Posted on

ثلاثة أسئلة .. عن رمضان

السؤال الأول:  لماذا أصوم؟

درج الناس – سيما عندما رقّ التديّن عِلْماً – على الاهتمام بسؤال الكيف. أي: كيف أصوم؟ وهو مطلوب، لأنه من فقه الحكم. ولكن لا تتمّ العبادة حتى نُعزِّر ذلك السؤال بسؤال آخر هو له قرين، وهو: لماذا أصوم؟ وبذا يجتمع الحُكْم بحِكْمتِهِ، ويرتقي الصّائم إلى مَصافِّ الذين يحبّهم الله تعالى، إذ قال عليه السلام: “فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم”. العالم هو الذي يعلم لماذا يصوم ثم يصوم. أمّا العابد، فهو الذي يصوم ولا يعلم لماذا يصوم.

القرآن الكريم يُجيبُنا: لماذا نصوم؟

ممّا كتب ابن القيّم رحمه الله، أنه أحصى في القرآن الكريم المواضع التي فيها عِللٌ وحِكَمٌ، فلمّا ناهز ألفَ موضِعٍ أَرسَلَ الأمرَ. إذ تبيّن له أنّ هذا الكتاب يعتني بالحُكْم بقدر اعتنائه بحِكْمةِ الحُكْمِ. لماذا نصوم؟ سؤال أجاب عنه القرآن الكريم. إذ قال سبحانه في آيات الصّيام في سورة البقرة: “يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصّيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلّكم تتقون”. إذ بيّن الذِّكرُ الحكيمُ هنا أنّ المقصود من الصّيام هو حصول التقوى (لعلّكم تتقون). أصل التقوى هو الاجتناب، كما بيّن ذلك حَبْرُ الأمّة لِسائلٍ عنها، إذ قال له: أرأيتَ لو سلكتَ مسلكاً فيه حطبٌ وشوكٌ؟ ماذا كنتَ فاعلاً؟ قال السّائلُ: أصفن ثوبي اتقاءَ الشوكِ والحطبِ، فقال ترجمان القرآن: كما تتقي الشوك أن يصيبك، اتق اللهَ سبحانه أن يصيبك غضبُه.

من حكم الصوم: الخير

ربّما لم تمتلئ آياتٌ بالحِكَم بمثل ما امتلأت هذه الآيات، إذ بعد بيان أنّ التقوى مقصود من مقصودات الصّيام، أردف ذلك بقوله سبحانه: “وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون”. ذلك يعني أنّ الصوم – وهو فَطْمُ النفسِ عن هواها أكلاً وشرباً ولذّةً – يجلب معه إلى الإنسان الصّائم خيراً، ولكن ما هو الخير؟ الخير: قِيمةٌ عامّةٌ مطلقةٌ كليّةٌ تشمل كلّ أنواع الحُسنى مادّةً ومعنًى. عندما يصوم الصّائم فإنه يصيب خيراً، إذ يُعمِّق إيمانه بالغيب بإله لا يراه ولا يسمعهن وبذلك يتميّز عن الدّابّة التي لا تؤمن سوى بالمحسوس الملموس. وعندما يصوم الصّائم فإنه يملك زمام نفسه، ولا يدعها ترعى كلّ ما تهوى بدون ضابط ولا حارسٍ أن تختلط بالأنعام. ذلك أنّ الدنيا خلقت لنا فتنة وتسخيراً، فإمّا أن نحسن رياضة أنفسنا حيالها، وإمّا أن نكون لها نحن عبيداً مُسخَّرين. الصّومُ عبادة تشحن الإرادة وتغذي مناسيب الصبر، والصّبر يحتاج إليه كلّ إنسان بغض النّظر عن دينه في هذه الحياة، إذ أنّ الصبر مَظِنَّةُ الفوزِ والنجاحِ في الدنيا، أمّا الطيش والهجوم على الشهوات، فهو مظنّة الإخفاق والفشل. الصّوم خيرٌ بدنيّ صَرفٌ، كما أثبت ذلك الأطباءُ الذين ينصحون بعض مرضاهم به. وفي الجملة، فإنّ الغرض هنا ليس إحصاء الخير الذي يثمره الصّيام، إنّما الغرض هو القول بأنّ الصوم خير، ولا يأتي إّلا بخير: طاعةً للهِ، ورياضةً للنفس، وتعبئةً للصبر، وشَحناً للإرادة، وعافيةً في البدن، وغير ذلك ممّا لا تكاد تحصى أطرافُه. وبذلك فضّل النظم القرآنيُّ البديعُ أن يعبّر عن كلّ ذلك بلفظِ الخير، لتشمل كلّ جوانب الخير، ممّا علمنا وممّا لم نعلم.

لماذا نصوم رمضان … وليس شعبان؟

هذا سؤال آخر مهمّ، ألم يعلِّمنا القرآن الكريم أنّ السؤال هو طريق العلم ومفتاح الرسوخ فيه؟ وذلك عندما عرض علينا أسئلة عظمى لا تقليدية من لدن إبراهيم عليه السّلام. إذ سأل ربّه قائلا: “ربّ أرني كيف تحيي الموتى” ومثله حفيده موسى عليه السلام، إذ سأل قائلا: “ربّ أرني أنظر إليك”. لماذا نصوم رمضان؟ سؤالٌ أجاب عنه القرآن الكريم نفسه كذلك، وذلك في قوله سبحانه: “شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للنّاس وبيّنات من الهدى والفرقان”. سياق الكلام هو أنّ الله كتب عليكم الصّيام كما كتبه على الذين من قبلكم ليكون في شهر رمضان. وقد عيّنه سبحانه تعييناً ونصّ عليه نصًّا لا يحتمل عدا الإحكام والتفسير. ولم يقصر ذلك على ذلك، إنّما أخبرنا أنّه اختار لنا أن نصوم رمضان بسبب أنّه الشهر الذي أُنزِل فيه القرآن، ومِن ذا حقيق علينا أن نقول إنّنا نصوم رمضان احتفاءً بالقرآن، واحتفالاً بالقرآن، وتعظيماً للقرآن، فهو شهر القرآن بامتياز شديد، وليس هذا اجتهاداً من أحدٍ، ولكنه العلم بالنّصّ القرآنيّ، أي أنّ الله اختار عبادة الصّيام لتكون في الشّهر الذي أَنزَل فيه كلامَه العظيم وذكره الحكيم. لم يختر له شهراً حراماً، وهي شهور أربعة لم يخترعها الإسلام. إنّما أقرّها، ولكن اختار له الشهر الذي شرّفه الله بنزول ذكره الحكيم فيه، كما ورد ذلك في سورة القدر. ولأجل ذلك سنّ عليه السلام سنّة التهجّد للناس، ولكن لما خاف أن يوجب ذلك على أمّته عدل عنها في المسجد، ولما جاء الخليفة الثاني – أي الفاروق عمر – أحيا تلك السنة وظلّت حيّة إلى اليوم. وستظلّ بإذن الله كذلك إلى يوم القيامة، تعظيماً للقرآن، في الشهر الذي أُنزِل فيه القرآن.

من حكم الصّيام الأخرى

حكم الصّيام ربّما تتأبَّى عن الحصر والإحصاء، مِن ذلك، بحسب ما ورد في آيات الصّيام ذاتها، أن يتربّى الإنسان على ثقافة اليسر، وفقه الترفّق بنفسه، وبالنّاس من حوله، من يدرس هذه الآيات لن يجد غيرها مكلَّلةً بقيم اليسر تكليلاً عجيباً، مِن قِيَم اليسر المذكورة هنا قوله: “أيّاما معدودات” أي أنّ الصيام ليس أمراً مرهقاً أو تنكيلاً أو تشفّياً، إنما هي أيامٌ قليلاتٌ مقدور على عدّها. وما قُدِرَ على عدّه فهو قليل، ومن تلك القِيَم كذلك عدم الشقّ على المريض والمسافر ومَنْ في حُكْمِهما مِن مثلِ حائض ونفساء وغير ذلك. إنّما يؤجَّلُ ذلك حتى تنقضي الطارئة، ومِن تلك القيم كذلك لزوم اليسر لزوماً بحِسبانِه إرادةً إلهيةً ماضيةً “يريد الله بكم اليسر” وأكّد ذلك بنفي ضدّه، إذ قال سبحانه: “ولا يريد بكم العسر”، وهو أمرٌ يشمل الحياة كلّها، وليس الصّيام فحسب. ومن تلك الحِكَم كذلك صلة الناس المحتاجين بالإنفاق، إذ قال سبحانه: “وعلى الذين يطيقونه فديةٌ طعامُ مِسكينٍ”، وبذا يرتبط الصّيام الذي يغلب عليه الطّابع الفرديّ بالإنفاق والتكافل، وهي ذات طابع جماعيّ. وبذلك يساهم الصّيام في رصّ الصفّ الواحد رصًّا يشُدُّه ليَغدُوَ ممتنعاً على الهدم والاندثار. وبذلك نرى أنّ المقصد الأسنى من الصّيام: التقوى المذكورة في رأس الآيات. وبما أنّ التقوى – مثل الخير – قيمة عامّة مطلقة كليّة، فإنّها بُيِّنَتْ فيما يلي من الآيات ذاتها لتكون مرّةً يُسراً، ولتكون مرّة أخرى تكافلاً، ولتكون مرّة أخرى تعظيماً للقرآن في شهر القرآن، ولتكون مرّة أخرى عِلماً بأنّ الصيام خيرٌ مطلقٌ عامٌّ، ولتكون مرّة تكبيراً لله وحده سبحانه أنه هو وحده المطاع غيباً، فلا يَستسلم في الأرض للطاغوتِ مُسلمٌ. ولتكون مرّة أخرى، وليست أخيرة، شكراً “لعلّكم تشكرون”. الصيام دورةٌ تكوينيةٌ تعودنا مرّة واحدة في العام، تبتدئ بمطلب التقوى، وتختتم بمطلب الشُّكرانِ.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين

السؤال الثاني: لماذا نصوم جماعة في زمن واحد ؟

أليس جديرا بنا أن نطرح هذا السّؤال ؟

لماذا نصوم مجتمعين في زمن واحد ؟

إذا كانت عبادةُ الصّيام عبادةً شخصيةً فرديّةً – وهي كذلك في جانب منها – فلماذا نُدعَى إلى ممارستها في شهرٍ واحدٍ محدّدٍ هو شهر رمضان؟ ما ضرّنا لو اختار كلّ واحد منّا الزمن الذي يناسبه صياماً؟ شهراً كاملاً متتابعاً غير مفرّقٍ؟ وليكن لهذا خارج أوقات رحلاته (في محرّم الحرام مثلا وهو شهر حرام) وليكن للآخر مِثلُ ذلك، تختار المرأة مثلا الزمن الذي لا تغشاها فيه حيضتها. وليس معنى ذلك أن يميل الصّائمُ إلى زمن يقصر نهاره تقصّياً. أليس ذلك أولى من أن يتسنّى لهذا الصّيام؟ ولكن الآخر عليه أن يقضي ذلك عدّة، ومثل ذلك على المرأة؟

سؤالٌ مشروعٌ .. وجوابٌ ينثر كِنانةَ الحقِّ نثراً

من يقرأ الكتاب العزيز مرّةً واحدةً، قراءةً جامعةً، هادئةً، متأنّيةً، متريّثةً، متدبّرةً، لا ريب أنّه يفاجأ بأنّ خطابه ظلّ يتوجّه إلى الناس – سيما من المؤمنين – بصيغة الجماعة، إذ خاطب الناس بصفة الإيمان “يا أيها الذين آمنوا” زُهاءَ تسعين مرّة كاملة، وهي جماع الأوامر والنّواهي كلّها تقريباً، وبمثل ذلك خاطب الناس، سِيَمَا في المرحلة المكية، بزُهاءِ خمسٍ وعشرينَ مرّةً أخرى كاملة، وحتى عندما خاطب الإنسان مرّتين، فإنه يخاطب الإنسان الجنس، وبمثل ذلك خاطب بني آدم في المرحلة المكية خمس مرّات كاملات، أي إنّ مجموع الخطاب بصيغة الجماعة كان زهاء عشرين مرّةً ومائةً كاملةً، الأعجبُ من ذلك كلّه أنّ الخطاب الفرديّ الشخصيّ – كما نعدّه نحن اليوم – لم يَنُدَّ عن ذلك. ذلك أنّ تلك الخطابات فيها الدعوة إلى التقوى التي هي اختيارٌ فرديٌّ شخصيٌّ، وقرارٌ يَنبُع من داخل الإنسان. ألم تسأل نفسك مرّة: كيف أكون تقيًّا مع الناس؟ عبادة الصّيام – كما يعرف كلّ واحد منّا – عبادة يغلب عليها الطّابع الفرديّ الشخصيّ بسبب أنّها عبادة تَرْكِيَّةٌ – بلسان الفقهاء – أي أنّ المطلوب من الصّائم ليس فعلُ شيءٍ، إنما تركُ شيءٍ. وأنّ الصائم يمكن أن يظهر صائما مع الناس، ولكنه مُفطرٌ عندما يختلي بنفسه، ولا حسيب عليه، ولا رقيب، عدا اللهَ سبحانه. إذا كان ذلك كذلك – وهو كذلك قطعا – فكيف نُدعَى إلى الصيام الجماعيّ في زمنٍ واحدٍ ؟! أليس أولى أن يصوم كلّ واحدٍ منّا شهراً يختاره هو، يكون فيه مُتمحِّضاً لتلك العبادة بالكلية، غير منشغل بسفر أو مرض؟ ومثل ذلك المرأة، آمنةً من غَشَيَانِ الحيضة، أو الرّضاع، أو النفاس؟ هنا نصل إلى محطّة خطيرة مهمة من محطّات طبيعة هذا الدين. هنا نصل إلى النهل من حكمة هذا الدين نهلاً يجعلنا من العابدين العلماء، وليس من العابدين الذين لا يُقيمون وزناً للعلم، هنا نعلم أنّ الله سبحانه عندما دعانا إلى الصيام الجماعيّ في زمن واحد وهو يعلم أنّ فينا من لا يتسنّى له ذلك – كما دعانا إلى التقوى مرّاتٍ وهي عمل يغلب عليه الطّابع الفرديّ الداخليّ – فإنّما يريد أن يغرس فينا غريزة الجماعة، ويحقننا بفطرة التكافل، وجِبِلَّةِ التعاون. رسالته إلينا هنا: هي أنّ المقصود من الصّيام ليس الجانب العمليّ فحسب، أي الكفّ عن الأكل والشرب واللّذة فحسب، وإنّما المقصود هو الكفّ عن شيءٍ آخر كبيرٍ، وهو الشعور بالفردانية والوحدانية والشخصانية، بما يُفضي إلى تضخّم الذات، والعلوّ، واحتقار الآخر. الأمر نفسه في الصّلاة التي دعانا إليها فرضاً مُوجَباً مرّةً واحدة في الأسبوع، فلا تؤدَّى إلاّ في جماعة، وهي صلاة الجمعة. ولكنّه، رحمةً بنا، دعانا إلى غيرها – صلاة الجماعة – ترغيباً، الأمرُ نفسُه في عبادة الزّكاة التي أمرنا فيها بالإنفاق من المحاصيل ذاتها، وبالقدر ذاته، وفي المصارف ذاتها، فلا يُعفَى حتى الفقير الذي يملك النّصاب في هذا المحصول أن ينفق منه، وله أن يأخذ الزّكاة من محصولٍ آخر. والأمر ذاته في عبادة الحجّ.

مِن ذلك – وممّا يضيق هنا الخطاب عنه – نستنبط بيسرٍ أنّ المقصد الأسنى من عبادة الصّوم – أنها عبادةٌ جماعيةٌ في زمن واحد – هو الشعور بالجماعة مِن حولك، فإذا حصل جوع في نهار رمضان نجوع معاً، وإذا حصل شِبَعٌ بعد الغروب نشبع معاً، وإذا كان يومُ عيدٍ بعد انقضاء الصيام نفرح معاً، ونبتسم معاً، وإذا حصل إنفاقٌ لزكاةِ الفِطرِ نُنفق معاً، ونستقبلها معاً، في الصلاة ترى بعينيك المصلين من حولك ومن خلفك، وهذه أَمارةٌ صريحةٌ قاهرةٌ على مراد الله سبحانه في إنفاذ الشعور بالجماعة والأنس بالجماعة. ولكنْ في الصيام لا يُرى ذلك رأيَ العينِ. ولكن تعلم أنّ المسلمين في هذا اليوم وعلى امتداد شهرٍ كاملٍ يمارسون ما تمارس أنت. وهذا يبعث فيك القوّة والأمن والسلام والعزّة بالجماعة. إذ هي أمةٌ كاملةٌ تقوم بالشعائر ذاتها، لا فرق فيها بين غنيٍّ وفقيرٍ، وحاكمٍ ومحكومٍ، وشرقيٍّ وغربيٍّ، ولا حتى بين ماضٍ وحاضرٍ، ذلك المقصد الأسنى هو من مقاصد الإسلام العظمى، وكما رأينا، يلازم العبادات الشعائرية كلَّها، وهي المعوَّلُ عليها أن تغرس في كلّ أعمالنا القِيَم الإسلامية.

من يصوم وهو يعلم أنّ أمةً كاملةً تصوم بمثل صومه، فهو يشعر بالقوّة، والأمن والعزّة، وأنّ ذلك يزيده ثباتاً على دينه، إذ الثبات على الدين مسؤوليةٌ جماعيةٌ، ألم يقل عليه السلام: “يأتي على الناس زمانٌ يكون فيه القابض فيه على دينه كالقابض على الجمر” ؟. وعندما تلبس البلاد كلّها حلّة أخرى بمناسبة شهر الصيام فإنّ المرء يشعر بالأُنس والطمأنينة، وأنه ليس غريباً ولا يأتي عجيباً. وقديما قال أهل الاجتماع: الإنسان مَدَنيٌّ بطبعه. ولذلك حرص الصحابة على التحضّر، أي لزوم الحضر، حتى عُدَّ التعرُّب – بمعناه القِيَميّ وليس الجغرافيّ – ذنباً كانوا يَستنْكِفون عنه. ألم يَرِدِ الخطابُ القرآنيُّ الكريم عن الأعراب بصيغةٍ يغلب عليها السّوء؟. يغلب عليها فحسب، وليس يشملها بالكلية. ذلك أنّهم بتعرُّبهم يحرمون أنفسهم الاستمتاع بالبعد الجماعيّ لهذا الدين.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين

السؤال الثالث: لماذا اصطفى سبحانه عبادة الصّيام له ؟

هذا سؤالٌ جديدٌ جديرٌ بالطّرح ..

