Posted on Leave a comment

ما دور مسلمي أوروبا في حماية البيئة؟

ينام العالم ويصحو على وقع أزمات وكوارث طبيعية لا تنتهي، ورغم صيحات الإنذار التي تطلقها المنظمات الدولية المهمومة بملف البيئة إلا أنها تذهب كثيراً كنفخةٍ في رماد أو صرخةٍ في واد.

وبحسب وكالة الصحافة الفرنسية

(أ ف ب)

توقع تقرير جديد صادر عن خبراء المناخ في الأمم المتحدة أن يرتفع الاحترار العالمي بمعدل 1,5 درجة مئوية مقارنة بعصر ما قبل الثورة الصناعية قرابة العام 2030، أي قبل عشر سنوات من آخر التقديرات التي وضعت قبل ثلاث سنوات، ما يهدد بحصول كوارث جديدة “غير مسبوقة” في العالم الذي تضربه موجات حرّ وفيضانات متتالية.

البيئة التي يجب أن نحفظها ونرعاها، هي: كل عناصر الكون ومكوناته، من شمس وقمر وهواء وماء وأرض وسماء وجبال وبحار وأنهار ونبات وطيور وحيوانات وكائنات حية.

أخطار متجددة

أصبح واضحاً للعيان ما يعانيه العالم من آثار التدهور الشديد الذي ضرب الأرض ومن عليها، وما حرائق الغابات المدمرة التي اندلعت مؤخرا بتركيا واليونان والجزائر إلا من نتائجه.

هذا وقد قصدت التذكير بخطورة هذا الملف الكوني، وبدورنا في أوروبا أفراداً وأُسراً ومؤسسات إسلامية، وذكرتُ عددا من الأفكار والمقترحات.

إن مظاهر الفساد والاعتداء على الطبيعة لا حصر لها، فغاباتٌ غناء تُحرق فتغدو أثرا بعد عين، وحيوانات برية وبحرية مهددة بالانقراض، ونباتات تهلَك، وهواء يزكم الأنوف، وماء يتلوث، وأنهار تجف، وبحار ومحيطات تتحول مقبرة للأسماك، وأرض تضم نفايات نووية تهدد الأجيال.

(جهود مسلمي أوروبا بين الواقع والمأمول)

يزداد وعى مسلمي أوروبا بالأخطار التي تحيط بالبيئة سيما الأجيال الجديدة التي وُلدت هنا، فهم جزءٌ من المجتمع الذي ارتفعت فيه الأصوات وانطلقت فيه المؤسسات لوقف نزيف مقدرات الكون والأخطار الكارثية التي تتنظر الأجيال الجديدة.

 ويمكن أن نذكر جملة من الجهود المؤسسية والمبادرات الجادة لخدمة هذا الملف على الساحة الألمانية والأوروبية، منها:

– إطلاق مؤسسات تُعنى بالبيئة يقوم عليها شباب مسلم يمتلئ حماسا وهمة ونشاطا ورغبة صادقة في حماية  البيئة، وهناك نماذج رائدة  مثل مؤسسة  “Hima”  أو “حماء”  في ألمانيا التي يقوم عليها الشباب  ويقدمون مشروعات توعوية على مدار العام.

وجمعية   NOURENERGY “نور إنرجي”  بمدينة «دارمشتات» التي تبعد عن فرانكفورت 30 كيلو  و تُعني بالطاقة الشمسية وقد أطلقتْ مبادرات نوعية  منها مشروع:

 “المسجد الأخضر” كما أطلقت مبادرة في السنوات الماضية تدعو المسلمين في شهر رمضان لعدم استعمال البلاستيك “رمضان بدون بلاستيك” ونالت استحساناً وتفاعلاً طيبا، لكن لازال هناك ضعف في الوعي بخطر استعمال البلاستك.

وأزعم أن أكثرنا لا يعلم ماذا يسبب البلاستك من أضرار كبيرة على البيئة والكائنات الحية، وأعترف أنني – قبل كتابة هذا المقال – لم أكن على علم  بكل تلك الأضرار المذهلة.

ووفقا لدراسة أعدتها الأمم المتحدة، يتواجد ما يصل إلى 18000 قطعة بلاستيك في كل كليو متر مربع من المحيطات. وتقع الحيوانات مثل الأسماء أو السلاحف باستمرار ضحية لهذه القطع البلاستيكية حيث تتغذى عليها وفقا لمنظمة CreenPeace

ويمكنك عبر محرك البحث “جوجل” أن تطالع مقالات أو تشاهد برامج على اليوتيوب لتقف على الأضرار الكارثية على الإنسان والحيوان والطيور والكائنات البرية والبحرية.

ولا يفوتني هنا الإشادة بحملات غرس الأشجار في الغابات التي تقوم بها مؤسسات إسلامية عديدة مثل مؤسسة الرائد في أوكرانيا واليونان وغيرهما من الأقطار.

ماذا يمكن أن يقدم مسلمو أوروبا لحفظ البيئة؟

 لا مراء في أن الدول الصناعية الكبرى والغرب عامة، عليه أن يتحمل المسؤولية الأكبر في حماية الكوكب الذي نسكنه.  بالالتزام بمقررات مؤتمرات المناخ وسن القوانين والتشريعات الملزمة، ولا نغفل عن دور التثقيف الجماهيري ودور المدارس والجامعات في بث الوعى العام.

وبناء عليه فإن مسلمي أوروبا والغرب هم جزءٌ من المجتمع الغربي وطبيعته الاستهلاكية.  وعليهم إذاً أن يقوموا بدورهم في في ترشيد الاستهلاك والتوعية والتثقيف والأخذ بزمام المبادرات التي تساهم في صناعة مستقبل صحي للعالم.

