ميزان المسلم في دنياه – خطبة جمعة

لفضيلة الشيخ: على بن مسعود

الخطبة الأولى:

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشداً، وصلى الله وسلم وبارك على حبيب قلوبنا سيدنا محمدٍ وآله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، وعلينا معهم يا رب العالمين.

وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أرسَلَهُ ربُّه تبارك وتعالى بين يدَيِ الساعةِ بشيراً ونذيراً، فأدّى الأمانةَ، وبلّغ الرسالةَ، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، بأبي هو أمي، صلوات ربي وسلامه عليه.

أما بعد،

أيها الإخوة المؤمنون،

عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: “انْظُرُوا إِلَى مَنْ هو أَسفَلَ مِنْكُمْ، وَلا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوقَكُم؛ فهُوَ أَجْدَرُ أَن لا تَزْدَرُوا نعمةَ اللَّه عَلَيْكُمْ”، أي: أن لا تحتَقِروا نعمة الله عليكم، هذا الحديث رواه الشيخان، الإمامان الجليلان، البخاريُّ ومسلمٌ في صحيحيهما، وهذه رواية الإمام مسلمٍ.

وأما عند البخاري، عن أبي هريرة أيضاً: “إِذا نَظَر أَحَدُكُمْ إِلَى مَنْ فُضِّلَ عليهِ في المالِ وَالخَلْقِ، (يعني في القوة والجسد) فلْيَنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلُ مِنْهُ”.

هذا يأتي في إطار تصحيح المفاهيم لنظرة الإنسان المؤمن، وميزانه الذي يزن به الأمور على وجه صحيح، ففي أمور الدنيا، ينظرُ الإنسانُ إلى مَن هو أسفلُ منه في مستوى المعيشة، ومستوى المكسب، ومستوى السكن، ومستوى ظروف الحياة، فإذا كان عندك عملٌ، هناك من ليس لديه عمل وعنده عائلة وأولاد، وإذا عندك مُرتّبٌ – ربما في نظرك – يسير، فهناك من هو أدنى منك في مرتبه، أو ليس عنده مرتب مستقر، إذا كان عندك زوجة وأولاد، أو أنت في الطريق إلى ذلك، فهناك من لا يطمع في ذلك، وقد بلغ من العمر عِتِيًّا، وهكذا في أمور الجسد، في أمور الصحة، لا ينظر الإنسان إلى المظاهر الخدّاعة، إلى ما يُسوَّق في وسائل الدعاية والمتاجرة بأجساد الناس، وبمفاهيم الناس، ولكن انظر إلى من هو دونك في نعمة الجسد، وفي نعمة الصحة، إذا كان عندك قدمان تَأتيانِ بك إلى المسجد، وتُقِيمانك في الصف، ولك ظهرٌ سليمٌ، تركع لله، وتسجد بين يديه، وتناجيه، فانظر إلى من ليس عنده قدمان، وانظر إلى من ليس عنده صحة تُقِيمُه في الصف، وانظر إلى من يُقِيم في سريره سنواتٍ طويلةً، يُصلِّي في السرير، ويأكلُ في السرير، وينام ويقوم في السرير، لا يرى مِن دنياه إلا سقفَ غرفتِه، في بيتِهِ، أو في مستشفاه.

هذا الميزان الذي يجعل نظرَ المسلمِ يرتد إليه حسيراً، قانعاً، راضياً بنعمة الله عز وجل، إذا أطلق بصره فيما عند الناس من أموال، فيما عند الناس من مقدرة مادية، فيما عند الناس من جاهٍ، فيما عند الناس من سلطانٍ، فيما عند الناس من صحةٍ، فيما عند الناس من قوةٍ، وغير ذلك.

