Posted on

لماذا نصوم؟ .. حول فلسفة الصيام في الإسلام | د. خالد حنفي

لماذا نصوم؟

سلسلة مقالات موجزة حول فلسفة الصيام في الإسلام … للدكتور خالد حنفي

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على إمام حضارة المسلمين وبعد ،،

 فهذه سلسلة مقالات تجيب على سؤالٍ يُطرح اليوم بقوة في الشرق والغرب، من المسلمين وغير المسلمين كلما دخل شهر رمضان وهو: لماذا نصوم، وهل للصوم حكمة معقولة المعنى، أم هو ضرب من التعذيب لا يناسب الإله الرحيم بعباده؟

ولا تهدف تلك المقالات الوجيزة إلى استقراء تلك الحِكَم والتعليلات للصيام، وإنما تُقدِّم بياناً لصحة وإمكانية هذا التعليل، وتُؤكد على أن الشارع الحكيم لم يُنص عليها؛ لتبقى متجددة متمددة بتجدد العصور والأزمنة ونظر المفكرين والعلماء، ولئن نَسَأ الله في الأجل سأكمل تلك المقاصد التي أوصلتها إلى عشرين مقصداً أو يزيد إلى الآن.

وتقرير المبدأ وهو تعليل العبادة ومعرفة مقصدها أهم عندي من الاستقراء والإكمال كما قال القرافي في ” الفروق “: (1/ 121): (وما لا أعرفه، وعجزت قدرتي عنه، فحظي منه معرفة إشكاله، فإن معرفة الإشكال علم في نفسه، وفتح من الله تعالى) ا. هـ.

وأود هنا التأكيد على أمرين مهمين: الأول: أن الامتثال للتكليف بالصيام لا يجوز شرعاً أو عقلاً أن يتأخر حتى تُكشف العلة ويتضح المقصد، أو أن يعلق الامتثال والتعبد على معرفته وظهوره، وإنما يجب الامتثال والطاعة ثم يأتي التعليل والتقصيد ليطمئن المسلم ويزداد امتثالاً وانقياداً وتسليماً، ويتفتح عقل غير المسلم لقبول التشريع واليقين بعدم تصادمه مع العقل أو الواقع. وتعليق الامتثال على الاقتناع بصحة التشريع يتناقض مع معنى ومفهوم العبودية، بل حقيقة الإسلام وهي الاستسلام لرب العالمين..

الثاني: أننا اليوم بحاجة ماسة إلى إعادة تقديم الإسلام وأحكامه التشريعية وفق منهج فلسفي مقاصدي تعليلي، وأن افتراض سؤال حول أى قضية في الإسلام بأداة الاستفهام: لماذا؟ وإيجاد جواب له هو عين روح التشريع، ومقتضى آيات التنزيل والسنة النبوية.

وقد كان السبب الذي دفع ولى الله الدهلوي لتصنيف كتابه الشهير الذي اعتني ببيان حِكم وأسرار التكليفات الشرعية )حجة الله البالغة( أنه: لاحَظَ أن العالم الإسلامي مقبلٌ على تطور جديد، وأنه سوف يستقبل عصراً يقوم بناؤه على العقل وما يكتسبه من علم، وأنه سوف يواجه ثورة فكرية عارمة، ولابد من إيضاح الفكرة الإسلامية وجلائها، وبيان أسرار الدين وحكمه، وأصول التشريع الإسلامي وأسسه في تنظيم الحياة والمجتمع. رغم أن الدهلوي رحمه الله تعالى توفي سنة 1176هـ = 1762م فماذا يمكن أن يُقال عن زماننا وعصرنا الذي كثرت فيه الشبهات والتشكيكات في الثوابت والقطعيات؟ لا شك أن التوجه إلى التقصيد والتعليل وبيان العلة والحكمة من التكليفات الشرعية هو واجب الوقت.

وقد سرني أن تُرجمت هذه المقالات إلى عدة لغات مما يعني تشوف القاريء المسلم إلى هذا السلوب التعليلي في تناول الأحكام.

