Posted on

الإمام الأوروبي: إنما الإمام راحلة

إنما الإمام راحلة

بقلم فضيلة الشيخ الهادي بريك

أخرج الشيخان عن ابن عمر أنه قال عليه الصلاة والسلام : الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة. ونقرأ في الكتاب العزيز من سورة القصص أن الإمام يهدي الناس إلى الضلال (وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار) وأنه يهديهم إلى الخير كما نقرأ ذلك في سورة الأنبياء (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا).

كما أخبرنا سبحانه أن الحشر في يوم البعث يكون على أساس الإمام المتبوع في الدنيا إذ نقرأ في سورة الإسراء (يوم ندعو كل أناس بإمامهم). ومن كل ذا نستنبط بيسر أن الإمام يحتكر غرفة القيادة ويمخر بمن خلفه عباب الحياة كما يمخر ربان السفينة عباب البحر فإما موبقا نفسه ومن معه أو معتقهم. وقديما قالت العرب أن الناس على دين ملوكهم.

بل إن نبي الرحمة محمدا عليه الصلاة والسلام حذّر أمته أن يتولى الإمامة فيهم وارث لها لا يرعى فيهم إلاّ ولا ذمة وذلك في حديثه عند البخاري عن أبي بكرة (ما أفلح قوم ولّوا أمرهم إمرأة) بل إن حديثه هذا يحمل في وجهه الآخر نبوءة سرعان ما تحققت إذ أوردت تلك الملكة الجديدة ـ التي ورثت الملك عفوا من أرصدة القوة والأمانة ـ قومها دار البوار وأضحى ملك كسرى أثرا من بعد عين.

ألا ترى أنه يقرر سنة عمرانية عليه الصلاة والسلام إذ يعلّم الناس أن الشعوب والمجتمعات والأمم في حاجة ماسة مؤكدة إلى إمام سماه راحلة؟ وهي إستعارة تدثرت بأهداب الجمال. ذلك أن الراحلة هي البعير الذي يقود الإبل وتحمل زاد صاحبها. لا بل إن الراحلة ـ والعبد الفقير من أعرف الناس تجربة بهذا ـ بما زودت من صبر وقوة وأمانة وذاكرة ثاقبة لا يلهيها كلأ عن مكابدة طريقها الطويل ولا يضلها دجى غمر الكون أن تصل إلى رحال أصحابها. كما أنه عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث نفسه يحرّض الناس على إنتاج الرواحل العدول الذين يقومون بوظائف الإمامة والقيادة والزعامة.

بل إنه أشاد بعدد من أصحابه من أهل العلم والمعرفة والتأثير في مختلف المهارات وما ذلك سوى ليتخذهم الناس من بعدهم أئمة ومنهم أبوبكر الذي خلع عليه وسام الرحمة (أرحم أمتي بأمتي أبو بكر) والفاروق عمر الذي نثر عليه من تلك الأوسمة ما به تنوء العصبة من أولي القوة. ولقد فقه الصحابة الكرام ذلك المعنى حق الفقه فلم يترددوا في إنتخاب إمام لهم يخلفه عليه الصلاة والسلام في معالجة الحياة بالدين. ولفرط فقههم هرعوا إلى ذلك وإمام الأئمة الذي علمهم تلك القيمة مازال مسجى عليه الصلاة والسلام. ألم يقرض الشاعر حكمته في ذلك بقوله : لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ــ ولا سراة إذا ما جهالهم سادوا؟

وإعلاء لقيمة الإمامة بالحق في الناس علّمنا القرآن الكريم هذا الدعاء المبثوث في سياق طويل يروي خلق عباد الرحمان في سورة الفرقان (واجعلنا للمتقين إماما). كما أن الإنتماء إلى عبادة الرحمان سبحانه لا يطيب سوى بالتوق والشوق إلى التربع فوق عرش الإمامة. وأي إمامة؟ إنها إمامة المتقين ومن كان لهؤلاء إماما فهو لغيرهم أولى وأحرى. وعندما يرد ذلك في صيغة دعاء ضارع من جهة وتفرد كلمة الإمام (إماما وليس أئمة) من جهة أخرى فإن كلّ المؤثرات تجتمع لترفع من شأن الإمامة وظيفة وقيمة الإمام هاديا إلى الصراط المستقيم.

وبالخلاصة؛ فإن الإمامة في الحياة إمامتان فإمّا إمامة خير وإمّا إمامة جهالة وإن الإمام يحمل أوزار من يضلهم إذا أضلهم أو يجني من ثمرات خلفه الطيبة إذا هداهم إلى السنة الحسنة. ذلك هو الناموس الحاكم في وضع الإمامة والإمام وهو الناموس ذاته الذي حكم البيت النبوي الشريف الذي قال فيه سبحانه في سورة الأحزاب (يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرا. (ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين).. الإمامة ضريبة.. وقديما قال المناطقة والأصوليون: الغنم بالغرم. وإذ قد تبيّن لك سبيل الإمامة ومقام الإمام فأختر لنفسك ما ترضاه لها. إختر أن تكون إماما في إثر الذين أنعم الله عليهم من (النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا). وليكن زادك قوله عليه السلام (استعن بالله ولا تعجز).

والله أعلم.