نهاية عام واستقبال آخر (وقفة محاسبة ومراجعة)

عبد المجيد نوّار

عبد المجيد نوّار

 الحمد لله حمدا كثيرا، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وأله وصحبه.

ها هي السنة الحالية تكاد تنقضي أيامها، وتقبل علينا سنة جديدة، نسأل الله العلي القدير أن يجعلها زيادة لنا في الخير، وأن يوفقنا فيها لما يحبه ويرضاه. سنة مضت (ماذا قدمنا لأنفسنا فيها)، وسنة قادمة (ماذا أعددنا لها؟).

بقول ربنا تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}.ويقول سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتزيّنوا للعرض الأكبر: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيةٌ. {

إنا لنفرح بالأيام نقطعهــــا * وكل يوم مضـى يدني من الأجل

فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهداً * فإنما الربح والخسران في العمـل

لا يوجد دين يقدر قيمة الوقت مثل الإسلام، حيث أعطى القرآن الكريم أهمية بالغة للزمن، وحث المسلمين على استثمار الوقت فيما يفيدهم وينهض بمجتمعهم. قال تعالى:: {وَهُوَ ٱلَّذِى جَعَلَ ٱلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ خِلْفَةً لّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً}. ولكن الكثير من المسلمين أصبحوا لا يقدرون قيمة الوقت، ولا يدركون أهميته في إصلاح شئون حياتهم الخاصة والعامة؛ في الوقت الذي أدركت أمم أخرى قيمة الوقت، واستثمروه في نهضة مجتمعاتهم.

روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)). وروى الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله وسلم: ((اغتنم خمساً قبل خمس: حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك)). وروى والطبراني عن معاذ بن جبل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع خصال: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به)).

كل ما ضاع من ابن آدم يمكن أن يعوض إلا الوقت: كان سيدنا ابن مسعود رضي الله عنه يقول: (ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه، نقص فيه أجلي ولم يزد فيه عملي). وكل يوم يمر ينقص من أعمارنا، وهو إما شاهد لنا أو علينا، وقديما قال الحسن البصري رحمه الله: (يا ابن آدم إنما أنت أيام معدودة، كلما ذهب يوم ذهب بعضك).

نسير إلى الآجال في كل لحظة * وأعمارنا تطوى وهنَّ مراحلُ

ترحل من الدنيا بزاد من التقى * فعمرك أيـام وهن قلائــلُ                                                                                       ولقد أدرك سلفنا الصالح رضوان الله عليهم قيمة الوقت واستثمروه فيما ينفعهم ويخدم مصالح العباد. قال الحسن البصري: (لقد أدركت أقواماً كانوا على أوقاتهم أشد حرصاً منكم على أموالكم). كذلك قول المحاسبي: “والله وددت لو أن الوقت يُشترى بالمال، لأشتري بأموالي أوقاتاً من الفارغين والغافلين، أنفقها في سبيل الله”! وقال علي رضي الله عنه: {(من قضى يومه في غير فرض أداه أو مجد بناه أو حمد حصله أو علم اكتسبه فقد عق يومه وظلم نفسه.}. ويقول آخر: (من كان يومه كأمسه فهو مغبون). وقال سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (إني لأمقت الرجل أن أراه فارغا ليس في شيء من عمل الدنيا ولا عمل الآخرة(.

ولذلك خرجت من هذه الأمة المباركة أجيال عملت الكثير في وقت قصير، وبارك الله في أعمارهم، وأنجزوا الكثير مما يحقق مصالح العباد والبلاد.

والدعاة إلى الله أحق الناس بمحاسبة أنفسهم ومراجعة أحوالهم مع نهاية سنة وبداية أخرى، فالتحديات كبيرة، والواجبات أكثر من الأوقات. فها هو عامٌ مضَى وانقضَى، بما قدمناه فيه لأنفسنا وبما أخرنا،﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى﴾. كتَب عمرُ بن الخطَّاب – رضي الله عنه – إلى بعض عُمَّاله: “حاسِبْ نفسك في الرَّخاء قبلَ حِساب الشِّدَّة، فإنَّ مَن حاسب نفسه في الرخاء قَبل حسابِ الشدَّة، عاد أمرُه إلى الرِّضا والغبطة، ومَن ألْهَتْه حياتُه، وشغلتْه أهواؤه، عادَ أمره إلى الندامة والخسَارة”. وقال الحسن البصري رحمه الله: “إنَّ العبدَ لا يَزال بخيرٍ ما كان له واعظٌ مِن نفْسه، وكانتِ المحاسبة هِمَّتَه”.

ولا ننسى أيها الأحباب أن هذه الدعوة المباركة التي أكرمنا الله بالانتماء إليها، لا يصلح لها إلا من أدى حقها، ووهب لها ما تتطلبه من جهده، ووقته، وماله. وللعامل منا من الأجر والمنزلة عند الله على قدر نيته وعمله {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}.

أسأل الله تعالى أنْ يجعلَنا ممَّن يستخلص العِبَر ممَّا مضَى من الزمان، وأن يعيننا على حسن استغلال الأوقات في طاعته، وأن يغفر لنا كل تقصير، وأن يجعل السنة الجديدة زيادة لنا في كل خير، وأن يرزقنا فيها مزيدا من التوفيق والنجاح.

الشيخ: عبد المجيد نوار التلمساني

اقرأ أيضا