قل هو من عند أنفسكم | من سنن الله في النّفس والحياة

الشيخ الهادي بريك

الشيخ الهادي بريك

من سنن الله في النّفس والحياة

الحلقة: 1

بثّ الله سبحانه في كتابه العزيز طائفة واسعة من السّنن الماضية الكفيلة ببناء عقل راشد يفقه تضاريس النّفس والحياة. ولا يكون تدبّر جامع للقرآن الكريم حتّى يستقرئ النّاس تلك النّواميس الحاكمة. بل إنّ تلك السّنن لجديرة بإنشاء بيان خاصّ بها نسمّيه (التّفسير السّننيّ مثلا). وإنّنا اليوم لجديرون بذلك إذ أنّ كثيرا من جوانب تخلّفنا تعزى إلى الجهل بالسّنن. أسوق بعضا منها لعلّ التّالين والتّاليات في رمضان (شهر القرآن) يحرّكهم الشّوق إلى استجماع ما ندّ عنّا من أوابد تلك السّنن

قل هو من عند أنفسكم

ورد هذا القانون في سورة آل عمران المدنية في سياق التعقيبات على واقعة أحد. إذ شغب على بعض المسلمين أن تلحق بهم هزيمة عسكرية ثقيلة. (أو لمّا أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنّى هذا قل هو من عند أنفسكم إنّ الله على كل شيء قدير). كبر عليهم ذلك بعد النّصر المعزّر في بدر إذ أصابوا هناك من المعتدين مثلي ما أصيبوا به منهم هنا. لم يدعهم الوحي الكريم فرائس لتأويلات شتّى. إنّما علّمهم أنّ هزيمة أحد سببها الأكبر هو أنفسهم هم. سببها المباشر هو عصيان أمر القائد العسكريّ في تلك الواقعة ـ محمّد عليه السّلام ـ إذ ترك بعض الرّماة مواقعهم ليهتبلها العدوّ أيّما اهتبال ويحيق بهم ما لم يكونوا يحتسبون. كان يمكن أن يعزّيهم سيما أنّهم فقدوا لأوّل مرّة زهاء سبعين من خيرة إخوانهم. كان يمكن كذلك أن يلقي باللاّئمة على عدوّهم الذي جاء يطلبهم في عقر دارهم. لم يكن شيء من ذلك. بل إنّه في هذا السّياق ذاته قال لهم في لهجة عتاب بليغة (منكم من يريد الدّنيا ومنكم من يريد الآخرة). كان قد رسم لهم ـ تعقيبا على واقعة بدر العظمى ـ خارطة طريقة النّصر. ومن فقراتها طاعة الرّسول عليه السّلام التي تكفل صفّا واحدا مرصوصا (وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم). لم يخل السّياق من تعزية وسلوان. إذ قال لهم في أثناء ذلك (قد أصبتم مثليها) في إشارة إلى نصر بدر. أنّى هذا؟ كان يمكن أن يكون الجواب ـ أو بعضه ـ أنّ هذا يعزى إلى عدم تكافؤ القوى عددا وعدّة. أهمل الوحي الكريم كلّ ذلك ودعاهم إلى تدبّر سبب واحد للهزيمة عنوانه: أنفسكم أنتم هي التي جنت عليكم. جاء الخطاب عامّا كعادة النّظم القرآنيّ الكريم حتّى لكأنّ النّاس كلّهم شركاء في ما وقع فيه بعض الرّماة. جاء ليعلّمهم أنّ السفينة لا يضيرها أن تغرق بسبب خرق هذا أو ذاك. إذ كلّ خرق يغرقها. جاء هذا الخطاب إلى الأصحاب الكرام وكثير منهم له سابقة الإيمان والهجرة والصّفة البدرية. جاء يعلّمهم أنّ الحقّ أحقّ أن يتّبع. وأيّ علاقة لنا نحن اليوم بهذا حتّى نقرأه ونعتبر به؟ هي علاقة تعبر الزّمان كلّه والمكان كلّه لتعلّمنا نحن اليوم كذلك أنّ ما يحيق بنا من احتلال أرض أو انتهاك عرض أو فساد سياسيّ أو قهر أو جور أو غلبة عدوّ إنّما هو من عند أنفسنا نحن. ليس يعني ذلك براءة الخصم أو العدوّ. إنّما يعني ذلك أنّ خارطة السّؤدد لا عنوان لها عدا هذا العنوان: الصّف الواحد المرصوص حتّى وهو متنوّع وإيثار ما عند الله سبحانه وطاعة الله ورسوله عليه السّلام هو المنقذ من هوان الهزيمة. أمّا العدوّ أو الخصم فهو محكوم بقانون آخر عنوانه (لن يضرّوكم إلاّ أذى) بغضّ النّظر عن قوة ذلك العدوّ أو صلافة ذلك الخصم