(الإنسان هو أصل الداء ومكمن الحل) 

الإنسان هو المشكل وهو الحل في الوقت ذاته، لذلك تأتي التوجيهات القرآنية والنبوية لتُحَمل الإنسان المسؤولية عن الكون والمحافظة على مقدراته والقيام بحق الخلافة في الأرض واستعمارها قال تعالى: “هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ۚ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ (61) هود

 وعلى المرء أن يرُد كل خلل وفساد في البيئة إلى نفسه أولا.

قال جل شأنه:

“ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)  الروم

إلى أنانيته التي تُعمي عينه عن إبصار مواضع قدميه.

وفى سباق الاستهلاك المحموم يظن الإنسان أن نتاج اللحوم في أفريقيا أو أمريكا اللاتينية أو استهلاك الملابس على نحو مبالغ فيه لن يتعدى أثره مواطني الغرب، ناسيا أو جاهلا أننا نعيش في كوكب واحد وعلى أرض واحدة، وكل قطرة ماء تُراق في غير موضعها في بقعة من الأرض يتعدى ضررها الطرف الآخر من العالم.

وكل شجرة في غابة تُقطع في غير ضرورة تصيب الكون بالاختناق.

كما أن كل مساحة خضراء جديدة تضيف للبيئة انتعاشا، وكل ترشيد في استهلاك الطعام والشراب واللباس والمركب والأجهزة الالكترونية تجعل رئة الأرض أكثر راحة وصحة.

(دور الأئمة والدعاة)

يشكل التوجيه الديني الحيز الأكبر من التأثير على سلوك ومشاعر وبناء قناعات الجماهير، وإننا وبكل اعتزاز نؤكد أنه لا يوجد كتاب سماوي أعطى للكون ومكوناته اهتماما ورعاية وعناية مثل القرآن العظيم، ونذكر في هذا المقام العبارة المشهورة لشيخنا محمد الغزالي: ” أن الكون قرآن صامت والقرآن كون ناطق” فكيف لمسلم يقرأ كتاب الله تعالى بقلب حاضر وعقل متأمل، فيقطع شجرة، أو يقتل حيوانا في غير ضرورة، أو يلوث نهرا، أو يفسد ماء.

لقد صنع القرآن الكريم علاقة راقية دقيقة المشاعر بين المسلم والكون، تشعر بقرابة روحية بينك وبين الأشياء من حولك، فالشجر والحجر والجبال والأنهار والوديان والنباتات والحيوانات والطيور، والسماء والأرض وسائر المخلوقات كلها تسير معك إلى وِجهة واحدة، وهى العبودية لله تبارك وتعالى، واقرأ قول الله عز وجل:

 “وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15) الرعد”

“أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَىٰ مَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِّلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِن دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) النحل

هذه الآيات الكريمة وشبهها تجعل المرء ليس فقط صديق البيئة بل أنيس البيئة، يأنس بها وتأنس به، يسكن قلبه وعينه وروحه معها وتطمئن هي في جواره وتفرح به.

إن دور الدعاة كبير في توجيه الجماهير نحو رعاية البيئة وحمايتها، وذلك عبر خطبة الجمعة والمحاضرة والندوات وورش العمل، وما أجدر أن يقود الإمام والداعية مبادرات نوعية لتكون رسالة حقيقية تغني عن كثير من القول.

(رعاية البيئة مدخل للتعريف بالإسلام)

حينما يسمع كثير من الأوروبيين عن الإسلام يرتبط في أذهانهم علاقة الإسلام بالعنف واضطهاد المرأة غالبا، نتيجة لأسباب كثيرة ليس موضع بسطها الآن، على أننا نستطيع أن نقدم تعريفا بالإسلام نظريا وعمليا، من خلال الفلسفة التشريعية التي نادى بها القرآن الكريم والسنة الشريفة في رعاية للبيئة ووقايتها من التلوث والاستنزاف.

وعمليا من خلال المشروعات والمبادرات التي تتبناها المساجد والمؤسسات الإسلامية.

فضلا عن ترسيخ الهوية والاعتزاز بالإسلام عند الأجيال الجديدة حينما ترى في الإسلام هذا الوجه الحضاري العظيم.

(دور المؤسسات الإسلامية بأوروبا)

يمكن للمؤسسات الإسلامية بأوروبا وروابط الأئمة ومنتديات المرأة والشباب والجمعيات الإسلامية المختلفة أن تؤدي دورا عظيما تجاه هذا الملف الخطير، بما لها من وزن وتأثير على أعضائها.

 أذكر حينما دعونا بهيئة العلماء والدعاة في ألمانيا إلى ندوة كبيرة عن البيئة في برلين يوم 7 نوفمبر 2015 وشاركت معنا مؤسسات كثيرة بألمانيا (التجمع الألماني المسلم – مؤسسة الإغاثة الإسلامية – المجلس الأعلى للمسلمين- أربع مساجد كبرى ب برلين وشباب من مؤسسة  Hima أو (حماء) كما هي باللغة العربية وشخصيات سياسية وأئمة،، كان رد فعل الشباب انهم سعداء أن المؤسسات الإسلامية الكبيرة ومؤسسات الأئمة مهتمة بهذا الموضوع الحيوي المصيري

وقد خرجت الندوة بتوصيات كثيرة مهمة، غير أننا للأسف لم نكمل العمل معا، وفترت الهمم، وإن قامت بعض الجمعيات المختصة بنشاطها المعتاد.

