واقعة المريسيع : أيّ عبر؟

الشيخ الهادي بريك

الشيخ الهادي بريك

واقعة المريسيع : أيّ عبر؟

ممّا دأبت عليه في اختيار خطبة الجمعة الحديث عن السّيرة النّبوية. سيما التي ثبّتها القرآن الكريم وعند حلول ذكراها. آملا استنباط ما أمكن من العبر المهمّة النّافعة لنا في حياتنا الجديدة. دون التّيه في السّرد التّاريخيّ الذي تضيق عنه خطبة جمعة ولا فائدة منه دون استلال عبره. إذ المقصد الأسنى من القصّة هو (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب). وهل تشذّ قصّة نبيّنا محمّد عليه السّلام عن هذا؟ أبدا. بل هي الأولى به. نحن في شعبان. وهي مناسبة لأن يتحدّث الخطباء عن واقعة المريسيع التي سجّل القرآن الكريم في سورة النّور ما جدّ في أعقابها. بل رتّب عليه حدودا

ملخّص الرّواية

شاركت بنو المصطلق (قبيلة ذات أصل عربيّ من خزاعة ثمّ تأسرلت بسبب عوامل جغرافية وسياسية وغيرها) في هجوم (أحد) ضدّ النّبيّ عليه السّلام. وأغرتها هزيمة المسلمين هناك فظلّت تدبّر ما يخضّد شوكتهم. علم عليه السّلام بتلك الإرهاصات فأرسل حكيما يستطلع الخبر فأكّده له. قام بالهجوم عليهم ذات ضحى وهم يسقون ويلعبون فأسّر منهم كثيرا وغنم منهم أكثر. ممّن وقع في الأسر بنت سيّد القبيلة (الحارث ابن أبي ضرار) وهي (جويرية) . وفي طريق العودة إلى المدينة (تقع مرابط القبيلة في منتصف الطّريق بين مكّة والمدينة على بئر تعرف بالمريسيع) عاود المنافقون حنينهم إلى إبطال المفعولات الإيجابية لهذا النّصر المبين. فصنعوا حديث الإفك الذي إتّهموا به الأمّ العظمى عائشة بالفاحشة مع صحابيّ معروف تأخّر عن قافلة العودة (هو صفوان ابن المعطّل) وإتّفق أن وجد عائشة وحيدة بعد أن تخلّفت عن الرّكب من دون أن يشعر بها بسبب ضياع عقد لها ظلّت تبحث عنه لمدّة طويلة. وعاشت المدينة كلّها على أصداء حديث الإفك أسابيع طويلة قبل أن ينزل الوحي يبرّئ الأمّ العظمى. وكانت أشدّ كرب مرّ به عليه السّلام. بل كانت أشدّ ضربة موجعة من الجانب الإسرائيليّ (ومنه حركة النّفاق الدّاخلية) ضدّ البيت الإسلاميّ. إذ أصابت لفرط خبثها البيت النّبويّ نفسه. ولولا ذلك ما حفل القرآن الكريم بها. وما سجّلها في سورة مدنية كاملة. وقعت الأسيرة (جويرية بنت الحارث) في سهم (ثابت ابن قيس). ولكنّ الفتاة المدلّلة التي تتغذّى بنسمات الحرّية في بيت سيّد القبيلة كما تتغذّى بماء (المريسيع) لم تطق حياة العبودية والذلّة. ليس لها مال تكاتب به سيّدها. جاءت إليه (عليه السّلام) تستعينه على تحريرها. فحرّرها وتزوّجها راضية. فكانت الثّمرة الطّوبى : إيمان (جويرية) التي كانت مشركة + انعتاقها + الارتقاء إلى مصافّ أمّهات المؤمنين حتّى يوم القيامة بسبب زواجها من محمّد عليه السّلام + تحرير كلّ الأسرى وإعادة كلّ الأموال المغنومة بسبب علاقة المصاهرة الجديدة مع (بني المصطلق) + انهيار جزئيّ لجبهة الشّرك العربية بإسلام القبيلة كلّها بزعيمها. تورّط بعض المسلمين في ترويج حديث الإفك (مسطح ابن أثاثة وحسّان ابن ثابت وامرأة). وانتهى هذا الكرب الأعظم بنزول سورة النّور التي برّأت الأمّ العظمى عائشة. ورسمت قانون العفو الإلهيّ. وتابت عن المخطئين. وتوعّدت المنافقين. ونبّهت الأمّة إلى إحدى أكبر قواعد الاجتماع السّياسيّ : وحدة الصّف حتّى وهو متنوّع وتقديس الكرامة البشرية حتّى عن مجرّد القذف بالفاحشة ولو هزلا وترتيب عقوبات قاسية مشدّدة على ذلك

