Posted on Leave a comment

مشاهد وعِبر من يوم القيامة «يوم يفر المرء من أخيه»!

من صور الحياة العجيبة، سرعة تبدّلها. ففي أوقات انتشار الأوبئة لا تبقى حقيقة قائمة كاملة غير حقيقة اللا مرئي، والمتمثّلة في حقائق الإيمان كدرع أولي في المواجهة، ويجلب الإيمان معه العلم تدريجيا ليواجها معا تلك المخاطر.

فقد كانت الحياة مليئة بالحب والتضحية، وبالقُبل والاحتضان، وبكل صور العلاقات الحميمية المعهودة بين بني البشر المحبّين لبعضهم البعض. بين الزوج وزوجته، بين الوالدين وأبنائهم، بين المعلمين وطلابهم، بين الشيخ ومريديه، وبين كل حبيب وحبيب.

فسبحان من قال ﴿فَإِذَا جَآءَتِ الصَّآخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَـحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِىء مِنْهُمْ يَوْمَئِذ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37)﴾.

فهذه صورة تهتزّ لها القلوب، وتنخلع لها النفوس، وتعجز عن إدراكها العقول. يا الله كيف {يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَـحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36)}؟ هل يمكن أن يحدث هذا؟ وكلّهم؟

فربما نشاهد في صور الحياة اليومية مشاهد من الفرار والابتعاد عن بعض الأحبة كرها، أو ضعفا، ولكن أن يفرّ الكل من الكل، فهي صورة صعبة الادراك.

عندما نُرجع بصرنا إلى ما نحن فيه، تنجلي الصورة ونعيش بعض أجزائها ولكن دون وعي روحي. فكم واحد أصابه هذا الفيروس اللعين، فبقي وحيدا، فحتى طواقم الصحة لا يلامسونه إلا من خلال الواقيات المغلّضة!.

أما أهله وذويه الذي هو بأمسّ الحاجة إلى قُبلهم وحضنهم ولمسات أيديهم حتى تمسح عنه آلامه، وتعطيه من قوّة الصبر ما يمكّنه من مغالبة هذا القادم اللعين، ولكن هيهات هيهات، فكل قُهر بالفرار طلبا للسلامة!. وكل يكتفي بالدعم الماورائي ولا يجرأ على القُرب.

هي صورة صغيرة من الألم النفسي العميق، الذي يجعلنا نقدّم السلامة الذاتية على كل من نحب، وتلك غريزة ركزها الله فينا، هي حب الحياة وحب البقاء. فأمام فيروس لا يُرى بالعين المشاهدة فرّ الجميع من الجميع، واكتفى الجميع بالمتابعة عن بُعد. ولم يجد المُبتلى إلا يدا واحدة وحيدة هي أقرب إليه من حبل الوريد، هي معية الله تعالى. فمتى ندرك أن القُرب من الله وحبّه هو نجاة قيمة الحب في حد ذاته؟

أما آن لقلوبنا أن تخشع وتنظر إلى صور اليوم وتقارنها بمشاهد يوم الصّاخّة؟!. اللهم لطفك بعبادك.

Posted on Leave a comment

وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا!

يقول الحق تبارك وتعالى {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان:30]

يقول العلامة ابن عاشور “فحكيت شكاية الرسول إلى ربّه قومَه من نبذهم القرآن بتسويل زعمائهم وسادتهم الذين أضلوهم عن القرآن، أي عن التأمل فيه بعد أن جاءهم وتمكنوا من النظر. وهذا واقع في الدنيا والرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم”. ومن لطف الله ورحمة الرسول صلى الله عليه وسلم ما أشار إليه الفخر الرازي أن الرسول صلى الله عليه وسلم اكتفى بفعل الشكاية و “ما دعا عليهم بل انتظر فلما قال تعالى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} [الفرقان:31] كان ذلك كالأمر له بالصبر على ذلك وترك الدعاء عليهم فظهر الفرق” مع ما حدث من النبي نوح عليه السلام.

فلو جمع الحبيب المصطفى الشكاية مع الدعاء لهلك القوم وهلك كل من يعمل عملهم، فقد وصف الله تعالى الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلّم بالرحمة في قوله {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] فكان رحمة مهداة.

والشكاية من هجران القرآن قائمة في كل مراحل التاريخ بتفاوت، ولعل ما نشهده في أيامنا من هجران مقصود، وتطاول البعض بجهل على كتاب الله، حتى بلغ ببعضهم الدعوة المفضوحة إلى التحرّر منه ظن جاهل أنه عامل تخلّف.

لن تُضير دعوتهم غيرهم، فسيكتب التاريخ أنهم صُنّاع هجر القرآن، وسيضيع معهم زمن الأمة في نقاشات عقيمة، بدل استثمار كنوز القرآن، وتحرير فاعليته.