 إن الفجوة كبيرة بين الشباب والمؤسسات الكبرى، ويمكن لمشروع البيئة أن يمثل تعاونا وتكاملا بين الأجيال الجديدة والمؤسسات الكبرى.

أقترح بعض الأفكار لدور المؤسسات في حماية البيئة/

أولا/ شراكات مع مؤسسات الدولة والمجتمع المدني.

أن تعقد المؤسسات الإسلامية على الساحة المحلية والأوروبية شراكات مع المؤسسات الأوروبية الحكومية ومؤسسات المجتمع المدني من شأنها المحافظة على البيئة وتنميتها. ولعل هذا الملف يُشكل فرصة واسعة للالتقاء حول هَم واحد وتَحد واحد ومصير واحد.

ثانيا/ إطلاق مسابقات بين المساجد.

كم رجوت وسعيت أن نطلق مسابقة كبرى بين المساجد تحفيزا لها على تبنى جميع المواصفات التي من شأنها المحافظة على البيئة، ويُرصَد لها جوائز مالية مشجعة، لكل مسجد يحقق المواصفات اللازمة، منها على سبيل المثال:

– المساحات الخضراء بالمسجد.

– العناية بالنظافة.

– ترشيد استهلاك الماء والكهرباء.

– تقليل استعمال البلاستك.

– نظام التهوية والإضاءة.

ثالثا/ إطلاق مسابقات بين الشباب.

يتمتع شبابنا الأوروبي بالحماس الشديد لملف البيئة وحمايتها وتنميتها ويحتاج منا أن ندعمه ونحفزه، وفكرة المسابقات من شأنها تعزيز دوره واكتشاف قدراته وتعميم الأفكار الناجحة.

رابعا / العمل المشترك بين المساجد والكنائس:

– عقد ندوة مشتركة نبرز فيها دور الأديان في حفظ حياة الإنسان ورعايتها للبيئة.

– مبادرات عملية مشتركة بين الشباب من المساجد والكنيسة.

(دور الأسرة المسلمة) 

قال لي بعض الآباء يوما:

لاحظت يوما أن ولدي كلما وجد مصباح البيت مشتعلا قام بإغلاقه، وكثيرا ما يتحدث عن ضرورة النحل لوجود الإنسان في الحياة، وعدم قتل الحشرات، فسألته عن سر اهتمامه، فأجابني أن لديهم أسبوع بالمدرسة للعناية بالبيئة.

ولما بدأ الأب يتجاوب مع طفله كان لهذا أثر كبير على ولده.

والسؤال

لماذا لا نبدأ نحن قبل المدرسة في غرس مفهوم رعاية البيئة عند أولادنا نظريا وعمليا؟

لعلي أشير إلى وسائل عديدة منها:

1- القدوة:

في استعمال الماء والكهرباء والطعام والشراب واللباس، والعناية بالمساحات الخضراء واستعمال الورق.

وإذا ذهب الأب أو الأم إلى السوق فليأخذ معه حقائب من القماش.

2- قراءة القصص:

ليس ثمة وسيلة أكثر تأثيرا وتشكيلا للوعى كالقصة.

علينا أن نصنع من خلال القصة مسؤولية الإنسان تجاه الكون، وبناء علاقة عاطفية بينه وبين مكونات الوجود.

3- العناية بالزروع داخل البيت.

4- يوم بدون سيارة مع تعليل الفعل.

وهى فكرة صلح أن تكون فكرة لحملة عامة

أن ندعو الناس في يوم لترك السيارات بالبيت واستعمال وسائل المواصلات.

وأذكر أن ملكة النرويج شاركت بمعرض الكتاب الدولي بفرانكفورت عام 2019 وقد سافرت بالقطار حفاظا على البيئة من التلوث.

وكانت رسالة قوية وقدوة حقيقية.

5- التقليل من أكل اللحم.

قال لي طفل صغير:

يا عمو: لو أن الناس تبطل تأكل لحم لرجع العالم نقيا نظيفا….

قلت له كيف؟

قال: لأن كيلو اللحم يستهلك ماء كثيرا، يصل إلى 8000 لتر ماء للكيلو الواحد، وتربية الأبقار والمواشي تستهلك مساحات من الأرض كان يمكن أن تكون مساحات خضراء.!

قلت له:

نحن لا ندعو للامتناع عن أكل اللحم ولا يجوز أن نعالج إسرافا في الاستهلاك بتحريم ما أحل الله لنا وامتن به علينا كما جاءت بذلك نصوص كثيرة في كتاب الله تعالى.

ولكن أوافقك في أهمية التقليل من تناول اللحوم.

ولعلي أقصد هنا من يقدر على شراء اللحوم وتناولها عدة مرات بالأسبوع، وليس ملايين الناس حول العالم الذي لا يرون اللحم إلا مرة في العام، أو لا يجدونه أصلا.

قامت الجمعية الألمانية التغذية بدراسة حول اللحوم وأثرها على البيئة وصحة الإنسان، كان من نتائجها المدهشة: “إنه من الممكن توفير 9 ملايين طنا من غاز ثاني أكسيد الكربون، إذا تناولنا كمية أقل من اللحوم فقط في يوم واحد من أيام الأسبوع”.

وهذه ليست دعوة للامتناع بل للتقليل.

6- التقليل من الملابس:

قال لي أحد الشباب: أتعلم بعض أنواع الملابس يستهلك 600 لتر ماء؟

قلت لا أعلم.

