مشهد نبوي لو ترجم اليوم لدخل الناس في الدين أفواجا

أجل ورب الكعبة، هو مشهد هزّ الفؤاد مني هزّا مذ قرأته منذ عقود، هو مشهد ليس لي أحبّ منه ربما، هو مشهد لكم أرجو من الناس ترجمته عملا سيما المنتصبين إلى تعليم الناس وتفقيههم والمتصدين لإفتائهم وقليل من هؤلاء من يفتي بفتاويه عليه الصلاة والسلام، كما أرجو ترجمته إلى الألسنة الأخرى أي الترجمة المعروفة. لا مناص من الترجمتين.

المشهد هو أن رجلاً جاء إليه عليه السلام وهو يقول له: يا رسول الله وقعت على امرأتي في يوم رمضان، قال له النبي صلى الله عليه وسلم «والحديث متفق عليه» هل لك أن تعتق رقبة؟ قال :لا، قال له : هل لك أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا، قال له النبي عليه الصلاة والسلام: هل لك أن تطعم ستينا مسكينا؟ قال: لا، وإذ عرض عليه السلام الكفارات الثلاث وصرّح الرجل أنه لا يقوى على أيّ واحدة منهن قال له: لا تبرح مكانك ثم غاب عنه برهة وجاءه بعذق من تمر وناوله إياه وقال له: خذ هذا وتصدق به، فقال الرجل: وهل بين لابتيها -أي المدينة- يا رسول من هو أفقر مني؟ فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه وقال له: اذهب فأطعمه أهلك.

هذا المشهد الصحيح لا أظن أن مسلما لا يهزّ له فؤاده هزّا عجيبا، كيف وهو يعرض صورة من صور النبوة لم تتوفر في البشرية جمعاء قاطبة؟ كيف وهو يصور لنا هذا النبي الكريم وقد تربع على عرش الحلم والعلم وخفض الجناح، بل على عرش المعلم المؤدب الناجح، بل على عرش الكريم الذي لا يتقمص دور القاضي الذي يقضي بقضائه الحق ولا يلوي على شيء ولا يتقمص دور المفتي الذي يفتي صاحبه ويذهب في سبيل حاله.

لا يعجز قلمي ولا لساني إلاّ في هذا الموضع والله، مشهد لو تدبره المرء مرة من بعد مرة ما شبع منه، مشهد يصور لنا النبوة كما لم نكن نعرفها، الرجل وقع على امرأته في رمضان وما حدث النبي عليه السلام بذلك إلاّ لأنه يعلم أنه عليه الصلاة السلام حليم كريم ليس بينه وبين الناس حواجز.

قولوا لي بالله عليكم: هل هناك اليوم عالم أو فقيه أو شيخ مثله أي يحدثه الناس بما فعلوا وهم مطمئنون؟ لا، لم؟ لأن المنسوبين إلى الدين اليوم إلاّ من رحم الله سبحانه أول ما يشيدون بينهم وبين الناس حجرا فلا يجرؤ أحد منهم على أن يحدثهم بمثل هذا؟ الرجل صرح بذلك أمام نبي كريم عظيم وهو مطمئن آمن، ألا ترون أنه عليه السلام لم ينبذ إليه بأيّ كلمة تحزنه؟ وقعت الواقعة الآن فأي حاجة إلى مثل هذا، أليس يفيد من هذا المشهد منا اليوم رجال التربية والتعليم والأولياء والمربون؟ بلى والله.

الرجل يعرض عليه النبي عليه السلام الكفارات وهو يقول بكل طمأنينة وأمن وتلقائية وصدق أنه لا يستطيع ذلك ولم يتحرج من شيء، كان يمكن أن يتحرج في الثانية أو الثالثة ولكنه لم يفعل، لم؟ كان الرجل صادقا مع نفسه، كان الرجل يضع نفسه أمام مؤسسة النبوة التي يعلم أنها ستعالج مشكلته ليس دينيا فحسب كما يفعل الناس اليوم إفتاء يلقونه ثم يدبرون ولكن يعالجها دنيويا كذلك.

لَكَم نشتاق إلى هذا النبي الذي حرمنا من رؤيته والله نسأل أن نلقاه على حوضه غير مبدلين، هذا النبي الكريم لم يسأل الرجل لم لا تستطيع ذلك؟ صدقه لأنه أُذُن خير كما قال عنه ربه ردّا على المنافقين الذين قالوا عنه أنه أُذُن، أُذُن خير يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين.

وبعد أن استوفى الفتوى ولم تعالج المشكلة ظل عليه الصلاة والسلام مشغولا بالأمر فذهب هو بنفسه يبحث عمّن يقرضه أو يعطيه عذق تمر وجاء به إلى السائل وكأنه الملك الوقور الذي تقضى حاجاته من لدن نبي كريم عظيم والحال أن الرجل واقع على امرأته في يوم رمضان وهو يعلم علم اليقين حرمة ذلك، بل إن الرجل لفرط صدقه وطمأنينته إلى النبي عليه السلام وشعوره بالأمن عنده لم يتردد أن قال أنه ليس في المدينة من هو أفقر منه، عندئذ لم يملك النبي نفسه عليه السلام فأنفجر ضاحكا حتى بدت نواجذه لأنه ربما لم يكن يتوقع أيلولة المشهد إلى ما آل إليه.

وفي النهاية عاد الرجل الذي اقترف حراما كبيرا بعذق تمر إلى أهله، كأنه قام بعمل خير يثاب عليه وليس بخطأٍ يعاقب عليه، سبحان الله، ذلك هو محمد صلى الله عليه وسلم، ذلك هو المشهد الذي لكم أرجو من سويداء فؤادي أن يتدبره المفتون والمتصدون للناس مرة ومرة ومن الناس أنفسهم حتى يطلعوا على جوانب أخرى من نبوة محمد عليه الصلاة والسلام، ذاك هو النبي الذي يتهم اليوم بعداوة الإنسان والتطرف والعنف والإرهاب والقمع والتشدد. لَكَم هي مهمتنا كبيرة.

المقالات المنشورة بالموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي المجلس الأوروبي للأئمة