أدعو الله تعالى أن يكتب القبول والنفع لهذا العمل، وأن يمدني بقوة من عنده لإكماله والولوج إلى غيره من القضايا والموضوعات قياماً بواجب البلاغ المبين لهذا الدين الذي شرفنا الله بالانتساب إليه دين الإسلام. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

لتحميل السلسلة PDF اضغط على كلمة تنزيل

Posted on Leave a comment

فضل العشر الأوائل من ذي الحجة وكيفية الاستفادة منها

فضل العشر الأوائل من ذي الحجة وكيفية الاستفادة منها

في هذه الظروف الاستثنائية التي يمر بها العالم، وما فرضه انتشار وباء كورونا من تحديات في كل مجالات الحياة، يحل علينا بعد أيام قليلة موسم من مواسم الخير والعطاء، التي نستجلب فيها رحمة الله ومغفرته، ونتزود منها للقائه، إنه موسم العشر الأوائل من ذي الحجة، والتي جمع الله فيها أُمهات العبادات واختصَّها بكثير من الفضائل والميِّزات.

فهيا بنا أيها الأحباب نري الله من أنفسنا خيرا، فإننا مقبلون على عشر مباركة، أقسم الله بها في كتابه، فقال: {والفجرِ* ولَيَال عشر} والعظيم لا يقسم إلا بعظيم..

وهي الأيام المعلومات التي شرع الله ذكره فيها، فقال: {وأَذن في النَّاس بالحج يأتوك رجالا وعلَى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلوماتٍ على ما رزقهم من بهيمة الأنعام}.

 وقال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام))، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟! قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله، ثم لم يرجع من ذلك بشيء)) أخرجه البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

إن هذه الفضائل التي اختصت بها الأيام الأوائل من ذي الحجة تستحثنا إلى حسن الاستعداد لها والاستفادة منها، ومن أهم الأشياء المعينة على ذلك:

أولا: من أراَد الصلاَة تطَّهر لَها، وكذا من أراد أن يتقبل الله منه صالح العمل ويستجيب دعاءه ويغفر له في موسم الخير والغفران، فَعليه أن يتطَّهر من أدران الذنوب وأن يغسل قلبه من أوحال المعاصي، فالتّوبةُ والاستغفار من أولى ما تُستَقبل به مواسم الخير، فكيف نلَقى الله تعالى وندعوه ونَرجو خيره وبَّره وإحسانَه ونحن مثَقلون بالأوزار، فالمَعاصي تحرم العَبد من قبول الأعمال وإجابة الدعاء.

ثانيا: تجديد النية باغتنام هذه الأيام بما يرضي الله تعالى، مع كثرة الدعاء، عسى أن يفتح لنا ربنا أبواب طاعته ورحمته ومغفرته في هذه الأيام المباركة.

ثالثا: من أهم مقاصد العبادات تحقيق مقام التقوى {لعلكم تتقون} {لَن ينَاَل اللَّهَ لحومُها وَلا دماؤُها ولَكن ينَالُه التَّقوى منكم }، وهي من أهم شروط القبول {إنما يتقبل الله من المتقين}، وما يناله العبد من الفضل والثواب عند الله مرتبط بما في قلبه من تقوى الله عز وجل {إن أكرمكم عند الله أتقاكم}.

والمولى عز وجل إنما أعد دار كرامته لعباده المتقين {إن المتقين في جنات وعيون}، فمن أراد اللحاق بهم فليبذل المجهود من نفسه لتحصيل صفاتهم، فليست التقوى بالمظاهر والأقوال، ولا حتى بظاهر الأعمال، وإنما تقاس بما يزين العبد من صفات المتقين، وبما وقر في قلبه من الإيمان والخشية.

رابعا: إننا في حاجة إلى فقه صحيح لمعاني العمل الصالح الذي يقربنا من الله مع احترام سلم الأولويات.. فالعمل الصالح لا يقتصر على الشعائر التعبدية، بل يشمل أعمال كثيرة حث عليها الإسلام ورغب فيها، وبها نتقرب إلى الله.. لما سئل نبينا عن أحب الناس إلى الله وأحب الأعمال إلى الله، قال عليه الصلاة والسلام: ((أحب الناس إلى الله أنفُعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخلُه على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دينًا، أو تطرد عنه جوعاً، ولأن أمشي مع أخ في حاجة أحبّ إلي من أن أعتكف في هذا المسجد شهًرا (أي: المسجد النبوي الذي الصلاة فيه بألف صلاة) ومن كَفّ غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظه ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رضاً يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى تتهيأ له أثبت الله قدمه يوم تزوُل الأقدام)) . «صحيح الجامع 176»

