرغم من أنهم عادوه وأخرجوه، حيث قال النبي ﷺ: «أدِّ الأمانةَ إلى منِ ائتمنكَ، ولا تخنْ من خانكَ».
ونرى أيضًا أن الهجرة ذاتها في حقيقتها هي تأدية الأمانة في نشر الدين والدعوة لله عز وجل.

«الصدق»
ضرب النبي ﷺ وأصحابه أروع الأمثلة في الصدق خلال رحلة الهجرة، فكانوا صادقين في التضحية بكل شيء في سبيل الله عز وجل، وشهد الله لهم بذلك في قوله تعالى: « لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8)» الحشر

«الأمل»
الأمل وعدم اليأس والاستسلام، كانوا من أبرز القيم التي أظهرتها لنا الهجرة النبوية، ففي كثير من المواقف للنبي ﷺ وأصحابه رضي الله عنهم، لم يفقدوا الأمل ولم يستسلموا ولو للحظة، حتى مع التعذيب وقسوته، لم يبعدهم عن دين الله عز وجل،
وكان النبي ﷺ يعرض نفسه على القبائل فيقول: «ألا رجل يحملني إلى قومه؟ فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي»، فرفضت كل القبائل ولم يستجب إلا الأنصار فكانت بيعة العقبة الأولى والثانية ثم الهجرة المباركة،
وقال النبي ﷺ لخباب رضى الله عنه لما شكا له: “والله ليتمن هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون”.

«العفو عند المقدرة»
من أجمل الأمثال التي ضربها لنا النبي ﷺ في العفو والسماح أن عاداه قومه وأذوه وأخرجوه من بلده التي يحبها وحاربوه وتحالفوا عليه، ولكن بعد أن عاد إليهم ودخل مكة فاتحا بعد ثمانية أعوام عفا عنهم النبي ﷺ جميعا وقال لهم: “اذهبوا فأنتم الطلقاء.

***

بقلم: مصطفى محمد