لأيِّ سرٍّ اجتبى سبحانه الصّيام فحسب، ليكون له هو وحده ؟

أصل المسألة هو حديثٌ قدسيٌّ صحيحٌ، أخرجه الشيخان عن أبي هريرة عليه الرضوان، يقول فيه سبحانه: “كلّ عملِ ابنِ آدمَ له، إلاّ الصّوم، فإنه لي، وأنا أجزي به، يدع الإنسان طعامه وشرابه وشهوته من أجلي!”. الحقيقة أنّ الله سبحانه هنا أخبرنا عن السرِّ، وعن الحكمة منه. ذلك أنه قال حكمة “يدع الإنسان طعامه وشرابه وشهوته من أجلي”. ذلك هو السّر الذي جعل عبادة الصيّام ترتفع إلى هذه الدّرجة العظمى التي لم يخصّ بها الله سبحانه أيّ عبادة أخرى. إذ لم يرد أنه قال عن أيّ عبادة أخرى أنها له.

أليست كلّ العبادات له وحده سبحانه ؟

أجل، ذلك هو الأصل العامّ، ولكنّ تخصيص الصّيام بذلك يعني أنّ عبادة الصّيام هي العبادة الوحيدة التي تغرس الإخلاص في النّفس، غرساً يتأبَّى على الانتزاع، مهما شغب الشيطان شَغَباتِهِ وراودتِ الدنيا بحُطامها الإنسانَ. الإخلاصُ مطلوبٌ في كلّ عبادة، ولكنّ العبادة الوحيدة التي لا يغشاها رياءٌ أبداً مطلقا هي عبادة الصّوم، إذ كيف يعقل أنّ إنسانا يصوم لأجل الناس؟ من يصوم لأجل الناس سيفطر في أوّل فرصة يختبئ فيها عنهم أو يغيبون عنه. ومِن ذا، فإنّ الصيام هو العبادة الوحيدة التي تجعل المرء الصائمَ لا يأكلُ ولا يشربُ ولا يستمتعُ بما أحلّ الله له وهو يعلم ألاّ رقيب عليه عدا ربّه وحده سبحانه. ذلك يعلّمنا أنّ الله يحبّ منّا الإخلاص حبًّا لا مثيل له، وذلك يعلّمنا أنّ الله سبحانه لا يطلب منّا أن نبخع أنفسنا أو نقتلها رهقاً لأجل هداية الناس أو عمارة الأرض، لأنّ ذلك متعذّر بالكلية. ودونه الذي دونه. ولكنّه يريد منّا إخلاصاً فيما نقول، ونعتقد، ونفعل، ونعمل، ونأتي، وندع. على نحو تكون حياتنا خالصة له هو وحده سبحانه، ذلك هو معنى أنه اجتبى سبحانه العبادة التي لا يداخلها الرّياء أبداً مطلقاً لتكون له هو وحده سبحانه. وهو الذي يجزي عليها ثواباً لا يتصوّره عقلٌ، إذ لولا أنّ تلك العبادة هي التي تحصّن الإنسان من غوائل الشرك والرّياء وصرف أيّ جزء من الحياة لغير الله سبحانه، لما قدّمها ذلك التقديم الذي يجعل المرء سائلاً عن ذلك السرّ. ومن علامات ذلك، أنّ الحديث قُدْسِيٌّ. بل إنه متفق عليه بين الشيخين. ورواه أبو هريرة عليهم جميعاً الرّحمة والرّضوان. كلّ عمل ابن آدم له، لا تعني أنّ الشرك يمكن أن يداخل بقية الأعمال والأقوال والعبادات بلا حرج، كلاّ، ولكنّ ذلك يعني أنّ بقية العبادات يغشاها الشرك الأصغر، أي الرّياء. وقد فصّل ذلك حجة الإسلام الغزاليّ في سِفْرِهِ الفريد: (إحياء علوم الدين) إذ بيّن أنّ الرّياء المنكور هو الذي يكون ضربة البداية في كلّ عمل، أي تكون الطُّويّةُ منذ البداية متمحِّضةً لغير الله سبحانه، أمّا ما يشغب على العامل من بعد ذلك – أي من بعد إفراد العبادة لتكون لله وحده خالصة نيّة معزّرة – فلا عبرة به، إذ لا يكاد يَسلمُ منه بشرٌ عدا المعصومين عليهم السّلام جميعا من الأنبياء والمرسلين. إذ يصلّي المصلّي وقد يغشاه الشيطان ليُحسِّن صلاته بحضرة الناس، أو يحسّن قراءته إذا كان إماما. أو قد ينفق ويغشاه الشيطان ليجعل منه مرائيا. وغير ذلك من شَغَباتِ الشيطان ومراودات النفس وشهوات الدنيا. إلاّ الصيام، فلا سبيل لأيّ رياء أو شرك أصغر عليه، بسبب أنّه عبادة قلبية، باطنية، داخلية، سرّية. أي تَرْكِيّةٌ خالصةٌ. ويمكن لكلّ صائمٍ إن شاء رياءً أن يختفي عن أعين الناس ليأكل أو يشرب، ثم يخرج للناس وهو معهم صائم مثل صومهم. ولا ينكر عليه أحد، لأنه لم يره أحد. ذلك هو المعنى المهمّ المقصود من اصطفاء الله سبحانه لعبادة الصّيام دون سواها له وحده سبحانه. وذلك يعلّمنا قيمة الإخلاص الذي نحتاجه في حياتنا الخاصّة والعامّة كلّها.

أيّ حاجة لقيمة الإخلاص ؟

الإخلاص في الحياة إخلاصان: إخلاص الاعتقاد، الذي بدونه يغدو المرء مشركاً، وذلك هو الأمر الذي وقع فيه المشركون الذين قالوا تبريراً مُسِفًّا لشِركِهم: “ما نعبدهم إلاّ ليقرّبونا إلى الله زُلفَى”. وذلك هو الخيط الرّفيع الدّقيق بين الإيمان الصّافي من كلّ شائبةِ شركٍ مهما دقّت وضعفت ورقّت، وبين الإيمان المشرك الذي قال فيه سبحانه في آية مخيفة: “وما يؤمن أكثرهم بالله إلاّ وهم مشركون”، ذلك الإخلاص الأوّل الأعظم، وهو المطلوب الأوّل، إنّما يتغذى من العمل. إذ أنّ من وظائف العبادات والعمل: تزكية الاعتقادات، وتغذيتها، وتمتينها، وترسيخها، ومِن ذا كان الإخلاص الثاني هو: إخلاص العمل الذي قال فيه سبحانه في آخر سورة الكهف المكية: “فمن كان يرجو لقاء رّبه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربّه أحداً”. إخلاص العمل مطلوب، وهو قرين إخلاص الاعتقاد، وهما في الحقيقة لا ينفصلان. عدا أنّ إخلاص الاعتقاد ليس فيه أيّ رخصة، لأنّ من لم يُخلِص اعتقاده فهو مشرك بربّه سبحانه، ولا يُقبَل منه صرفٌ ولا عدلٌ كما يقولون، وإخلاص العمل لا يَخلُصُ لأيّ بشرٍ بالكلية ومطلقا، وفي كلّ زمنٍ، وكلّ عبادةٍ، وكلّ مكانٍ، وكلّ حالٍ. ولكن المقاربة والتسديد مطلوبان، وفيصل الأمر هنا هو النيّة الأولى، والطّوية الباعثة، فإن خَلُصَتْ، فقد خَلُصَ العملُ لله وحده سبحانه، حتى لو شابه الذي شابه من بعد ذلك. وتظلّ المعركة بين العابد العامل وبين شيطانه ونفسه قائمةً لا تفترُ. ولو فترت لأُحيل الإنسانُ إلى قائمة الذين خرجوا من دائرة الابتلاء والعياذ بالله.

الإنسان يحتاج إلى الإخلاصين معا، إخلاص الاعتقاد حتى تستوي شخصيتُه استواءً يجعله مستقلاًّ عن الناس، فهو يشترك معهم في الحياة، ولكنّه لا يعتمد على أحدٍ منهم، وليس هو عالةً على أيّ واحد منهم، فلا يحتاج إلى مُنافقتهم أو الاستضعاف بين أيديهم. ومَن تكون كذا شخصيته فإنه يكون إنساناً سويًّا، عاملاً فاعلاً إيجابيًّا. لا إمّعةً، أو عالةً أو ذيلا من الذيول الكثيرة. كما يحتاج المرء إلى إخلاص العمل للغرض نفسه، ولكن لغرض آخر، هو تجويد العمل، وإتقانه، وتحسينه، والتفرّغ لربّه وحده سبحانه. فمن تمحّض لأيّ عمل، فهو أدنى إلى تجويده وتحسينه، وتجميله وإتقانه، ومن كان عمله متردّدا بين هذا وذاك، فهو خِدَاجٌ، كما تقول العرب، أي مولودٌ قبل أَوَانِ ميلاده.

الإخلاصان إذن (إخلاص الاعتقاد وإخلاص العمل) لهما منافع دنيوية، ومصالح عاجلة، وبناءً على ذلك، تترتب الأَجْزِيَةُ الأُخرَوِيّةُ.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين

Posted on Leave a comment

اجعلوا بيوتكم قبلة

رمضان والأسرة

لا يخفى ما للأسرة من دور في رعاية الأجيال الجديدة وتربيتها وتحقيق التوازن النفسي لأفرادها حتى يكونوا عوامل بناء وأساساً للاستقرار والنماء.  وإن كان هذا الدور مهما في المجتمعات المسلمة، فهو أشد أهمية وقوة في المجتمعات الغربية، حيث ندرة المحاضن التربوية وسطوة القيم المادية وغياب المعاني الإسلامية من الحياة الاجتماعية والمؤسسات التربوية.

