Posted on Leave a comment

فتاوى رمضانية | د. خالد حنفي

هل يجوز الفطر لمجرد الخوف من تعب الصيام زمنَ كورونا ؟

هل يمكن أن يكون قرار الصيام اختياريًّا هذا العام في ظل تفشي الكورونا ؟ بمعني: من يخشى على نفسه التعب، مجرد الخوف، أو القلق، يمكنه الإفطار وتعويض ذلك ؟ وبأي طريقةٍ يمكن التعويض ؟ وهل عليه إفطار صائم ككفارة ؟

الجواب: فرض الله تعالى صيام شهر رمضان على كل مسلمٍ صحيحٍ مقيمٍ، فقال تعالى: “شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ” [البقرة: 185]، وقررت السنّة النبويّة أن الصيامَ رُكنٌ من أركان الإسلام، وذلك في الحديث الذي رواه ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله e: “بُني الإسلام على خمسٍ: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان” متفق عليه. والأصل أن يصوم كل مسلم شهر رمضان كاملاً، رجلاً كان أو امرأةً، باستثناء من رخّص لهم الشرع في الفطر، كالمريض والمسافر ومن يقاس عليهما، ولا يجوز الفطر بمجرد الخوف أو حصول القلق، خاصة أنه قد ثبت علميًّا – بالرجوع إلى الأطباء المختصين – أنه لا علاقة بين الصيام وبين الإصابة بفيروس كورونا، بل ثبت بالبحوث الطبيّة الموثَّقة القائمة على التجربة والرصد أن الصيام يُقوِّي المناعة، وقد رفض الدكتور يوهان غيساكي، البروفيسور بمعهد كارولينسكا بالسويد، والمختص في الأمراض المعدية وعلم الأوبئة، المعلومةَ المنتشرةَ على مواقع التواصل الاجتماعي، من أن جفاف الحلق يُعرِّض صاحبه للإصابة بكورونا، وهو ما يتعارض مع الصيام، وقال غيساكي: إن العكس هو الصحيح؛ لأن الرطوبة هي التي توفّر البيئة المناسبة لاحتضان الأغشية المخاطية لفيروس كورونا، وأن خطر انتقال العدوى ينخفض عند الصوم.

والمسلم لا اختيار له في التكليفات الشرعية إذا كان قادرًا عليها، بل من مقاصد تلك التكليفات تحريرُ المسلمِ من أهوائه واختياراته، كما قال الإمام الشاطبي في الموافقات: “المقصد الشرعي من وضع الشريعة إخراجُ المكلَّف عن داعية هواه؛ حتى يكون عبداً لله اختياراً،  كما هو عبدٌ الله اضطراراً”.

وأحكام الشرع لا تُناطُ بما لا ينضبط، كالخوف أو القلق، وإنما تُناط بما ينضبط، لهذا رخّص الشرع في الفطر للمسافر المعلومِ سفرُه بمدّةٍ محددةٍ يُعدُّ قاطعُها مسافراً شرعاً، سواء وقعت له المشقة بالسفر أو لم تقع؛ لأن المشقة لا تنضبط، والسفر منضبط. ولا يجوز للمسلم أن يُفطر دون رخصة شرعية، كما يَحرُمُ على من رُخِّص له في الفطر أن يصوم، كالمريض الذي يضره الصوم بقول الطبيب، لأنه يُلقي بنفسه إلى التَّهْلُكَةِ.  والله أعلم.

العمل مع تعدد الإمساكيات واختلاف المواقيت في أوروبا

يعاني مسلمو أوروبا من اختلاف مواقيت الصلاة بحسب المذاهب والاجتهادات الفقهية، خصوصا المغرب والفجر في رمضان، فكيف يمكن حساب ذلك ؟

الجواب: الاختلاف في طريقة حساب مواقيت الصلاة في أوروبا لا يرجع إلى اختلاف المذاهب فقط، وإنما يرجع إلى وجود فترة في العام تضطرب، أو تنعدم فيها العلامات الشرعية لأوقات الصلاة، وقد توجد العلامات، ويقع الحرج بسبب تأخر وقت العشاء، وقرب وقت الفجر منه، ومع غياب هذه العلامات تأتي الاجتهادات ويقع الاختلاف، ومن أسباب تعدد المواقيت كذلك غياب السلطة الملزِمة للمسلمين في أوروبا، فتتجه كل مؤسسة، وكل تجمع للمسلمين إلى اختيارٍ فقهيٍّ وطريقةٍ للحساب تختلف عن غيرها، ومن الأسباب، عدم واقعية كثير من الحلول الفقهية والفلكية التي قُدِّمَت من اللجان المختلفة في السنوات الماضية.

وليس هناك اختلاف في وقت المغرب، حيث تتفق كل طرق الحساب على دخوله في لحظة واحدة، وإنما الخلاف في وقت الفجر، والاختلاف في طريقة حساب وقت الفجر موجودٌ حتى في العالم العربي والإسلامي، لكنه لا يظهر لوجود السلطة التي تُلزم الناس باختيار مؤسستها الدينية.

وقد شكَّل المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث لجنةً فقهيّةً فلكيةً بالتنسيق والتعاون مع رئاسة الشؤون الدينية التركية، وعددٍ من الهيئات والمراكز الإسلامية في أوروبا، للعمل على إخراج تقويمٍ موحَّدٍ يمنع، أو يُقلِّل من هذا الاختلاف، وقد قامت اللجنة بعملِ رصْدٍ فلكيٍّ لوقت العشاء والفجر في أماكن مختلفة، وسيخرج مشروع التقويم الموحَّد قريبًا بحول الله.

وعليه، فالأصل أن يتّبع كل مسلم المسجدَ الذي يصلي فيه عادةً، فإن لم يكن له مسجد اختار طريقة حساب الفجر الأيسر عليه، وعلى المراكز والمؤسسات الإسلامية أن تبذل جهدها للتنسيق والتعاون لمنع الخلاف أو تقليله على الأقل في المدينة الواحدة، وأيسر طريقة لحساب وقت الفجر والعشاء هي طريقة “مؤسسة الديتيب” التابعة للشؤون الدينية التركية، وقريب منها طريقة اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا، حيث تعتمد الدرجة 12.