فقال طفل كان حاضرا:

والملابس رخيصة الثمن ضارة جدا بالبيئة وبدأ يشرح ويفصل القول.

7- لا تسارع باستبدال هاتفك

رأيت شابا مولودا بألمانيا ومعه تليفون قديم يستعمله ولا يغيره، فسألته لماذا لا تغير جهاز تليفونك؟

فقال: حفاظا على البيئة..

ثم بدا يشرح علاقة أجهزة التليفون الجديدة وكثرة استهلاكها بالبيئة.

ختاما أقول:

إننا نتعبد لله تبارك وتعالى بكل فعل أو ترك يحفظ للأرض جمالها وبركتها ونقاءها ويدرأ عنها الفساد.

حينما نسقى شجرة فإننا نستشعر أنها روح ونحتسب فيها الأجر من الله العلي الكبير، وحينما نطعم عصفورا فإنما لكونه شريك لنا في عبوديته لله تعالى، وإذا غرسنا غرسا فإننا نغرسه لمن يأتي بعدنا من الإنسان والطير وسائر المخلوقات، ولعل من أعظم الدلالات على مكانة الغرس والتشجير حديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألا تَقوم حتى يَغرِسَها، فليَغرِسْها) رواه البخاري في الأدب المفرد.

لقد أُهبِط أبونا آدم عليه السلام إلى الأرض، وهي مباركة نقية طاهرة لا عوج فيها ولا فسادا، وتلك أمانة في أعناقنا.

 وإنما نعيش على ظهرها مستخلفين، ولا يليق بنا إلا أن نُسَلمها لمن يأتي بعدنا وهي جديرة بالحياة.

***

بقلم الشيخ/ طه سليمان عامر

رئيس هيئة العلماء والدعاة بألمانيا

Posted on

صدق العزيمة أو قوة الإرادة – الإمام محمد الخضر حسين

صدق العزيمة – أو قوة الإرادة

محمد الخضر حسين (ت:1377هـ)

نُشر عام 1349هـ الموافق 1930م

يخطرُ في النفس أمرٌ فتثِقُ بأنه حقٌ أو نافع، فتحرص على حصوله، فإذا أضافت إلى هذا الحرص النظر في وسيلة بلوغها إياه؛ وبدا لها أنه في حدود استطاعتها، فسرعان ما تقبل عليه وتبذل سعيها للوصول إليه؛ وذلك ما نسميه بالعزم أو الإرادة.

فما يخطر في النفس مما تعتقد حقيته أو نفعه، وتود أن يكون حاصلًا لديها ثم لا تسعى له سعيه؛ ولا تضع لبلوغه خطة، فإنما هو التمني الذي لا يفرق بين المحال والمستطاع؛ والذي يخطر في نفوس القاعدين كما يخطر في نفوس المجاهدين، وما مثله إلا كمثل الشرر الذي يلمع حول النار ثم يتصاعد هباء.

وإذا تحدثنا في هذا المقال عن قوة الإرادة وذهبنا في حديثها مذهب خصال الحمد، فإنما نعني الإرادة المتوجهة إلى ما هو خير، ومن أفضل ما يمدح به الرجل أن يتوجه بعزمه القاطع إلى إظهار حق أو إقامة مصلحة.

تنشأ قوة الإرادة من التجارب، فمن تعلق همه بأمر كان قد عُرف بطريق التجربة أنه ميسور وأن عاقبته سلامة ونجاح، انقلب همه في الحال عزمًا صادقًا، أما من لم تسبق له تجربة فقد يتخيل الأمر بمكان لا تناله يده، أو يخشى من أن يلاقي وراء السعي إليه خيبة؛ فيقف في تردد وإحجام، فذو العمر الطويل من أولى الألباب قد يكون أسرع إلى بعض الأمور وأشد عزمًا عليها من حديث السن، لما تفيده التجارب من إمكانها ونجاح السعي لها.

وتنشأ قوة الإرادة من درس التاريخ؛ فالذي يخطر في باله أمر قرأ في سيرة شخص أنه كان قد هم بمثله وعمل لحصوله فنجح عمله وصلحت عاقبته، شأنه أن يعزم على ذلك الخاطر ويجعله بعد العزم عملا نافذًا، فمن يخطر في باله أن يدعو الحاكم الجائر بالموعظة الحسنة، وقد قرأ سير العلماء الذين كانوا يأمرون بعض الجبارين بالمعروف فيأتمرون، أو يكظمون في الأقل غيظهم ولا يبطشون، يكون أقوى عزمًا على الدعوة ممن لم يقرأ في هذا الشأن خبرًا، لما عرفه من أن للحق الذي يخرج في أسلوبه الحكيم سطوة على النفوس وإن كانت طاغية، فيقدم على وعظه في رفق وحسن خطاب، فإن لم يهده سبيل الرشد قضى حق النصيحة له، وما على الذين أوتوا الحكمة إلا البلاغ.

وتنشأ قوة الإرادة من أدلة خاصة تجعل الرجل على يقين من نجاح العمل وحسن العاقبة، واعتبروا في هذا بتصميم أبي بكر الصديق رضي الله عنه على قتال أهل الردة ومانعي الزكاة، فإنه كان عالمًا بأنه على حق من قتالهم، وكان على ثقة من أنه سينتصر بفئته القليلة على جموعهم الكثيرة، ومما دلَّه على أنه الظافر، وأن المرتدين عن الدين لا يفلحون قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُون} [التوبة : 33] ولو تقاعد أبو بكر عن جهاد تلك القبائل، وخلَّى الردة تتفشَّى في جزيرة العرب وباء فاتكًا، لانفصمت عرى الوحدة العربية الإسلامية، ولم يستقم أمر تلك الفتوح التي كانت عاقبتها ظهور دين الحق على سائر الأديان.