يرتدُّ إليه بصرُهُ، ليقول له: لا، انظر إلى من هو دونك، فتَرجِعُ حامداً لله عز وجل، راضياً بما عند الله عز وجل، ويُروَى أن أحدَ علماءِ السلف الصالح جاءه رجلٌ يشكو قِلَّةَ المال، وكثرةَ العيالِ، وضِيقَ الحالِ، لعلّ الشيخ/ العالم يكلِّم له الأميرَ الفلانيَّ، أو الحاكم الفلانيَّ، يجعلُ له واسطة ليساعده في ماله، فقال له الإمام: أتحب أنك أعمى، وأن لكَ مئةَ ألفِ درهم؟ قال: لا، قال: أتحب أنك مقطوع اليدين، وأن لك مئة ألف درهم؟ قال: لا، قال أتحب أنك مقطوع الرجلين، ولك مئة ألف درهم؟ قال: لا، فما زال به حتى رجع الرجل قانعاً، حامداً لله عز وجل، راضياً بما قسم الله له، صابراً على ما ابتلاه الله به، فكما قال الشاعر:

ما بينَ طرفةِ عينٍ وانتباهتِها                      يُغيّرُ الله من حالٍ إلى حالِ

وهذا ما يوجهنا إليه القرآن الكريم، في مواضعَ كثيرةٍ من كتاب الله عز وجل، أن لا نُطلِق أبصارنا في أمور الدنيا والمال، وننسى، أو نحتقر نعمة الله علينا، قال تعالى كما في سروة طه: “وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 131]. “أزواجا منهم” يعني: أصنافاً من الناس، مش زوج وزوجته، أنواعاً من الناس، منهم المؤمن، منهم الكافر، منهم الغافل، منهم غير الغافل، منهم الصحيح، منهم القوي.

وضرب لنا القرآنُ العظيمُ أعظمَ قصةٍ في طغيان المال، وفي قوة المال، وفي زواج المال مع السلطة، وهذا هو الحادث والشائع في كل عصر، وهي قصة قارون، قارونُ هذا كما تعلمون هو ليس من قوم فرعون، هو من بني إسرائيل بالأساس، من قوم سيدنا موسى عليه السلام، لكنه بماله انضمّ إلى الفئة الباغية، إلى جند فرعون، وإلى حاشية فرعون، فكان مَضرِبَ مثلٍ لطغيان المال، كما كان فرعونُ مَضرِبَ مثلٍ لطغيانِ السياسة والسلطة، والجاه والجبروت، ويقصُّ علينا القرآن قصة هَلاكِهِ، وذهاب جميع أمواله، حتى لم يبق منها شيءٌ لوارثٍ، وتَبَدُّلَ نظرةِ الناسِ الذين كانت شهوتُهم في ماله، وفي ما عنده من أموال عظيمة.

قال تعالى: “فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ” كما ترى اليوم، أصحاب السلطة والجاه، والأموال، والسيارات الفاخرة، والمرافقة الطويلة العريضة، وإغلاق الشوارع من أولها إلى آخرها، ليمر البيه الفلاني، أو الملك الفلاني، أو الرئيس الفلاني، أو الوزير، أو الغني، أو الثري، أو صاحب السلطة الفلاني، فتُعطَّلُ أحوال الناس، ليمرَّ موكبُ شخصٍ – ربما – لا يساوي عند الله جناح بعوضة.

قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79)

كما نتمنى نحن اليوم حال الملياردير الفلاني، أو المليونير الفلاني، أو الفنان، أو الرياضي الفلاني، الذي يسبح في بحر من الأموال، فنتمنى ربما، وتشتهي النفس ذلك، “يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ“،

ويأتي الجواب من الفئة المؤمنة: “وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ: وَيْلَكُمْ” أي: انتبهوا، هذه عبارة تنبيه، “ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الصَّابِرُونَ (80)،

ثم يأتي الجواب الإلهي: “فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ” يعني مش هو فقط، كل الزينة، والهيلمان، والأموال، والدار، والخزائن، كلها ذهبت معه إلى باطن الأرض، “فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ” (81)

ثم يرجع بنا الخطاب القرآني إلى تلك الفئة المنبهرة بمال قارون، وسلطان قارون، وأُبَّهَةِ قارونَ: “وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ“، “يبسط” يعني: يُوسِّع، و”يقدر” يعني: يُضيّق، فالله سبحانه وتعالى يعطي المال لمن يشاء، ويقدر على من يشاء، “لَوْلا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82)

فرَجَعَتْ إليهم العِبرةُ، وأنّ الله سبحانه بِصرْفِ ذلك الثراءِ الفاحشِ عنهم صَرَفَ عنهم طغيانَ قارونَ، وهلاكَ قارونَ، وكم من قارونٍ يَخسِفُ اللهُ به الأرض في زماننا خسفاً معنويًّا، بضياعِ جاهِهِ، بفسادِ أخلاقِهِ، وأخلاق أبنائه وبناته وزوجاته، وتَفرُّقِ مالِهِ حسراتٍ عليه بعد موته.