من عبر الواقعة

ليس الجهاد لإكراه النّاس بل لتحريرهم

نجح المبطلون منّا ومن خصومنا في تلويث قيمة الجهاد في الإسلام. وحشر كثير منّا في زاوية الدّفاع. كأنّ الإسلام متّهم بداية. من أسباب ذلك من جانبنا عدم التّأنّي المطلوب في استقراء السّيرة استقراء موضوعيا لا موضعيا ومقاصديا لا وسائليا والغفلة عن الملابسات التي تكتنف ذلك الزّمان وتركيباته القبلية وغير ذلك. هل تردّد القرآن الكريم في بيان علّة الجهاد ومقصده الأسني. أبدا. ولكنّنا نقدّم السنّة على القرآن الكريم فلا نظفر بالحقّ المبين. استقرأت بنفسي السّيرة كلّها وفي كلّ جوانبها الحربية والصّلحية فما وقفت على مشهد واحد كان فيه (عليه السّلام) هو من يبدأ بحرب أو عدوان. إنّما كان دوما ـ ودون أيّ استثناء ـ إمّا يحصّن أمّته بمقام القائد الأعلى سياسيا وحربيا. فلا يضع ثقة في غير موضعها فيفاجأ بعدوّ على تخوم المدينة. أو يبدأ بهجوم بعد أن تأكّد أنّ الخصم يحبك استعداداته الأخيرة لترتيب هجوم ضدّه. أو ينجد حليفا عسكريا سياسيا إذا أعتدي عليه (خزاعة مثلا في فتح مكّة). استقرأ ذلك بنفسك ـ إن شئت ـ من بدر الكبرى حتّى تبوك : 27 واقعة كبرى و54 سريّة استطلاعية. دون وفائه الشّديد بالإتّفاقيات الدّولية بينه وبين المكوّنات الأخرى إلى حدّ أثار حفيظة كبار الصّحابة الأكرمين (الحديبية مثلا). في (المريسيع) هجم عليهم لمّا تأكّد من خبر استجماعهم لقواهم وتحشيد النّاس ضدّه

جويرية : فارس التّحرير

جويرية الأمّ الكريمة عليها الرّضوان يشهد الله أنّي أحببتها مذ قرأت قصّتها. بنت مدلّلة في بيت سيّد القبيلة. لم تكن تعرف عن حماقات أبيها وقومها شيئا. هي من الغافلات بالمعنى الإيجابيّ للغفلة الوارد في القرآن الكريم في شأن الأمّ عائشة. لمّا شاء الله اجتباءها إليه سبحانه أوقعها في الأسر. أبت عليها كرامتها أن تظلّ أمة. من عقائدي أنّ الحريّة في الإنسان غريزة مكينة. وليست مكتسبا بشريا. من الذي تأوي إليه في هذا اللّيل الدّاجي والكرب العظيم؟ محمّد عليه السّلام؟. محمّد الذي أسّرها؟. أجل. هذا يعني أوّل ما يعني أنّ محمّدا عليه السّلام كان قريبا من النّاس. حتّى من المرأة. حتّى من الأسير. لو لم يكن كذلك لما غامرت امرأة أسيرة بالاستعانة به. من منّا اليوم هو كذلك سمحا ليّنا هيّنا تخاطبه المرأة المسكينة ولا تخشى بطشه. بل تأمل في حلمه؟ ليس منّا من يدثّر نفسه بذاك إلاّ كذبا مكذوبا. سيما حيال المرأة نحن غلاظ شداد. كيف وهي مشركة أسيرة؟ ما إن جاءته (عليه السّلام) حتّى قرأ في عينيها غريزة التّحرّر. لم يتردّد في ذلك. كيف وهو نبيّ الحرّية ورسول التّحرير دون منازع. هل نتجاسر بأن نخلع عليه ذاك؟ لا. لم؟ نخشى النّاس. نخشى الوصم بالرّدة. حرّرها عليه السّلام وعرض عليها الزّواج منه فقبلت. هل عرض عليها ذلك شهوة؟ أبدا. إنّما لما يعرف من آثار طيّبة عظمى على الأمّة وما تحمله من قيم. كان يعرف وهو يعرض عليها الزّواج أنّها ستكون سببا مباشرا في تحرير مئات الأسرى واستعادة غنائم. بل ربّما كان يأمل أن يسلم رئيس القبيلة ذاتها (وهو أبوها) وربّما القبيلة كلّها بأسرها. لكم نحن ضيّقو الأفق إذ نصدّق المبطلين أنّه تزوّجها شهوة أو بدون هدف أكبر ومقصد أعظم. لكم نحتاج إلى إعادة قراءة حياته كلمة كلمة. لكم نجهل عنه عليه السّلام. هل تجد اليوم كتابا واحدا من كتب السّيرة يحوي شيئا آخر عدا حياته الحربية؟ محاولات واعدة ـ معاصرة وليس غابرة ـ ولكنّها يتيمة. رسالتنا إلى النّاس هي : سيرة هذا النّبيّ هي سيرة رجل محارب لا يضع سيفه. أليست تلك هي رسالة كتب السّيرة كلّها تقريبا؟ لا نريد من ينتقدنا ولا من يراجعنا. لذلك قالت الأمّ العظمى عائشة : ما رأيت امرأة أكثر بركة على قومها من جويرية. نحن نستكثر هذا على امرأة. نريد طمره. كما نريد طمر الرّصيد التّحرّريّ الذي أشاد به القرآن الكريم نفسه أيّما إشادة وهو يتحدّث عن بلقيس. صندوقنا التّفكيريّ الأسود أصيب منذ قرون طويلة بما يشبه (الفوبيا) ضدّ المرأة. لا نريد الاعتراف بهذا كبرا

