في غمرة تَلَوُّنِ الحياة وتقلُّبها وكثرة الانشغالات وتعددها، يتجدد علينا شهر الصيام عاماَ بعد عامٍ ليفتح لنا أبوابا جديدة نحو التأمل وإعادة ترتيب الأولويات، والتزود بخير الزاد لسائر الأيام وبقية الأوقات .
ولا شك أن ظروف جائحة كورونا اليوم تفرض على المسلمين تحدياتٍ جديدةً وحلولاً إبداعيةً في كيفية الاستفادة من هذا الشهر العظيم، فإذا تعذرت بعض مظاهر إحياء شعائر رمضان بسبب غلق المساجد وامتناع الاجتماع، فإن الله سبحانه وتعالى قد يسر لنا من السبل والوسائل الأخرى ما يبلّغنا به مقصد التقوى ومبلغ الهداية، وذلك من رحمة الله ومرونة التشريع.
بل إن ظروف هذا الوباء قد لفتت الانتباه إلى مجالات كانت غائبة، وقطاعات كانت مهملة في مواسم الخيرات السابقة. فالبيوت صارت معتكفاً للإيمان وإطاراً لدروس العلم وحلقات الذكر العائلية، والأبناء صار لهم النصيب الأوفر من العناية والتوجيه الرمضاني. كما أقبل الأئمة والدعاة على وصل ما انقطع من حبل التواصل بالمصلين عبر شبكات التواصل الاجتماعي وغرف الاجتماع عن بعد.
وإن كانت هذه الحلول، على أهميتها، لا يمكن أن تعوضنا عن بهجة المساجد العامرة في رمضان بالذكر والصلاة والقيام، ومتعة برامج الإفطار الجماعي، فإنها من باب أداء المتاح والقيام بأقل الواجب، فما لا يُدرَكُ كلُّه لا يُترَكُ جُلُّهُ.
ونحن ننطلق اليوم من تجربة ثرية في السنة الماضية، حقّقنا فيها أقداراً مهمة من التأقلم مع ظروف الإغلاق العام، وسيطرة أجواء الجائحة.
فما هي الحلول التي تيسّر الاستفادة القصوى من شهر الصيام لهذه السنة، وبخاصة في البيئة الأوربية؟
- احرص أن يكون رمضان محطة محاسبة وتقويم، وتصحيح لحياتك. سارع إلى التوبة.
- التزم بقرارات الهيئات الدينية في بلدك في دخول رمضان وخروجه، وفتاوى الصيام، وحافظ على صلتك بمسجدك عبر البرامج التي ينظمها.
- محنة الوباء والحجر تحمل معها منحة الاجتماع بالعائلة على الصيام والقيام والعناية بها، وتعَهُّد الأهل بالرعاية والتعليم، فلا تفرّط في هذه الفرصة.
- احذر الإسراف في الأكل أو النوم، أو استعمال الأجهزة في رمضان. قال تعالى: «إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ»
- تفقد إخوانك وجيرانك، فلعل فيهم المهموم أو المحتاج، واعلم أن رمضان شهر المواساة.
- إن كنت من العاملين في قطاعات الصحة أو الخدمات العامة لمواجهة الوباء، فاعلم أن جهدك في رمضان أعظم أجراً عند الله، فاغتنم واحتسب، فقد حباك الله بمكرُمتَين.
- اعلم أن هذا الشهر المبارك ضيفٌ راحل، فأحسن ضيافته، فالعمر قصير، والزاد قليل، والعقبة كؤودٌ، فاغتنم منه، فإنه لا يعود إلى يوم القيامة.
لا يخفى ما للأسرة من دور في رعاية الأجيال الجديدة وتربيتها، وتحقيق التوازن النفسي لأفرادها حتى يكونوا عوامل بناءٍ، وأساساً للاستقرار والنماء. وإن كان هذا الدور مهما في المجتمعات المسلمة، فهو أشد أهمية وقوة في المجتمعات الغربية، حيث ندرة المحاضن التربوية، وسطوة القيم المادية، وغياب المعاني الإسلامية من الحياة الاجتماعية والمؤسسات التربوية.
وقد اعتُبِرَ غيابُ الأسرة عن مواكبة المناسبات الدينية وإحياء الشعائر الإسلامية سِمةً بارزة في أوروبا لمدة طويلة، مما أضعف ارتباط الأجيال الجديدة بدينها واعتزازها بهويتها. لذلك لا بد من تدارك هذا الخلل، وإيلاء هذا الجانب ما يستحقه من الاهتمام. فالأسرة يجب أن تكون المجال الأول للتربية والتعليم، وتعظيم شعائر الله، والمحضن الأساسي الذي تُرَبَّى فيه الأجيال على العلم والتقوى وتحمل المسؤولية.
قال تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ” [التحريم: 6]
وقال تعالى: “وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِٱلصَّلَوٰةِ وَٱصْطَبِرْ عَلَيْهَا”
وقال أيضاً: “وَٱجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ”
وقال رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم: “كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤول عَنْ رَعِيَّتِهِ” (متفق عليه)
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي” (رواه الترمذي وابن ماجه).
