مختارات نبوية | فقه التعامل مع الإساءة للمقدس

د. خالد حنفي

د. خالد حنفي

مختارات نبوية | فقه التعامل مع الإساءة للمقدس

عن أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَال: كُنْتُ أَدْعُو أُمِّي إِلَى الْإِسْلَامِ وَهِيَ مُشْرِكَةٌ فَدَعَوْتُهَا يَوْمًا فَأَسْمَعَتْنِي فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَكْرَهُ فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أَبْكِي قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي كُنْتُ أَدْعُو أُمِّي إِلَى الْإِسْلَامِ فَتَأْبَى عَلَيَّ فَدَعَوْتُهَا الْيَوْمَ فَأَسْمَعَتْنِي فِيكَ مَا أَكْرَهُ فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَ أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُمَّ اهْدِ أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ فَخَرَجْتُ مُسْتَبْشِرًا بِدَعْوَةِ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا جِئْتُ فَصِرْتُ إِلَى الْبَابِ فَإِذَا هُوَ مُجَافٌ فَسَمِعَتْ أُمِّي خَشْفَ قَدَمَيَّ فَقَالَتْ مَكَانَكَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ وَسَمِعْتُ خَضْخَضَةَ الْمَاءِ قَالَ فَاغْتَسَلَتْ وَلَبِسَتْ دِرْعَهَا وَعَجِلَتْ عَنْ خِمَارِهَا فَفَتَحَتْ الْبَابَ ثُمَّ قَالَتْ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ قَالَ فَرَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَيْتُهُ وَأَنَا أَبْكِي مِنْ الْفَرَحِ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَبْشِرْ قَدْ اسْتَجَابَ اللَّهُ دَعْوَتَكَ وَهَدَى أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ خَيْرًا قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يُحَبِّبَنِي أَنَا وَأُمِّي إِلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَيُحَبِّبَهُمْ إِلَيْنَا قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُمَّ حَبِّبْ عُبَيْدَكَ هَذَا يَعْنِي أَبَا هُرَيْرَةَ وَأُمَّهُ إِلَى عِبَادِكَ الْمُؤْمِنِينَ وَحَبِّبْ إِلَيْهِمْ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا خُلِقَ مُؤْمِنٌ يَسْمَعُ بِي وَلَا يَرَانِي إِلَّا أَحَبَّنِي. صحيح مسلم

مفردات الحديث 

 فَخَرَجْتُ مُسْتَبْشِرًا: مَسْرُورًا مُنْشَرِحًا.

 مُجَافٍ: أَيْ مَرْدُودٌ. 

خَشْفَ قَدَمَيَّ: صَوْتَهُمَا، وَقِيلَ: حَرَكَتَهُمَا وَحِسَّهُمَا 

خَضْخَضَةَ الْمَاءِ: أَيْ تَحْرِيكَهُ، وَقِيلَ: صَوْتُهُ

 لَبِسَتْ دِرْعَهَا: أَيْ قَمِيصَهَا 

وَعَجِلَتْ عَنْ خِمَارِهَا أَيْ: تَرَكَتْ خِمَارَهَا مِنَ الْعَجَلَةِ

المعنى العام للحديث

هذا الحديث أصل في فقه الدعوة إلى الله والتعريف بالإسلام وأفضل السبل للتعامل مع الإساءة للمقدس، والمسلمون في الغرب اليوم هم أحوج الناس إلى مدارسة هذا الحديث والعمل بفقهه ورسائله؛ لكثرة وتعدد صورة الإساءة لمقدساتهم ونبيهم، فسيدنا أبو هريرة رضي الله عنه توجه بدعوة أمه إلى الإسلام فأسمعته في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يكره لعلمها بحبه له فكان يبكي لفعل أمه وفرط حبه لنبيه، فلم يرد على إساءتها بإساءة وإنما طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو لها فدعا لها فأجاب الله دعاءه، وأسلمت فور دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لها فطلب أبو هريرة من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له ولأمه أن يحببهم في عباده الصالحين فدعا له فما سمع به مسلم إلا وأحبه. 