وتنشأ قوة الإرادة من كمال بعض السجايا الأخرى وبلوغها غاية قصوى، كسجية إباءة الضيم تهز الضعيف، وتثير في نفسه العزم على أن يدافع القوي عن حقوقه ما استطاع دفاعه، وكذلك خلق الشجاعة يجعل الرجل أمضى عزمًا، وأسبق إلى الحرب من الجبان الذي يتمثل له الموت في كل سبيل.

ومما يساعد الرجل على صدق العزيمة خلق التعفف وشرف الهمة، فلتجدنَّ أنزه القوم نفسًا وأبعدهم عن الطمع وجهة، أشدهم عزمًا على أن يقول حقًّا أو يعمل صالحًا، وإن لم يرض من قوله الحق أو عمله الصالح ذو مال أو سلطان.

تتفاوت الإرادة في القوة، وتفاوتها على قدر قوة شعور الرجل بما للشيء من حقية أو نفع، وعلى قدر ثقته من تيسره وإمكان حصوله، فالذي أتقن علمًا فأحاط بأصوله، وغاص على أسراره يكون عزمه في الدعاية إلى الأعمال المرتبطة به أقوى من عزم ذلك الذي وقف في دراسته عند حد لا يجعله من أعلامه، والرئيس العادل يكون أقوى عزمًا على حرب أعدائه من الرئيس الجائر، لأن العادل يثق من قومه بحسن الطاعة أكثر مما يثق الجائر، ومن ظفر من قومه حسن الطاعة فقد ظفر بأكبر أسباب الفوز والانتصار.

نقرأ في التاريخ أن المنصور بن أبي عامر الذي جذب عنان الملك من يد هشام بن الحكم في قرطبة قد غزا ستًّا وخمسين غزوة دون أن تنتكس له راية أو يتخاذل له جيش، أو يصاب له بعث، أو تهلك له سرية، ومن درس سيرته لم يعجب لهذا الانتصار المطرد، إذ يجد فيها عدلًا ومساواة يأخذان النفوس إلى أن تلقي إليه بالمودة والامتثال، ومن الأخبار الشاهدة بما وصفنا أن رجلًا من العامة وقف بمجلسه وقال له: إن لي مظلمة عند ذلك الوصيف الذي على رأسك. وأشار إلى الفتى صاحب الدرقة [أي: الترس]، وكان للفتي فضل محل عنده، فقال المنصور: ما أعظم بليتنا بهذه الحاشية، ثم نظر إلى الفتى وقال له: ادفع الدرقة إلى فلان وانزل صاغرًا وساوِ خصمك في مقامه حتى يرفعك الحق أو يضعك؛ ثم قال لصاحب شرطته الخاص به: خذ بيد هذا الفاسق الظالم وقدِّمه مع خصمه إلى صاحب المظالم؛ لينفذ عليه حكمه بأغلظ ما يوجبه الحق من سجن أو غيره. وبعد أن جازاه القضاء بما يستحق أبعده المنصور عن خدمته، وصاحب مثل هذه السيرة حقيق بأن يكون له – متى همَّ بالحرب – عزم لا يختلج بتردد.

فمن وضع أمامه غاية شريفة ورام من قومه العمل لها بعزم لا يخالطه فتور، فما عليه إلا أن يريهم بالأسلوب السائغ والدليل المقنع وجه شرف تلك الغاية، ثم يصف لهم طريقها الناجح، فلا يكون منهم إلا أن يتسابقوا إليها ويقتحموا كل عقبة تلاقيهم في سبيلها.

فإذا رأيت قومًا يذكرون في صباحهم ومسائهم شيئًا من معالي الأمور ولم ترهم يسعون له سعيه، ولا يتقدَّمون إليه بخطوة فاعلم أن العزم لم يأخذ من قلوبهم مأخذه، فهم إما أن يكونوا عن حقيقته وشرف غايته غائبين، وإما أنهم ضلُّوا طريقه وما كانوا مهتدين.

وإذا ذكرنا العزم النافذ في خصال الشرف فإنما نريد الإقدام على الأمر بعد استبانة عاقبته، ولو على وجه الظن الغالب، وذلك ما يعنيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه في قوله: ولكن الحرب لا يصلحها إلا الرجل المكيث. والمكيث من لا يخف إلى الهجوم إلى بعد روية وتدبر.

ولا يُعدُّ في قلة العزم أن يستبين الرجل الحق أو المصلحة ويقف دون عزمه مانع، كان يعلم أن عقول الجمهور لا تتسع لقبوله، ويخشى الفتنة فيرجئه ريثما يمهد له بما يجعله مقبولًا سائغًا. قال عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز لأبيه عمر: يا أبت ما لك لا تنفذ الأمور؟ فوالله لا أبالي في الحق لو غلت بي وبك القدور. فقال له عمر: لا تعجل يا بني، إن الله تعالى ذمَّ الخمر مرتين وحرَّمها في الثالثة، وإني أخاف أن أحمل الحق على الناس جملة فيدفعوه وتكون فتنة.

ولا يُعدُّ في قلة العزم أن يرى الرجل رأيًا ويعقد النية على إنفاذه ثم يبدو له على طريق الحجة أنه غير صالح فينصرف عنه، وقوي العزيمة هو الذي تكون إرادته تحت سلطان عقله، فيقبل بها على ما يراه صوابًا، ويدبر بها عما يراه فسادًا.