أفلا تهتم النفوس وتنشغل الهمم بفلذات أكبادٍ أُسْكِنت بوادٍ غيرِ ذي زرعٍ مِنْ هدايةٍ وإيمانٍ، فتعمل على تزويدها بما يحصنها من جدب الروح ويرويها من العطش إلى الإيمان؟ ولله درُّ سيدنا إبراهيم عليه السلام، فقد كان شديد الخوف على ولده، شديد الحرص على رعايتهم، شديد الشوق لهدايتهم، رقيق القلب عليهم، فدعا ربه فقال:
“رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ.
رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِن شَيْءٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء.
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء.
رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء” [سورة إبراهيم: 37-40].
ثم جعل منتهى أمله أن يكونوا في هذه الأرض الغريبة الجدباء مقيمي الصلاة، هداةً مهديّين.
إن أشد ما يخلد في أذهان الأطفال من رمضان ويحببهم فيه، هو العادات الجديدة وأجواء البهجة والسعادة المرتبطة بها، لذلك لا بد من توفير هذه الأجواء في البيت، وأن يكون التعليم والتوجيه في جو من الألفة والسعادة، والحرص على اجتماع جميع الأسرة على أعمال رمضان وعباداته، وذلك عبر:
- إشراك كل أفراد الأسرة في إعداد برنامج عائلي قبل أن يُهِلَّ هلالُ رمضان، على أن يتضمن:
- الاجتماع على الإفطار والسحور، مع المحافظة على آدابهما وسننهما، والتعاون على الإعداد لهما.
- المحافظة على صلاة الجماعة والقيام.
- حلقات علم وذكر
- برنامج ترفيهي جماعي
- إعداد رزنامة رمضان
هذه الفكرة مستقاة من البيئة الأوربية في البيوت والمدارس، وهي مجرّبة، وأثبتت تأثيراً كبيراً وأضفت جوًّا من السعادة والتشويق والاستفادة لدى الأطفال خصوصاً. وتقوم الفكرة على اقتناء ثلاثين هدية بسيطة، وإعداد ثلاثين قصاصة تتضمن مواعظ وحكماً، وتوزع الهدايا والقصاصات على رزنامة من ثلاثين يوما، ويقوم أحد الأطفال كلّ يومٍ بفتح القصاصة وقراءتها على الجميع والحصول على الهدية. وحبذا لو يقوم الأطفال أنفسُهم بكتابة المواعظ والحكم إن كان بمقدورهم ذلك، وليس هذا بمستبعد، فقد رأينا أطفالا مولودين في بلدٍ أوربيٍّ وقد أعدوا رزنامة بمواضيعها وقصاصاتها، تثير الإعجاب.
- مراعاة عدم إزعاج الجيران من غير المسلمين عند السحور خاصة، وإعلامهم بقرب دخول رمضان وتعهدهم بالرعاية والهدية، تأليفًا لقلوبهم، ولجعل هذه المناسبة تترافق دائما بانطباعات إيجابية لديهم.
- الحرص على ألا يؤثر برنامج رمضان على انتظام الأطفال الدراسي وتحصيلهم العلمي. وتجنيب الأطفال دون البلوغ صيام الأيام الطويلة.
- الاهتمام بيوم العيد عبر إعداد الزينة والهدايا، والقيام بنشاط خارجيٍّ لكل العائلة، كالذهاب إلى المسجد إن أمكن، أو تناول الغداء في مطعم أو زيارة الأهل والأقارب.
إن الاهتمام بالمناشط الجماعية والبرامج العائلية لا يمكن أن يحجب عنا الفرصة العظيمة في رمضان للرقي بالنفس وإصلاح الحال. إنّ رمضان، بالإضافة إلى كونه مناسبة اجتماعية تعمق الشعور بالانتماء والشراكة مع بقية المؤمنين في شرائع وشعائر واحدة، والإحساس بهموم المحرومين من الناس، فإنه مجال رحب لكل مسلم، يعيش فيه تجربة شخصية ربما لا يشاركه فيها أحد. لذلك فإن محطات من الخلوة وساعات من التهجد وعلاقة خاصة بالقران الكريم في هذا الشهر العظيم، تُعدُّ معياراً لحسن الاستفادة منه في تحقيق التوازن وبناء طاقة إيجابية تكون زاداً لسائر أيام السنة، وتسهم في رقيّ الفرد والمجتمع.
لذلك من المهم، إلى جانب البرنامج العائلي، أن يكون لكل فرد في الأسرة – وبخاصة الأبناء – برنامجٌ فرديٌّ يتناسب مع ظروفه والتزاماته، ويتوافق مع ميوله وحاجاته.
مع انتشار التقصير في رعاية القرآن في حياتنا، وهجره من قبل أبنائنا، صار شهر رمضان المحطة السنوية الأهمّ لترميم هذا النقصان، وتدارك هذا الهجران، ولا غرابة في ذلك، فإن الله تعالى يفتح قلوب المؤمنين في رمضان إلى القرآن الكريم، فيشتد تعلقهم به، تلاوةً وحفظاً وتأملًا وتدبراً.
