وقفات مع أساليب التعامل مع الإساءة للمقدسات الإسلامية في أوربا | حرق المصحف نموذجا

الشيخ علي فتيني

الشيخ علي فتيني

الوقفة الأولى:

الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله

وبعد:

فهذه وقفات تسلط الضوء على قضية مهمة وخطيرة تستفز وتزعج كل مسلم صادق ليس فقط المسلم الأوربي، بل كل مسلم في أي مكان من أرجاء هذا العالم، وتجرح مشاعره وتثير غضبه وغيرته، هذه القضية هي حوادث الإساءة إلى المقدسات الإسلامية والتي تتكرر بين فترة وأخرى في البلدان الأوربية تحت مبرر حق “حرية التعبير “، وخاصة منها الدول الإسكندنافية حيث تكررت مثل هذه الحالات في الفترة الأخيرة في النرويج والسويد، وآخرها حادثة حرق القرآن في السويد في أيام عيد الأضحى المبارك أمام المسجد الكبير في استوكهولم من قبل شاب عراقي ملحد متطرف، في حادثة هي الأولى من نوعها في التخطيط لاختيار الزمان والمكان، ومثلت استفزازا غير مسبوق لمشاعر كل المسلمين في كل مكان.

والخطاب هنا في هذه الوقفات موجه إلى المسلم الأوربي الذي يقيم في أي بلد أوربي قد تقع فيه مثل هذه الحوادث المؤسفة، وسوف نخصص كل وقفة بمقال على حدة تخفيفا على القارئ إن شاء الله.

الوقفة الأولى:

حرمة شهود مثل هذه الحوادث ووجوب هجرها وعدم حضورها

وقد وردت عدد من النصوص موضحة لهذا الحكم وهو عدم جواز الحضور والقعود في مجالس يقع فيها الاستهزاء والسخرية بآيات الله، بل وصل التشديد في الحكم في بعضها إلى درجة إلحاق من حضر المجلس بمن خاض واستهزأ، ومن تلك النصوص ما يلي:

قوله تعالى: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ۚ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا) سورة النساء الآية 140

ويقول تعالى: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ۚ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَىٰ مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) سورة الأنعام الآية 68

ويقول تعالى في صفات عباد الرحمن:

(وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا) سورة الفرقان الآية 72

سؤال وجوابه:

أعرف أن هناك من سيقول أننا إنما نحضر لإنكار المنكر وردع المعتدي على مقدساتنا ويتساءل هل يدخل ذلك في حرمة الحضور المذكورة سابقا؟!!

وهنا يكون الجواب بشيء من الإسهاب فأقول وبالله التوفيق ومنه الإعانة:

نعم نعلم نيتكم الحسنة ولا نجهلها ونعرف غيرتكم وحميتكم ولا نشك فيها، ونحن معكم ومثلكم في تلك المشاعر، رغم أننا نعلم أيضا أن هناك من المغرضين من يركب الموجة ويستغل الحدث ويخرج معكم وله مآرب أخرى، ولكننا هنا نتحدث عن الصادقين المخلصين منكم ونخاطبهم بالجواب التالي:

أن مثل هذه الحوادث لا يكفي مجرد النية الحسنة في الحضور لإنكارها، بل ينبغي فيها مراعاة أمر مهم ينبغي فهمه والوعي به، وللأسف يغفل عنه ويجهله الكثير بسبب عدم الرجوع إلى أهل العلم وسؤالهم وأخذ التوجيه منهم، وخاصة من علماء البلد الأوربي الذي تقع فيه الحادثة، وبسبب آخر أيضا وهو التعجل في ردة الفعل وسيطرة ثورة العاطفة والحماس والغيرة، هذا الأمر المهم الذي نعنيه هو:

“فقه التعامل مع الحدث”

والذي يشتمل على:

فقه إنكار المنكر

وفقه الموازنة بين المفاسد والمصالح

وفقه المآلات

وهي أنواع من الفقه مهمة وعميقة ودقيقة، تتضمن ضوابط مهمة لهذا الأمر حتى يحقق نتائجه المرجوة شرعا، ويكون وفق شرع الله ومرضاته وينال القبول منه.

والحقيقة أنه لا يتسع المقام لعرض تلك الأنواع من الفقه بالشرح خشية الإطالة، ومن غايتنا هنا الاختصار في البيان والجواب حتى يكون سهلا للاطلاع والفهم لشريحة أكبر من إخواننا وشبابنا المسلم في أوربا.

الجواب التأصيلي والتنزيلي:

 أولا: الجانب التأصيلي

هذه إشارات تأصيلية موجزة نورد فيها بعض النصوص في أهمية فقه إنكار المنكر ومراعاة المصالح والمفاسد والمآلات المتعلقة به، من تلك النصوص على سبيل المثال:

قوله تعالى: {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ}[الأنعام:108

وهذه الآية العظيمة أصل في فقه التعامل مع المنكر والنظر في مصالح ومفاسد ومآلات إنكاره وضوابط تغييره، يقول المفسر الكبير ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: ” يقول تعالى ناهيا لرسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين عن سب آلهة المشركين، وإن كان فيه مصلحة، إلا أنه يترتب عليه مفسدة أعظم منها، وهي مقابلة المشركين بسب إله المؤمنين، وهو الله لا إله إلا هو”.