وترجيح هذه الطريقة في الإمساك والصوم لثلاثة أسباب:

الأول: أنه ما قررته الندوات التي عقدت لبحث الموضوع، كندوة لجنة الفتوى بألمانيا “حساب مواقيت الصلاة في ألمانيا ومدى إمكانية توحيد درجتها الحسابية”، والتي عُقدت في الثاني عشر من شهر مارس للعام 2016م، ومما جاء في توصياتها: “مسألة مواقيت الصلاة قابلة للاجتهاد، وفيها سَعَةٌ فقهيّةٌ تستوعب جميع الاجتهادات والدرجات المعمول بها في الوقت الحاضر بين الدرجة 12 والدرجة 19 وما قاربهما، مع رعاية خطوط العرض والأيام التي تنعدم، أو تضطرب فيها العلامات الشرعية، وهو ما أكدته الندوة التي عقدت بالمركز الإسلامي في آخن 2018 م، كما أوصت لجنة المواقيت في اجتماعها بمدينة ستراسبورغ (Strasbourg) في يوليو (تموز) 2019م المراكز والمؤسسات الإسلامية في أوروبا باستمرار العمل بالنظم والمواقيت القائمة، وعدم إنكار جهة على أخرى حتى يصدر التقويم الموحد قريبا بحول الله.

الثاني: أنه أيسر على الناس، حيث يُوسِّع عليهم الليل، ويقصّر عليهم النهار، خاصة حين يأتي شهر رمضان في فترات اضطراب (أو غياب) علامات الفجر والعشاء وطول النهار وقصر الليل.

الثالث: أن النصوص الشرعية، والنقول الفقهية، والدلالات اللغوية، تؤكد على مرونة وقت الفجر، وعدم القطعية أو الحدّية فيه، كمعنى التبين في آية الصيام، ومعاني: الفجر، والصبح، والإسفار، والغلس، لغة تدل على المرونة، لأنها تعود إلى نسبة الضوء قوةً وظهوراً وانتشاراً، وكذلك تأخير النبي صلى الله عليه وسلم للسّحور وصلاته الصبح بعده، وفعل الصحابة حيث أخروا السحور حتى تيقنوا من طلوع الفجر. والله أعلم.

حول تعدد الجمعة أو العيد في المسجد الواحد

لصلاة الجمعة منزلة عظيمة في الإسلام، وتتعدّدُ مقاصدُها بين الروحيّ والثقافيّ والاجتماعيّ، وتتأكّد هذه المقاصد بحق مسلمي أوروبا، فتُعتبر صلاة الجمعة من أهم العبادات الموصلة لحفظ الدين والهوية، وتشكيل الوعي الثقافي للمسلم الأوروبي، بما يؤهله للقيام بدوره في المجتمع، والحفاظ على هويته ودينه.

وقد ورد وَعيدٌ على تركها تهاوناً، كما في الحديث الذي رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي بسند صحيح، عن أبي الْجَعْدِ الضَّمْرِيِّ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “مَنْ تَرَكَ ثَلَاثَ جُمَعٍ تَهَاوُنًا بِهَا طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ”.

والأصل عدم جواز تعدُّدِ الجمعة في المدينة الواحدة، لما في ذلك من الإخلال بمعنى الاجتماع والوحدة، وقد جوّز جمهور الفقهاء المعاصرين تعدُّدَ الجمعة في المدينة الواحدة لحاجة الناس، وتعذُّر اجتماع أهل الحي فضلاً عن المدينة في مسجد واحد، بالإضافة إلى تباعد المسافات، وتَعذُّر وصول الناس إلى المسجد الواحد، وهذا الحال يتأكد ويتضح بحق مسلمي أوروبا، حيث تضيق المساجد بهم مهما كثرت، وتقتضي طبيعة الأماكن وتجمعات الناس ونظم المدن والمساجد أن تتعدد الجمعة في المدينة الواحدة، بل وتتعدد الجمعة والعيد في المسجد الواحد أحياناً أربع مرات في اليوم الواحد، وهذا أمر مفرح ومبهج، ونسأل الله أن يبارك في المصلين، وأن يجعلهم في ازدياد لا نقصان.

والذي نرجحه: جواز تعدد الجمعة في المسجد الواحد في أوروبا إذا دعت لذلك حاجة، كزيادة عدد المصلين عما يستوعبه المسجد، أو الحاجة إلى تمكين النساء من صلاة الجمعة، أو الالتزام القانوني بعددٍ محددٍ من المصلين في المسجد، أو تمكين شرائح كبيرة من الناس من صلاة الجمعة لظروف دراستهم أو عملهم، ويتأكد جواز التعدد مع جائحة كورونا ووجوب الالتزام بالشروط الصحية، من التباعد، وقَصْر عدد المصلين في المساجد على حسب مساحة المسجد ونِسب المصابين في المدينة، مما يحتم تعدد الجمعة والعيد في المسجد الواحد بدلاً من تعطيلهما بالكلية، وذلك لما يلي:

  1. القياس على تعدد الجمعة في المدينة الواحدة بسبب الحاجة وكثرة الناس، فلو منعنا تعدد الجمع في المسجد الواحد مع وجود الحاجة، منعناه في المدينة الواحدة، وهو ما لم يقل به أحد.
  2. أن ترْكَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لتكرير الجمعة في المسجد الواحد لا يصح الاحتجاج، به لعدم وجود سببه، حيث لم تكن هناك حاجة لذلك، والترك النبويُّ المجرد لا يدل إلا على مشروعية الترك على الراجح من أقوال الأصوليين.
  3. القول بعدم جواز تعدد الجمع في المسجد الواحد مع وجود الحاجة يُفوِّتُ الكثير من المصالح المعتبرة، وفي مقدمتها مصلحة حفظ الدين، كما يُخِلُّ بمقصد الاجتماع، وتفويت الجمعة على كثير من المسلمين.
  4. ثبت أن عليًّا رضي الله عنه كان يخرج يوم العيد إلى المصلَّى ويستخلف على ضَعَفَةِ الناس أبا مسعودٍ البدري فيصلي بهم، وتقاس الجمعة على العيد بجامع الاجتماع وسماع الموعظة.
  5. رَوى أبو هريرة أنّه كتب إلى عُمَرَ يسألُهُ عن الجمعة بالبحرَينِ، وكان عامِلَهُ عليها، فكتب إليه عمرُ: جَمِّعُوا حَيثُ كنتم. قال أَحْمَدُ: إسْنَادٌ جَيِّدٌ. ويفهم منه أن الجمعة تصح في كلِّ مكانٍ اجتمع فيه الناس.

وأؤكد على أنّ تعدُّد الجمعة في المسجد الواحد لا يجوز إلا مع وجود الحاجة، ويجب ألا يُتوسع فيه، وأن يُمنع متى انتفت الحاجة، بأن قلَّ العدد، أو وُسّع المسجد أو، بُني مسجدٌ جديد، أو ارتفعت الجائحة.

وأما قيام إمامٍ واحدٍ بالخطبتين والصلاتين، فهو مشروع وصحيح، وهو ما يعرف عند الفقهاء بإمامة المتنفِّل للمفترض، وقد سُئِلَ ابنُ تيميّة عن: “رجلٍ صلَّى مع الْإمامِ، ثُمَّ حضرَ جماعَةً أُخْرَى فَصَلَّى بِهِمْ إمَامًا، فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ؟ أَمْ لا؟ الْجَوَابُ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ هِيَ مَسْأَلَةُ اقْتِدَاءِ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ، فَإِنَّ الْإِمَامَ كَانَ قَدْ أَدَّى فَرْضَهُ، فَإِذَا صَلَّى بِغَيْرِهِ إمَامًا فَهَذَا جَائِزٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ. وَفِيهَا قَوْلٌ ثَالِثٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ: أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْحَاجَةِ وَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ. فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ الْإِمَامُ هُوَ الْقَارِئ، وَهُوَ الْمُسْتَحَقُّ لِلْإِمَامَةِ دُونَهُمْ، فَفِعْلُ ذَلِكَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ حَسَنٌ”.

واستدل الشافعية ومن وافقهم بحدِيثُ جَابِرٍ: “كَانَ مُعَاذٌ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْعِشَاءَ، ثُمَّ يَنْطَلِقُ إلَى قَوْمِهِ فَيُصَلِّيهَا بِهِمْ، هِيَ لَهُ تَطَوُّعٌ، وَلَهُمْ مَكْتُوبَةٌ”.

ورغم ذلك، فإن توفّرَ مَن يقوم بالجمعة الثانية غيرَ الأول فهو أفضل، خروجاً من الخلاف، وجمعاً للكلمة، ورعايةً لمن يُقلِّد غيرَ مذهب الشافعية. والله تعالى أعلم.

أهم أحكام زكاة الفطر للمسلمين في الغرب

حكمها وعلى من تجب: زكاة الفطر فرضٌ، وتجب على الصَّغير والكبير، والذَّكَر والأنثى، ولا تجب عن الحمل الذي في بطن أمه، إلاَّ أن يُتَطوَّع بها، فلا بأس، ويجب إخراجُها عن نفسه، وكذلك عمَّن تلزَمُه مَؤُونَتُهُ مِن زوجةٍ أو قريبٍ، ويدفعُ الرجلُ عن زوجته غير المسلمة.

حِكْمتها: مواساةُ الفقراء وإغناؤهم في يوم العيد، وتطهير الصيام من الرفث واللغو.

وقتها: جَوَّزَ الشافعيُّ إخراجَها من أول رمضان، وأبو حنيفة من أول العام، وعلى مسلمي أوروبا التعجيل بإخراجها من أول رمضان، لتتمكن المؤسسات من إيصالها لمستحقيها في وقتها. وقد جاء في قرار المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث (قرار 4/23): “تحقيقاً للمصلحة، فإن المجلس يحث على تعجيل دفع زكاة الفطر ابتداءً من أول شهر رمضان، وبخاصةٍ إذا كانت تُنقَلُ خارج بلدِ المُزكِّي“. وينتهي وقتها بصلاة العيد.

هل يجوز إخراج زكاة الفطر نقودًا ؟

يجوز إخراجها نقوداً، وهو الأرجح لمسلمي أوروبا، لكونه الأيسر عليهم، والأنفع للفقير، والأسرع في نقلها لأهلها خارج أوروبا لمن يقوم بإرسالها خارجها، والأنسب لصورة الإسلام الحضارية العالمية.

وإلى جواز دفع القيمة ذهب جماعة من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من أئمة المذاهب، حكاه التابعيُّ أبو إسحاق السبيعي عمن أدركهم، وفيهم علي بن أبي طالب، والبراء بن عازب وغيرهما، كما أنه قول الحسن البصري، وعطاء بن أبي رباح، والخليفة عمر بن عبد العزيز، ومذهب أبي حنيفة، وسفيان الثوري، والإمام البخاري، وعلى ذلك أدلة كثيرة، وهو ما رجحه المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث في قراره: 23/4.

لماذا يقع الاختلاف في تقديرها ؟ : بالفعل يختلف تقدير الحد الأدنى لزكاة الفطر من بلد إلى بلد، بل يقع الاختلاف في تقدير قيمتها داخل البلد الواحد، والسبب يرجع إلى عدم وجود التنسيق الكافي بين المؤسسات والهيئات الإفتائية على الساحة الأوروبية، وتعدد المذاهب الفقهية داخل كل قطر أوروبي، واختلاف الظروف المعيشية والدخول والأسعار من بلد إلى بلد، وعلى المسلم أن يتبع المسجد والهيئة الدينية في بلده أو إمامه الذي يستفتيه عادة.

التوكيل فيها: يجوز للمسلم الأوربي أن يُوكِّل غيره في بلد آخر بإخراجها عنه، سواء كان فرداً أو مؤسسة، على أن تُخرجَ في وقتها، وبقيمتها في بلد المزكِّي.

نقلها خارج بلد المُزكِّي: الأصل عدم نقلها، وسدُّ حاجات الفقراء والمحتاجين إليها في بلد المزكِّي، وهو ما عليه جمهور الفقهاء، إلا إذا كانت هناك حاجة، أو عُدم الفقراء في بلد المزكِّي، فيجوز نقلها.

وقد جَوَّزَ الإمام أبو حنيفة دفعها لغير المسلم إن كان فقيراً.

تمويل المراكز الإسلامية في الغرب من زكاة الفطر

تقوم المراكز والمؤسسات الإسلامية في الغرب بجمع زكاة الفطر كل عام، ومع قلة من ينطبق عليهم وصف الفقر والمسكنة في أوروبا، يتجه كثير من الناس إلى تحويل زكاتهم إلى بلدانهم الأصلية، أو إلى بلد أكثر فقراً، وتواجه المراكز الإسلامية في أوروبا أزمةً ماليّةً كبرى تهدد وجودها بعد جائحة كورونا، فهل يجوز للمراكز الإسلامية في الغرب تمويل أنشطتها من زكاة الفطر؟

الجواب: لم يقل بقصر صرف زكاة الفطر على الفقراء والمساكين دون غيرهم سوى المالكية، ورواية عن أحمد، واختارها شيخ الإسلام ابن تيمية، وتُعطَى لهم توسعةً عليهم في يوم العيد، فإنْ عُدم الفقراء في بلد المزكِّي نقلها إلى أقرب بلد، وهذا القول هو الراجح المحقِّق للمقصود من زكاة الفطر، وهو إغناء الفقراء في يوم العيد.

وذهب جمهور الفقهاء إلى جواز قسمتِها على الأصناف الثمانية التي تُصرَفُ فيها زكاة المال، بينما ذهب ابن حزم، والشافعي في المشهور من مذهبه إلى وجوب صرف زكاة الفطر إلى الأصناف الذين تُصرف إليهم زكاة المال.