وقد اعتبر غياب الأسرة عن مواكبة المناسبات الدينية وإحياء الشعائر الإسلامية سمة بارزة في أوربا لمدة طويلة، مما أضعف ارتباط الأجيال الجديدة بدينها واعتزازها بهويتها.  لذلك لابد من تدارك هذا الخلل وإيلاء هذا الجانب ما يستحقه من الاهتمام. فالأسرة يجب أن تكون المجال الأول للتربية والتعليم، وتعظيم شعائر الله، والمحضن الأساسي الذي تُرَبّى فيه الأجيال على العلم والتقوى وتحمل المسؤولية.

قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6].

وقال تعالى: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِٱلصَّلَوٰةِ وَٱصْطَبِرْ عَلَيْهَا).

وقال أيضاً: (وَٱجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ).

وقال رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم: {كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤول عَنْ رَعِيَّتِهِ} (متفق عليه).

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: { خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي } (رواه الترمذي وابن ماجه)

أفلا تهتم النفوس وتنشغل الهمم بفلذات أكبادٍ أُسْكِنت بوادٍ غيرِ ذي زرعٍ مِنْ هدايةٍ وإيمانٍ، فتعمل على تزويدها بما يحصنها من جدب الروح ويرويها من العطش إلى الإيمان؟

ولله در سيدنا إبراهيم عليه السلام فقد كان شديد الخوف على ولده، شديد الحرص على رعايتهم، شديد الشوق لهدايتهم رقيق القلب عليهم فدعا ربه فقال :

{ رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ

رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِن شَيْءٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء

رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء } (سورة إبراهيم 37-40)

ثم جعل منتهى أمله أن يكونوا في هذه الأرض الغريبة الجدباء مقيمي الصلاة، هداةً مهديين.

في رمضان؛ بيوتنا أسعد.

إن أشد ما يخلد في أذهان الأطفال من رمضان ويحببهم فيه، هو العادات الجديدة وأجواء البهجة والسعادة المرتبطة بها، لذلك لا بد من توفير هذه الأجواء في البيت، وأن يكون التعليم والتوجيه في جو من الألفة والسعادة، والحرص على اجتماع جميع الأسرة على أعمال وعبادات رمضان، وذلك عبر:

– تشريك كل أفراد الأسرة في إعداد برنامج عائلي قبل أن يهل هلال رمضان، على أن يتضمن: 

  • الاجتماع على الإفطار والسحور مع المحافظة على آدابهما وسننهما والتعاون على الإعداد لهما.
  • المحافظة على صلاة الجماعة والقيام.
  • حلقات علم وذكر .
  • برنامج ترفيهي جماعي.

2- إعداد رزنامة رمضان

هذه الفكرة مستقاة من البيئة الأوربية في البيوت والمدارس، وهي مجربة، وأثبتت تأثيراً كبيراً وأضفت جواً من السعادة والتشويق والاستفادة لدى الأطفال خصوصاً. وتقوم الفكرة على اقتناء ثلاثين هدية بسيطة وإعداد ثلاثين قصاصة تتضمن مواعظ وحكماً، وتوزع الهدايا والقصاصات على رزنامة من ثلاثين يوم، ويقوم أحد الأطفال كل يوم بفتح القصاصة وقراءتها على الجميع والحصول على الهدية. وحبذا لو يقوم الأطفال أنفسهم بكتابة المواعظ والحكم إن كان بمقدورهم ذلك، وليس هذا بمستبعد، فقد رأينا أطفالا مولودين في بلد أوربي وقد أعدوا رزنامة بمواضيعها وقصاصاتها، تدعو إلى الإعجاب.

– مراعاة عدم إزعاج الجيران من غير المسلمين عند السحور خاصة، وإعلامهم بقرب دخول رمضان وتعهدهم بالرعاية والهدية، تأليفًا لقلوبهم، ولجعل هذه المناسبة تترافق دائما بانطباعات إيجابية لديهم.

4- الحرص على أن لا يؤثر برنامج رمضان على انتظام الأطفال الدراسي وتحصيلهم العلمي. وتجنيب الأطفال دون البلوغ صيام الأيام الطويلة.

5- الاهتمام بيوم العيد عبر إعداد الزينة والهدايا، والقيام بنشاط خارجي لكل العائلة كالذهاب إلى المسجد إن أمكن، أو تناول الغداء في مطعم أو زيارة الأهل والأقارب. 

Posted on Leave a comment

فقه الأقليات المسلمة مع الشيخ خالد حنفي على «قناة ق»

في لقاء متلفز مع فضيلة الشيخ/ خالد الحنفي على «قناة ق» الفضائية، تناول الشيخ/ خالد الحنفي: دور السلطة الشرعية في وحدة كلمة المسلمين، في مناسباتهم الدينية والدنيوية، وأثر غيابها على المسلمين في بلادهم ومناطقهم.
وتحدّث أيضًا عن الوجود الإسلامي على الساحة الأوروبية، وكيف تشكّل بشكله الحالي، وكيفية اتباع المسلمين في أوروبا للمذاهب الفقهية وحفاظهم على المؤسسات الإسلامية المتمثلة في المسجد والذي بدوره يحافظ على هويتهم وارتباطهم ببلدانهم وأوطانهم الأصلية.
وأشار الشيخ إلى كيفية تعامل الحكومات والدول الأوروبية في الشأن الديني لعموم المسلمين في أوروبا، وعن نظرة الغرب للإسلام كدين ونظرتهم للمسلمين الذين يعيشون بينهم، وحدود سلطة المنظمات والمؤسسات الإسلامية على حكومات الدول الأوروبية.
شاهد اللقاء:

فقه الأقليات المسلمة مع الشيخ/ خالد الحنفي على «قناة ق»

Posted on Leave a comment

فقه الأقليات المسلمة مع الشيخ سالم الشيخي على «قناة ق»

في لقاء متلفز على قناة (ق) الفضائية تناول فضيلة الشيخ سالم الشيخي تعريف ماهية الأقليات المسلمة وأين يعيشون؟، وتعريف (الأقليّات) كمصطلح سياسي مًتعارفٌ عليه بين دول العالم من حيث الاختلاف في الدين والعرض أو اللون أو اللغة أو الثقافة أو الجنس.

كما تناول الشيخ كيف يتعامل المسلمون في أوروبا وبلاد الغرب مع القضايا اليومية العامة والخاصّة ورأي الشريعة الإسلامية فيها، وعلاقة الأقلية المسلمة مع غيرهم من أصحاب الديانات الأخرى.

وأشار الشيخ إلى كيفية اندماج المسلم في المجتمع الأوروبي بشكلٍ إيجابي بحيث لا يؤثر ذلك على انتمائه ودينه، ولا يؤثر على سلوكه وأخلاقه.

لمتابعة اللقاء يُرجى مشاهدة الفيديو ..

Posted on Leave a comment

رمضان في زمن التشبيك، والأجهزة المحمولة

كانت إدارات المساجد والمراكز الإسلامية في الديار الأوروبية، قبل عقود مضت، تنشغل بالردّ على اتصالات هاتفية أرضية لا تنقطع من مجتمعاتها المحلِّية المسلمة قبيل دخول شهر الصيام، وقبيل إتمامه، للاستفسار عن تحرِّي الهلال وبداية الشهر وانتهائه. كان المسجد أو المركز يمثِّل مركز الإرشاد الديني غالباً في العديد من المجتمعات المحلية المسلمة في أوروبا. لكنّ مركزية التلقِّي والتلقين شهدت تحوّلات جوهرية من بعد. فالجمهور الذي صار يحصل على المعلومة ذاتها عبر قنوات فضائية، ثم من خلال الشبكات ومنصّات التواصل، اقتدر تقريباً على تجاوز قسط وافر من الدور الإرشادي الوسيط للمسجد أو المركز الإسلامي في بعض المجالات، وإن تعدّدت الحالات والوقائع بطبيعة الحال ضمن المشهد المتنوّع لمسلمي أوروبا. يمكن اختبار هذا التحوّل في مسألة الفتاوى مثلاً، والدروس الإرشادية والوعظية أيضاً، التي تنفتح على خيارات متجاوزة للمكان والبيئة المحلية.

لهذا التحوّل مَظاهِرُه في العالم الإسلامي عموماً، فلا تُطلَب “الفتوى” من “علماء البلد” وحدَهم، بل يبحث بعضهم عن مُفتٍ مرغوب أو حتى عن فتوى مفضّلة، كحالِ خُطب جُمَعية ودروس وعظية يواكبها المهتمّون حسب تفضيلاتهم في الشاشات والشبكات دون اعتبار مَنشئِها المكاني تقريباً؛ ومن شأن هذا أن يضغط على البنى القِيَميّة والاختيارات الجامعة على نحو يحاكي الافتراق في أيام الصيام والفطر والأعياد تبعاً لاختلاف الأقوال والتقديرات والمعاينات والحسابات في مسائل المواقيت والأهلّة.

تسارعت التحوّلات التي تشهدها المجتمعات الإنسانية، تفاعلاً مع تطوّراتٍ كبرى في واقع الإعلام والاتصال والتشبيك والتقنيات. يتلقّى الجمهور اليوم مزيداً من المضامين من مصادر أكثر تنوّعاً، وبصفة متجاوزة للمكان كما لم يحدث من قبل، وصار الجمهور شريكاً في إنتاج المحتوى وتبادله عبر الشبكات الاجتماعية وتطبيقات التواصل. تعود هذه الحالة على المجتمعات بمكاسبَ وفُرصٍ وتفرض تحدِّيات أيضاً.

