من يعمل سوء يجز به | من سنن الله في النّفس والحياة

الشيخ الهادي بريك

الشيخ الهادي بريك

ورد هذا القانون في سورة النّساء المدنية. حزن الصّحابة عليهم الرّضوان إذ ظنّوا أنّ الجزاء على السّوء يكون يوم القيامة. فلمّا سألوه عن ذلك عليه السّلام طمأنهم بقوله أنّ ذلك في الحياة الدنيا. القانون وارد بصيغة العموم (من). ليشمل كلّ إنسان. والجملة شرطية صارمة. وهذا من فضل الله سبحانه أنّه يعجّل بعض العذاب لعباده في الدّنيا لتحريرهم من عذاب الآخرة ووقايتهم منه. إذ أنّ عذاب الآخرة أخزى وأشقى وأبقى. وهو متوافق مع قانون سابق (ظهر الفساد في البرّ والبحر بما كسبت أيدي النّاس). عدا أنّه ربما يكون هذا القانون الذي نحن بصدده الآن متعلّقا بالفرد ويكون القانون السّابق متعلّقا بالأمم والشّعوب. ولكنّ المعنى واحد. ولا يتنافى هذا مع عدم تعجيل العذاب لعباده في الدّنيا. ذلك أنّه ما يصيب المرء في الدّنيا هو تكفير عنه. وليس هو تعجيل للعذاب بالكلّية. وهو ما صدّقه حديثه عليه السّلام إذ قال أنّه ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا همّ ولا حزن ولا أذى ولا غمّ حتّى الشّوكة يشاكها إلاّ كفّر الله بها من خطاياه.

وقد روى هذا أبو هريرة وأخرجه الشّيخان. إذا كان هذا خاصّا بالمؤمن فهو تفضيل له وتكريم. فهو لا يستدرج ولا يمدّ له حتّى يظنّ أنّه لن يؤاخذ. وفي كلّ الحالات فإنّ هذا القانون من رحمة الله سبحانه بعباده. فمن تنبّه لهذا القانون إذ يصاب بأيّ مصيبة صغيرة أو كبيرة (حتّى الشّوكة يشاكها) فإنّه يعلم أنّ ذنبا اقترفه أو سوء أتاه. وهي فرصة ليستغفر ويتوب إلى الله سبحانه. القانون لا يحمل صرامته فحسب. ولكن كذلك يحمل للمؤمن ذكرى ليكون حاضرا الزّمان والمكان والحال فيتيقّظ ويتنبّه. ولا وجود لامرئ ـ من المؤمنين أنفسهم عدا الأنبياء المعصومين عليهم السّــــــــــــــلام ـ يفلت من إتيان أيّ معصية مهما دقّت أو قلّت أو صغرت أو كانت لمما. ومن ذا فإنّ هذا القانون كفيل بتطهيره قبل رحيله. وبتذكيره بسبب مصيبته. وقوله سبحانه (يجز به) يعني أنّه لن يؤاخذ بذلك يوم القيامة. إذ لا يحاسب المرء مرّتين. ومن ذا قال العلماء أنّ الكفّارات في الدّنيا مطهّرات. وهو الأرجح. فضلا من ذي الفضل سبحانه. والله سبحانه أرحم من أن يعاقب عبده المؤمن مرّتين

الصّلح خير

ورد هذا القانون في سياق معالجة المشكلات الطّارئة بين الزّوجين في سورة النّساء المدنية. وليس هو خاصّا بذلك السّياق. إنّما هو قانون عامّ. وذلك هو نظم القرآن الكريم فهو يقرّر سننه في أكناف سياقاتها ابتداء. ولكنّها تتعدّى ذلك السّياق لتكون محكّمة. سيما أنّه جاء في ثوب جملة إسمية. كان كذلك ليثبّت نفسه. إذ ما ورد في جملة إسمية حقّه التّثبيت والتّرسيخ. الصّلح خير دوما. وهو في هذا السّياق خير من الطّلاق رحمة بالأسرة وبمن في الأسرة سيما من الذّريّة وخير للعائلات المتصاهرة وللمجتمع وللأمّة وللبشرية. الصّلح خير من تهديم مشروع وتحطيم شجرة وتعطيل بئر. ولذلك عقّبه بقانون آخر قال فيه سبحانه (وأحضرت الأنفس الشحّ). في إشارة إلى أنّ النّفوس عادة ما تنفر من الصّلح. سيما إذا كانت في حالة غلبة وقهر وعلوّ. ولكنّ الصّلح يكون خيرا دوما بين النّاس فرادى وجماعات وأحزاب ودولا وقبائل وجيران وشركاء ومنظمات وغير ذلك. وخير ما قيل في الحرب: أيسر طريق لربحها هو تفاديها. الطّلاق حرب واشتعال المشاكل المدمّرة حرب. ولذلك جاء الإسلام يرسي دعائم السّلم والأمن والتّفاهم بين النّاس بدون هوادة. حتّى إنّه قال سبحانه (كتب عليكم القتال وهو كره لكـــــم). ومن يحبّ الموت حبّا؟ لا أحد. ولكنّ يكون الموت في سبيل الله وفي سبيل المستضعفين ـ كما قال الله سبحانه نفسه ـ تحريرا للقيم التي أرادها الله سبحانه وأمر بها وتحريرا للمقهورين. ألم يسمّ نفسه سبحانه السّلام. وجعل السّلام تحية النّاس بينهم بعضهم مع بعض؟ وقال عليه السّلام مقيّدا هذا الصّلح (إلاّ صلحا أحلّ حراما أو حرّم حلالا).

فهذا لا صلح فيه. لأنّ الصّلح عمل إسلاميّ صالح والإسلام لا يتناقض. فلا يكون صلحا جائرا ضدّ شريعة الله سبحانه ليحلّ حراما بيّنا صحيحا صريحا أو ليحرّم على النّاس مباحا. ولكن يتسلّل المنافقون هنا ليدثّروا الاستسلام والقهر والاستعباد والرّق والاحتلال بدثار الصّلح. وتنطلي الحيلة على بعض المسلمين السّذج. الصّلح خير عندما يكون في صالح الطّرفين أو الجهتين أو المتخاصمين. أمّا عندما يكون جائرا قاهرا ظالما فليس هو صلح. إنّما هو قهر مضاف مركّب. عندما يهجم عليك أحد في بيتك ليحتلّ منه غرفة أو أكثر فإنّ الحديث عن الصّلح هنا نفاق مكذوب يتسلّى به الجهلى وينفقه الحمقى. وبمثل ذلك عندما يهجم عليك أحد في بلادك ووطنك وأرضك. يكون الصّلح مشروعا مطلوبا عندما يكون النّاس في حالة تشارك في شيء ما أو أمر ما. ثمّ يكون خلاف. من مثل حالة الزّوجية. الزّوجان في حالة تشارك. أمّا عند الحرابة والقهر والظّلم فلا صلح ولكن مقاومة وجهاد

بقلم الشيخ: الهادي بريك