وإذا قال الشاعر مادحًا:
إذا همَّ ألقَى بينَ عَيْنَيْه عزمَه ***** ونكَّب عن ذِكْرِ العواقِبِ جانبًا

فإنما يريد الهمَّ الناشئ عن رجاحة رأي. وقويُّ العزم متى بصر بالأمر ووثق بأنه سداد قطع نظره عن العواقب، ونهض له في قوة، أما ضعيف العزم فإنه يترك نفسه مجالًا للخواطر، وذكر العواقب، هذه تغريه على العمل، وهذه تصده عنه حتى تفوت الفرصة، ويذهب وقت العمل ضائعًا.

ومن صرامة العزم أن تفرغ فؤادك من كل داعية شأنها أن تلحق بعزمك، أو تصرف وجهك عنه صفحًا، وتتمثل هذه الصرامة في عبد الرحمن الداخل (صقر قريش) إذ خرج من البحر أول قدومه على الأندلس، وأهديت له جارية بارعة الجمال، فنظر إليها وقال: إن هذه من القلب والعين بمكان، وإن أنا شُغلت عنها بما أهمُّ به ظلمتها، وإن أنا اشتغلت بها عما أهمُّ به ظلمت همتي، فلا حاجة لي بها الآن. وردَّها على صاحبها.

وكثيرًا ما يجيء التردد في الأمر من ناحية الشهوات والعواطف، كالذي يثق بما في طلب العلم من خير وشرف، ويقعده عنه حب الراحة، وإيثار ما تنزع إليه النفس من اللذات الحاضرة، والذي يقول.

إذا كنتَ ذَا رأيٍ فكُنْ ذَا عزيمةٍ ***** فإنَّ فسادَ الرأْيِ أن تتردَّدَا

إنما ينبه على التردد الناشئ عن نحو الشهوات والعواطف، فذلك هو التردد المفسد للرأي والموقع في خسر.

لقوة الإرادة أثر في انقلاب حال الأفراد والجماعات عظيم، فكم من فتى يساويه في نباهة الذهن وسائر وسائل السؤدد فتيان كثيرون، ولكنه يجد من قوة الإرادة ما لا يجدون، فيكون له شأن غير شأنهم، ويبلغ في المحامد شأوًا أبعد من شأوهم، ولو نظرت إلى كثير ممن ظهروا أكثر مما ظهر غيرهم، وأقمت موازنة بينهم وبين كثير من لداتهم لم تجد في أولئك الظاهرين مزية يرجح بها وزنهم غير أنهم يهمون بالأمر فيعملون.

وإذا جعلت تتقصى أثر دولة الموحدين التي وضعت قدمها في فاس، وبسطت أجنحتها على الأندلس والجزائر وتونس، وجدت أقصى هذه الدولة همة طفحت بها نفس محمد بن تومرت بعد انصرافه عن مجالس أبي حامد الغزالي وأبي بكر الطرطوشي وغيرهما عائدًا إلى بلده بالمغرب الأقصى.

وكم من أمة أو دولة لم ينقذها ممن يبتغي بها سوء سوى قوة الإرادة، وقد يكون فيما صنع هارون الرشيد بالبرامكة غلو في الانتقام وسرف في القتل، ولكن تنقية مناصب الدولة منهم لم تكن إلا بنت اليقظة والإرادة التي لا يأخذها التردد في قطع المكر السيئ من جذوره، وإذا صحَّ ما يصفهم به بعض أهل العلم من أنهم كانوا يكيدون للإسلام كيد الباطنية، كان لهارون الرشيد موقف خير من موقف المنتقم لملكه أو ملك أسرته من بعده.

فإذا كان صدق العزيمة من أفضل خصال الشرف وأجلها في الإصلاح أثرًا، فجدير بأساتيذ التربية أن يعطوه من عنايتهم نصيبًا وافرًا، وحقيق بالرجال القوامين على الشؤون العامة أن يأخذوا به أنفسهم، ويقيموه شاهدًا على كفايتهم، فإنَّ ما بيننا وبين المدنية الفاضلة والحياة الآمنة مسافة طويلة المدَى صعبة المرتقَى، إذا لم نقطعها بالعزم الصارم والعمل والمتواصل ظلمنا أنفسنا، ولم نقض حق الأجيال بعدنا، فمن واجبهم علينا أن نبني لهم صروحًا من العزِّ شامخة، فإن لم نستطع هيَّأنا لهم أسسًا ليرفعوا عليها قواعد الشرف والمنعة، فإذا هم أحرار في أوطانهم حقًّا، مكرمون لنزلائهم طوعًا.

وما اقترن العزم الصحيح بأدب التوكل على من بيده ملكوت كل شيء إلا كانت عاقبته نجاحًا ورشدًا {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159].

***

المصدر: كتاب (موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين، دار النوادر بسوريا، ط1، 1431هـ، (5/136)

Posted on

التربية النفسية – العلّامة محمد رشيد رضا

تدور التربية النفسية على قطبي الترغيب والترهيب؛ إذ هي عبارة عن الحث على الفضائل والكمالات والتنفير عن الرذائل والنقائص، فالترغيب يحدث الرجاء والأمل بالمثوبة وحسن الجزاء على العمل الصالح، والترهيب يورث الخوف والرهبة من العقوبة. ووقوع البلاء على العمل القبيح.

والخوف والرجاء هما الجناحان اللذان يطير بهما المؤمن في جو السعادة الدنيوية حتى ينتهي إلى مقعد الصدق في جوار الحق.