أدّت انسيابية المحتوى وتمدُّده عبر أوعية التواصل والإعلام والثقافة إلى تخطّي دور المؤسسة والمعلِّم، والمرشد والمربِّي والواعظ، وحتى الأسرة ذاتها. ومع تنامي خيارات التلقين والتلقِّي الذاتي لدى الجمهور؛ قد يستشعر الفرد فرصَته في الاستغناء عن وسطاء العلم والإرشاد والوعظ والتوجيه المباشرين في محيطه، وقد يزهد بهم أو يتعالى عليهم؛ ليلتحق بمن يراهم أجدر بالأخذ عنهم أو الانضمام إليهم بصفة غير مباشرة ينشأ معها نمط جديد من وشائج الرعاية والإلهام والتأسِّي، أو آصرة “الشيخ والمُريد”؛ نمط يقوم على الافتراق المكاني والنجومية المرئية مع التعالي على مراكز التوجيه التقليدية في مجتمعه.

تتعاظم خيارات الضخّ التواصلي؛ فعلاوة على تزاحم آلاف القنوات على الشاشة الرقمية؛ تتمدّد الشبكات بصفة هائلة شكلاً ومحتوى، وتضمّ في ذاتها تناقضاتٍ وتجاذباتٍ تستبطن التنوّع وتحفل بالاستقطابات، كما يتّضح، مثلاً، في وفرة هائلة من الإرشادات والفتاوى المتعدِّدة أو المتعارضة في كثير من المسائل، والتي يبعث بعضها على التِّيه والاضطراب بالنسبة لجمهور غير متخصِّص أو لا يملك أداة التمحيص.

كان الجمهور المسلم، أو بعضه بالأحرى، يسعى إلى المسجد القريب طلباً للإرشاد، وصار على إدارة المسجد أن تُولِي عنايةً خاصةً للوصول إلى الجمهور حيث هو، عبر ما يتوفّر لها من خيارات التواصل. تبقى وسيلة التواصل ذاتها فرصة أيضاً لتحقيق حالة مواكبة ومعايشة بين المسجد ومجتمعه المحلي، وما يتجاوزه أيضاً. فالمغزى هنا؛ أولوية الوصول إلى الجمهور بدل الاكتفاء بانتظاره.

وكما لا يصحّ بمؤسسات المجتمع ومرافقه أن تبقى على ما كانت عليه قبل عقود؛ فإنّ دور المسجد في مجتمعه يتجاوز الحضور المكاني المتمثِّل في دخول الجمهور أروقته الطاهرة. يجدُر مراعاة هذا المطلب، بالأحرى، في تواصل المسجد والمركز الإسلامي مع المجتمع عموماً على تنوّع مكوِّناته في المعتقدات والمشارب والأوساط والشرائح.

إنّ اتِّساع آفاق التلقِّي المتاحة للجمهور في المجتمع المسلم المحلي، يقتضي من الإمام والخطيب ومن القائمين على جهود الإرشاد والتعليم والتثقيف ضمن المساجد والمراكز الإسلامية في أوروبا العناية المتزايدة بالجودة والتميّز، إن أرادوا اجتذاب الجمهور وتعميم النفع في فضاء تواصلي متزاحم. ويفرض هذا، بطبيعة الحال، التزامات مضاعفة في المسؤولية عن المحتوى والأداء والتعبيرات. لا يقضي هذا بالاكتفاء بواسطة البث الشبكي للدروس المسجدية في هيئتها الأولى مثلاً، لأنّ الفرص المتاحة أوسع من هذا وأرحب، وتنويع أنماط المادة الإرشادية وقوالبها حاجةٌ يمليها الواقع التواصلي المتجدِّد. قد يتحقّق القياس الميسّر لأداء إدارة المسجد في هذا الشأن بالنظر إلى منسوب المخاطبة المجتمعية القائمة في مرافق المجتمع الأخرى وهيئاته على تنوّعها، مع تحفيز الأخذ بما يستجدّ من خبرات وفنون في هذا الباب. من الخطأ الاقتصار في هذا المقام على تطوير الأدوات التقنية وإعفاء مضامين الخطاب وكيفيات المخاطبة من التمحيص والتحسين والمعالجة الحكيمة.

قد يشقّ المسعى على إدارة المسجد إن لم تجد ما يُسعفها من الخبرات والموارد اللازمة لبعض هذا، لكنّ فرصتها المؤكدة تتمثّل في إدماج جمهورها في إنتاج المحتوى وتطويره وتبادله. إنّ ضمان تفاعل الجمهور، المباشر منه وغير المباشر، كفيل – بعون الله – بإحداث نقطة تحوّل أو قفزات نوعية في الجهود التواصلية للمسجد والمركز في زمن التشبيك والأجهزة المحمولة. إنّ “المسجد الافتراضي” – إن جاز التعبير – يتيح معايشة واقعية أيضاً؛ بما يتأتّى له من اقتدار على بلوغ أوساط لم يكن منبر المسجد ببالغها من قبل.

ومن مقوِّمات الامتياز أن تتهيّأ للمسجد شراكاتٌ وأواصر يتعاون فيها مع مساجد ومراكز وهيئات وجمعيات وتشكيلات مجتمعية من المسلمين وغير المسلمين، تلتقي على كلمة سواء، ولا شكّ أن موسم رمضان المبارك يختزن فرصاً واعدة ومتجدِّدة في هذا الحقل.

غنيّ عن البيان أنّ موسم رمضان المبارك واقع يتجلّى في الشبكات الاجتماعية وتطبيقات التواصل أيضاً، ومن شأن هذا أن يُنعِش النشاطات المسجدية التي تسعى على بصيرة إلى معايشة الشهر الفضيل في أوساط المسلمين وغيرهم. يَسَعُ المساجدَ والمراكزَ الإسلاميةَ، مثلاً، أن تُطلق مسابقات تشجِّع الجمهور على التعبير عن الرُّوح المتألِّقة والرسائل النبيلة والقيم السامية التي يجدونها في أيام رمضان ولياليه، بمضامين مبثوثة في مواقع التواصل وتطبيقاته، أو أن تحفِّز خوض تحدّي المبادرة الإيجابية كي يتنافس المتنافسون في حقل مخصوص من حقول الخير والبرّ والتواصل والتضامن.

تتحقّق المعايشة المسجدية في الزمن التواصلي الجديد بخيارات تفاعليّة غير مسبوقة أيضاً، وهذا يقتضي حسّ مبادرة وروح إبداع يختزنه جمهور المسجد؛ وهذا ممّا يجدر التنقيب عنه واستثماره على أحسن وجه.

جدير بالنظر أنّ نشاط المسجد في إحياء رمضان صار مع الفرص التواصلية المستجدة نشاطَ المجتمع وما يتجاوزه، وإغفال هذه الفرصة السانحة تحجيم للأداء وتضييقٌ لواسع.

طوى زمنُ التشبيك والأجهزة المحمولة مركزيةَ البثّ والتلقين، وأحادية الاتجاه في المخاطبة، فالواقع المستجد يضع الجمهور في مركز الحالة التي تقوم على تفاعلية متبادلة يجدر الاعتراف بها والتكيُّف معها، واستيعاب النّقد الذي يرتفع منسوبه وتشتدّ تعبيراته عبرها، ومن شأن هذا أن يحفِّز العناية بالإتقان في الحضور والأداء والتصرّف؛ في العمل المسجدي وسواه من المجالات المجتمعية. تستثمر الإدارات الحاذقة الشبكات الاجتماعية وتطبيقات التواصل في استشعار آراء جمهورها وتفضيلاته لأجل التطوير المستمرّ؛ الذي لا غنى لأي إدارة رشيدة عنه، مع السعي إلى تكييف المخاطبة بما يتحرى خصوصية بعض الفئات والشرائح والأوساط.

إنْ لم تُنجِز إدارات المساجد والمراكز تجربة التحوّل الشبكي بمقاصدها الحسنة ومواصفاتها اللائقة، مع التجديد المستمرّ في هذا المضمار المتجدِّد؛ فإنّ فرصتها وإن تأخّرت تبقى قائمة؛ إن عزمت على اللّحاق وسَعَتْ إلى الاستباق، فمزيد من الآفاق التواصلية تنفتح عاماً بعد عام، أو مع كل موسم رمضانيّ بالأحرى.