فتحرير فاعلية القرآن في المجتمع بقراءته وحفظه وتدبّره والتفكّر فيه واستخراج درره، لهو مطلب المرحلة. فبه يتحقق الأمن اللغوي، هذا المنسي في برامج دولنا ومجتمعاتنا. وبه نتمثّل أرقى القيم بعيدا عن التنطّع والتطرف، وتعلو روحانيتنا وتسمو في معاني الانسانية لتبشّر بفجر جديد يُبنى على العلم والعمل والقيم. ويحق لنا القول بأن كل داع إلى هجر القرآن هو يستهدف أمننا اللغوي، الذي هو مقدمة للأمن الثقافي والاجتماعي بكل تعبيراته.

فواجب اللحظة أن يتحرّر كل واحد منا من فعل الهجر القسري أو المتخفي بعلل واهية، كي نحذر من دخولنا في شكاية الرسول لقومه ونحن من قومه، فهو منا ونحن منه.

Posted on Leave a comment

لا تتبعوا خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر!

يقول الحق تبارك وتعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور:21]

يفسّر الفخر الرازي خُطوات الشيطان “والمراد بذلك السيرة والطريقة، والمعنى لا تتبعوا آثار الشيطان ولا تسلكوا مسالكه في الاصغاء إلى الإفك والتلقي له وإشاعة الفاحشة في الذين آمنوا، والله تعالى وإن خصّ بذلك المؤمنين فهو نهي لكل المكلفين”.

ويقول العلامة ابن عاشور “فإن أرسل المكلّف نفسه لاتباعها ولم يردعها بما له من الإرادة والعزيمة حققها في فعله، وإن كبحها وصدّها عن ذلك غلبها.

ولذلك أودع الله فينا العقل والإرادة والقدرة وكمّل لنا ذلك بالهدى الديني عونا وعصمة عن تلبيتها لئلا تضلّنا الخواطر الشيطانية حتى نرى حسنا ما ليس بالحسن”.

ويعرّف العلامة ابن عاشور الفحشاء: ” كل فعل أو قول قبيح” والمنكر: “ما تنكره الشريعة وينكره أهل الخير” أما صاحب مفاتيح الغيب فيقول ” الفاحشة ما أفرط قيحه، والمنكر ما تنكره النفوس فتنفر عنه ولا ترتضيه”.

ومن لطائف صاحب التفسير التوحيدي قوله “والسياق هنا هو اتقاء الذين آمنوا نزغ الشيطان خاصة في العلاقات والفتن الزوجانية بين الذكور والإناث، فذلك مجال تغشاه الشهوات ويهيج نزعها البليغ ليستغلها ذلك الشيطان ويشفي كيده عدوًّا للإنسان”.

فالنهي عن خطوات الشيطان هو لأن هذا الأخير لا يأمر إلا بكل فعل أو قول قبيح، وبما تنكره الناس المجبولة على فعل الخير، فانحرف بها التشويه والتزيين الشيطاني للنفوس، فاستمرأ فعل ما تنهاه عنه الشرائع السمحة.

وفي الآية تذكير بالهدى الديني المتمثل في فضل الله على بني آدم أن يسّر لهم طريق الهداية. وكما يقول صاحب التفسير التوحيدي “لولا ذلك الفيض من الفضل والرحمة ما زكا منهم أحد أبدا ليتطهّر من دنس الهوى ورجس الشيطان وليرقى إلى درجة الزكاة والإحسان”.

فبما أودعه الله فينا من العقل والإرادة والقدرة والهدى الديني يمكننا التحرّر من خواطر الشيطان، ويرسم المرء لنفسه طريقا نقيا، لا يتعدّى فيه على حقوق الآخرين. فمن حق الآخر عليك أن تكبح هواك، وتلجم فعلك، وقولك الجارح والقبيح عنه، وفي ذلك انتصار لك على نفسك، وانتصار تشارك فيه الآخرين على كل ما ينحرف بالحياة ويسقطها في أتّون الفحش والمنكر الذي يفحّشه وينكره الجميع.

فقد رسمت لنا هذه الآيات ما يمكننا أن نعيش به حياة سعيدة نقية، يسعد فيها الجميع، ويكبح فيها كل واحد منا ما يمكن أن يسبّبه من جروح نفسية للآخر. وإذا سلمت النفوس، سلمت الأجساد.

مع تذكير دائم بأهمية الهدي الديني المتأسّس على البيان الحكيم، الذي بدونه تضطرب الرؤية. وفي كل خطوة نجاح للمرء في الابتعاد عن خطوات الشيطان، يستذكر فضل الله عليه، فهذا الاستذكار تغذية مستديمة له إن شاء الله تعالى.