والحديث أصلٌ في عدم جواز الاعتداء على ساب النبي صلى الله عليه وسلم أو قتله؛ إذ لو صح لأمر النبي أبا هريرة به أو لفعله أبو هريرة ابتداءً، وأصرح في الدلالة عليه حديث سلمة بن الأكوع قال: فَلَمَّا اصْطَلَحْنَا نَحْنُ وَأَهْلُ مَكَّةَ، وَاخْتَلَطَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ، أَتَيْتُ شَجَرَةً فَكَسَحْتُ شَوْكَهَا فَاضْطَجَعْتُ فِي أَصْلِهَا، قَالَ: فَأَتَانِي أَرْبَعَةٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، فَجَعَلُوا يَقَعُونَ فِي رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَبْغَضْتُهُمْ، فَتَحَوَّلْتُ إِلَى شَجَرَةٍ أُخْرَى، وَعَلَّقُوا سِلَاحَهُمْ وَاضْطَجَعُوا، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ نَادَى مُنَادٍ مِنْ أَسْفَلِ الْوَادِي، يَا لَلْمُهَاجِرِينَ، قُتِلَ ابْنُ زُنَيْمٍ، قَالَ: فَاخْتَرَطْتُ سَيْفِي، ثُمَّ شَدَدْتُ عَلَى أُولَئِكَ الْأَرْبَعَةِ وَهُمْ رُقُودٌ، فَأَخَذْتُ سِلَاحَهُمْ، فَجَعَلْتُهُ ضِغْثًا فِي يَدِي، قَالَ: ثُمَّ قُلْتُ، وَالَّذِي كَرَّمَ وَجْهَ مُحَمَّدٍ، لَا يَرْفَعُ أَحَدٌ مِنْكُمْ رَأْسَهُ إِلَّا ضَرَبْتُ الَّذِي فِيهِ عَيْنَاهُ، قَالَ: ثُمَّ جِئْتُ بِهِمْ أَسُوقُهُمْ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: وَجَاءَ عَمِّي عَامِرٌ بِرَجُلٍ مِنَ الْعَبَلَاتِ، يُقَالُ لَهُ: مِكْرَزٌ يَقُودُهُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى فَرَسٍ، مُجَفَّفٍ فِي سَبْعِينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «دَعُوهُمْ، يَكُنْ لَهُمْ بَدْءُ الْفُجُورِ، وَثِنَاهُ»، فَعَفَا عَنْهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنْزَلَ اللهُ: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} [الفتح: 24] الْآيَةَ كُلَّهَا. صحيح مسلم (3/ 1434) 

فلو كانت عقوبة ساب النبي صلى الله عليه وسلم هي القتل لقتلهم سلمة ولم يذهب بهم للنبي صلى الله عليه وسلم، ولما عفا النبي صلى الله عليه وسلم عنهم؛ لأن الحد لا يسقط إذا بلغ الحاكم لقوله صلى الله عليه وسلم: “تَعافُوا الحُدُودَ فِيما بَينَكمْ، فمَا بَلغَنِى من حَدٍ فقدْ وجَبَ”

رسائل الحديث

  1. أولى الناس بالدعوة إلى الإسلام والحرص على هدايتهم هم الأقربون وفي مقدمتهم الأم؛ لذا حرص أبو هريرة على دعوة أمه وتحبيبها في الإسلام. 
  2. وجوب استمرار الأبناء في البر بوالديهم بعد إسلامهم وإن بقوا على الكفر، فأبو هريرة لم ينقطع عن أمه بعد إسلامه ولم يعاديها رغم سبَّها لأحب الناس إليه. 
  3. للدعاء أبلغ الأثر في الهداية وتقليب القلوب على ما يحبه الله، فلنكثر من الدعاء لأولادنا ليثبتوا على الإسلام، ولنكثر من الدعاء لمن ندعوهم للإسلام من غير المسلمين. 
  4. مشروعية طلب الدعاء من الصالحين فلم يكتف أبو هريرة بدعائه هو وإنما طلب الدعاء من النبي صلى الله عليه وسلم. 
  5. من فقه التعامل مع الإساءة للمقدس تجاهل الإساءة ومقابلتها بالإحسان ورجاء الهداية للمسيء، وعدم توسيع نشر وإذاعة إساءته فلعله يهتدي يوما ما؛ قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 112]، وقال: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} [المزمل: 10]
  6. من فقه التعامل مع الإساءة للمقدس عدم سب أو إيذاء أو قتل المسيء، فلم يفعل شيئا من ذلك أبو هريرة وقد أقره النبي صلى الله عليه وسلم على فعله واستجاب لطلبه داعياً لأمه. 
  7. على المسلمين في الغرب أن يتحلوا بأعلى درجات الرفق والحكمة والرحمة بمن يتعرض لمقدساتهم بالإساءة وأن يأخذوا على أيدي إخوانهم من المسلمين حول العالم في توجيه وترشيد غضبهم وغيرتهم لنبيهم إذا أسيء إليه ودراسة أي سلوك أو توجه في الرد على الإساءة حتى لا تأتي بعكس مرادهم. 
  8. لا تستبعد الهداية والاستقامة على أحد مهما اشتدت عداوته للإسلام ونبيه فقد يصبح الرجل كافراً ويمسي مؤمنا، فبين إسلام أم أبي هريرة وكفرها لحظات ودعوات، وقد رأينا هذا في عدد من المسيئين للنبي صلى الله عليه وسلم بالرسم كيف اهتدوا وأسلموا وحسن إسلامهم وبكوا حبا وندما على ما كان منهم تجاه نبيهم قبل إسلامهم.  
  9. اغتسال أم أبي هريرة قبل إسلامها لا يدل على وجوب الاغتسال للكافر قبل إسلامه كما هو رأى الجمهور، والذي نرجحه أن يسلم الكافر مباشرة دون غسل وأنه مستحب لا واجب كما هو رأي أبي حنيفة، وهو الأنسب للتيسير على الداخل في الإسلام ولقوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38]
  10.  فضل أبي هريرة رضي الله عنه ومكانته في قلوب المسلمين، فقد استجاب الله دعوة نبيه صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة وأمه، فأحبه كل من سمع به، وهو صاحب فضل في نقل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلينا، وقد قيَّض الله له من يدافع عنه ضد أي افتراء عليه بتصنيف المصنفات والكتب. 

بقلم الدكتور: خالد حنفي