حركة النّفاق لا تموت

لم احتفى القرآن الكريم بحركة النّفاق كلّ الاحتفاء. فخصّص لها سورة مدنية كاملة هي من الطّوال (التّوبة) وسورة مدينة أخرى من المفصّل (المنافقون). فضلا عن سور مدنية أخرى بالعشرات حوت حديثا عن النّفاق كثيرا. لغرض واحد هو : إيقاظنا أنّ حركة النّفاق لا تموت. بل هي فينا دوما. وأنّ معركتنا الحامية الأولى معها هي. لم؟ لأنّ المنافق حيّة سامّة تعيش معنا. وتأكل معنا. وتصليّ معنا. تختبئ ليلا فإذا أخذنا سنة من نوم نفثت فينا من سمّها النّاقع. ثمّ تتولّى بسرعة إلى جحرها. وتدعنا نحن في حيص بيص. نتبادل التّهم. ويقذف بعضنا بعضا.علامتان كبيرتان لحركة النّفاق أكّدهما القرآن الكريم كلّما عالجها : العلامة الكبرى الأولى هي تمزيق الصّف الإسلاميّ ويكون بوسائل منها إثارة النّعرات سواء بدافع دينيّ (مسلم ـ مسيحيّ في وطن واحد) أو بدافع عنصريّ (أسود ـ أبيض) أو بدافع جهويّ (شرقيّ ـ غربيّ) أو بدافع مذهبيّ (سنّيّ ـ شيعيّ) أو بدافع سياسيّ (حزب كذا وحزب كذا) أو بدافع فكريّ (سلفيّ ـ صوفيّ ـ . إخوانيّ) وبدوافع أخرى كثيرة. العلامة الثّانية هي تلويث القيادات وتشويه سمعتهم بمختلف صور الإفك. حتّى تنقطع الصّلة بينهم وبين الأمّة التي لا تقاد إلاّ برواحل عدول كما أخبر عليه السّلام

