هل تجوز المشاركة في عيد (التّنكّر)؟

الشيخ الهادي بريك

الشيخ الهادي بريك

ما من إمام في أوروبا إلاّ وقد أمطر بمثل هذه الأسئلة. هل تجوز المشاركة في هذا العيد أو ذاك؟ هذا يسأل لأجل إثارة زوبعة في كأس. وذاك لأجل الظّفر بما يهواه تحريما أو إباحة. والآخر لأجل جدل يوغر الصّدور ويطمس على سلّم الأولويات المكتظّ بما هو أضنى. وبمثل ذلك كثيرا ما تأتي الأجوبة طافحة بكلّ عجب عجاب. هذا يميّز بين عيد دينيّ وعيد غير دينيّ. وذاك يحرّم بإطلاق. وثالث يبيح بإطلاق. ورابع يضع الدّليل في غير موضعه. وضعنا الإفتائيّ يعيش الفوضى الخلاّقة بكلّ ما تعنيه من سوء

أسّ لا مناص منها لإحتضان القضية

الأسّ الأوّل : نحن مسلمون أوروبّيون. هويتنا تتركّب ـ ككلّ هوية ـ من ولاء ماديّ وهي الأرض. أو الوطن الذي نقيم فيه بأيّ صورة من صور الإقامة. ومن ولاء معنويّ. المفاضلة ـ هنا ـ بين مركّبي الهوية لا اعتبار لها. إذ الهوية هي مركّب إضافيّ لا تكون إلاّ بكينونة مركّبيها معا. درجنا كثيرا على العلاقة العمودية في ترتيب ولاءاتنا وانتماءاتنا. وقليل منّا من يعلم أنّ أصل العلاقة بين مكوّنات الولاء هي العلاقة الأفقية ضمانا للتّعايش بينهما ونبذا للاحتراب. استقراء شريعة الإسلام تنبئك بذلك. ما هي مقتضيات هويتي الأوروبية؟ مجرّد شعار؟ أم رسوم فوق بطاقة الهوية فحسب؟ أم هي التّقية الفاسدة؟ هل يمكن ـ عقلا وواقعا ـ أن أعيش في أروبا بعادات إفريقيا وتقاليد آسيا وأعراف أمريكا اللاّتينية؟

الأسّ الثاني : نظرية الاستحالة أو التخلّل (بالتّعبير الفقهيّ القديم) في المأكولات والمشروبات ـ والتي بها تحلّ عين في الأصل محرّمة بسبب تغيّرها وذهاب علّة تحريمها ـ هي ذاتها المحكّمة في الحقل الاجتماعي. كثير من الأعياد الأوربية ذات الأصل الدّينيّ استحالت عادات وتقاليد وأعراف لا علاقة لها بأيّ دين. إنّما هي تنفيسات روحية عمّا يضيق به المواطن الأوروبي من انطوائية بسبب قحط الرّحم ووأد الولد الذي لم يقدر الكلب الأليف على ملء فراغه. إنّما هي مساحات تجارية. لم يكن في حسبان الثّورة الأوربية أن تظلّ هذه الأعياد الدينية حيّة بعد وأد الطّول الكنسيّ. ولكن أثبتت التّجربة التي لا تماحل أنّ الدّين والفنّ (كما تقول الأنثروبولوجيا) أمران لا يمكن اجتثاثهما من الأرض بالكلّية. وعندما يستحيل العيد ذو الأصل الدّينيّ إلى تظاهرة اجتماعية صاخبة فإنّ الحكم ـ في صورة وجوده ـ ما ينبغي له إلاّ أن يتغيّر هو نفسه. أحكام العقل وأحكام الدّين من مشكاة واحدة. وبينهما الذي بينهما من الوصل والفصل