Posted on

سلم خماسي للظفر بالميدالية الذهبية

يتراءى لي أن الناس كلهم ـ أي المسلمين منهم ـ في حالة سباق وتنافس ومسارعة في رمضان ليس إلى الجنة فحسب بل إلى الظفر بالميدالية الذهبية الأولى ولعلّ ما يأتي يساعد على ذلك

أوّلا : لزوم صلاة الجماعة التي تفضل صلاة الفذّ بزهاء ثلاثين درجة كاملة والأمر هو بالتمام والكمال كمن يعرض عليه مؤجّر عملا يقبض فيه يورو واحدًا (في ساعة عمل في حين أن مؤجّرا آخر يعرض عليه العمل ذاته بسبع وعشرين يورو في الساعة الواحدة. هل يتردد هذا الأجير طرفة عين واحدة؟ طبعا لا. لأنه اشتغل على العملية اشتغالًا مقاصديا منفعيا ربحيا وذلك هو المطلوب

ثانيا : دع الناس يصومون شهرا واحدا وصم أنت شهرين بل ثلاثا وخمسا وأكثر، كيف ذلك؟ حبيب الأمة محمد عليه السلام يسّر الأمر إذ قال «من فطّر صائما كان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجر الصائم شيئًا، معنى ذلك هو أن من فطّر صائما بأي صورة من صورة التفطير، لو كانت عن بعد من خلال جمعية إغاثية، فإنه يحصد أجر صيام ذلك اليوم الذي صامه ذلك الرجل الذي فطّره ولكن يحتفظ ذلك الصائم بأجره، أليس معنى ذلك أنه يمكن لكل واحد منا أن يصوم شهرين أو أكثر من ذلك بقدر ما يفطّر من صائمين وصائمات في هذا الشهر وإن كان الحديث لا يقصر على رمضان فحسب؟

ثالثًا: لا تفوتنك أغلى ساعة: ساعة السحر، لحكمة ثمينة أثنى سبحانه مرتين فحسب في كتابه العزيز على المستغفرين بالأسحار إذ قال: «والمستغفرين بالأسحار» وقال: «وبالأسحار هم يستغفرون» ذلك هو أغلى زمان إذ فيه ينزل فيه الله سبحانه إلى السماء الدنيا فيقول هل من مستغفر فأغفر له، فمن فاته أوّل الليل فلا يفوتنه سحره.

رابعًا: نبذ أكبر ناقض للصوم منذ الآن، مما ينقصنا في هذا الزمان كتب فقه ترشد القلوب وتزكي النفوس وتطهر الأرواح إذ أن الناس كلهم ينصرفون إلى كتب الفقه التي تبين الكيفيات والصور وهذا مهم ومطلوب ولكنه لا يكفي، أخبرنا عليه السلام محذّرا أن ناقضا للصيام قد يحول دون قبول صومنا وهو حالة الصرامة بين الناس إذ قال عليه السلام «تُعرض الأعمال يومي الإثنين والخميس على الله سبحانه فيغفر لكل مؤمن لا يشرك بالله شيئا إلا متشاحنين يقول لملائكته: أنظروهما حتى يصطلحا» أي أن أعمال الصيام تظل معلقة حتى يصطلح المتشاحنون وحدّه الأدنى هو إفشاء السلام وردّه ولو بحركة الإبهام التي يحيي به الناس بعضهم بعضا اليوم.

خامسا: لا مناص من التدبّر في كتاب القرآن في شهر القرآن، لا ريب أننا دُعينا إلى الصوم في رمضان بسبب أنه الشهر الذي احتضن نزول هذا الكتاب فيكون صيامنا فيه إذن تكريما لهذ الزمان الذي تشرّف بالذكر الحكيم.

يتنافس الناس سيما في رمضان على التلاوة، والحقيقة أن التلاوة ليست مقصودة لذاتها إنما قصد بها التدبر ومن ذا فإن تلاوة واحدة كاملة لهذا الكتاب العزيز متدبرة متأنية متريثة خاشعة فيها النظر والتأمل لهي أجزل أجرا وأعظم ذخرا من تلاوات كثيرة لا يظفر منها القلب بشيء.

Posted on Leave a comment

رمضان جديد، فرص جديدة

في غمرة تَلَوُّنِ الحياة وتقلُّبها وكثرة الانشغالات وتعددها، يتجدد علينا شهر الصيام عاماَ بعد عامٍ ليفتح لنا أبوابا جديدة نحو التأمل وإعادة ترتيب الأولويات، والتزود بخير الزاد لسائر الأيام وبقية الأوقات .

ولا شك أن ظروف جائحة كورونا اليوم تفرض على المسلمين تحدياتٍ جديدةً وحلولاً إبداعيةً في كيفية الاستفادة من هذا الشهر العظيم، فإذا تعذرت بعض مظاهر إحياء شعائر رمضان بسبب غلق المساجد وامتناع الاجتماع، فإن الله سبحانه وتعالى قد يسر لنا من السبل والوسائل الأخرى ما يبلّغنا به مقصد التقوى ومبلغ الهداية، وذلك من رحمة الله ومرونة التشريع.

بل إن ظروف هذا الوباء قد لفتت الانتباه إلى مجالات كانت غائبة، وقطاعات كانت مهملة في مواسم الخيرات السابقة. فالبيوت صارت معتكفاً للإيمان وإطاراً لدروس العلم وحلقات الذكر العائلية، والأبناء صار لهم النصيب الأوفر من العناية والتوجيه الرمضاني. كما أقبل الأئمة والدعاة على وصل ما انقطع من حبل التواصل بالمصلين عبر شبكات التواصل الاجتماعي وغرف الاجتماع عن بعد.

وإن كانت هذه الحلول، على أهميتها، لا يمكن أن تعوضنا عن بهجة المساجد العامرة في رمضان بالذكر والصلاة والقيام، ومتعة برامج الإفطار الجماعي، فإنها من باب أداء المتاح والقيام بأقل الواجب، فما لا يُدرَكُ كلُّه لا يُترَكُ جُلُّهُ.

ونحن ننطلق اليوم من تجربة ثرية في السنة الماضية، حقّقنا فيها أقداراً مهمة من التأقلم مع ظروف الإغلاق العام، وسيطرة أجواء الجائحة.

فما هي الحلول التي تيسّر الاستفادة القصوى من شهر الصيام لهذه السنة، وبخاصة في البيئة الأوربية؟

توصيات مهمة في رمضان

  • احرص أن يكون رمضان محطة محاسبة وتقويم، وتصحيح لحياتك. سارع إلى التوبة.
  • التزم بقرارات الهيئات الدينية في بلدك في دخول رمضان وخروجه، وفتاوى الصيام، وحافظ على صلتك بمسجدك عبر البرامج التي ينظمها.
  • محنة الوباء والحجر تحمل معها منحة الاجتماع بالعائلة على الصيام والقيام والعناية بها، وتعَهُّد الأهل بالرعاية والتعليم، فلا تفرّط في هذه الفرصة.
  • احذر الإسراف في الأكل أو النوم، أو استعمال الأجهزة في رمضان. قال تعالى: «إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ»
  • تفقد إخوانك وجيرانك، فلعل فيهم المهموم أو المحتاج، واعلم أن رمضان شهر المواساة.
  • إن كنت من العاملين في قطاعات الصحة أو الخدمات العامة لمواجهة الوباء، فاعلم أن جهدك في رمضان أعظم أجراً عند الله، فاغتنم واحتسب، فقد حباك الله بمكرُمتَين.
  • اعلم أن هذا الشهر المبارك ضيفٌ راحل، فأحسن ضيافته، فالعمر قصير، والزاد قليل، والعقبة كؤودٌ، فاغتنم منه، فإنه لا يعود إلى يوم القيامة.

اجعلوا بيوتكم قبلة

لا يخفى ما للأسرة من دور في رعاية الأجيال الجديدة وتربيتها، وتحقيق التوازن النفسي لأفرادها حتى يكونوا عوامل بناءٍ، وأساساً للاستقرار والنماء. وإن كان هذا الدور مهما في المجتمعات المسلمة، فهو أشد أهمية وقوة في المجتمعات الغربية، حيث ندرة المحاضن التربوية، وسطوة القيم المادية، وغياب المعاني الإسلامية من الحياة الاجتماعية والمؤسسات التربوية.

وقد اعتُبِرَ غيابُ الأسرة عن مواكبة المناسبات الدينية وإحياء الشعائر الإسلامية سِمةً بارزة في أوروبا لمدة طويلة، مما أضعف ارتباط الأجيال الجديدة بدينها واعتزازها بهويتها. لذلك لا بد من تدارك هذا الخلل، وإيلاء هذا الجانب ما يستحقه من الاهتمام. فالأسرة يجب أن تكون المجال الأول للتربية والتعليم، وتعظيم شعائر الله، والمحضن الأساسي الذي تُرَبَّى فيه الأجيال على العلم والتقوى وتحمل المسؤولية.

قال تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ” [التحريم: 6]

وقال تعالى: “وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِٱلصَّلَوٰةِ وَٱصْطَبِرْ عَلَيْهَا”

وقال أيضاً: “وَٱجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ”

وقال رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم: “كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤول عَنْ رَعِيَّتِهِ” (متفق عليه)

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي” (رواه الترمذي وابن ماجه).

أفلا تهتم النفوس وتنشغل الهمم بفلذات أكبادٍ أُسْكِنت بوادٍ غيرِ ذي زرعٍ مِنْ هدايةٍ وإيمانٍ، فتعمل على تزويدها بما يحصنها من جدب الروح ويرويها من العطش إلى الإيمان؟ ولله درُّ سيدنا إبراهيم عليه السلام، فقد كان شديد الخوف على ولده، شديد الحرص على رعايتهم، شديد الشوق لهدايتهم، رقيق القلب عليهم، فدعا ربه فقال:

“رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ.

رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِن شَيْءٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء.

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء.

رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء” [سورة إبراهيم: 37-40].

ثم جعل منتهى أمله أن يكونوا في هذه الأرض الغريبة الجدباء مقيمي الصلاة، هداةً مهديّين.