الساعي لقضاء الحوائج موعود بالإعانة، مؤيد بالتوفيق، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه. وفي خدمة الناس بركة للعبد في الوقت والعمل، وتيسيرُ ما تعسَّر من الأمور، يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ((من يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة)). وقال عليه الصلاة والسلام: ((صنائع المعروف تقي مصارع السوء ، وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة))  «رواه ابن حبان ». يقول ابن عباس رضي الله عنهما: (من مشى بحق أخيه ليقضيه فله بكل خطوة صدقة). وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف على أناس جلوس فقال ( ألا أخبركم بخيركم من شركم ) قال : فسكتوا، فقال ذلك ثلاث مرات، فقال رجل : بلى يا رسول الله أخبرنا بخيرنا من شرنا، قال: (خيركم من يرجى خيره ويؤمن شره وشركم من لا يرجى خيره ولا يؤمن شره) « رواه الترمذي وصححه الألباني ».

من يرد الله به خيرا يجعله مفتاحا للخير مغلاقا للشر، ويقضي حوائج الخلق على يديه. روى الإمام ابن ماجه، وابن أبي عاصم وغيرهما من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( إن من النَّاس مفاتيح للخير مغاليق للشر، وإن من النَّاس مفاتيح للشر مغاليق للخير، فطُوبَى لمن جعل الله مفاتيح الخير علَى يديه، وويل لمن جعل الله مفاتيح الشر علَى يديه )). « رواه ابن ماجه عن أنس بن مالك»

وسيد الخلق صلى الله عليه وسلم كان لا يرد صاحب حاجة حتى بعد أن تقام الصلاة: عن أَنس بن مالك رضي الله عنه، قاَل:  (( كانت الصلاة تقام، فيكلمُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم الرجل ِفي حاجة تكون لَه، فيقوم بينه وبين الْقبلَة، فما يزاُل قائما يكلمه، فرَّبما رأَيت بعض الْقوم لَينعس من طُول قياِم النَبيِّ صلى الله عليه وسلم لَهُ)). « أخرجه أحمد والتِّرمذي ».

ومن أهم الأعمال وأجلها وأعظمها أجرا عند الله، ما نقوم به من جهد في خدمة دينه ودعوته، وللعامل منا من الأجر والثواب على قدر نيته وجهده، فحري بنا أن نتحرى الإخلاص في أعمالنا كلها، ونبذل المجهود من أنفسنا في خدمة هذه الدعوة المباركة التي أكرمنا الله بالانتماء إليها.

خامسا: من أهم الشعائر المشروعة في هذه الأيام المباركة:

1 – التكبير والذكر. لقوله تعالى : ( ويذْكروا اسم الله في أَيام معلُومات ) وقد فسرت بأنها أيام العشر، واستحب العلماء لذلك كثرة الذكر فيها لحديث ابن عمر رضي الله عنهما: ( فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد ).  وذكر البخاري رحمه الله عن ابن عمر وعن أبي هريرة رضي الله عنهم أنهما كانا يخرجان إلى السوق في العشر، فيكبرون ويكبر الناس بتكبيرهم.

2- الصيام: وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصومها ففي سنن أبي داود والنسائي وغيرهما عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم تسع ذي الحجة، ويوم عاشوراء، وثلاثة أيام من كل شهر). وروى مسلم رحمه الله عن أبي قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والتي بعده). وفيه أن دعاءَ يوم عرفة أفضل الدعاء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفضل الدعاء دعاءُ يوم عرفة، وإن أفضَل ما أقوله أنا وما قال النبيون من قبلي: لا إله إلا الله ). «أخرجه مالك في الموطأ.»

3 الصلاة: تعتبر الصلاة من أعظم العبادات وأكثرها فضلا، وفي هده الأيام المباركات نتقرب إلى الله بالنوافل كصلاة الليل والسنن، وفي الحديث القدسي: ( وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ).

4- الصدقة: ومن الأعمال الصالحة التي ترفع الدرجات وتكفر الخطايا وتزكو بها النفوس (الصدقة)، خصوصا في هذه الأيام المباركة التي تضاعف فيها الأجور وتتنزل فيها من الله البركات والرحمات.

 5 – صلاة العيد: صلاة العيد يوم النحر من أبرز شعائر الإسلام الظاهرة، وهي سنة مؤكدة عند أكثر أهل العلم، واعتبرها بعضهم من الواجبات كشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.

6- الأضحية: وقد أجمع أهل العلم على مشروعيتها، وكونها من شعائر الدين الظاهرة، ولذا كان حريا بنا أن نحافظ عليها ما استطعنا إلى ذلك سبيلا.

