Posted on Leave a comment

خواطر حول الحج 2021/ 1442 | خطبة جمعة

أيها الأحبة في الله

في يومنا هذا ينهي حجاج بيت الله الحرام آخر أعمال الحج في منى، فيرمون الحجرات للمرة الأخيرة، ثم يتوجهون إلى بيت الله الحرام في مكة ليكون طواف الوداع آخر عهدهم بالبيت الحرام قبل المغادرة، وفي هذا الصدد تحضرنا بعض الخواطر والذكريات من الحج، نذكر شيئا منها بحسب ما يتسع له المقام:

أول ما تلحظه النفس هو عظمة الخالق سبحانه وتعالى، فمن تأمل في الأعداد الهائلة التي تقصد تلك البقاع في تلك الأيام, واجتماعها هناك, وأداءها لهذه الشعائر، يقفُ معظّماً لخالقه العليم بهؤلاء المحيط بهم، ويزداد إيماناً بربه سبحانه الذي له الصفات العلى والأسماء الحسنى، قال تعالى كما في سورة مريم [94]: “لقد أحصاهم وعدهم عداً ..”.

لقد علم الله بهم وبوقت مجيئهم، ومحل استقرارهم، وعلم بأحوالهم ونياتهم، وحوائجهم ورغباتهم، ووقوفهم ومبيتهم، ودعواتهم ومطالبهم في عِلمٍ جليلٍ عظيمٍ لا يغادر كبيرة ولا صغيرة من أحوالهم إلا أحصاها.

الأمر الثاني: الاستجابة العجيبة من هؤلاء البشر، على اختلاف أجناسهم ولغاتهم، لنداء تردد منذ قرون على لسان نبي الله إبراهيم بعد الانتهاء من بناء الكعبة كما في سورة الحج [26-27]: «وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ»

فالحاج يشاهد بنفسه هذه الاستجابة العجيبة، ويرى الحجاج يتحركون نفس الحركة، ويقومون بنفس الأعمال، دون لغة تربط بينهم، غير لغة القلوب، ونداء الإيمان.

الأمر الثالث: إن منظر الحجاج وقد لبسوا البياض، وحشروا في مكان واحد، كيوم عرفة، يذكرنا بيوم القيامة، حيث يحشر الناس في صعيد واحد ينتظرون بدء الحساب، ويخشى كل واحد منهم عاقبة أعماله السيئة، ويرجو ثواب أعماله الصالحة، ويطمع في رحمة ربه التي وسعت كل شيء، كما قال تعالى في سورة الأعراف [156]: “ۖ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ۚ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ

الأمر الرابع: الذكريات التي تحضر الحاج وهو يؤدي المناسك، فيذكر في طوافه تعظيم نبي الله إبراهيم وابنه إسماعيل وكذلك نبينا محمد عليهم السلام أجمعين للبيت الشريف، مستحضراً قول الله سبحانه في سورة الحج [32]: “ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ”، ويذكر في صلاته خلف مقام إبراهيم اجتهادَه عليه السلام في البناء، وحرصه على تنفيذ أمر الله في بناء الكعبة وخدمة الإسلام بذلك البناء.

ويذكر في سعيه بين الصفا والمروة سعي أم إسماعيل هاجرَ بينهما بحثاً عن الرزق لولدها الرضيع دون اعتراض على أمر الله لزوجها إبراهيم عليه السلام، الذي تركها وحيدة في تلك الصحراء بأمر من الله عز وجل.

وكذلك حين يشرب من ماء زمزم، أو يرمي الجمرات، أو يحلق، أو يُقصّر.

وكذلك حين يزور المدينة المنورة وما حولها من الأماكن التي كانت مسرح الأحداث العظيمة التي أهدت إلينا خير الأديان.

الأمر الخامس: استماع الحاج للقرآن وهو يتلى في المكان الذي نزل فيه أول مرة على قلب محمد صلى الله عليه وسلم يعطيه نوعا من الخشوع لا يمكن أن يجده في أي مكان آخر.

وأذكر – في إحدى السنوات – أن إمام الحرم قرأ مرة في صلاة الفجر آيات من سورة الأنفال حتى وصل إلى قوله سبحانه: “وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ۚ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ۖ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ” [الأنفال: 30]، فأجهش بالبكاء ولم يستطع أن يواصل القراءة بعدها، وبكى الكثير من الحجاج معه، ثم ركع الإمام لينهي الصلاة بذلك.

فتأملتُ حجم المؤامرات التي حيكت ضد النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف نجاه الله منهم، ثم أعاده إلى نفس هذا المكان لتُتلى فيه هذه الآية، ويُتلى كذلك سائر القرآن، وكيف تحوّل هذا المكان الذي كان مركزا للتآمر على الإسلام، إلى قلب الإسلام النابض، ومركز الأنوار في الكون كله، تشع منه إلى أرجاء الدنيا كلها.

فلا خوف على الإسلام بعد هذا، ولا يمكن لهذا النور الذي أرسل الله به نبيه صلى الله عليه وسلم إلا أن يتم وينتشر في الدنيا كلها.

الأمر السادس: حين أتأمل حديث النبي صلى الله عليه وسلم: “اللهم اغفر للحاج، ولمن استغفر له الحاج”، أعلم حجم النعمة التي من الله بها على من حج بيته، فليجتهد في المحافظة عليها بأخلاقه وحسن عبادته لله عز وجل، لعل رحمة الله سبحانه تشمل المسلمين أجمعين.

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله أتباعه أجمعين.

خطبة للشيخ: علي بن مسعود