ورمضان والقرآن صِنوانِ لا يفترقان في كتاب الله وحياة رسول الله صلى اللَّهَ عليه وسلم، ووجدان المسلمين على امتداد العصور.
- ففي رمضان أنزل القرآن: “شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان” [البقرة: 185]
- وفي أعظم ليلة فيه، أُنزِل إلى بيت العزة جملةً واحدةً، قال تعالى: “إنا أنزلناه في ليلة القدر” [القدر:1]. وقال تعالى: “إنا أنزلناه في ليلة مباركة” [الدخان: 3].
- بل إن كل الكتب السماوية كلها أُنزِلت في رمضان، قال صلى الله عليه وسلم: “أُنزلت صُحفُ إبراهيم أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة لِسِتٍّ مضت من رمضان، وأنزل الإنجيل لثلاث عشرة مضت من رمضان، وأنزل الزبور لثمان عشرة خلت من رمضان، وأنزل القرآنُ لأربع وعشرين خلت من رمضان” [حسنه الألباني في صحيح الجامع].
- والصيام والقرآن شفيعان. قال صلى الله عليه وسلم: “الصِّيَامُ وَالْقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ الصِّيَامُ: أَيْ رَبِّ، مَنعْتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّهَوَاتِ بِالنَّهَارِ، فَشَفِّعْنِي فِيهِ، وَيَقُولُ الْقُرْآنُ: مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ، فَشَفِّعْنِي فِيهِ. قَالَ: فَيُشَفَّعَانِ”. (أخرجه أحمد).
- لذلك كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ. (أخرجه البُخَارِي)
- و”كان السلف يتلون القرآن في شهر رمضان في الصلاة وغيرها”. وكان قتادة يختم القرآن في كل سبع ليال مرة، فإذا جاء رمضان ختم في كل ثلاث ليالٍ مرة، فإذا جاء العشر ختم في كل ليلة مرة” (ابن رجب/ لطائف المعارف ص 191).
وكان النخعي يفعل ذلك في العشر الأواخر منه خاصة، وفي بقية الشهر في ثلاث” (لطائف المعارف ص 191). وكان مالكٌ إذا دخل رمضان نفر من قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم، وأقبل على تلاوة القرآن من المصحف، وقال عبد الرزاق: كان سفيان الثوري إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة وأقبل على تلاوة القرآن.
وكانت عائشة رضي الله عنها تقرأ في المصحف أول النهار في شهر رمضان، فإذا طلعت الشمس نامت. وهكذا كان حال السلف رضوان الله عليهم من الصحابة والتابعين ومن اتبع سبيلهم، يتخذون من شهر رمضان محطةً لتلاوة القرآن وتدبره وتعلم أحكامه. ورغم أنهم كانوا أشد الناس حرصاً على التعلق بكتاب الله في سائر الأيام، فإنهم كانوا أشد حرصاً وأكثر اجتهاداً في شهر رمضان، وهذا حال المسلم الحقيقي، يحذر من أن يكون ممن ذمهم الله تعالى في قوله تعالى: “وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً” [الفرقان:17].
وهِجرانُ القرآن قد يكون طوال العام أو بعضاً منه،
وقد يكون هجران تلاوةٍ أو تدبرٍ أو عمل، وقد يكون كل ذلك والعياذ بالله.
لذلك يُعتبرُ رمضان محطةً سنويةً لتجديد العهد مع القرآن، والاستزادة من مَعِينِهِ وتدارك النقص في تلاوته وتدبره والعمل به.
وحبذا لو يكون ختم القرآن في هذا الشهر عنصراً قارّاً في برنامج كل فرد في الأسرة. ومن الملاحظ أن كثيرا من الناس، وبخاصة الأطفال والشباب، يعجز عن ختم القران خلال الشهر نظراً للارتباط بالتزامات مدرسية أو مهنية، لذلك يمكن تشجيعهم على أن يبدؤوا ختمة رمضان في شعبان ليتوافق ختمه مع العشر الأواخر منه.
- صلاة الفجر جماعة مع الأهل، ثم تسبيح ودعاء، وتلاوة ربع حزب من القرآن.
- صلاة الظهر جماعة، ثم تلاوة نصف حزب.
- صلاة العصر جماعة، ثم درس يومي في الفقه أو السيرة أو غيرها.
- تلاوة ربع حزب قبل المغرب، والحرص على الأجواء الروحية عبر تشغيل ابتهالات أو مأثورات المساء أو غيرها أثناء الإعداد للإفطار.
- الإفطار على اللبن والتمر، ثم صلاة المغرب.
- صلاة العشاء والتراويح جماعة، يتخلّلها ذكر وتسبيح وموعظة قصيرة.
- تلاوة حزب قبل النوم.
- الاستيقاظ قبل الفجر، وصلاة ركيعات.
- السحور.
- تجديد نية الصيام، وكثرة الدعاء والابتهال.