نسأل الله تعالى أن يدخل علينا هذه العشر المباركة باليمن والبركة والرحمة، وأن يفتح لنا فيها أبواب طاعته ويوفقنا فيها لما يحبه ويرضاه، وأن يغفر لنا أجمعين.

Posted on

قصيدة أحبك يا أخي في الله | د. عبد السلام بسيوني

قصيدة أحبك يا أخي في الله

بقلم الدكتور: عبد السلام البسيوني

أحبك يا أخـــي في الله حبـــًّــا يحتوي قلبي
لأن الله مولانــــــا.. يجازي الحــــبَّ بالحب
وينشر ظـــلَّ رحمتِــهِ.. ويمحو فاحـــشَ الذنبِ
إذا كانـت محبتُنــــا.. بلا غـشٍّ ولا شـَــوْبِ

أحبـــك لا أريد النفعَ إلا ما قضــــى اللهُ ُ
فلا دنيـا تُحركـــني.. ولا بَسْــطٌ ولا جــاهُ
ولا التعظــيمُ يدفعنـي.. فمـــا عظّمــتُ إلاهُ
فحسبي مخـــلصٌ في الله.. يلقــاني وألــقـــاهُ

أحبك يا أخـي فــي الله.. غفــــارُا لتقصـــيري
إذا ما احلولَكَ الوجــدانُ تغمـــرني بتنويـــــر
وتهدي الغــيَّ من سعيِي بتســـديدٍ وتدبـــــير
وتقطع سُبْلَ شيطـــاني بتهليـــــلٍ وتكبـــيرِ

لعل إلهـَـنا الرحمـــنَ يؤويــنا إلى العـــرشِ
إذا ما زرتَنـــي في اللهِ تبغي الأجــرَ إذ تمــشي
إليَّ بصالحِ الأعمـــالِ لا بالـهُجْرِ والفحـــش
وتلقاني أخي بالسلـــمِ.. لا بالســوءِ والبطــش

أحبك يا أخـي في الله.. حبــًّـا مثلما نفســي
أذلُّ إليكَ كـي ترضى وأرفع بالرضـــا رأسي
لأن رضاك من دينـي.. وسعدَك جالبٌ أنســـي
فتلك شريعة المولـــى.. إلهِ العرشِ والكرســي

Posted on Leave a comment

المسلمون الجدد بين عالمَين

المسلمون الجدد بين عالمَين

قد يتعافى مريض طال داؤه وتناءى دواؤه، ثم أدرك ما فاته في زمن السقم في وقت العافية، وقد يفجأ المرءَ الصحيح مرضٌ مُقعِد، وبعد أن كان بالأمس مفتول العضلات يمشي في الأرض مرحا، إذ به وقد تبدلت حاله وغدا لا يقوى على شيء، وكم سمعنا عن أناس زادهم الله بسطة في المال والعافية بعد عَوَز، وهناك من افتقروا بعد غنى عريض، فمنهم من آمن بقدر الله ومنهم من أعرض ونأى بجانبه وملأ الأرض بالشكوى والضجر، وليت ما فات يعود، أو ما مضى ندركه، قُضي الأمر ورفعت الأقلام وجفَّت الصحف.

ليس من اليسير على المرء أن يتأقلم سريعا على تقلبات الحياة وتبدل الأحوال، تلك قاعدة تجري على حياتنا كلها، بيد أنها ظاهرة في حياة المسلم الذي أشرق بالإيمان قلبه واستنار بالقرآن عقله بعد رحلةٍ قصيرةٍ أو طويلةٍ تفكيرا وتدقيقا وموازاتٍ وخياراتٍ وصراعاتٍ داخليةٍ وخارجيةٍ وحاضرٍ ومستقبل يَلُفُّه – في بعض الظروف – غموضٌ ويكتنفه المجهول، إنك لا تتصور أن حياة إنسان ستنقلب وتتحول، وتتغير أشياء جديدة، وتستجد عليه أمور أخرى يجب أن يوطن نفسه عليها إن أراد التوازن في حياته، وليس هو عليه هَيِّن.

هذه امرأة بحثت طويلا عن الدين الذي يروي ظمأها ويشفي غليلها ويسد ثَلَمة روحها، فانتقلت من دِين لدِين، وبعد حين هداها الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، فشرح صدرها وأنار دربها فاتخذت الإسلام دينا واتبعت الرسول صلى الله عليه وسلم والنور الذي أُنزل معه، فهل عاشت هانئة البال خالية من شدة يبتلى الله بها بعض عباده؟ لا… لقد واجهت واقعا جديدا فرض نفسه، فكيف سيتصرف معها أهلها الأقربون؟ منهم من احترم اختيارها، ومنهم من صدَّ عنها، قاطعها أبوها وأمها وبعض أقاربها، وأصبحت تحت ضغوط تتناوشها من كل جانب.