والذي أُرجحه في ظل جائحة كورونا، والحاجة المُلحّة للمراكز الإسلامية في الغرب: هو جواز تمويلها من زكاة الفطر، وذلك بعد سدِّ احتياجات الفقراء في بلد المُزكِّين، وذلك لما يلي:

أولاً: الأصلُ عدم جواز نقل الزكاة من بلد المزكِّي إلا إذا عُدمت المصارف، وكانت هناك حاجة معتبرة لنقلها خارج بلد المزكي، لقوله صلى الله عليه وسلم: “تُؤخذ من أغنيائهم فتُرد على فقرائهم”.

ثانياً: حاجة المراكز الإسلامية في الغرب للدعم والتمويل خاصة بعد جائحة كورونا، وعدم وجود مصادر مالية ثابتة لها مما يهدد وجودها ويعيق أنشطتها، وهي داخلة في مصارف: في سبيل الله، والمؤلفة قلوبهم، والغارمين، وابن السبيل، والعاملين عليها.

ثالثاً: رأي الجمهور القائل بالجواز، والشافعي القائل بالوجوب صحيحٌ معتبر، والعمل به متجّه ما دعت إليه الحاجة، وتحققت معه المصلحة وهذا واقع ومتوقع.

رابعاً: هذه الفتوى لا تعارض المقصد الأصلي من زكاة الفطر، وهو سد حاجة الفقراء في يوم العيد، لأن تمويل المراكز لن يتم إلا بعد إغناء الفقراء إن وُجدوا.

خامساً: الاختيارات الفقهية في الغرب يجب أن تدعم توطين الإسلام في أوروبا، وتقوية المؤسسات، وحمايتها من الانهيار والتوقف، وتحقيق المواطنة الصالحة، وهو ما تسنده هذه الفتوى.

سادساً: طبيعة النظام الاجتماعي للدولة يحقق الحد الأدنى من الكفاية المعيشية لكل من يقيم إقامة قانونية صحيحة، وهو ما يقلل من نسبة الفقراء والمحتاجين لزكاة الفطر في الغرب.

والله أعلم.

ما هو نص تحريم الصيام للمرأة أيام الحيض؟ وهل لو صامت المرأة في تلك الأيام عليها وزر؟

يحرُم على المرأة الحائض أن تصوم، فإن صامت أَثِمَتْ بصومها ووجب عليها القضاء بعد رمضان، ومنعُ المرأة الحائض والنفساء من الصيام من الأحكام المستقرة المعلومة في الأمة، لهذا كان مجرد طرح السؤال في العهد النبوي يوجب اتهام السائل، كما في حديث معاذة بنت عبد الله العدويَّة قالت: سألتُ عائشة رضي الله عنها فقلتُ: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ فقالت: أحَرُورِيَّةٌ أنتِ؟ أي: هل أنتِ من الخوارج ؟! قلت: لستُ بحرورية، ولكني أسألُ…”  متفق عليه.

وقد انعقد الإجماع القولي والعملي على تحريم صوم الحائض من لَدُنِ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، والإجماع الصحيح المعتبر ثالث الأدلة المتفق عليها بين العلماء، قال النووي في شرح المهذب: “أجمعت الأمة على تحريم الصوم على الحائض والنفساء، وعلى أنه لا يصح صومها، ويُستدَلُّ من السنة على تحريم صومها بحديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قالأليس إذا حاضت لم تُصلِّ ولم تَصمْ ؟ فذلك نقصان دينها” صحيح البخاري.

وأما استدلال بعض العلماء بحديث عائشة رضي الله عنها، قالت: “لقد كنا نحيض عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فنؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة”. [رواه مسلم] ففيه نظر؛ لأن المريض والمسافر يقع الصوم منهما صحيحاً إذا صاما، رغم وجود رخصة في الفطر.

وما قيل من أن سبب منع الحائض من الصوم هو رعاية حالها وضعفها وعدم قدرتها على الصوم، فلا يصلح أن يكون سببا ولا علة يُبنى عليها الحكم، كما أن الصوم لا يشترط له الطهارة فيصح الصوم من الجنب، فالصحيح أن عدم صوم الحائض من الأحكام التعبدية كما قال الإمام الشافعي: “وكون الصوم لا يصح منها لا يُدرك معناه؛ لأن الطهارة ليست مشروطةً فيه”.

والقول بصحة صيام الحائض لا يَصدر عن فقيهٍ أو عالم؛ لأن من يصحح صيام الحائض يتعين عليه أن يُجريَ عليها أحكام الطاهرات كلها، فيُصحِّح صلاتها وعلاقتها الخاصة بزوجها، فهل يقول بذلك أحد؟! كما أن القول بصيام الحائض يُفضي إلى عدم انضباط الحكم ووقوع الفوضى فيه؛ لأنه سيترك أمر الصوم إلى قرار كل امرأة بنفسها حسب قدرتها على الصوم أثناء الحيض أو عجزها، أو قدرتها في بعض الأيام وعجزها في غيرها، والأحكام الشرعية لا تُناطُ إلا بالأوصاف الظاهرة المنضبطة التي تنطبق على كل الناس في سائر العصور والأزمنة.

والهدف الخفي من وراء تلك الدعاوى التي ظهرت الآن بصيام الحائض هو الطعن في السنة النبوية، وردُّ الناس مباشرة إلى القرآن، فإذا عادوا إلى القرآن وجدوا أنفسهم عاجزين عن تطبيق الأحكام لإجمالها وعدم بيانها، فيقع الفراغ وتنطلق الآراء والأفكار التي تنتهي بدورها إلى إبطال الأحكام الشرعية كلها لعدم مناسبتها للعصر وتطوراته، فعلى عموم المسلمين أن لا يلتفتوا إلى هذه الأقوال الشاذة، وأن يأخذوا دينهم عن أهل الاختصاص الشرعي. والله أعلم.

حكم قراءة الحائض للقرآن

السؤال: كثُر النقاش والجدل حول قراءة الحائض للقرآن سواء من المصحف أو الهاتف أو من حفظها، فماذا تفعل المسلمة أمام هذه الاختلافات ؟

الجواب: تُمنع المرأة الحائض باتفاق الفقهاء من أربعة أشياء: الصلاة، والصوم، والطواف، والجِماع، وأما قراءة القرآن فأُرجِّح الجواز، وهو مذهب الإمام مالك، ورواية عن الإمام أحمد، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، ورجّحه الإمام الشوكاني، ومن المعاصرين الإمام القرضاوي، سواء كانت القراءة من حفظها، أو من الهاتف وما شابهه من الوسائل الالكترونية، أو من المصحف المترجم؛ لأنه لا يأخذ أحكام المصحف الورقي المعروف، ولا يسمى قرآناً، وأما المصحف المعروف الذي لا يشتمل على شيء سوى القرآن فأُرجِّح جواز القراءة منه للحائض مع عدم مسه إلا بحائل؛ تعظيماً لكلام الله تعالى.