Posted on Leave a comment

ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن!

يقول الحق تبارك وتعالى {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون:71]

يميل العلامة ابن عاشور إلى تعريف الحق في هذه الآية بأنه “الشيء الموافق للوجود الواقعي ولحقائق الأشياء” ويعرّف الهوى بأنه” شهوة ومحبّة لما يلائم غرض صاحبه” وكي لا يقع الالتباس يميّز ابن عاشور بين شهوات الأفعال التي تقتضيها الجبلّة وغيرها ” فشهوة الطعام والشراب ونحوهما مما تدعو إليه الجبلّة ليست من الهوى، وإنما الهوى شهوة ما لا تقتضيه الفطرة كشهوة الظلم وإهانة الناس”. والاتّباع كما يشير إليه هو ” معنى موافقة الحق الأهواء أن تكون ماهية الحق موافقة لأهواء النفوس”.

ويميّز ابن عاشور بين صنفين من الحقائق “الحقائق الوجودية وهي الأصل فهي مقررة في نفس الأمر، مثل كون الإله واحدا، وكونه لا يلد، وكون البعث واقعا للجزاء” وما بين الحقائق الموجودة في الاعتبار (الحقائق المعنوية) “وكونها حقا هو كونها جارية على ما يقتضيه نظام العالم مثل كون الوأد ظلما، وكون القتل عدوانا”.

يقول صاحب التفسير التوحيدي الدكتور حسن الترابي رحمه الله ” ولو صُرف مورد الحق عن علم الله وحكمته البالغة واتّبع الحقُّ في تعاليم الوجود و هوادي الحياة أهواءَ أولئك المخاطبين المعرضين المحصورة في العالم المشهود غفلةً وجهالةً المفتونة بشهواته تعلّقاً وفجوراً المقصورة عن ميزان العدل ظلماً وفسقاً ومضى الأمر في غياهب الباطل والضلال، إذاً لفسدت السماوات المحكم بناؤها، الموزونة كائناتها الطبيعية، والمنظومة فيها حركة المخلوقات الجنيّة والمَلَكيّة المطوّعة، ولفسدت أيضا الأرض المسخّرة بسنن منسوقة، وأفسدها مَن فيها من البشر ينطلقون بخيار عربيد ضربا في الضلال وإحالة لنظام مهاد حياتهم ورزقهم وبيئتهم إلى خراب واضطرابا في العلاقات بينهم لاختلاف الأهواء وارتباك التنازعات”.

لذلك اقتضت حكمة الله تحرير الحق مما يشوبه من نزاعات وأهواء هي من طبيعة الكائن البشري، فجعل الحق فوقها، ومعاييره أعلى منها، لأنه يعلم ضعف خلقه. فالبشر يميلون بطبعهم إلى الجدال في كل شيء، فحتى ما يتواضعون عليه من وثائق ونصوص، جعلوها حكما بينهم، ولأنها من صيغهم فتجد كل طرف يميل إلى تأويله ويعتبره التأويل الأدق وتضيع مع اختلافاتهم المصالح.

وما الخلافات في أغلبها إلا اتباع لهوى هذا وذاك، سواء كان فردا أو جماعة، والحمد لله الذي أودع في كتابه من الثوابت والأصول والقصص ما يمكّن الإنسان من قدرة التحرّر الذاتي من الهوى، فالهوى لا يتحكّم في النفس إلا إذا هي خضعت له.

Posted on Leave a comment

خطر الانزلاق للعصبيات والطوائف «كل حزبٍ بما لديهم فرحون»

يقول الحق تبارك وتعالى {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون:53]

يقول الفخر الرازي {فَتَقَطَّعُوا} “معنى المبالغة في شدة اختلافهم والمراد بأمرهم ما يتصل بالدين”.

ويعرّف العلامة ابن عاشور الحزب “الجماعة المجتمعون على أمر من اعتقاد أو عمل، أو المتفقون عليه” ويضيف” قديما كان التحزّب مسببا لسقوط الأديان والأمم”. وطبعا الحديث هنا لا يمكن أن ينطبق على الظاهرة الحزبية في الشأن السياسي الْيَوْم، فهذا اسقاط هجين. فالظاهرة الحزبية في الشأن السياسي هي في دائرة التنوّع وتعدّد الرؤى والمقاربات لحل مشكلات المجتمع والدولة دون أن تكون بالضرورة اختلافا عقديا أو دينيا، بل في أغلبها في دائرة الدين الواحد.

ولكن ظاهرة التقطّع التي تطال العقائد والأفكار هي تطال كل مجالات الحياة، وشدّة التفرّق حتى بلوغ درجة العداوة البينية هي من مصائب الحياة، وهي مذمومة دينيا واجتماعيا.

