موقفنا من ميثاق مبادئ الإسلام في فرنسا

بعد مخاض عسير وبطلب من الرئيس الفرنسي وضغط من السلطات الرسمية، أصدر المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية “ميثاق مبادئ الإسلام في فرنسا” بموافقة خمسةٍ من المنظمات الأعضاء فيه ومعارضة أربعة آخرين امتنعوا عن التوقيع، لتُفتَتَح بذلك صفحة جديدة أراد من خلالها المؤيدون “أن يكونوا جزءًا من كتابة صفحة مهمة في تاريخ فرنسا” كما ذكروا في الديباجة، في حين يرى فيها المعارضون انتكاسة تاريخية وصفحة جديدة من التباين والاختلاف بين المسلمين الفرنسيين.

ورغم تأييدنا في «المجلس الأوربي للأئمة»، وإشادتنا بالكثير من البنود الواردة في الميثاق، والتي يمكن أن تكون محل توافق بين أغلب الأئمة وقيادات المؤسسات الإسلامية في فرنسا وأوروبا عموماً، فإن المجلس يعلن اعتراضه على المنهجية التي تم اتباعها في إصدار هذا الميثاق، الذي يُراد له أن يكون مُعبّرا عن الأئمة ومُلزما لهم؛ فقد تم تنزيل هذا الميثاق بعد تداوله في دائرة ضيقة على جميع الأئمة دون مناقشته وإنضاجه قبل التوقيع عليه وعرضه على الرأي العام.

كما يعلن المجلس عن تحفظه على بعض البنود الواردة فيه ويدعو إلى مراجعتها وإزالة مواطن اللبس والخلاف فيها ليكون الميثاق بحق محل توافق بين جميع فئات المسلمين، ويكون مرجعاً ودليلاً لترشيد الخطاب الإسلامي وعمل المؤسسات الإسلامية.

ومن هذا المنطلق نؤكد على الملاحظات التالية:

– من حيث المنهج والسياق العام

أولاً؛ يرى المجلس أن تنظيم وتأطير عمل الأئمة والمؤسسات الإسلامية أمر مطلوب ومحمود، ولكن يجب أن يتم عبر توسيع دائرة المشاركة والاستشارة بين المسلمين ومؤسساتهم التمثيلية ومراجعهم الدينية دون وصاية أو إقصاء، ودون إملاء أو توجيه سياسي.

ولا يخفى غياب الأئمة في صياغة هذا الميثاق، ومن ثم إقصاؤهم في النقاش الدائر حول دورهم ورسالتهم، ووضع الأطر والضوابط الحاكمة لعملهم، كما لم يخضع المشروع إلى استشارة وسبر آراء المسلمين وممثليهم المحليين وأصحاب الفكر والرأي منهم، وهذا من شأنه أن يضعف مخرجات المشروع ويضيق من مجالات التفاعل معه وآفاق تنزيله والاستفادة منه.

ثانياً؛ يعرب المجلس عن قلقه من السياقات التي ولد فيها الميثاق، والأجواء السياسية والإعلامية المشحونة التي مهدت له. حيث جاء استجابة مباشرة للضغط الذي مارسته الطبقة السياسية والإعلامية على المسلمين إثر الأعمال الإرهابية التي حصلت مؤخرا في فرنسا، وفي سياق المشروع العام لمقاومة ما يسمى بالانفصالية، مما يكرس الصورة النمطية السلبية عن طبيعة الوجود المسلم في فرنسا، ويضعه في موضع شبهة وتُهَمة.

وإذ نؤكد أن الضغط والتخويف لا ينتج فكراً ولا يثمر إصلاحاً، فإننا ندعو إلى النأي بمؤسسات المسلمين ومصالحهم عن التوظيف السياسي الداخلي والخارجي والمصالح الحزبية أو المعارك الانتخابية.