والدليل على جواز قراءة القرآن للمرأة الحائض ما يلي:

  1. النصوص العامة الآمرة بتلاوة القرآن كقوله تعالى: “اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ” [العنكبوت: 45]، وقوله: “وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ” [النمل: 92]، وقوله: “فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ” [المزمل: 20]، ولم تُخصّص بدليل صحيح؛ فكل ما ورد في منع الحائض من تلاوة القرآن ضعيف سنداً ومتناً.
  2. 2.       قول النبي صلى الله عليه وسلم للسيدة عائشة رضي الله عنها لما حاضت في حجة الوداع: “افْعَلِي مَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي” البخاري، فلم يمنعها إلا من الطواف، ولو كانت تلاوتها للقرآن مُحرّمةً لبيّنها؛ فإن الحاجّ يشغل وقته بتلاوة القرآن، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.
  3. سُئل سيدنا معاذ بن جبل رضي الله عنه وهو من كبار فقهاء الصحابة، “أيقرأ الجنب القرآن؟ قال: نعم، إن شاء، قلت: والحائض والنفساء؟ قال: نعم، لا يَدَعَنَّ أحدٌ ذكر الله، وتلاوة كتابه على حال، قلت: فإن الناس يكرهونه، قال: من كرهه فإنما كرهه تنزهًا، ومن نهى عنه فإنما يقول بغير علم، ما نهى رسول الله عن شيءٍ من ذلك”.
  4. قياس الحائض على الجنب في المنع من قراءة القرآن لا يصح؛ لأن الحائض لا اختيار لها في حيضتها، أما الجنب فيمكنه رفع الجنابة بالاغتسال في أي وقت، كما أن الحيضة قد تطول بخلاف الجنب.
  5. 5.        القول بمنع الحائض من تلاوة القرآن يُفوِّتُ عليها خيراً عظيماً وأجراً كبيراً، ويعرّضها لنسيان القرآن، واعتياد هجره، ويُضيِّع على المرأة شطراً كبيراً من عُمرها تُحرم فيه من أنورا القرآن دون دليل معتبر. والله أعلم
مع إغلاق المساجد بسبب كورونا، طرح سؤال عن حكم الاعتكاف في البيوت؟

لا يجوز الاعتكاف في البيوت، سواء في ذلك المرأة أو الرجل، ولا يصح الاعتكاف إلا في المسجد، ومع عدم إمكانية الاعتكاف في المساجد بسبب كورونا فإن من كانت له عادة، أو نية الاعتكاف يُحصِّل الأجر عليه كاملاً بنيته، فعن أبي موسى رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيمًا صحيحًا” رواه البخاري.

والدليل على ترجيح عدم صحة الاعتكاف في البيوت ما يلي:

  1. اتفق جمهور الفقهاء على أن الاعتكاف لا يصح إلا في المسجد؛ لقوله تعالى: “وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ” [البقرة: 187]، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتكف إلا في المسجد.
  2. إذا كان خطاب المكلَّفين بالجمعة قد سقط بالعذر وهو كورونا، وخوطبوا ببدلها، وهو الظهر، فلَأَنْ يَسقُط الاعتكاف بسبب كورونا من باب أولى؛ لأنه سُنّة والجمعة واجبة.
  3. يجب الإبقاء على صفة العبادات وهيئتها التعبدية، وصيانتها من التبديل والتغيير، والقول بصحة الاعتكاف في البيت يضر بسنة الاعتكاف في المساجد قبل زوال الجائحة وبعدها.
  4. القياس على اعتكاف المرأة في مسجد بيتها لا يصح؛ لأن حكم الأصل محل خلاف بين العلماء، والراجح ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من أن المرأة تعتكف في المسجد مثل الرجل كما ثبت عن أمهات المؤمنين، وقد وَرَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ سُئِل عَنِ امْرَأَةٍ جَعَلَتْ عَلَيْهَا (أَيْ نَذَرَتْ) أَنْ تَعْتَكِفَ فِي مَسْجِدِ بَيْتِهَا، فَقَال: “بِدْعَةٌ، وَأَبْغَضُ الأْعْمَال إِلَى اللَّهِ الْبِدَعُ”.
  5. 5.       المكان المخصص في البيت للصلاة ليس بمسجدٍ حقيقةً ولا حكماً، ولا تجري عليه أحكام المساجد، وإن سُمي تجوزاً مسجداً فلا يصح الاعتكاف فيه.
صلاة العيدين مع جائحة كورونا

هل تصحّ صلاة العيدين في البيوت مع العائلة نظرًا لمنع التجمعات بسبب كورونا ؟

لا بد من التأكيد على ضرورة وأهمية الالتزام بقرار السلطات والمنظمات الصحية في كل بلَدٍ بشأن منع أو تنظيم التجمعات وعدم الخروج عليها؛ لأن الالتزام بها دِينٌ، وحِفظُ النّفسِ من مقاصد الشريعة العليا. والذي أراه راجحاً بخصوص صلاة العيد في البيوت مع العائلة هو رأي الحنفية؛ لأن الاجتماع شرطٌ في صلاة العيد عندهم؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم ما صلاها إلا بالجماعة فصارت هيئة شرعية لها، ويدل على رجحان هذا الرأي أنه إذا اجتمعت الجمعة مع العيد صارت الجمعة رغم فرضيتها سُنّةً في حق من صلى العيد على الراجح، لحصول الاجتماع وسماع الموعظة.

ومن أخذ برأي الجمهور من غير الحنفية فصلى العيد منفرداً، أو مع عائلته جماعةً دون خطبة على الصفة المعروفة لصلاة العيد ركعتين يكبر في الأولى سبعاً، وفي الثانية خمساً فحَسَنٌ، لما رُوى “عن أنس رضي الله عنه أنه كان إذا فاتته صلاة العيد مع الإمام، جمع أهله فصلى بهم مثل صلاة الإمام في العيد” وقد ثبت عن كثير من الصحابة والسلف أنهم كانوا إذا فاتتهم صلاة العيد مع الإمام صلَّوها فرادى أو مع عائلاتهم، وصلاة العيد سنة مؤكدة والأمر فيها واسع. 

وأُوصِي عموم المسلمين بإشعار أولادهم بفرحة العيد وبهجته واجتماعه، وصلة الأرحام فيه، رغم استمرار الحجر الصحي قدر الإمكان، مع رعاية شروط السلامة الصحية حسب نظام كل بلد وظروفه.

بعد إلغاء موسمي العمرة والحج، ما هي المصارف التي يمكن أن تذهب إليها أموال تلك الرحلات خلال تلك الفترة ؟

الجواب: في الإسلام نيةُ المرء خيرٌ من عمله، فكلُّ من عزم على العمرة في رمضان فمُنع بسبب كورونا حصَّل أجر العمرة وهو في بيته، عن أبي موسى رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيمًا صحيحًا” رواه البخاري، وعن أنس رضي الله عنه قال: رجعنا من غزوة تبوك مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: “إِنَّ أَقْوَامًا بِالْمَدِينَةِ خَلْفَنَا، مَا سَلَكْنَا شِعْبًا، وَلَا وَادِيًا إِلَّا وَهُمْ مَعَنَا؛ حَبَسَهُمُ الْعُذْرُ” رواه البخاري.