كيف تواجه هذه الصعوبات جملة واحدة؟
إن بعضا من أصدقائها بالأمس أصبح من المُصَعرين خَدَّهم لها اليوم، اختبار عسير، كيف توازن بين برها لوالديها واحترامها لنفسها وقناعتها؟ ليس من السهل عليها أن تجد أحب الناس إليها مقاطعين لها فكيف السبيل إلى قلوبهم؟ ما حدود التعامل مع زملاء العمل في مسائل متعددة؟ وماذا عن الأحكام الشرعية والقيام بها، الصلاة والصيام والحج والحجاب وو ماذا تقدم وماذا تؤخر وكيف تؤدي عباداتها على النحو الذي يرضاه ربنا؟

إن حياة جديدة تستقبلها وعالما جديدا تدخله فهل تخاصم عالمها الآخر بكل جوانبه؟ وماذا عن حقوق الرحم والتواصل الاجتماعي؟ ستجد نفسها مدعوة إلى عقد زواج بالكنيسة ودعوة أخرى لشهود تعميد ابنة أخيها أو أختها؟ وغير ذلك من المناسبات، ثم تدور عينيها في محجريها عندما ترى فوضى الفتاوي التي تطفح بها صفحات النت ووسائل التواصل، وفي ظل ضعف المؤسسات والعمل الدعوى الموجه للمسلمين الجدد تزداد حيرة على حيرتها.. هذه حالة مما لا يُحصَى فما السبيل إذا؟

طرحتُ أسئلة لا لمناقشتها إنما للوقوف على بعض صور المعاناة والصعوبات التي تواجه إنسانا قرر أن يختار دينا جديدا بمحض إرادته وعليه أن يشق طريقا غير مُذَللٍ، ويكافح وحده أو مع غيره لتجاوز العثرات والبقاء على دينه إلى يوم اللقاء، إن كثيرا من المواقف تضغط على ذهني لإفراغها هنا، وإنني لفاعل، وسأذكر طَرَفا منها:

– جاءت مسلمة جديدة مع زوجها العربي الشاب لتعرض علىَّ مشكلتها:

فلما جلسا فقلت ما خطبكما؟

قالت: يُحَرم علىَّ زيارة أهلى غير المسلمين لتهنئتهم في أيام الأعياد نهاية العام قلت لماذا تمنعها؟

قال: هذا حرام!

اعلان
قلت ما هو الحرام؟

قال أن تزورهم في أيام الأعياد، فهذه موافقة لهم على دينهم!

قلت هل ستزورهم في بيتهم أم أنها ذاهبة إلى مرقص؟

قال بل في بيتهم!

قلت إنها زيارة صلة وبر ولن تتورط في شيء محرم فلماذا تحجبها عنهم، وبأي وجه تصنع أنتَ ذلك؟

ثم قلت: هل يهنئك أهلها بعيد الفطر والأضحى؟

قال نعم، ويقدمون لنا الهدايا!

قلت: هل تهنئتهم لنا ومعها الهدايا تعني موافقتهم لنا في معتقداتنا؟ قال لا، قلت: هل تحب أن يحبوا ديننا ويحترموه ؟ قال نعم، قلت فكيف ونحن بهذا الطبع الخشن والإحساس البارد والمشاعر البليدة؟ لماذا نقدم ديننا ناقص الخلقة مُشَوه الصورة دميم المنظر؟! أين وجه التحريم في الزيارة والصلة؟ ألم يقل الله “أن تبروهم”، لماذا نلغي عقولنا كأننا أجساد بلا أرواح، وأدمغة محشوة بالخرافات والأوهام؟

وتلك قصة أخرى: امرأة مات أبوها وسألتْ بعض المتسلقين على الفتوى: هل يجوز أن تشارك في جنازة والدها فأجابها – شغله الله بغير الفتوى – لا يجوز لأنه كافر.. ولأن المرأة حرام عليها زيارة القبور.. هكذا قولا واحدا! كم سيكون لهذا الهراء من أثر مقيت على المرأة ومحيطها؟ لكم أن تتصوروا أن يسألها أقاربها وأصدقاؤها لماذا لم تشاركي في الجنازة؟ بأي وجه تجيبهم؟ هل ستقول: الإسلام يُحَرم علىَّ المشاركة في جنازة أبي لأنه غير مسلم؟! ولأن المرأة لا يجوز لها زيارة المقابر؟!