كلّنا معرّض للخطأ وخيرنا العافون عن النّاس

يستعجب بعضنا أن يتورّط صحابيّ مهاجر مثل (مسطح إبن أثاثة) أو (حسّان ابن ثابت) شاعره عليه السّلام أو غيرهما في ترويج حديث الإفك. مردّ هذا الاستعجاب هو نظرة خاطئة للإنسان بما يسبغ العصمة على غير الأنبياء عليهم السّلام. مشكلة التديّن ليس الخطأ البريء الذي يقع فيه كلّ غير معصوم من غير الأنبياء عليهم السّلام. مشكلة التديّن الكبرى هي الحقد الذي يرون على القلب. فيكون حسدا أو بغضا أو عداوة وخصومة. ثمّ تهاجرا وتدابرا. وربّما حربا شعواء. الصّحابة يخطؤون ثمّ يتوبون بسرعة البرق. لم؟ لأنّ الخطأ فيهم عارض بحكم الغريزة. وليس هو صناعة راسخة متينة. مثل هؤلاء المخلّفون عن (تبوك) الذين نزلت سورة (براءة) لإعلان التّوبة عليهم. كان تخلّفهم عرضا. وليس تدبيرا محكما. ولذلك أنزل الله سبحانه قانونا راسخا عامّا لتوبته على النّاس. وهو قانون مطّرد حاكم لا يتخلّف. وكيف يتخلّف وقد عومل به أحبّ النّاس إليه ـ ربّما ـ بعد نبيّه ـ أي أبوبكر؟ القانون هو (ألا تحبّون أن يغفر الله لكم؟). يعني أنّ أبا بكر ـ عليه الرّضوان ـ لمّا غضب على مسطح إذ شارك في حديث الإفك فأعلن عدم مواصلة إنفاقه عليه جاءه التّعليم الإلهيّ أنّ عفو ربّه عنه مشروط بعفوه هو عن مسطح. ومعلوم أنّ غضب أبي بكر كان مبرّرا نسبيا. ذلك أنّ أبابكر ينفق عليه. وهو من قرابته. فكيف يقابل هذا برمي ابنته عائشة بالفاحشة؟ من حقّه الغضب. ولكن ليس من حقّه ـ من حيث أنّه صدّيق عظيم ـ أن يقطع إحسانه حتّى على من أساء إليه. هذا القانون سار لا ينفد علينا جميعا. لا عفو من الله علينا إلاّ بعفونا عن النّاس. النّاس الذين أساؤوا إلينا. وليس الذين لم يفعلوا ذلك. تلك هي ضريبة الإحسان لمن يروم بلوغ درجة الإحسان. أليس مهر الجنّة ثمين؟

أعراض النّاس مقدّسة كلّ التّقديس

ليس الغضب لأجل تدنيس عرض الأمّ عائشة عليها الرّضوان دون سواها فحسب. إذن لا فائدة من استلال العبر واستنباط الدّروس من قصصه. إنّما تساق القصّة في القرآن الكريم لأجل تثبيت القيم وترسيخ المثل العليا. عائشة هنا مثال لأيّ إنسان ديس عرضه ظلما. الإنسان هو الإنسان في تكريمه الذي اختاره الله بنفسه. بغضّ النّظر عن معتقده ودينه ولونه وقربه منّا أو بعده. ما لم يكن محاربا معتديا دون ريب. ذلك هو معنى تكريم الله بنفسه للجنس الإنسانيّ. وما رتّب الله عقوبة قاسية مشدّدة على من يطأ أعراض النّاس (لا فرق هنا بين ذكر وأنثى) إلاّ تقديسا لحرمة الإنسان وحماية لعرضه أن يستباح بغير حقّ. نحن نسمّي هذا اليوم حقوق إنسان. ويظنّ كثير منّا أنّها بضاعة غربية. هو خطاب السياسيين والإعلاميين. أمّا أن يتحدّث بهذا واعظ أو مشتغل في الحقل الدّعويّ فليس هو مقبول من كثير من المسلمين. هي نكبة نكبناها في وعينا الدّينيّ. هي بضاعتنا التي غفلنا عنها فأخّرناها فاقتبسها غيرنا منّا. ثمّ ظنّت الأجيال الجديدة أنّها ليست بضاعتنا. خير الدّعاة اليوم من يعكف عقودا يحدّث النّاس عمّا بعد الموت. أمّا من يحدثّهم عمّا جعله القرآن الكريم نفسه محكمات راسخات ثابتات قطعيات يغضب الله لوطئهنّ فلا علاقة له بدائرة العلم. بل ربّما يتّهم بأنّه موال للعدوّ لأنّه يشترك معه في بعض البضاعة. نكبتنا في الوعي نكبة مروّعة لمن يعي. ناكية النّاكيات أنّنا كذلك وعيا ونحن ضحية في أعراضنا المهدورة وأموالنا المنهوبة وأرضنا المحتلّة وسيادتنا المختطفة. عجب عجاب