وما كان ربّك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون | من سنن الله في النفس والحياة

الشيخ الهادي بريك

الشيخ الهادي بريك

 الحلقة: 8

وما كان ربّك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون

ورد هذا القانون بهذه الصّيغة في سورة هود المكية. من يقرأ القرآن الكريم بتدبّر ونظر وتأمّل لا يفوته أن يعلم أنّ لله سبحانه سنّة ماضية في الأمم المكذّبة. وخاصّة الأمم الصّادّة عن سبيل الله سبحانه. تلك هي سنّة الإهلاك ولو بعد إمهال لعقود طويلات بل لقرون أطول. حتّى إنّه اتخذ سلسلة سباعية من الأمم التي تعرّضت إلى ذلك في إثر تكذيبها أنبياءها وصدّهم عن سبيل الله. تلك السّلسلة السّباعية لا يفتأ يذكرها بانبساط مرّة وباقتضاب مرّة أخرى. أو يجمع بين انبساط وانقباض في السّياق ذاته أحيانا. وكلّ ذلك بحسب مقتضيات السّياقات. يتركّب ذلك السّلم في العادة الغالبة من قوم نوح ثمّ من قوم هود (عاد) ثمّ من قوم صالح (ثمود) ثمّ من قوم لوط وأحيانا بذكر عمّه إبراهيم عليه السّلام ثمّ من قوم مدين (شعيب) ثمّ من قوم موسى (بني إسرائيل ومختلف المفردات: فرعون ومن معه) . تلك هي أهمّ مركّبات تلك السّلسة التي اتخذها القرآن الكريم مثلا غالبا للتّكذيب المشفوع بالإهلاك. وقد تتغيّر بعض حلقات تلك السّلسلة ولكنّها تغيّرات طفيفة جدّا. كأن يتغيّر اسم القوم مثلا أو تعريجا على آخرين. ولكن مركّبات: قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم لوط وقوم شعيب وقوم موسى هي مركّبات ثابتة. كلّ ذلك بطبيعة الحال في رسالة إلى قريش أصالة وإلى النّاس عامّة حتّى يوم القيامة. ولا ينفع القول هنا أنّ عاقبات التّكذيب أو الصدّ تغيّرت إذ هي تغيّرت فعلا. ولكنّ قانون الإهلاك ماض مطّرد ثابت. عدا أنّ صوره تغيّرت وليس أصله. هذا أمر يغفل عنه النّاس. بل حتّى بعض المسلمين. كما أنّ قانونا آخر قد يشغب على النّاس فيجعلهم يغفلون عن هذا القانون (قانون الإهلاك) وهو قانون الاستدراج أو المدّ أو الإملاء بحسب تغيّر التّعبير عنه باللّفظ القرآنيّ. هما قانونان يسيران جنب إلى جنب. فلا يشغب أحدهما على الآخر. قانون المدّ من جهة لمن تمرّد على التّكذيب والصدّ حتّى أضحى ذلك له مهنة وحرفة لا يحيد عنها. وقانون الإهلاك من جهة أخرى. وهو يصيب النّاس من بعد آخر بعثة رسالية بصور أخرى مختلفة عن صور الإغراق والسّحق والمحق والصّعق وغير ذلك. كلّ ما تقدّم كان ضروريا للحديث عن قانون الإصلاح الذي هو طارد لقانون الإهلاك. قوام هذا القانون هو أنّ الله سبحانه يهلك في العادة الظّالمين سيما بمعنى الصّد عن سبيل الله سبحانه من بعدما تبيّن لهم الحقّ. ولكنّه يؤخّر هذا القانون عندما يهرع النّاس إلى الإصلاح. جاء الحديث عن الإصلاح في جملة حالية (وأهلها مصلحون). هي (واو) الحالية. فكون حال بعض أهل تلك القرية ـ التي أهلها ظالمون ـ هي حال إصلاح فإنّ الإهلاك بعيد عنهم. ومن ذا امتلأ الكتاب العزيز بالدّعوة إلى الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر والإصلاح والصّلح الذي عدّه دوما خيرا (والصّلح خير) والدّعوة إلى الخير. وأردفت السنّة ذلك بالقيم ذاتها داعية إلى إعمال النّصيحة التي عدّها هي الدّين ذاته (الدّين النّصيحة) وغير ذلك ممّا امتلأ به الوحي الكريم من قرآن وسنّة. إنّما يحيق الإهلاك بالأمم والشّعوب عندما تقفر أرضهم من قيم الإصلاح بالكلّية. هذا تكريم لقيمة الإصلاح ولعمل المصلحين. أرأيت كيف أنّه لم يعلّق الأمر على بلوغ الإصلاحات مداها. إنّما وعد بطرد الإهلاك لمجرّد قيام الإصلاح الذي هو من المعلوم بالتّجربة الصّحيحة بالضّرورة أنّه لا يبلغ مداه حتّى يعوّق ويهدّم ويسجن أهله وينفوا من الأرض ويقتّلوا تقتيلا. هذا يجعلنا نلتقي مع قانون ماض عنوانه (الله يريد الآخرة). أي أنّه لا يريد أن تصل الإصلاحات إلى آمادها المسطورة ليعمّ العدل عموما. وإنّما هو سبحانه يبتلى النّاس: هل يتجشّمون طريق الإصلاح الذي دونه كلّ المهالك التي يخشاها الإنسان على نفسه جبلّة ـ وليس خوفا مكروها ـ أم يسكنون في الدّعة. بقيت كلمة (بظلم) هل تعني نفي الله عن نفسه سبحانه الظّلم وهذا مؤكّد معروف. ولكن هل هذا هو المعنى هنا. أم أنّها تعني السّببية ليكون المعنى: وما كان ربّك ليهلك القرى بسبب ظلمهم. المعنيان محتملان. وتلك هي طبيعة النّظم القرآنيّ العظيم العجيب عندما يريد تحدّي العرب الأقحاح. وعندما لا يكون الموضع في سياق نصّ دينيّ يتوقّف عليه خير أو شرّ أو حلال أو حرام أو واجب أو فريضة. أمّا التنطّع الحامس انتصارا لهذا المعنى أو ذاك في المتشابهات ـ التي أريد لها أن تكون كذلك ـ فليس من العلم ولا من الحكمة