وقد خلّفت جائحة كورونا آلاف العاطلين عن العمل، والمتضرّرِين في أقواتهم الضرورية، كما ضاعفت من الفقراء والمعوِزين حول العالم، والموفَّقُ مَن أنفق نفقات العمرة وحجة النافلة على سد حاجات الفقراء والمعوزين، وقضاء حوائجهم وتفريج كربهم، وقضاء الدَّين عن الغارمين منهم، والحاجات العاجلة الفورية تُقدَّمُ على المؤَجّلة غير الضرورية، ففي حديث عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “أَحَبُّ النَّاسِ إلى اللَّهِ تَعَالَى أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، وَأَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ، أَوْ تَكَشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دَيْنًا، أَوْ تَطْرُدُ عَنْهُ جُوعًا، وَلأَنْ أَمْشِيَ مَعَ أَخٍ فِي حَاجَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَكِفَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ – يَعْنِي مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ – شَهْرًا، وَمَنَ كَفَّ غَضَبَهُ سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ، وَلَوْ شَاءَ أَنْ يُمْضِيَهُ أَمْضَاهُ، مَلأَ اللَّهُ قَلْبَهُ رَجَاءً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ مَشَى مَعَ أَخِيهِ فِي حَاجَةٍ حَتَّى يَتَهَيَّأَ لَهُ أَثْبَتَ اللَّهُ قَدَمَهُ يَوْمَ تَزُولُ الأَقْدَامِ” رواه الطبراني في الأوسط، والمنذري في الترغيب والترهيب، وصححه الألباني.

والثابت عن كثير من أئمة السلف وفقهائهم تقديم الإنفاق على الفقراء والمساكين على حج النافلة وعمرة التطوع، فقد “خرج عبد الله بن المبارك رحمه الله في الحج سنةً فلقي فتاة تقول له: أنا وأخي هنا ليس لنا شيء إلا هذا الإزار، وليس لنا قُوتٌ إلا ما يُلقَى على هذه المزبلة، وقد حلّت لنا الميتة منذ أيام، فدفع إليها نفقة الحج، وقال: هذا أفضل من حجّنا في هذا العام، ثم رجع”، وقال الإمام أحمد رحمه الله عن نفقة حج النافلة: “يضعها في أكبادٍ جائعةٍ أحبُّ إليَّ”. وكلامهم في أوقات الرخاء، فكيف بزمان الشدة والبلاء، كما هو الحال مع جائحة كورونا.

 أما نفقات حجة الفريضة فيدَّخرها للعام القادم، ولا يقدّم الإنفاق منها على الفقراء؛ لأن الحج عبادة بدنية ومالية، إلا إذا زادت حاجة الناس جدًّا، وبلغت أقواتهم الضرورية، أو كانوا أقارب للمتصدّق، فيقدم الإنفاق عليهم على حجة الفريضة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “والحج على الوجه المشروع أفضل من الصدقة التي ليست بواجبة، وأما إن كان له أقارب مَحَاويجُ، أو هناك فقراء تضطرهم الحاجة إلى نفقة: فالصدقة عليهم أفضل”.

زكاة الفطر هل يجب دفعها في البلدان الأم أو الإسلامية .. ولا يمكن دفعها للأسر المتضررة من الكورونا في البلدان الأوروبية؟

الأصل في إخراج زكاة المال أو الفطر أن تُدفع في بلد المزكِّي، وهو مذهب جمهور الفقهاء؛ لحديث معاذ t، والذي قال له النبي e: “فأَعْلِمهُم أنّ الله افترض عليهم صدقةً تُؤخذُ من أغنيائهم فتردُّ في فقرائهم”، وهو ما جرى العمل به في عصر الخلفاء الراشدين من رد الزكاة على الفقراء في بلد المزكِّي، ومن أهم مقاصد الزكاة تحقيق الكفاية بين أبناء البلد الواحد من المسلمين، فعلى المسلمين في أوروبا أن يدفعوا زكاة الفطر أولًا لسد حاجات الفقراء والمحتاجين في أقطارهم الأوروبية، فإن سُدّت حاجات الفقراء عادوا بالأموال المتبقية على المحتاجين في بلدانهم الأصلية أو في أي بلد آخر، وقد خلّفت جائحة كورونا الكثير من المتضررين والمحتاجين في أوروبا فيجب سد حاجاتهم أولاً قبل نقلها إلى دول أخرى.

ويجوز دفع زكاة الفطر لغير المسلمين إذا كانوا فقراء أو مساكين، كما هو مذهب أبي حنيفة، وهو الأرجح والأنسب لمسلمي أوروبا، وهو الرأي الذي يُحقِّقُ قيم التعايش والمواطنة الصالحة، والتكافل الإنساني والبر بغير المسلمين، كما قال تعالى: “لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ” [الممتحنة: 8].

في ظل ضعف حركة الاستيراد والتصدير، وندرة اللحوم الحلال في بعض المناطق، هل يمكن أكل اللحوم غير المذبوحة على الشريعة الاسلامية ؟

الجواب: قضية الطعام والذبح الحلال ليست مسألةً ثانويةً في حياة المسلم، ولكنها قضيةٌ دينيّةٌ شديدة الأهمية، قال تعالى: “فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ” [الأنعام: 118]، قال المفسرون: أي: اجعلوا أَكلَكُم مقصوراً على ما ذُكِرَ اسمُ الله عليه، ولا تتعدَّوه إلى الميتة، فالمؤمنون مأمورون بأن يأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وبغير ذلك لا يكونون مؤمنين، وعن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله e: “من صلى صلاتَنا، واستقبل قبلتَنا، وأكل ذبيحتَنا، فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسول الله e، فلا تخفروا الله في ذمته”، [رواه البخاري]، فعَطفَ أَكْلَ الذبيحةِ على الصلاةِ واستقبالِ القبلةِ لأهميّتِهِ، والذي أُرجِّحُه هو أن لا يأكل المسلم في الغرب إلا اللحم والطعام الذي تمت مراقبته من قِبل هيئة إسلامية معتبرة وأعطته خاتم )حلال(، وذلك لأن شرائط الأكل الحلال لا تتوفر في اللحم والطعام المطروح في الأسواق الأوروبية، كالتأكد من عدم موت الحيوان قبل الذبح نتيجة التخدير أو الصعق، والتأكد من عدم اختلاطه بمحرَّم سواء في الذبح بنفس الأدوات، أو خط الإنتاج دون تطهير، أو إضافة مواد محرمة في عملية التصنيع التي تتم بعد الذبح، وكذا عدم التأكد من كتابية الذابح، وكالتسمية، وغير ذلك من الشروط المفقودة في طرائق الذبح وإنتاج اللحوم في أوروبا.