الأسّ الثّالث : لا أعرف مهارة تندّ عنها إحاطات أهل الذّكر مهما بلغوا مثل مهارة تربية الولد سيما قبل بلوغه. وخاصّة فيما دون التّمييز. الجهلى بحكمة التّشريع يودّون لو أنّ الإسلام أسعفنا في الحقل التّربويّ ـ كما فعل في الحقل العقديّ أو التّعبدّيّ أو الأسريّ ـ بأسفار من التّفاصيل وأنهار من الجزئيات حتّى نستريح. ومثلهم الحمقى الذين يظنّون أنّ الإسلام بتلك الحكمة من التّشريع مختلف المستويات إنّما أهمل هذا الحقل وفوّت فيه للغربيين كلّ التّفويت. وهو لا هذا ولا ذاك. كلّيات الإسلام في التّربية يمكن أن تحيط بها نظريا في غضون سويعات. ولكنّ المشهد التّربويّ أعقد من ذلك بكثير. إنّه مشهد غنيّ خصيب: فيه المربّي. وفيه المربّى. وفيه مادّة التّربية. وفيه منهاج التّربية. وفيه مؤثّرات التّربية. وفيه تراث السّلف. وفيه إضافة الخلف. جانب العلم فيه ـ على وجوده البارز ـ ضئيل مقارنة بجانب المهارة التي تجعل من قليل العلم فنّانا. مثل علاقة الفقه بالعلم. علم قليل مع فقه غزير يجعل من المرء حكيما. ولكنّ العكس لا يكون. هذه الطّفولة الطّويلة التي يعيشها الإنسان تحتاج مربّيا حكيما كلّ الحكمة. كم نضيق بالطّاقة غير المحدودة التي أودعها الله الطّفل ليكون سريع الحركة. مثل الفراشة التي لا تقرّ في قرار حتّى تدبر عنه. نسمّيه في لهجاتنا (شيطانا). ونجهل أنّه بتلك الحيوية الدّافقة يتغذّى بما يجعله رجلا. كم نظنّ أنّه لا يعي شيئا. لأنّه لا ينطق كما ننطق. وهو حاسوب عجيب. أودع الباري فيه جهاز تسجيل لا يغادر أيّ صغيرة ولا كبيرة ممّا يقع عليه سمعه أو بصره إلاّ وخزّنها في صندوقه الأسود الذي ينفتح غريزة يوم يبلغ الحنث. ويظلّ معه كذلك حتّى يبلغ أشدّه في الأربعين. تراثنا التّربويّ ـ حتّى لو كان غنيا وما هو بذاك ـ فإنّه لا يسعفك كثيرا في تربية ولدك بسبب تغيّر الزّمان والمكان والحاجات والضّرورات والتّحديات. لا أعرف علما حريّا بالتّحيين ربّما في كلّ سنة مثل علم التّربية. ومن هنا نقدّر كلّ التّقدير دعوة الإسلام إلى حسن اختيار الأمّ من لدن الزّوج. وحسن اختيار الزّوج من لدن الزّوجة. حتّى الاسم ذاته هو عامل حاسم في التّربية. معالجة الطّفل سيما في أيّامنا هذه حقّها ـ لو كنّا نعلم ـ مدارس ومعاهد وكلّيات وجامعات

الأسّ الرّابع: الخوف على الإسلام مثل الخوف منه. وعندما يتحوّل الحزم من بعضنا لشدّة الخوف على هوية الولد من الضّياع إلى (فوبيا) فهي مثل (فوبيا) الخوف من الإسلام. مثلية في النّتيجة. لا تكاد تستمع إلى خطيب إلاّ وهو يخوّف النّاس من الردّة عن الإسلام. هل فقهنا الردّة التي تحدّث عنها القرآن الكريم؟ هل خبرنا التّاريخ؟ الردّة في القرآن الكريم ـ في أغلبها ـ ردّة مصطنعة من حركة النّفاق في رسالة خبيثة إلى الخارج أنّ الإسلام دين رجراج متهافت. وفي الدّاخل لها سمّاعون. وفي التّاريخ برّ هذا. إذ لم يشهد الإسلام ـ حتّى وهو في أشدّ فترات ضعف أتباعه ـ عدا الردّة إليه. أمّا الردّة عنه فلا وجود لها إلاّ في الخطاب الدينيّ المتأخّر. أيّامنا هذه بالذّات تشهد صباح مساء ليل نهار وفي كلّ أصقاع أوربا ردّة حثيثة لجبة إلى الإسلام وأهله يسامون الخسف وهو تشنّ عليه حروب إعلامية وسياسية لو نزلت بما في السّماء من جبال من برد وبما في الأرض من مثل ذلك لأوقعتها. الإسلام من حيث هويته هو عملة ككلّ عملة. لا يثبت جدارته ولا يعرف ثمنه إلاّ من بعد الزّجّ به في السّوق. هو جواد. ولا يعرف الجواد إلاّ من بعد نتيجة السّباق. الإسلام دين تكفّل الله نفسه سبحانه بحفظه. حفظ دينه. وحفظ كتابه. وحفظ ما لا بدّ منه لحفظ الدّين. حفظ الدّين مكفول. ولكنّ حفظ الامتدادات الدينية حضارة وثقافة وقوّة وسلطانا موكول إلى المسلمين أنفسهم. ألا نثق في ذلك الوعد الصّادق؟

إمّا مشاركة موجّهة أو بديل مقنع

الفتوى هنا قاصرة مهما بلغت

معالجة مثل هذه الأمور بالاستفتاء هي معالجة قاصرة. هذا الحقل ليس معياره الحلال والحرام. ولا الحقّ والباطل. ولا الطّاعة والمعصية. هذا حقل مقياسه: المصلحة والمفسدة. كلّما أوشكت الصّورة على التّركّب خرجت من دائرة الحلال والحرام ودخلت في دائرة العدل والجور أو المصلحة والمفسدة. وكلّما اتخذت الاتجاه المضادّ إحتوشتها أقيسة الحلال والحرام والحقّ والباطل والطّاعة والمعصية. العلم بالحقل ومقياسه لا مناص منه لاستصدار حكم شرعيّ