في رمضان .. بيوتنا أسعد

إن أشد ما يخلد في أذهان الأطفال من رمضان ويحببهم فيه، هو العادات الجديدة وأجواء البهجة والسعادة المرتبطة بها، لذلك لا بد من توفير هذه الأجواء في البيت، وأن يكون التعليم والتوجيه في جو من الألفة والسعادة، والحرص على اجتماع جميع الأسرة على أعمال رمضان وعباداته، وذلك عبر:

  • إشراك كل أفراد الأسرة في إعداد برنامج عائلي قبل أن يُهِلَّ هلالُ رمضان، على أن يتضمن: 
  • الاجتماع على الإفطار والسحور، مع المحافظة على آدابهما وسننهما، والتعاون على الإعداد لهما.
  • المحافظة على صلاة الجماعة والقيام.
  • حلقات علم وذكر
  • برنامج ترفيهي جماعي
  • إعداد رزنامة رمضان

هذه الفكرة مستقاة من البيئة الأوربية في البيوت والمدارس، وهي مجرّبة، وأثبتت تأثيراً كبيراً وأضفت جوًّا من السعادة والتشويق والاستفادة لدى الأطفال خصوصاً. وتقوم الفكرة على اقتناء ثلاثين هدية بسيطة، وإعداد ثلاثين قصاصة تتضمن مواعظ وحكماً، وتوزع الهدايا والقصاصات على رزنامة من ثلاثين يوما، ويقوم أحد الأطفال كلّ يومٍ بفتح القصاصة وقراءتها على الجميع والحصول على الهدية. وحبذا لو يقوم الأطفال أنفسُهم بكتابة المواعظ والحكم إن كان بمقدورهم ذلك، وليس هذا بمستبعد، فقد رأينا أطفالا مولودين في بلدٍ أوربيٍّ وقد أعدوا رزنامة بمواضيعها وقصاصاتها، تثير الإعجاب.

  • مراعاة عدم إزعاج الجيران من غير المسلمين عند السحور خاصة، وإعلامهم بقرب دخول رمضان وتعهدهم بالرعاية والهدية، تأليفًا لقلوبهم، ولجعل هذه المناسبة تترافق دائما بانطباعات إيجابية لديهم.
  • الحرص على ألا يؤثر برنامج رمضان على انتظام الأطفال الدراسي وتحصيلهم العلمي. وتجنيب الأطفال دون البلوغ صيام الأيام الطويلة.
  • الاهتمام بيوم العيد عبر إعداد الزينة والهدايا، والقيام بنشاط خارجيٍّ لكل العائلة، كالذهاب إلى المسجد إن أمكن، أو تناول الغداء في مطعم أو زيارة الأهل والأقارب.

رمضان معراج النفس إلى الله

إن الاهتمام بالمناشط الجماعية والبرامج العائلية لا يمكن أن يحجب عنا الفرصة العظيمة في رمضان للرقي بالنفس وإصلاح الحال. إنّ رمضان، بالإضافة إلى كونه مناسبة اجتماعية تعمق الشعور بالانتماء والشراكة مع بقية المؤمنين في شرائع وشعائر واحدة، والإحساس بهموم المحرومين من الناس، فإنه مجال رحب لكل مسلم، يعيش فيه تجربة شخصية ربما لا يشاركه فيها أحد. لذلك فإن محطات من الخلوة وساعات من التهجد وعلاقة خاصة بالقران الكريم في هذا الشهر العظيم، تُعدُّ معياراً لحسن الاستفادة منه في تحقيق التوازن وبناء طاقة إيجابية تكون زاداً لسائر أيام السنة، وتسهم في رقيّ الفرد والمجتمع.

لذلك من المهم، إلى جانب البرنامج العائلي، أن يكون لكل فرد في الأسرة – وبخاصة الأبناء – برنامجٌ فرديٌّ يتناسب مع ظروفه والتزاماته، ويتوافق مع ميوله وحاجاته.

رمضان شهر القرآن

مع انتشار التقصير في رعاية القرآن في حياتنا، وهجره من قبل أبنائنا، صار شهر رمضان المحطة السنوية الأهمّ لترميم هذا النقصان، وتدارك هذا الهجران، ولا غرابة في ذلك، فإن الله تعالى يفتح قلوب المؤمنين في رمضان إلى القرآن الكريم، فيشتد تعلقهم به، تلاوةً وحفظاً وتأملًا وتدبراً.

ورمضان والقرآن صِنوانِ لا يفترقان في كتاب الله وحياة رسول الله صلى اللَّهَ عليه وسلم، ووجدان المسلمين على امتداد العصور.

  • ففي رمضان أنزل القرآن: “شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان” [البقرة: 185]
  • وفي أعظم ليلة فيه، أُنزِل إلى بيت العزة جملةً واحدةً، قال تعالى: “إنا أنزلناه في ليلة القدر” [القدر:1]. وقال تعالى: “إنا أنزلناه في ليلة مباركة” [الدخان: 3].
  • بل إن كل الكتب السماوية كلها أُنزِلت في رمضان، قال صلى الله عليه وسلم: “أُنزلت صُحفُ إبراهيم أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة لِسِتٍّ مضت من رمضان، وأنزل الإنجيل لثلاث عشرة مضت من رمضان، وأنزل الزبور لثمان عشرة خلت من رمضان، وأنزل القرآنُ لأربع وعشرين خلت من رمضان” [حسنه الألباني في صحيح الجامع].
  • والصيام والقرآن شفيعان. قال صلى الله عليه وسلم: “الصِّيَامُ وَالْقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ الصِّيَامُ: أَيْ رَبِّ، مَنعْتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّهَوَاتِ بِالنَّهَارِ، فَشَفِّعْنِي فِيهِ، وَيَقُولُ الْقُرْآنُ: مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ، فَشَفِّعْنِي فِيهِ. قَالَ: فَيُشَفَّعَانِ”. (أخرجه أحمد).
  • لذلك كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ. (أخرجه البُخَارِي)
  • و”كان السلف يتلون القرآن في شهر رمضان في الصلاة وغيرها”. وكان قتادة يختم القرآن في كل سبع ليال مرة، فإذا جاء رمضان ختم في كل ثلاث ليالٍ مرة، فإذا جاء العشر ختم في كل ليلة مرة” (ابن رجب/ لطائف المعارف ص 191).

وكان النخعي يفعل ذلك في العشر الأواخر منه خاصة، وفي بقية الشهر في ثلاث” (لطائف المعارف ص 191). وكان مالكٌ إذا دخل رمضان نفر من قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم، وأقبل على تلاوة القرآن من المصحف، وقال عبد الرزاق: كان سفيان الثوري إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة وأقبل على تلاوة القرآن.

وكانت عائشة رضي الله عنها تقرأ في المصحف أول النهار في شهر رمضان، فإذا طلعت الشمس نامت. وهكذا كان حال السلف رضوان الله عليهم من الصحابة والتابعين ومن اتبع سبيلهم، يتخذون من شهر رمضان محطةً لتلاوة القرآن وتدبره وتعلم أحكامه. ورغم أنهم كانوا أشد الناس حرصاً على التعلق بكتاب الله في سائر الأيام، فإنهم كانوا أشد حرصاً وأكثر اجتهاداً في شهر رمضان، وهذا حال المسلم الحقيقي، يحذر من أن يكون ممن ذمهم الله تعالى في قوله تعالى: “وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً” [الفرقان:17].

وهِجرانُ القرآن قد يكون طوال العام أو بعضاً منه،

وقد يكون هجران تلاوةٍ أو تدبرٍ أو عمل، وقد يكون كل ذلك والعياذ بالله.

لذلك يُعتبرُ رمضان محطةً سنويةً لتجديد العهد مع القرآن، والاستزادة من مَعِينِهِ وتدارك النقص في تلاوته وتدبره والعمل به.

وحبذا لو يكون ختم القرآن في هذا الشهر عنصراً قارّاً في برنامج كل فرد في الأسرة. ومن الملاحظ أن كثيرا من الناس، وبخاصة الأطفال والشباب، يعجز عن ختم القران خلال الشهر نظراً للارتباط بالتزامات مدرسية أو مهنية، لذلك يمكن تشجيعهم على أن يبدؤوا ختمة رمضان في شعبان ليتوافق ختمه مع العشر الأواخر منه.

برنامجٌ نموذجيٌّ ليومٍ رمضانيٍّ

  •  صلاة الفجر جماعة مع الأهل، ثم تسبيح ودعاء، وتلاوة ربع حزب من القرآن.
  • صلاة الظهر جماعة، ثم تلاوة نصف حزب.
  • صلاة العصر جماعة، ثم درس يومي في الفقه أو السيرة أو غيرها.
  • تلاوة ربع حزب قبل المغرب، والحرص على الأجواء الروحية عبر تشغيل ابتهالات أو مأثورات المساء أو غيرها أثناء الإعداد للإفطار.
  • الإفطار على اللبن والتمر، ثم صلاة المغرب.
  • صلاة العشاء والتراويح جماعة، يتخلّلها ذكر وتسبيح وموعظة قصيرة.
  • تلاوة حزب قبل النوم.
  • الاستيقاظ قبل الفجر، وصلاة ركيعات.
  • السحور.
  • تجديد نية الصيام، وكثرة الدعاء والابتهال.   


Posted on Leave a comment

الإمّعية الإلكترونية: ما هي؟ وكيف نتجنّبها؟

من أكبر المخاطر التي تهدد مجتمعاتنا العربية، هو هذه الانتكاسة المتمثلة في غياب “الموازين ”  !

اسأل رجل الشارع، أو السياسي، أو المنشغلين بالشريعة والثقافة، بل سَلْ نفسك:

 من أين تستقي معلوماتك، عن الأحداث من حولك؟ من أين تستمد أحكامك على الأفكار والأقوال والأفعال؟ كيف تبني مواقفك من الهيئات والرجال؟

ما هو الميزان الذي تزن به الحقائق، والعين التي ترى بها الأشياء والمسطرة التي تقيس بها المسافات بين الخطأ والصواب والصدق والكذب والنافع والضار؟

قد تجد جوابا عاما، لكن لا ترى له أثرًا حقيقيًا على أحكام الفرد .