يقول صاحب التفسير التوحيدي ” ولكن أتباعهم الأخلاف المتعاقبون ترتّب على ابتلائهم بطول الآماد بعد عهد الأصل والقدوة أن ضيّعوا وحدة الأمة وتقطّعوا بينهم وفرّقوا أمرهم بعد الدين الموحّد والمسلك المستقيم في الإيمان والحياة وصاروا هم زبرا، قطعا أو كتلا مغلّظة وعصبيّات أقوام وطوائف” ويضيف ” أصبحت تلك الفرق الملّية من الخَلَف كل حزب يتمسّك بخيار ضلاله عن الأمة الواحدة الأحقّ وعرف فتنته فرحا بسكرة الفتنة”.

ومن المفارقات التي يجب التنبّه إليها أن البعض يريد أن يحوّل التعدّدية الفكرية والسياسية من كونها إثراء للحياة وتحفيز لإبداع طرق إدارة الاختلاف إلى اختلاف ايديولوجي مُسقط ومغلق لا يؤدي إلا إلى الكراهية وزرع الحقد.

وهنا يكمن الخطر الذي تنبّه إليه هذه الآية. فالأمة والوطن الواحد من الطبيعي أن تتعدّد فيها الرؤى ووجهات النظر ومقاربات الحلول للمشاكل، وفي المنظومة القانونية ما يضبط ذلك، ولكن الانزلاق إلى العصبيات والطوائف حتى يصير معه الوضع “أن كل فريق منهم مغتبط بما اتخذه دينا لنفسه معجب به يرى المحق أنه الرابح، وأن غيره المبطل الخاسر” كما يشير إلى ذلك الفخر الرازي، سيحلّ التمزّق بجسد الأمة والوطن وهو ما تفوح نذره إن لم يتدارك العقلاء ما يفعله الجهلاء بالأوطان.

Posted on Leave a comment

وما أعجلك عن قومك يا موسى؟

يقول الله تبارك وتعالى {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى [83] قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه:84]

يقول الدكتور عبد العظيم ابراهيم المطعني صاحب التفسير البلاغي للاستفهام في القرآن الكريم في هذه الآية “وكأن الله يريد أن ينبّه موسى إلى الالتزام بما يرسمه الله من منهاج، ومنها تحديد موعد اللقاء الذي سبقه موسى، وأنه كان ينبغي أن يكون بين قومه حتى لا يستخفوا بهارون ويسيئوا معاملته”.

وهي صورة تبيّن لنا أن الغايات الصادقة، بما في ذلك ظنّنا بأنها مزيد قرب من الله، لا تبرّر لنا تجاوز أو خرق المنهاج المرسوم. فهي عجلة ملبّسة بالحق، والنيّة الصادقة، وأنّ مآلاتها لا تكون سليمة كما نظن ونتوقّع. فما يغيب عنّا أكثر مما كُشف لنا، وكل عجلة ستتجاوز بعض الحقائق، وتخرق منهج الفهم القويم للتغيير.

ورحم الله صاحب (في ظلال القرآن) الذي قال في هذه الآية “ولكن الاستعباد الطويل والذل الطويل في ظل الفرعونية الوثنية كان قد أفسد طبيعة القوم وأضعف استعدادهم لاحتمال التكاليف والصبر عليها، والوفاء بالعهد والثبات عليه، وترك في كيانهم النفسي خلخلة واستعدادا للانقياد والتقليد المريح.. فما يكاد موسى يتركهم في رعاية هارون ويبعد عنهم قليلا حتى تتخلخل عقيدتهم كلها وتنهار أمام أول اختبار. ولم يكن بد من اختبارات متوالية وابتلاءات متكررة لإعادة بنائهم النفسي”.

فالمطلوب ليس الانتصار السريع أو استسلام القوم وخضوعهم لما يقوله موسى عليه السلام، بل المطلوب هو تحريرهم وإعادة بنائهم النفسي، حتى تقف سلسلة تراجعهم عن الإيمان والركون إلى الاستعباد الذي تفرضه عليهم الفرعونية.

فالتغيير لا يستقيم حتى يبلغ إعادة البناء النفسي للإنسان المقهور والمهدور مبلغه، ويتحرّر من مكبّلات سياسات القهر والهدر، وتُعاد الثقة بالنفس وإعادة امتلاك حق الحياة بحرية. فالقابلية للاستعباد هي من آثار طول مراحل الاستبداد والظلم. ولا مجال أكثر أثرا في إعادة البناء النفسي مثل مجالي التربية والتعليم، ومن لا ينتبه إليهما لن يحصد إلا الوهم والنّصب.