ثم يختم السياق القرآني بقول الله تبارك وتعالى: “تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ” الحياة الحقيقية هي هناك، بعد الموت، فالخلود الحقيقي، والنعيم الحقيقي هناك، لذلك قال: “تلك” مش: هذه، “تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)” [القصص].

اللهم اجعلنا من المتقين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه، يا فوز المستغفرين،

الخطبة الثانية:

الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على النبي المصطفى، وآله وصحبه ومَن وَفَى،

في المقابل، هناك كِفَّةٌ أخرى من كِفّتَيِ الميزان، وهي أن المؤمن ينظر إلى من فُضِّل عليه في طاعة الله، أنت إنسانٌ مؤمنٌ، محافظٌ على الصلوات الخمس، تصلي على الأقل مرة أو مرتين في اليوم في المسجد، تحافظ على السُّننِ، على النوافلِ، لا تنظر إلى من يصلي من الجمعة إلى الجمعة، ومن رمضان إلى رمضان، لا، انظر إلى من هو فوقك في أمور الدين، انظر إلى من هو أكثر اجتهاداً منك، أكثرُ أخذاً للقرآن منك، أكثرُ حرصاً على مجالس العلم منك، أكثرُ إنفاقاً بالليل والنهار، ولو بالجزء القليل من المال، ليس بالضرورة أن تكون غنيًّا حتى تنفق، ولو باليسير من المال، أكثرُ أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر منك، أكثر خدمة للمسلمين، ولضعاف المسلمين، وخدمة لبيوت الله مثل هؤلاء الإخوة جزاهم الله خيرا.

ففي أمور الدنيا، انظر إلى من هو أسفلُ منك، وفي أمور الآخرة، انظر إلى من هو خيرٌ منك، اقرأ في سِيَرِ الصالحين، إذا لم يكن أمامك، في حياتك، في مسجدك، فيمن تعرف، قُدوةٌ حقيقيّةٌ ربما، حتى نحن الأئمة حالَتُنا تعبانة !!، لكن اقرأ في سِيَر السلف الصالح، في اجتهادهم في طلب العلم، حرصهم على طاعة الله عز وجل، اجتهادهم في العبادة، وَصْلِهُمُ الّليلَ بالنهارِ في عملٍ دَؤُوبٍ صالحٍ، فهذا هو الميزان الذي يعدل به الإنسان سيره نحو الله سبحانه وتعالى.

جعلنا الله تعالى وإياكم ممن يستمعون القول فيتّبعون أحسَنَهُ،

اللهم صلِّ وسلم وبارك على حبيب قلوبنا سيدنا محمدٍ، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، اللهم اغفر لنا ذنوبنا، واستر عيوبنا، وتجاوز عن سيئاتنا، وألف على الخير قلوبنا، اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أسررنا وما أعلنّا، وما أنت أعلم به منا، أنت المقدم وأنت المؤخر، وأنت على كل شيء قدير، اللهم يا رب أخرج حُبَّ الدنيا من قلوبنا، اللهم اجعل حُبَّكَ وحبَّ نبيِّكَ وحبَّ دينِكَ أحبَّ إلينا من أهلنا وأنفسنا والناس أجمعين، اللهم وفقنا لما تحبه وترضاه، واجعلنا من خيرة عبادك الصالحين، اللهم اغفر لنا ولوالدينا ومشايخنا، وإخواننا وأخواتنا، وجميع أصحاب الحقوق علينا، وكل من أوصانا بالدعاء، اللهم يا رب آت كلَّ واحدٍ منا سُؤْلَهُ، وبلغنا مما يرضيك زادنا، واجعل عليك توكلنا واعتمادنا، ولا تجعل إلى النار مصيرنا ومآلنا، واجعل الجنة هي دارنا، مولانا رب العالمين، اللهم يا رب كن لإخواننا المرابطين المستضعفين في بيت المقدس، وأكناف بيت المقدس، اللهم انصرهم على من عاداهم، اللهم ثبتهم في رباطهم، وبُثَّ الوَهَنَ في قلوب أعدائهم، وانصرهم على من عاداهم،

ربنا آتنا في لدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار

وصل الله على محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم

المقالات المنشورة بالموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي المجلس الأوروبي للأئمة