– من حيث المضمون

أولا؛ يثني المجلس على ما ورد في الميثاق من الدعوة إلى الالتزام بالقانون والمساواة بين المواطنين وإعلاء قيم المواطنة واحترام قيم الجمهورية الفرنسية وضمان الحرية للجميع، وعدم توظيف الإسلام أو المساجد لخدمة أغراض سياسية. كما يشيد المجلس بالبنود التي تؤكد على رفض التأثيرات والإملاءات الخارجية على المساجد والأئمة في فرنسا، وأن أي مساعدة مالية أو عملية من الخارج يجب أن تكون شفافة وخاضعة بصرامة إلى القوانين المعمول بها في البلاد. كما يعتبر المجلس نفسه شريكاً فيما ورد في الميثاق من الدعوة إلى محاربة الخرافات والممارسات المؤذية باسم الدين ومواجهة التطرف والغلو ومنطق التكفير والدعوة إلى العنف، ويعتبرها من قواعد الإسلام العامة ومبادئه السامية.

مع الإشارة إلى أن هذه المبادئ ليست بجديدة في أوساط المسلمين، بل هي قناعات راسخة لدى أكثرهم، وحاضرة لدى أغلب الأئمة فكراً وممارسةً، وهي أساس جهدهم اليومي ورسالتهم التي انتُدِبوا لها، ولطالما عبرت المؤسسات الممثلة للمسلمين على استعدادها للتعاون مع أي جهة في خدمة هذه الأهداف وترسيخها خطاباً وممارسة في الواقع الأوربي.

ثانياً؛ يعلن المجلس عن تحفظه على هذه النقاط الواردة في الميثاق ويدعو إلى مراجعتها لضمان أكبر قدر من التوافق حولها، وهي:

1.  ما ورد في المادة الثالثة من تجريم استعمال اصطلاحات دينية ككلمة الردة، رغم أنها اصطلاحات قرآنية، ولو اعتمد هذا المنهج الضيق في فهم الاصطلاحات وتحديد السياقات فسيؤدي إلى إلغاء آيات قرآنية والتعامل معها بصورة انتقائية. في حين أن النظرة السليمة تؤكد على حق كل دين في بناء تصوراته وبيان رؤيته للوجود دون المساس بحرية الآخرين أو الاعتداء على أحد، مع بقاء حرية الدين والضمير قواعد أساسية يحتكم إليها الجميع من منطلق المواطنة وقيم الجمهورية. وبتعبير آخر فإذا سئل الإمام عن الردة عن الإسلام فقال إنها تحبط العبادات السابقة وتغضب الله كما ورد في العديد من الآيات، مع توجيه المسلمين إلى أن ذلك حكم الله الأخروي أما الأحكامُ الدنيويةُ والعلاقات الإنسانية فمحكومة بقوله تعالى: “لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي” وقائمة على احترام القانون وقيم الجمهورية، فيكون بذلك قد أدى أمانة التبليغ الديني وواجب التوعية والإرشاد في المعاملات الدنيوية.

وهذا ينطبق أيضا على كثير من القضايا الأخرى، إذ لا يجب أن يدفعنا سوء فهم البعض لها أو توظيفها، إلى المغالاة في التضييق على التعبير أو منع بيان رأي الإسلام في بعض القضايا الإنسانية الجدلية، في إطار رؤية علمية معتدلة ومنهج وسطي يحفظ للإسلام جوهرَه ووقارَه، وللمجتمع أمنَه واستقرارَه.

وإن مما يجدر التأكيد عليه في هذا السياق أن ضبط الاصطلاحات الدينية الإسلامية وتحديد أُطُرِ فهمِها أو تنزيلها مسألة علمية دينية يتكفل بها أهل الاختصاص من العلماء والأئمة المسلمين والمؤسسات العلمية الإسلامية، بما يتوافق مع قواعد الدين ومصلحة المجتمع، وليست بموكولة للجان تنظيمية أو سلطات سياسية. ومثلما لا يتدخل المسلمون في ضبط وتحديد الآراء الدينية للآخرين فإنهم ينتظرون من الجميع احترام خصوصيتهم الدينية ومؤسساتهم الشرعية.