إن مسألة الذبح واللحم الحلال تتصل بأمر الهوية بالنسبة لمسلمي أوروبا، والتهاون فيها يضر بهوية الوجود الإسلامي في الغرب خاصة الأجيال الجديدة، ولولا تمسك المسلمين بنظام الذبح الشرعي ما وُجدت المطاعم والمجازر الإسلامية التي تقدم وتراقب اللحم والتصنيع في أوروبا، وأذكر جملةً قالها بن غوريون: “ليس اليهود هم الذين حافظوا على السبت، ولكن السبت هو الذي حافظ على اليهود” في إشارة إلى أهمية عنصر الدين في الحفاظ على اليهود وهويتهم، فالتعاليم الدينية والعادات التي يتمسك بها مسلمو أوروبا تسهم بشكل مباشر في تشكيل هويتهم وحفظها.

ومنظومة الأكل الحلال في الإسلام تهدف إلى تحقيق السلامة الصحية للآكل، والرفق والرحمة بالحيوان المذبوح وعدم تعذيبه، والارتفاق والتوازن البيئي، وتقديمُ منهجِ الإسلام وفلسفتِهِ في الطعام والذبائح لا يتم مع القول بجواز أكل اللحوم المطروحة في الأسواق الأوروبية وإن لم تأخذ خاتم الحلال، وقد ثبت أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أخرج قوما من السوق لعدم خبرتهم بشرائط الذبح ونظامه في الإسلام وهم مسلمون فكيف بغير المسلمين ؟! عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ قَوْمًا كَانُوا فِي السُّوقِ، وَكَانَ إِسْلَامُهُمْ حَدِيثًا لَا فِقْهَ لَهُمْ، لَا يُحْسِنُونَ يَذْبَحُونَ، قَالَ: «فَأَخْرَجَهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مِنَ السُّوقِ، وَأَمَرَ بِإِخْرَاجِهِمْ».

ووجود بعض الأخطاء، أو صور الغش في عملية مراقبة اللحوم، أو توزيعها كونها غير محمية قانوناً في أوروبا، لا يعني صحة القول باستواء ما وُضع عليه خاتم حلال مع غيره في الإباحة، وعلى عموم المسلمين أن يبذلوا جهدهم لإيجاد مؤسسات اللحم الحلال، وأن يقوّموا أخطاءها ويصلحوا عيوبها بأسلوب حضاري وقانوني.

 هل يجوز دفن المسلم بدون غسل في حالة الوفاة بالكورونا؟ وهل يجوز دفنه في مقابر غير المسلمين؟

ندعو الله أن يرحم كل من مات بفيروس كورونا، وأن يُصبّر أهله، وأن ينزله منازل الشهداء، وأما بخصوص غسله أو تَيْمِيمِهِ، فالذي أُرجِّحه هو ما صدر عن المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث في دورته الطارئة الثلاثين، والتي خُصصت للنظر في نوازل ومستجدات فيروس كورونا.

وقد قرر المجلسبعد نقاشات مستفيضة، وسؤال الأطباء العاملين في مناطق الوباء، والاستماع إلى أحد أعضاء المجلس الذي قام عمليًّا بالتغسيل والتَّيْمِيمِ لبعض من مات بكورونا في إيطاليا، قرر المجلس ترجيح دفن الميت المصاب بداء كورونا بالكيس، وفي التابوت الذي خرج به من المشفى، دون تغسيلٍ أو تيممٍ حتى وإن سُمح به قانوناً؛ وذلك لأن التغسيل أو التيميم مع أخذ الاحتياطات الوقائية للمُغسِّل لا ينفي عنه خطر العدوى، خصوصاً وأن الأخذ بشروط الوقاية للمغسِّلِ يحتاج إلى تدريب وخبرة غير مقدور عليها الآن، وإذا كانت الطواقم الطبية يتعرض أعضاؤها إلى العدوى رغم تدريبها ومبالغتها في التحوط من الإصابة، فكيف بمغسِّلٍ لا يمتلك هذه الخبرة ويتصل بالميت اتصالاً مباشراً.

كما أن القواعد الفقهية والنصوص الشرعية تدل على أن المحافظة على حياة الحيّ الصحيح تُقدَّم على إقامة السنة أو الواجب في حق الميت، ويكفي في الأحكام اعتبار غلبة الظن المتمثل في انتقال العدوى للمغسِّل ثم انتقالها منه لغيره، وحياة الحي من رتبة ضروري حفظ النفس، وتغسيل الميت من رتبة تكميلي حفظ الدين، والضروري يقدم على التحسيني، ونحن في وضع استثنائي يفرض الموازنة في الاختيار والترجيح الفقهي على نحو يحقق الحياة والحماية من العدوى للأحياء قدر الإمكان. فليس النقاش في إمكانية سلامة المغسِّل من العدوى إن أخذ بالتدابير الوقائية كما صدر عن منظمة الصحة العالمية، وإنما النقاش في كيفية الوصول عمليًّا بالأخذ بتلك التدابير الوقائية بحق المغسِّل.

وأما الدفن فالأصل أن يدفن المسلم حيث مات وأن يُعجَّل بدفنه، ولا أصل لنقل الميت من أوروبا إلى وطنه الأصلي، بل فيه مخالفة للسنة من وجهين: الأول: تأخير دفنه ربما لأيام، والثاني: حرمانه من أجرٍ بَشَّر به النبي صلى الله عليه وسلم من مات بغير المكان الذي ولد فيه، وذلك لماَّ ماتَ رَجُلٌ بِالْمَدِينَةِ مِمَّنْ وُلِدَ بِهَا، فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: يَا لَيْتَهُ مَاتَ بِغَيْرِ مَوْلِدِهِ، قَالُوا: وَلِمَ ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: “إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا مَاتَ بِغَيْرِ مَوْلِدِهِ، قِيسَ لَهُ مِنْ مَوْلِدِهِ إِلَى مُنْقَطَعِ أَثَرِهِ فِي الْجَنَّة” رواه أحمد والنسائي وابن ماجه، وابن حبان، وصححه أحمد شاكر.

والأصل كذلك أن يدفن المسلم في مقابر المسلمين؛ لأنه المعمول به من لَدُنِ رسول الله e إلى يومنا هذا، وبفضل الله أغلب البلدان والمدن الأوروبية بها مقابر خاصة بالمسلمين، فإن تعذر ذلك مع حالة الطوارئ الحالية جاز دفن المسلم في طرفٍ من مقابر غير المسلمين، إذ لا يكلف الله نفساً إلا وسعها، ولا يضر المسلم في حالة كهذه أن يدفن في مقابر غير المسلمين، فإن الذي ينفعه في آخرته هو عمله وليس موضع دفنه، قال تعالى: “وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى” [النجم: 39]، وكما قال سيدنا سلمان رضي الله عنه: (الأرض لا تقدس أحداً).