المنهاج الإسلامي إلى المشاركة عموما أدنى

استلال الدّليل من الإسلام له طرائق. منها طريق الاستقراء. وخاصّة الاستقراء الشّامل. ذلك أنّ الشّريعة بنيت على منوال لا قبل للنّاس به. منوال لا يفصل بين شعب الحياة. منوال يقصر من الدّليل الجزئيّ وخاصّة القطعيّ منه ويطيل كثيرا في الأدلّة العامّة أو الكلية. ويجعل بعضها قطعيا وبعضها ظنّيا. ويدثّرها بقصّة. أو مشهد تمثيليّ أو مشهد كونيّ. أو مشهد نفسيّ. ثمرة الاستقراء العامّ لشريعة الإسلام تخبرك أنّها متشوّفة إلى المشاركة أكثر من تشوّفها إلى الانعزال. ولكنّها مشاركة مقيّدة منضبطة. حالات الانعزال قليلة. استخلاص هذا من استقراء الشّريعة مفتاح عظيم لولوج هذه القضية

خطؤنا القاتل هو: تحريم المشهد كلّه بسبب جزء منه

هذا خطأ قاتل يقع فيها كثير منّا. حتّى قال بعضهم بجهل مدقع أنّ الله حرّم الموسيقى بدليل قوله سبحانه (ومن النّاس من يشتري لهو الحديث ليضلّ عن سبيل الله بغير علم). لهو الحديث هنا ـ عند هؤلاء ـ هو الموسيقى. وعندما تكون الموسيقى صوفية الهوى كما يقع كثيرا في المدائح النّبوية؟ في كثير من الحفلات والأعياد ـ عندنا وعند غيرنا ـ مشاهد محرّمة دون ريب. هل نحكم على المشهد كلّه بالحرمة بسبب جزء منه؟ كيف صلّى إذن عليه السّلام بين صنم وصنم حول الكعبة؟ لم لا يصلّي في مكان آخر؟ أزمتنا الفكرية العظمى هي : عدم التّمييز بين مساحات الشّريعة. وعدم التّمييز بين مختلف المقاييس والمعايير المستخدمة في كلّ حقل. الشّريعة هي كومة تبن ذات لون واحد. ووزن واحد. وريح واحدة. كفرنا بقانون الاختلاف الرّبّانيّ الأعظم كفرا جعلنا لا نفقه سنّة التنوّع ولا نفقه معالجتها. الحياة كلّها ـ دون حقل الاعتقاد وشيء من حقل العبادة وشيء آخر من حقل الأسرة وحاجاتنا اليومية ـ مسرح ليس فيه باطل محض إلاّ وفيه من الحقّ الذي فيه. لذلك ساق الله إلينا رحلة موسى عليه السّلام مع معلّمه في سورة الكهف لأجل فقه الحياة أنّها مسرح لا يتمحّض لا لخير مطلق ولا لشرّ مطلق. ومن ذا يسعفنا قانون التّمييز بين مصلحة وأخرى وبين مفسدة وأخرى

بدائل ممكنة لو تكافلنا

فإن عزّت المشاركة لغلبة سوء فإنّ لنا في بدائل أخرى ممكنة لمندوحة وأيّ مندوحة. ولكن كيف؟ ونحن نعشق التفرّق عشقا؟ كيف وقد أحسنا كل الإحسان صناعة التمزّق تغليبا لانتماء جزئيّ لطائفة أو تيّار أو مذهب على حساب الانتماء الأعظم ولاء لمحكمات الدّين وأركان الأمّة؟  لا ينقصنا لا عدد ولا عدّة. ولا فنّانون ولا أموال. ولا مساحات. ولا قوانين تبيح لنا كلّ ذلك وأكثر منه. ينقصنا الوعي بأنّ التحدّي الأكبر لنا في أوروبا هو تحدّي الأسرة وتحدّي التّربية ومعالجة قضايا الطّفولة والشّباب. وأنّ ذلك التحدّي لا يجابه إلاّ بتكافل وتضامن واشتراك. الوعي الفكريّ بهذا فينا منه الذي فينا. ولكن تحبسنا أنوفنا العربية المفعمة كبرا. ثمّ انضافت إليها أدواء الانتماء لهذا المذهب أو لتلك الطّريقة أو ذاك التّيار فزادت الطّين بلّة على بلّة

هل تجوز المشاركة إذن أم لا؟

سؤال تعتريه الأحكام الخمسة المعروفة. الفتوى لا تكون عامّة مطلقة. إلاّ قليلا. وإلاّ أضحت حكما لا فتوى. المشاركة تجوز وتكره وتباح وتستحب وتجب بحسب حالة هذا وحالة ذاك. وبحسب البديل المتوفّر. وبحسب سنّ الطّفل. وبحسب المصالح مرتّبة والمفاسد مرتّبة كذلك. كلّ ذلك لو أثّثنا له ندوات في المساجد وخارجها ودعونا لها المتخصّصين من أهل العلوم والمعارف كلّها (الدين والنّفس والاجتماع وغيرها) لظفرنا بما هو خير من جواب المفتي أصاب أم أخطأ

والله أعلم