ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن!

يقول الحق تبارك وتعالى {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون:71]

يميل العلامة ابن عاشور إلى تعريف الحق في هذه الآية بأنه “الشيء الموافق للوجود الواقعي ولحقائق الأشياء” ويعرّف الهوى بأنه” شهوة ومحبّة لما يلائم غرض صاحبه” وكي لا يقع الالتباس يميّز ابن عاشور بين شهوات الأفعال التي تقتضيها الجبلّة وغيرها ” فشهوة الطعام والشراب ونحوهما مما تدعو إليه الجبلّة ليست من الهوى، وإنما الهوى شهوة ما لا تقتضيه الفطرة كشهوة الظلم وإهانة الناس”. والاتّباع كما يشير إليه هو ” معنى موافقة الحق الأهواء أن تكون ماهية الحق موافقة لأهواء النفوس”.

ويميّز ابن عاشور بين صنفين من الحقائق “الحقائق الوجودية وهي الأصل فهي مقررة في نفس الأمر، مثل كون الإله واحدا، وكونه لا يلد، وكون البعث واقعا للجزاء” وما بين الحقائق الموجودة في الاعتبار (الحقائق المعنوية) “وكونها حقا هو كونها جارية على ما يقتضيه نظام العالم مثل كون الوأد ظلما، وكون القتل عدوانا”.

يقول صاحب التفسير التوحيدي الدكتور حسن الترابي رحمه الله ” ولو صُرف مورد الحق عن علم الله وحكمته البالغة واتّبع الحقُّ في تعاليم الوجود و هوادي الحياة أهواءَ أولئك المخاطبين المعرضين المحصورة في العالم المشهود غفلةً وجهالةً المفتونة بشهواته تعلّقاً وفجوراً المقصورة عن ميزان العدل ظلماً وفسقاً ومضى الأمر في غياهب الباطل والضلال، إذاً لفسدت السماوات المحكم بناؤها، الموزونة كائناتها الطبيعية، والمنظومة فيها حركة المخلوقات الجنيّة والمَلَكيّة المطوّعة، ولفسدت أيضا الأرض المسخّرة بسنن منسوقة، وأفسدها مَن فيها من البشر ينطلقون بخيار عربيد ضربا في الضلال وإحالة لنظام مهاد حياتهم ورزقهم وبيئتهم إلى خراب واضطرابا في العلاقات بينهم لاختلاف الأهواء وارتباك التنازعات”.

لذلك اقتضت حكمة الله تحرير الحق مما يشوبه من نزاعات وأهواء هي من طبيعة الكائن البشري، فجعل الحق فوقها، ومعاييره أعلى منها، لأنه يعلم ضعف خلقه. فالبشر يميلون بطبعهم إلى الجدال في كل شيء، فحتى ما يتواضعون عليه من وثائق ونصوص، جعلوها حكما بينهم، ولأنها من صيغهم فتجد كل طرف يميل إلى تأويله ويعتبره التأويل الأدق وتضيع مع اختلافاتهم المصالح.

وما الخلافات في أغلبها إلا اتباع لهوى هذا وذاك، سواء كان فردا أو جماعة، والحمد لله الذي أودع في كتابه من الثوابت والأصول والقصص ما يمكّن الإنسان من قدرة التحرّر الذاتي من الهوى، فالهوى لا يتحكّم في النفس إلا إذا هي خضعت له.

المقالات المنشورة بالموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي المجلس الأوروبي للأئمة