إن كانت المسألة محل خلاف بين الفقهاء فلماذا نتخير منها الأشد وما يوقع ديننا في دائرة الشبهة والحرج؟! بل من أعجب ما سمعت أن رجلا اتصل بي يسأل عن حكم حضور المرأة الحائض وقت احتضار أبيها، فعجبتُ من السؤال نفسه، ثم ازددت عجبا حينما أخبرني أنه قرأ على موقع باللغة الألمانية فتوى بحرمة جلوس المرأة الحائض وقت احتضار أحد، ذلك لأن الملائكة تكون حاضرة ولا يحل لها البقاء وهي على تلك الحال! هل سمعتم هراءً كهذا؟ إن المؤمن لا ينجس على كل حال كما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد أجاز عدد من الفقهاء للمرأة الحائض قراءة القرآن، بتفصيل في المسألة، وهو الراجح خلافا للمانعين.

فرق كبير بين مسلم جديد فَهِم الإسلام فَهما يجعله يصل ما أمر الله به أن يوصل، ويفيض بالخير على من حوله كما تفيض الكأس بالماء إذا امتلأت، وبين آخر يدفعه التدين المغشوش إلى قطع الأرحام وهجر الأنام ولا تراه إلا فظا عليظا، وقد رأينا من الصنفين.

أذكر الآن شابا كان يتعلم معنا اللغة العربية وهو غير عربي وأخبرني أنه بعد إسلامه أنه انطلق داعيا أقاربه، وهدى الله على يديه وأسلم تسعه من أهله ولا زال يجتهد مع غيرهم، وبعد أن اقتربت منه وجدت له خُلقا هينا لينا وقلبا مشفقا ولسانا طيبا، فقلت هذا خليق بمقومات الداعية الموَفق. ولو لم يكن له من العلم الكثير، لست أدرى لماذا نعاني تباينا شاسعا بين توظيف العلوم وتنزيلها في واقع الحياة، يوم نقدمه بفهم قاصر فلا يعنى إلا أنه دين في معركة مع فطرة الإنسان وطبيعته السوية، فهل هو الدين الذي ارتضاه الله لعباده؟! اللهم لا.

تناقض المشهد الإسلامي في الغرب
مسكين هذا الوافد الجديد على ديننا حينما يبصر بعض المشاهد الإسلامية متناقضة متلاحقة، خلاف وشقاق وتباغض وتقاطع بين بعض المساجد داخل المدينة الواحدة، جماعات كلٌّ منها يدعي أنه يحتكر الحقيقة ومَنْ دونها بدعة وبهتان، والكل يستشهد بآيات الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعادات وتقاليد تقدَّم للمسلم الجديد على أنها من الدين وهي ليست منه في شيء.

ماذا يصنع المسلم الجديد أمام هذه الفوضى؟!
تعرفت على بعض الشباب الألمان المسلمين ووجدت له هيئة عجيبة، لقد وهبه خلقة حسنة، لكنه عَبِث بها على نحو لا يسر، كان يلبس لباسا أشبه بملابس الجيش مع تقصير مبالغ فيه لسرواله، فقلت له: لماذا تصنع بنفسك هكذا؟ قال: وماذا أفعل؟ قلت فلتلبس ما يلبسه الألمان، قال: أتريدني أن ألبس مثل ما يرتدي الكفار؟! قلت له يا أذكى أصدقائك: ما شأن اللباس في الإيمان والكفر؟ إن كلمتك فيها من الاستعلاء ما يجعل تقصير الثوب أو إطالة اللحية عملا لا يبشر بخير ولا يسر الخاطر

ثم قلت في نفسي: هذا الشاب ضحية مرة بعد مرة، الأولى قبل الإسلام، والثانية بعده، فقد تلقفته أيدي لا تعرف من الإسلام إلا القشور ويحسبون أن عَقد الجبين قربانا للجنة، والفظاظة نافلة، والغلظة من علامات الإيمان، والجفاء من آثار العبادة، لا زال أمامنا عمل كثير لنُعَبد الطريق أمام من يرنو لمعرفة الحق زاهيا في أنوار الحقيقة، وفي مقالنا القادم ستقف مع رؤية وخطوات عملية تحت عنوان: ماذا نقدم للمسلمين الجدد؟

المصدر: مدونات الجزيرة