والله يعلم وأنتم لا تعلمون

ورد هذا القانون بهذه الصّيغة في سياق الحديث عن القتال في سورة البقرة. إذ قال سبحانه (كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبّوا شيئا وهو شرّ لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون). ولكن ورد في مواضع أخرى ربّما تعالج فيما يأتي إن شاء الله. عادة ما يأتي هذا القانون عندما يخشى على الإنسان أنّه يجد في نفسه حرجا فيما ورد من تشريع أو تكليف. ورد هذا في موضع عدم عضل المرأة المطلّقة أن تعود إلى زوجها إذا تراضيا. والمفهوم هنا أنّ الخطاب موجّه إلى الأولياء الذين لا يريدون عود المرأة إلى زوجها الذي طلّقها. فهم من شدة شنآنه يذهبون إلى عقابه وشطب أيّ إمكانية أخرى لعودة حياة زوجية. كما ورد تعقيبا على الذين يحاجّون فيما ليس لهم به من علم من الإسرائيليين. إذ أنّ بعضهم يحاجّ في إبراهيم الذي أنزلت التّوراة والإنجيل من بعده. فهي إذن محاجّات مدحوضة لا سلطان للعلم فيها. كما ورد تعقيبا على حادثة الإفك في سورة النّور المدنية منبّها المسلمين إلى أنّ شيوع الفاحشة في صفوفهم ـ بتدبير من المنافقين وغيرهم من أعدائهم ـ هو الخطر المحدّق عينه. فلا تساهل مع هذا ولا غفران. لأنّ السّفينة عندما تخرق تغرق. ولا يشفع من بعد غرقها أحد لأحد. ولن يتلطّف البحر بأمواجه العاتية وظلماته المدلهمّة بغارق لم يكن من المساهمين في ذلك الخرق. ورأينا أنّ هذا القانون (والله يعلم وأنتم لا تعلمون) كيف أنّه جاء تعقيبا على كتب القتال. ذلك أنّ النّفس تخاف القتل الذي هو ثمرة ممكنة للقتال. ولكنّ موت بعضنا ـ إذا لم يكن من ذلك بدّ ـ لأجل حياة الآخرين آمنين في أوطانهم وحرماتهم وكراماتهم وحرّياتهم هو أيسر من موتنا جميعا تحت نير الرّق الشّنيع والذّلة المهينة. هي قيم فطرية. ولا أدلّ على ذلك من أنّ العرب أنفسهم في جاهليتهم الأولى أقرّوها إذ قالوا: تجوع الحرّة ولا تأكل بثدييها. وقال شاعرهم الكبير: لا تسقني ماء الحياة بذلّة بل فاسقني بالعزّ كأس الحنظل. وربّما ـ ولأسباب أخرى ـ بسبب هذه العزّة العظمى المتأصّلة فيهم وتلك الأنفة أنزل الله عليهم سبحانه كتابه وجاء منهم رسوله عليه السّلام. (والله يعلم وأنتم لا تعلمون) قانون ماض مطّرد صارم وسنّة مسنونة. بل هي حقيقة لا أظنّ أنّ أحدا يجادل فيها. من يراجع حياته فينا يلفى بيسر محطّات كثيرة فيها لم يكن فيها مختارا كلّ الاختيار. إنّما ساقته أقدار الرّحمان سبحانه إليها سوقا جميلا دافئا عجيبا. بل ربّما وجد في بداية ذلك السّوق تردّدا منه أو خوفا. ثمّ ما لبث أن اطمأن إلى محطّته الجديدة وألفها كلّ الإلف حتّى إنّه ليتردّد في العود إلى ما سلف. خير تعبير في القرآن الكريم عن هذا القانون هو ما جرى للغلام الذي قتله صاحب موسى عليهما السّلام جميعا. وما فعله إلاّ بإذن من ربّه سبحانه. إذ قال تعقيبا على ذلك (وما فعلته عن أمري). ثمّ أخبرنا سبحانه ـ رحمة بنا ولطفا ـ أنّه فعل ذلك لأنّه يعلم أنّ ذلك الغلام لو عمّر لكان فرعونا سابقا لفرعون موسى الذي هو رمز الكفر والقهر سواء بسواء. وأنّه لو عاش لكان ويلا وثبورا على أبويه. وبذلك يجمع بين الكفر والقهر والعقوق. وهي كفيلة بالخلود في النّار. أليس هو مشهد بالصّوت والصّورة رأيناه وسمعناه وتعلّمنا منه أنّ الله سبحانه يعلم ونحن لا نعلم؟ بلى وربّ الكعبة. هل هناك بعد هذه القصّة زعم داحض أنّ الإنسان يأسى على ما فاته أو يموت كمدا على ما لم يغنم حتّى لو سعى إليه السّعي كلّه؟ ولكن ذلك لا ينفي الحزن الخفيف أو حتّى البكاء. ولكنّه لا يتحوّل إلى سخط على قضاء الله سبحانه أو رفض لقدره الغلاّب القاهر. هذا القانون (والله يعلم وأنتم لا تعلمون) لكم يسكب في النّفس من رضى وطمأنينة وسعادة غامرة وسكينة أحلى من الشّهد المصفّى وأزلّ من الماء الزّلال في ظمأة القائلات اللاّظية. من سلّم لله سبحانه فيما يريد سكب في فؤاده من الرّضى ما به تغدو الحياة كلّها وبما فيها من وقعات وسخطات مرفأ دافئا. ولكنّ ذلك لا يعني عدم إعمال الإرادة البشرية أو إحلال التواكل بدل التوكّل أو القعود بدل المقاومة. لا . الأمران يسيران جنبا إلى جنب. ثمّ يقضي سبحانه ما يريد ابتلاء لعبده هل يرضى أم يسخط. حتّى عندما تخفق حركات مجاهدة لاستعادة وطن سليب أو مقاومة لاستعادة تحرّر وسيادة أو عندما لا يظفر امرئ بفؤاد امرأة أحبّها من سويداء قلبه أو بشهادة سهر لأجلها اللّيالي فإنّ ذلك يظلّ محكوما ـ لنيل الرّضى وطرد اليأس والكفر ـ بهذا القانون الغلاّب (والله يعلم وأنتم لا تعلمون). وسبحان من يعلم كلّ شيء

بقلم الشيخ: الهادي بريك