Posted on Leave a comment

رمضان موسم إصلاح وترشيد

يأتي رمضان المبارك شهراً كاملاً في كلِّ عام، محمّلاً بمخزونات ثمينة لا تصحّ الغفلةُ عنها في الإصلاح والترشيد، وإحياء القيم النبيلة وتَمَثُّل المعاني السامية. إنّ رمضان موسم متعدِّد المكاسب، فالشهر المبارك موسم علم وعمل، وعبادة وإحسان، وتأمُّل وتفكُّر، وتواصُل وتراحُم.

تُدرِك المجتمعات الحديثة فرصاً كامنة في المواسم والمناسبات، فتستثمرها وتفتعل مزيداً منها؛ للاحتفاء بقيم، وترسيخ مبادئ، واجتثاث آفات، أو إنعاش سوق، ولمقاصد أخرى تتعدّد. لكنّ موسم رمضان يتألّق في الواقع الإنساني بامتياز عَزَّ نظيرُه؛ فهو يخالج الإنسانَ في أعماقه، وتنتظم فيه الحياة اليومية على غير المعهود شهراً بحياله، في مدرسة تربوية وسلوكية واجتماعية تجدِّد للمجتمع روحَه وترجِّح بها توازنه وتوثِّق عُراه وتُحرِّره من أدرانه.

يحمل رمضان المبارك من تلقائه فرصاً هائلة إلى المجتمعات، تنوءُ بمثلها حملاتٌ واسعة وجهود مُضنية في الإرشاد والتوعية والإصلاح، تُفتَعل لها مناسبات، وتُستحدَث لها أعياد، وتُحشد فيها موارد صوب أهداف محدّدة، دون أن يتأتّى لها وازع يكافئ ما يحرِّك المؤمنين من تلقائهم في شهر الصِّيام. لا يُسفِر هذا الشهر عن مكنوناته الزاخرة بإقامة الشعائر في عزلة عن الحياة أو انكفاء عن المجتمع، فرسالة رمضان المبارك تُهيِّئ الأسباب لانتظام الحياة ذاتها بمعايير الصلاح والاستقامة في الأمور كلِّها؛ من قوْلٍ وعملٍ، وفكر ومقصد.

يعود هذا الموسم في كلِّ عام في دورة إنعاشٍ للأرواح، وربيع متجدِّد للمجتمعات، تُحفِّز الأذهانَ المتفتِّحة على إعادة اكتشاف رمضان من وجوه متعدِّدة لا ينقطع النور والخير والبركة فيها. إنها خبرةٌ متجدِّدة لا تتأتّى لمن يريدونَه موسمَ طقوسٍ مجرّداً من الرُّوح، أو تقاليدَ شكلية ترضخ للواقع، أو شعاراتٍ جوفاءَ تقعد عن الإصلاح، أو موسمَ استهلاكٍ جامح وترفيهٍ متضخِّم.

تنفتح للإنسان في شهر الصّوْم آفاقُ عُلوية حجبتها غشاوةُ الحياة اليومية وانشغالاتُها الأرضية، ومن شأن هذا التشوُّف السامي أن يُهيِّئ الإنسان الحائر لإدراك الوجود، والإقرار بحقائِقِه الكبرى بمنظور إيمانيّ يتجاوز تموضُعاً أرضيًّا محدوداً، ضمن كوْن يَعجَز وعيُ البشر عن الإلمام بأطرافه القاصية، أو استيعاب معادلاتِ انتظامه المعقَّدة. وإن لم يرتفع الإنسانُ ببصره، فإنّ الواقع الأرضيّ من حوله كتابٌ مفتوح للتفكّر والاكتشاف المذهل، إنْ في النظرة الإجمالية، أم في التدقيق التفصيلي: “وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ” [الذاريات: 20]. أمّا الصوم عيْنُه، فيتفاعل في بَدَن الإنسان الذي يختزن أسراراً مستعصية على الأفهام حتى في زمن الفتوح العلمية العظيمة، فالإنسان كوْنٌ مصغَّر ينتظم بدقّة مُعجِزة تدلّ على اللطيف الخبير: “وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ” [الذاريات: 21].

ثمّ إنّ رمضان مدرسةٌ نبيلة في الصبر والاحتمال، تتربّى فيها المجتمعات على قوّة الإرادة، والقدرة على التحكُّم، بما يُرَشِّد الحرية ويضبطها بالمسؤولية، ويسعفها في الكفّ عن الاغتراف المتواصل من دنيا زائلة والتعلق بحطامها. وفي مدى هذا الشهر العظيم فرصة استدراكٍ بعد زللٍ، ونافذة تحرّر من ثقافة استهلاك جارفة. يخطئ من يَقيس الجدوى بمدى التقليل من منسوب الطعام والشراب على مدار شهر الصيام؛ فالجدوى تتجلّى أساساً في التحرّر من التثاقل إلى الأرض؛ والاقتدار على ضبط الرغبات، والتحكّم في الانفعالات، والإمساك بالزمام، فيتحكّم الإنسان بشهواته، ويضبطها بدل اتِّباعها وانقياده لها.

وفي رمضان، رسالة تآخٍ وتلاقٍ بين البشر، بما تجسِّده من وَحدة حالٍ في الاصطبار والاحتمال، والارتواء والقيام، أو وَحدة وجدان في العواطف والمشاعر والانفعالات. إنها مدرسةٌ للغنيّ والفقير، يتكافأ فيها البشر على تعدّد ألوانهم وهيئاتهم، ومواطنهم وطبقاتهم. ولا يكتمل الدرس دون سَعي إلى التكامل وردم الفجوة عبر عطاء يُدفَع به إلى من يحتاجه، من وجوه إنفاق مفروضة، لا مِنّة فيها ولا أذى، وأبواب تنافس مرغوبة في وجوه الخير والتضامن.

وفي رمضان فرص التقاءٍ ومعايشة وسلام، في مجتمعاتٍ تتنوّع طوائفها وتتعدّد ثقافاتها، ومن شأن هذا أن يُعين المجتمعات على احتواء الأزمات، وإزاحة الحواجز، وتجاوز القوالب النمطية الساذجة، والأحكام المُسبقة المضلِّلة، التي تُستغَلّ في إثارة الأحقاد وبعث الضغائن.

ما أحوج الناس إلى رمضان المبارك، وأن يُدرِكوا ما في هذا الموسم العظيم من فضائل لا تَنضب.. وكيف للحياة أن تستقيم بدونها؟!