الترغيب حليف اللين، والرأفة والترهيب قرين الشدة والغلظة، ولكل من الأمرين موضع يليق به ووقت لا يصلح فيه سواه.

ووضع الندى في موضع السيف في العلى مضر كوضع السيف في موضع الندى
وقد بحث علماء التهذيب في مسألة تغليب الخوف على الرجاء وعكسه وليس هذا موضع بيان ذلك، وإنما نقول هنا: إن تربية الأطفال يُختار فيها اللين على القسوة ويغلب الترغيب على الترهيب. خلافًا لجماهير الشرقيين الذين لا يفهمون من تربية الطفل إلا شفاء الغيظ بنهره وسبه وإهانته وضربه كلما عمل عملاً لا يرضى به أبواه أو أستاذه أو غيرهما من الأولياء والقُوَّام.

وجدير بمن يسلك هذا المسلك في تربية أولاده أن يعتقد أن التربية لا تنفع ولكن قد تضر؛ لأن هذه المعاملة – معاملة الغلظة والإهانة – تُفسد الأخلاق وتسيء الأعمال. ولا أذم هذا لأنني أستحسن ما يقابله عند الأغنياء والمترفين من قومنا الذين يرخون لأولادهم العنان ويتركونهم لطبيعتهم يتمتعون بأهوائهم ويسمونهم (مدلَّلين) .

كلا، إن هذا شر من ذاك وليس هو مرادنا باللين الممدوح. وكيف نجعل هذا الإهمال من التربية والعامة أنفسهم لا يسمونه تربية، أمَا تسمعهم يقولون: (فلان مدلل لم يتربَّ) !


وهذا القول صحيح وإن كان مبنيًّا على فاسد وهو أن التربية هي الإهانة والغلظة في المعاملة كما علمت تفريط وإفراط، والحق في الاعتدال وهو المطلوب في كل حال.

أما مضرة الغلظة والخشونة وآثارهما فهي من وجوه كثيرة، وإننا نمثل لك بعضها تمثيلاً.

إذا كنت تهين ولدك وتشتمه عند صدور الذنب منه لأجل أن يكف عنه ولا يعود إليه – فلا شك أنك تطبع في نفسه بذلك رذائل كثيرة تتولد منها ذنوب لا تُحصى، كل واحد منها ربما تزيد مضرته على مضرة الذنب الذي كان سبب الإهانة، وإذا كان الذنب الذي أُهين من أجله مما يتولد من تلك الرذائل فيزداد رسوخًا ويقوي الملكة؛ لأن الأعمال حسنها وقبيحها تطبع الملكات في النفوس، وقلما تكون الإهانة – لا سيما القولية – سببًا لترك الذنب وكثيرًا ما تكون مغرية به وباعثة للإصرار عليه.

وإنما يحال بين الوليد وبين الأفعال الذميمة التي يكون معرضًا لاقترافها بقطع أسبابها عليه، من حيث لا يدري كما سنوضحه فيما بعد.

***

بقلم: العلّامة/ محمد رشيد رضا

المجلد رقم (2) 24 محرم – 1317هـ التربية النفسية

Posted on Leave a comment

خواطر حول الهجرة النبوية

كان القائم على إدارة الهجرية النبوية هو أفضل الخلق ﷺ، والذي علّمنا دروسًا كثيرة في هذه الرحلة المباركة منها:


«حب الوطن»
ضربت لنا الهجرة النبوية مثالًا كبيرًا عن الحب والولاء للوطن، حيث قال عبد الله بن عدي بن الحمراء: رأيتُ رسولَ اللَّهِ ﷺ واقفًا على الحزوَرةِ فقالَ: «واللَّهِ إنَّكِ لخيرُ أرضِ اللَّهِ، وأحبُّ أرضِ اللَّهِ إلى اللَّهِ، ولولا أنِّي أُخرِجتُ منكِ ما خرجتُ»

وضرب أصحاب النبي ﷺ أروع الأمثال في حب الوطن، فكان كلاً منهم شديد الحزن على فراق وطنه وأهله ولكنهم كانوا مضطرين لذلك.

«التضحية»
إذا نظرنا في هجرة النبي ﷺ وأصحابه فسنجد الكثير من التضحيات الكبيرة لله عز وجل، بداية من النبي ﷺ وأصحابه المهاجرين، حتى موقف الأنصار الذين استقبلوهم ونصروهم.
ولعلّ أبرز مواقف التضحية وأشهرها في الهجرة النبوية، هو موقف الصحابي «علي بن أبي طالب»: ذاك الفدائي العظيم، الذي بات في فراش النبي ﷺ ليلة الهجرة، معرّضا نفسه للقتل على يد المشركين، ولكنّه وهب نفسه في سبيل الدفاع عن الدين ورسوله.

«الصداقة»
تُظهر لنا الهجرة النبوية، أعظم صداقة عرفها التاريخ، في أوضح صورة لها «أبو بكر الصديق» رضي الله عنه
ومواقفه مع النبي ﷺ في الهجرة كثيرة، حتى أنه هو الذي طلب الصحبة من النبي ﷺ: فقال “الصحبة يا رسول الله” ثم بكى أبو بكر حينما وافق النبي ﷺ على صحبته، كما تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: «فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحدا يبكي من الفرح، حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذ».

«الأمانة»
نرى في هجرة النبي ﷺ أهميّة الأمانة وقيمتها، حيث أمر النبي ﷺ علي بن أبي طالب “رضي الله عنه” بأن يرد الأمانات التي كانت عند النبي ﷺ إلى أهلها، على الرغم من أنهم عادوه وأخرجوه، حيث قال النبي ﷺ: «أدِّ الأمانةَ إلى منِ ائتمنكَ، ولا تخنْ من خانكَ».
ونرى أيضًا أن الهجرة ذاتها في حقيقتها هي تأدية الأمانة في نشر الدين والدعوة لله عز وجل.