2.  ما ورد في المادة السادسة من إقحامٍ لمصطلح الإسلام السياسي في الميثاق بتكَلُّفٍ بيِّنٍ واستنساخ شبهِ حرفي لما ورد في البيان الحكومي المؤسس لمشروع قانون مقاومة الانفصالية، مع تجريمٍ وإدانةٍ لهذا المصطلح دون أيِّ تعريف أو تحديد لعناصره ومجالاته. ولم يكتف الميثاق بذلك بل قام بتصنيف تيارات وجماعات ضمن هذا الإطار المبهم.

ونؤكد في هذا المجال أن إشكالية الإسلام السياسي في فرنسا والغرب عموماً هي إشكالية مُفْتَعلة مُسْتَوردة، لا تمت إلى الواقع الإسلامي الفرنسي  بصلة، حيث لا نجد في الأدبيات والممارسة الإسلامية في الغرب حضورا لهذا التوجه أو دعوة لممارسة السياسة من منطلق ديني أو التطلع لتغيير الوضع السياسي أو التشريعات القائمة، ولا يمكن القطع بأن هذا من دأب التيارات التي صنفها الميثاق، بل إن بعضها أبعد ما يكون من أي ممارسة أو تصورات سياسية ولو في حدودها الدنيا، مما يؤكد طابع العجلة في صياغة الميثاق وعدم استناده على أسس علمية وقراءة موضوعية.

3.  مما يُلاحظ في ثنايا الميثاق ولغته، حرصٌ على تكوين تصور للإسلام يفصله عن مناحي الحياة ويقتل فيه روح التحرر والتجدد المتفاعل مع المستجدات الفكرية والواقعية، والترويج لرسالة جامدة لا تتجاوز حدود الوعظ والصلاة والقيم التي يحدد أهل الميثاق صلاحيتها للتداول والاعتماد. ونحن إذ نقر بحق أي جهة في بناء تصور للإسلام خطابا وممارسة، فإننا نرفض أن تصبح هذه الاجتهادات – التي لا تحظى بتوافق واسعٍ – أمرًا مفروضاً وسيفاً مسلطاً على الأئمة وسائر المسلمين، فضلاً عن أن يكون الميثاق أساساً لإضفاء الشرعية أو نزعها عن الجهات الممثلة للمسلمين، أو أساساً قانونيا لإدانة أي مخالف أو معارض.

4.  ينبه المجلس الأوربي للأئمة على أن بعض البنود المطروحة في المشروع الفرنسي لمقاومة الانفصالية وميثاق مبادئ الإسلام، فيها توجه إلى تقييد الحقوق المدنية التي أقرها الدستور الفرنسي ومواثيق حقوق الإنسان لكل مواطن في حرية الاعتقاد والعبادة والتعبير عن الآراء الدينية دون حجر أو تقييد ما دامت ضمن الأطر القانونية.

كما ننبه إلى مخالفتها لمبدأ العلمانية وحياد الدولة فيما يتعلق بشؤون المجموعات الدينية ومعتقداتها وممارساتها العبادية.

وأخيرا نؤكد على ما ورد في مقدمة هذه الورقة من أن احترازنا على بعض بنود الميثاق لا ينفي تأييدنا لكثير من النقاط التي وردت فيه، رغم حاجتها إلى الدقة والتركيز والاختصار. وندعو إلى ضرورة مراجعة النقاط الخلافية حتى يكون الميثاق بحق صفحة جديدة وخطوة نحو حضور إسلامي فرنسي راشد وفاعل؛ كما ندعو إلى فتح باب الاستشارة حول نص الميثاق، خصوصا بين الأئمة وقيادات الفكر المسلمين، من أجل تطويره والوصول إلى نص يمكن أن يشكل قاعدة توافق يجتمع حولها أغلب المسلمين، ولا يكون عامل تفرقة بينهم.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

كمال عمارة

رئيس المجلس الأوروبي للأئمة

25 يناير/كانون الثاني 2021

المقالات المنشورة بالموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي المجلس الأوروبي للأئمة