ومن أقوال العلماء في هذا الفقه:

الأول: يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى: إذا تزاحمت المصالح والمفاسد، فإن الأمر والنهي وإن كان متضمناً لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة، فينظر في المعارض له، فإن كان الذي يفوت من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر لم يكن مأموراً به، بل يكون محرماً إذا كانت مفسدته أكثر ” مجموع الفتاوى 28/129

 الثاني: يقول الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه إعلام الموقعين متحدثاً عن شروط إنكار المنكر ومدى مراعاة المصلحة والمفسدة فيه: «فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله فإنه لا يسوغ إنكاره، وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله…. ” ثم قال:” فقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها، بل لما فتح الله مكة وصارت دار إسلام عزم على تغيير البيت ورده على قواعد إبراهيم، ومنعه من ذلك -مع قدرته عليه- خشية وقوع ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريش لذلك لقرب عهدهم بالإسلام وكونهم حديثي عهد بكفر ” إعلان الموقعين 3/4

الثالث: ويقول الإمام الشاطبي رحمه الله في كتابه الموافقات عن فقه المآلات: (النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعا، كانت الأفعال موافقة أو مخالفة، وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلِّفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل، مشروعا لمصلحة فيه تُستجلب، أو لمفسدة تُدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه، وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه، أو مصلحة تندفع به، ولكن له مآل على خلاف ذلك، فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية، فربَّما أدَّى استجلاب المصلحة فيه إلى المفسدة، تساوي المصلحة أو تزيد عليها، فيكون هذا مانعا من إطلاق القول بالمشروعية، وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم مشروعية، ربَّما أدَّى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد، فلا يصحُّ إطلاق القول بعدم المشروعية) الموافقات (3/ 85).

ولعل في تلك النصوص السابقة إفادة وكفاية في جانب التأصيل إن شاء الله تعالى.

ثانيا: الجانب التنزيلي والتطبيقي

وبناء على ما سبق في جانب التأصيل نقول:

ماهي المصالح التي تتحقق فعلا من الخروج لحضور حادثة حرق القرآن بنية إنكار المنكر ومنعه كمثال؟! وهل هناك مفاسد من الحضور؟

بداية دعونا نصور المسألة تصويرا دقيقا حسب المستطاع حتى يتم الحكم عليها طبقا للقاعدة الفقهية الأصولية التي تقول:

” الحكم على الشيء فرع عن تصوره”

مجمل الصورة في الواقع كالتالي:

شخص ليس بمسلم يعيش في بلد ليست مسلمة يخرج إلى ساحة عامة يحرق نسخة من المصحف مستندا إلى قانون البلد الذي يكفل حق حرية التعبير ولديه إذن رسمي بذلك من الجهة المختصة ويكون في حماية الشرطة، وردا على ذلك يخرج مجموعة من شباب المسلمين الذين يعيشون كأقلية في البلد لمنعه فلا يستطيعون الوصول إليه لأن الشرطة تمنعهم، فتقوم المجموعة بالصراخ والصراع مع أفراد الشرطة وحرق سياراتهم، وربما من شدة الحماس والتشنج تنتشر الفوضى في مساحة أكبر ويقع تكسير وتحطيم لممتلكات عامة وخاصة، وتقوم الشرطة بالقبض على الشباب وإدخالهم السجن بحجة أن هذه جرائم عنف وتكدير أمن المجتمع ومخالفة القانون، ويتم تسجيل ذلك كنقاط سوداء في سجلات الشباب فتؤثر على مستقبل حياتهم، والنتيجة أن شبابنا الطيب المتحمس لم يحقق شيئا ولم يزل منكرا بل وقع في مفاسد كثيرة ونتائج سلبية كبيرة للأسف الشديد !!!!

 إضافة إلى ذلك هناك زاوية مهمة من الصورة وهي:

أن من يقوم بحوادث حرق القرآن هم أفراد من اليمين المتطرف المعادي للإسلام والمسلمين وهدفهم الأصلي هو: “الاستفزاز” للمسلمين، وهي خطتهم الأساسية التي أعلنوا عنها في بعض تصريحاتهم بصراحة، وأمنيتهم أن يكون هناك زخم إعلامي لأفعالهم الشنيعة، وحلمهم أن يحضر عدد كبير من شباب المسلمين ويحدث صدام وصراع وتخريب وتدمير، ليقولوا بعد ذلك أنظروا إلى المسلمين هذه صفاتهم التي حذرنا المجتمع منها وهي الإرهاب والعنف والهمجية والتخلف ومخالفة القوانين، إنهم قوم ليسوا حضاريين ولا يستحقون الحياة في مجتمع حديث متحضر، وينشرون الخوف منهم ويدعون لمضايقتهم وطردهم وإعادتهم إلى بلدانهم، ويستغلون ذلك في التعبئة في حملاتهم الانتخابية ويحصدون من النتائج مالم يحلموا به من عقود طويلة سابقة !!!!

وهنا تنتهي وقفتنا الأولى ولا أظن أننا نحتاج لتأكيد الحكم بحرمة حضور مثل هذه الحوادث التي تجلت في تلك الصورة المذكورة سابقا، لأن الحكم واضح في تصوري من خلال الجواب التأصيلي والتنزيلي السابقين لكل ناظر متأمل في النتائج السابقة، والتي لا مصلحة متحققة فيها وكل مآلاتها فاسدة وضارة، والشريعة كما قرر العلماء مقاصدها حسنة نافعة للبشر وجاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان، وتتضمن تحقيق خير الخيرين ودفع شر الشرين، وأي قضية لم يتحقق فيها ذلك فلا تقرها الشريعة.

يتبع الوقفة الثانية إن شاء الله ….

بقلم: على فتيني

النرويج 2023/7/5 م