لقد ذمَّ النبيُ صلى الله عليه وسلم شريحةً من المجتمع، عطّلت عقلَها وسلّمت قِيادَها للموازين ” الشعبوية “، وسمى الرسولُ هذه الشريحة “إمّعات “!!

والإمّعة الذي ذمه الرسول صلى الله عليه وسلم هو ” الإمعة المُجتمعي” الذي لا ميزان له ولا بوصلة ولا ” طارقة “، بل هو مع التجمّعات القَبَلية أوالحِزبية، أو الفكرية؛ يُحسِن إن أحسنَ الناسُ، ويسيءُ إن أساءَ الناسُ!

 يوجد في فراغنا نماذج كثيرة  من الإمّعيات !

 فهناك الإمّعية المذهبية والإمّعية الحزبية والإمّعية الطائفية والإمّعية المشيخية، و

لكننا اليوم أمام ظاهرةٍ أشدُ خطراً وأخفى ضررا، ألا وهي ” الإمّعية الإلكترونية” المتمثلة في ابتلاع واتباع ما تُلقيه إلينا وسائل التواصل الاجتماعي والقنوات الفضائية، عبر برامجها الفارغة المُدججة بالمال، والتي تخلو عادة من سياسة إعلامية راشدة ومعايير إدارية صارمة، بل تُدار وفق أمزجة وأهواء المدير، الذي يقتصر دوره الأكبر في تنفيذ سياسة ولي النعمة و الممول الخفي … 

في عصور حضارة الإسلام، كان القرآن الكريم والعقل السليم والعرف القويم، الميزان الأعلى الذي توزن  به الاقوال والأعمال والمواقف والرجال، ويُميّز به الخطأ من الصواب، والصادق من الكذّاب!

فما هو ميزاننا اليوم؟

اليوم يمكن للكذب أن يكونَ صدقاً، وللخائن أن يكونَ أميناً، وللمخبول أن يكون شيخاً، وللص أن يكونَ وزيرا، وللسفّاح أن يكونَ بطلاً، وللجاهل أن يكونَ مرشدًا.

كل ما تحتاجه هذه الأصناف لقلب موازين الناس؛ هو سياسة إعلامية تشرف عليها قنوات محلية وعربية، وصفحات مدعومة تقف خلفها أقلام مأجورة.

لقد راجت هذه البضائع الفاسدة الكاسدة، نظرا لغياب ” الميزان “ فصادفت قلوباً تتجاذبها الأهواء وعقولا سكنتها الأدواء!

والحل :

هو أن يبدأ قارئ التدوينة بخاصة نفسه أولاً، ويعيد وزنَ الأشياء من حوله بالموازين التي شرّفه اللهُ تعالى بها.

فوالله لا يكاد ينجو من هذه الإمّعية المعاصرة أحد !

Posted on

حتى لا يكون الهلال فتنة

هذا الدين؛ الإسلام، سلاح ذو حدّين أي أنه يضل الله بكتابه -القرآن الكريم – من شاء ويهدي به من شاء، يضل به الذين يقبلون عليه بكبر ويهدي به المؤمنين الممتلئين تواضعا وهو هو قرآن كريم لا يتبدل ولا يتغير وذلك يعني أن العبرة بجهاز الاستقبال أما جهاز البثّ فهو ينبع من الحكمة بل من مشكاة الخير.

هذا الدين عندما تأبطه أقوام في السالف تأبطا بليدا إذ قلبوا سلّمه التفاضلي فقدموا المؤخّر وكبّروا الصغير فإنهم ضلوا مروقا من الدين كما يمرق السيف من الرمية وهو الدين ذاته عندما التزمه آخرون فوق الأرض ذاتها وفي الأيام نفسها بإحسان وبصيرة فإنهم كانوا هداة تقاة. تطل علينا «فتنة الهلال» مع مطلع كل رمضان جديد وشوال جديد، يوريها غلمان ضمر علمهم أو وكّلوا من لدن غيرهم لتصريم صف الأمة الذي إمّا أن يكون واحدا حتى وهو متنوع متعدد وإما فلا أمّة تستحق الحياة والهيبة بدونه.

في حياض تلك الخوضات ينسى بعضنا أن الحديث الشريف جاء بوسائل ثلاث لتحديد دخول أي شهر قمري وينسى بعضنا كذلك أنها وسائل مختلفة لمقصد واحد، المقصد الذي ما ينبغي لنا سوى الاجتماع عليه متكافلين هو صيام رمضان شعيرة دينية لها أحكامها القليلة وحكمها الغزيرة، أرشد الحديث النبوي إلى وسائل ثلاث هي: الرؤية سواء بالعين المجردة أو بالآلة المعاصرة والتقدير وهو التزام الضبط العلمي وقد علّم الله البشرية اليوم ما لم تتعلم في سالفات الأيام وإكمال عدة شعبان ثلاثين.

يقول صلى الله عليه وسلم في كل مرّة: فإن غمّ عليكم، يخاطب أمة لا شأن لها في تلك الأيام بالتقدير الفلكي، أظن أنه على الأئمة أن يعلموا الناس أنها وسائل ثلاث لتحقيق مقصد واحد وأن الوسائل تتغير ولكن المقصد الواحد يظل ثابتا لا يتغير وأن هذه الأمة مبناها سقف واحد لا يهدم وأديم واحد لا ينقض وبين ذلك السقف وهذا الأديم تعتلج الاختلافات والتنوعات والتعدديات لتقوم كلها شاهدا أعظم على أن المتفرد بالوحدة ومن ليس كمثله شيء سبحانه إنما هو الله وحده سبحانه وما عداه مختلف متعدد متنوع وأن قيمة التنوع لمّا تكون تحت ذلك السقف وهذا الأديم فإنها قيمة إيجابية بها عمل الصحابة الكرام وأن الصف الواحد للأمة التي يتربص على تخومها الأعداء أولى من الاختلافات الجزئية والأمر شبيه بطرائق العلماء قديما في تحقيق التنزيه الإلهي فمنهم من لزم التفويض ومنهم من لزم التأويل ومنهم من لزم الإثبات وكلهم رائم روما صادقا التنزيه الإلهي الكامل.

لقد تشرّب الصحابة هذا عندما أوفدهم عليه السلام إلى بني قريظة من بعد الفراغ من الخندق فاختلف بعضهم مع بعض في صلاة العصر إذ أوشكت الشمس على الاصفرار أو المغيب فتأوّل بعضهم حديثه بطريق فصلّى العصر وتأوّل الآخرون ذلك بطريق آخر فلم يصلّ العصر ولكن ظلوا صفا واحدا في مواجهة الحلف الغادر وأقرهم عليه السلام جميعا على تأوّلاتهم، فليكن الهلال لنا طالع يمن يوحد الصف لا فتنة.

Posted on Leave a comment

رمضان والمسلمون الجدد

لا يكاد يمر يوم في أوربا دون أن يفتح الله قلوب بعض عباده من الأوربيين إلى الدخول في الإسلام، والتحلي بآدابه والتعلق بأحكامه. غير أن هؤلاء المهتدين الجدد يعانون غالباً  في بداية حياتهم الجديدة ازدواجية الانتماء إلى عالمين، وينتابهم القلق مما يحمله لهم عالمهم الجديد، والخوف من العزلة في عالمهم القديم. فقد أكد لنا كثير منهم أن أشد ما يشغلهم بعد خطوة إعلان الإسلام أمران :

 الأول  هو مصير علاقاتهم الاجتماعية القديمة، وأواصرهم العائلية.

 والثاني: مدى قدرتهم على فهم وتطبيق التكليفات الدينية الإسلامية واحتمال تأثيرها على أعمالهم والتزاماتهم الوظيفية.

ويأتي في طليعة هذه التكليفات الصيام، حيث يعتبر أول رمضان في حياة المهتدي محطة فارقة تمتزج فيها مشاعر متباينة، وقد يجد فيها صعوبة في التأقلم.

فهذه إحدى الأخوات المهتديات تقول إنها كانت متخوفة من صعوبة الصوم في أول رمضان لها سنة 2019، وأن الأكل في ساعة متأخرة ثم الاستيقاظ للسحور وصلاة الفجر كان شاقاً عليها جداً وأثر على أدائها في العمل؛ كما قالت آنها شعرت بأنها ازدادت انعزالاً في رمضان، فهي لا تشارك زملاءها في العمل فترة استراحة الفطور كما اعتادت من قبل، وتفطر وحدها مساءً بسبب تأخر وقت المغرب.

إن كلام هذه الأخت يحتم علينا النظر في الوسائل الكفيلة بمساعدة هؤلاء المقبلين الجدد على هذا الدين، بعد أن فارقوا عاداتهم ومألوفاتهم وضيقوا من حدود علاقاتهم القديمة، حتى يكون الإسلام نافذة جديدة نحو السعادة والسلام النفسي والشعور بالجماعة الحاضنة والأخوة الحانية.

ومن التجارب التي تأكدت نجاحتها في احتضان المسلمين الجدد في رمضان:

  • إقامة إفطارات جماعية خاصة بهم.
  • تنظيم لقاءات بين الجدد وأصحاب الخبرة من المهتدين لتبادل الخبرات وتذليل العقبات.
  • إقامة دورات علمية في فقه الصيام.
  • ربط كل مهتدٍ جديد بعائلة مسلمة تكون راعية ومرجعاً له فيما يستشكل عليه، ويشهد معها الإفطار أحيانا.