«الصدق»
ضرب النبي ﷺ وأصحابه أروع الأمثلة في الصدق خلال رحلة الهجرة، فكانوا صادقين في التضحية بكل شيء في سبيل الله عز وجل، وشهد الله لهم بذلك في قوله تعالى: « لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8)» الحشر

«الأمل»
الأمل وعدم اليأس والاستسلام، كانوا من أبرز القيم التي أظهرتها لنا الهجرة النبوية، ففي كثير من المواقف للنبي ﷺ وأصحابه رضي الله عنهم، لم يفقدوا الأمل ولم يستسلموا ولو للحظة، حتى مع التعذيب وقسوته، لم يبعدهم عن دين الله عز وجل،
وكان النبي ﷺ يعرض نفسه على القبائل فيقول: «ألا رجل يحملني إلى قومه؟ فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي»، فرفضت كل القبائل ولم يستجب إلا الأنصار فكانت بيعة العقبة الأولى والثانية ثم الهجرة المباركة،
وقال النبي ﷺ لخباب رضى الله عنه لما شكا له: “والله ليتمن هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون”.

«العفو عند المقدرة»
من أجمل الأمثال التي ضربها لنا النبي ﷺ في العفو والسماح أن عاداه قومه وأذوه وأخرجوه من بلده التي يحبها وحاربوه وتحالفوا عليه، ولكن بعد أن عاد إليهم ودخل مكة فاتحا بعد ثمانية أعوام عفا عنهم النبي ﷺ جميعا وقال لهم: “اذهبوا فأنتم الطلقاء.

***

بقلم: مصطفى محمد

Posted on Leave a comment

نَشْلُ العِلمِ

العلم أمٌر مشاع، وليس مالاً في حِرْز، حتى يُسرَق!

لكن هناك ثلاثة أنواع من النشْالين:

النوع الأول: هم أولئك الرجال، يتصفحون ما كتب المعاصرون من مؤلفات، وما خطّه الباحثون في المراكز والجامعات، فيلتقطون نوادر الأفكار والسوانح، وخلاصة الفصول والمباحث، ثم “يتعمدون” حجب أصحابها، تارة بتغيير العبارات وإبقاء الفكرة، وتارة بوضع النص دون نسبته لقائله.

أنواع السرقات الأدبية | SafeSpace

ونوعٌ ثان: أكثر كسلا، فهو لا يقوى على مطالعة الكتب وسَبْرِ أغوارها، ولا التأمل والسهر لتجلية خَفيِّها، وكشف أسرارها؛ فتجده يجالس أهل العلم، ويتتبع جديدهم، ويؤم ساحات البحث فيلتقط النوادر والخلاصات من أفواه الرجال، ثم يُحدِّث بها في المجالس، وكأنها بناتُ أفكاره، وحصادُ جهده وكده. فصاحبنا كَلابسِ ثَوبِ زورٍ، يتَشَبّع بما لم يُعْط.

ونوع ثالث: يعاملون بعض طلبة العلم معاملة “السُخرة” فيستكتبونهم بحوثا كاملة؛ بنصها، وعزوها، ومطالبها، نظيرَ خِدمةٍ بجاهٍ، أو فُتاتٍ من مال، ثم لا يستنكِف الرجلُ منهم أن يضع اسمه على الكتاب، ورَسْمَه في كل ناد، دون إشارةٍ في الغلاف أو المقدمة لجهود أولئك!

وهناك ألمعي آخر؛ يتربص بالكادحين من أقرانه، والمغمورين من الحُذّاق الذين لا يعرف الناس أسماءهم، ولا يتابعون إنتاجهم، فهم يعملون في خفاء؛ يلتقطون بذور المعرفة من بطون الكتب، ثم يغرسونها في أرضية من البحث والنظر، ويتعهدونها بالنظائر، ويسقونها بالشواهد، حتى إذا استوت على سوقها، وأينع ثمرها، جاء ذاك النشال فالتقطها قبل أن تغادر فرعها، وزين بها مائدته، كي يقال عنه عالم.

غير مستنكر أن يؤلِفَ المرءُ بين ما تفرّقَ من خُلاصاتِ ما قرأ، ويجمع بينها، بل هذا أحد مقاصد التأليف والتصنيف، ولا يمكن أن يَنْسِبَ المرء كلَ ما تعلمه، لمن تَعلمَ منه، ولا يمكن أن يتذكرَ في كل حين، مِنْ أين وردت تلك الفكرةُ، وسَنَحت تلك الإشراقة، هذا أمرٌ لا يستطيعه الناس ولو حرصوا، اشتراطه تكلف وتعسف! وقد يُقبل أن يستعينَ المؤلف – بخاصة المكثرين منهم – بمن يُدقق العبارة، أو يُحسِّن الصياغة، أو يُخرِّج الحديث، أو يشير لبعض النُقُول، أو يُذكِّر بشاهد، .. فلا قطع في ربع دينار! لكن أن يسطو على جهد الآخرين وأفكارهم ومصنفاتهم ثم يتعمّد نسبتها إليه، بالكتابة أو العبارة، فهذا مما ينزع بركة العلم، وإن كان كثيرا، ويحجب أنوار الحكمة، وفيض العطاء الرباني.

كتبه: د. ونيس المبروك