إنّ النّفس لأمّارة بالسّوء

ورد هذا القانون في سورة يوسف المكية عليه السّلام. هي سنّة انبجست بها شفتا امرأة العزيز. وليست هي السّنة الوحيدة التي التقطها الوحي الكريم من لسان امرأة لولا أنّا نكابر عنتا. قالت ذلك لمّا حصحص الحقّ بين يدي خروج يوسف عليه السّلام من السّجن(وما أبرّئ نفسي إنّ النّفس لأمّارة بالسّوء إلاّ ما رحم ربّي إنّ ربّي غفور رحيم). سنّة تحكم النّفس البشرية مطلقا دون أيّ استثناء. سنّة أبت إلاّ أن تنتظم في جملة إسمية مؤكّدة بناسخ (إنّ) ثمّ في رحمها بلام التّأكيد وباسم الفاعل بصيغة المبالغة. كأنّما الأمر بالسّوء حرفة تتقلّدها النّفس فلا تنفكّ عنها. وليس الاستثناء هنا إلاّ منفصلا ليعني أنّ الله وحده سبحانه هو من يصرف تلك النّفس الأمّارة بالسّوء عن السّوء. أمّا دثارها فلا ينفكّ عنها ليكون هذا متوافقا مع قوله سبحانه (فألهمها فجورها وتقواها). أيّ حظّ لنا من هذا القانون الماضي؟ حظّنا مركّب مزدوج: حظّ الفقه بتركيب نفوسنا فلا يزكّي المرء نفسه ولا يزكّي غيره إلاّ سترا. وحظّ المعالجة الدّائبة لهذا العدوّ الشّرس اللّدود الذي ما منه من بدّ. قال الإمام الشّاطبيّ في موافقاته العظمى أنّ الدّين جاء لقمع الأهواء. هي النّفس ذاتها التي أمرت أحد ابني آدم بقتل أخيه فقتله. وهي ذاتها التي أمرت امرأة العزيز بمراودة فتاها ففعلت. السّوء حقل واسع شاسع ليس له حدود. تريد النّفس العلوّ والبطر والحسد والمنع والتألّي وأكل أموال النّاس بالباطل والعدوان على أعراضهم وأبشارهم. هي النّفس ذاتها التي بلغت ذروة العلوّ إذ قال صاحبها فرعون للنّاس (ما علمت لكم من إله غيري). النّفس جواد شارد جامح يستنكف أن تضبطه شكيمة أو يحبسه حابس. حتّى النّفس المتديّنة لا تسلم من كثير من الأمراض من مثل الرّياء والمراء والجدل الفارغ وحبّ الرياسة واحتقار النّاس. عدا أنّ الدّين في الأصل يجفّف فيها نوازع الشرّ أو يدعوها إلى التّوبة من قريب. النّفس يمكن أن تتدثّر بكلّ هذه المحطّات المذكورة في الكتاب العزيزة: الاطمئنان ـ اللّوامة ـ الرضى. النّفس زئبقية التّكوين فلا يقرّ لها قرار. ولذلك من العسير أن تظلّ مطمئنّة دوما أو لوّامة بمثل ذلك أو راضية. إذ لو ظلّت مطمئنّة مثلا دوما لربّما ندّت عن قانون الابتلاء. وهذا محال. لذلك خشي الأصحاب الكرام على أنفسهم ما يجدونه في أنفسهم من خواطر يتمنّى أحدهم أن تنشقّ به الأرض دونها. ولذلك كذلك ضمن الله سبحانه غفران تلك الخاطرات التي لا تنفكّ عنها نفس ما لم يتكلّم صاحبها وجاءت بشرى ذلك في آخر آيات سورة البقرة. النّفس الأمّارة بالسّوء ودعوى العصمة لغير الأنبياء عليهم السّلام لا يلتقيان إلاّ عندما تدّعي النّفس الأمّارة بالسّوء ـ أو يدّعى لها ـ أنّها معصومة. لا أمل لأيّ كان أن ينهى عن سوء يصيب النّاس حتّى ينهى نفسه هو أوّلا عن ذلك السّوء أو سوء مثله ولكنّ ذلك لا يتمّ إلاّ بمعافسة الإصلاح صبرا وحلما

لفضيلة الشيخ: الهادي بريك