مختارات نبوية | سفينة المجتمع

د. خالد حنفي

د. خالد حنفي

سفينة المجتمع

عن النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:” مثَلُ القَائِم على حُدُودِ اللَّه والْوَاقِع فيها، كَمثل قَومٍ اسْتَهَموا على سَفِينَةٍ، فَأَصابَ بَعْضُهم أعْلاهَا، وبعضُهم أَسْفلَهَا، فكان الذين في أَسفلها إذا استَقَوْا من الماء مَرُّوا على مَنْ فَوقَهمْ، فقالوا: لو أنا خَرَقْنا في نَصِيبِنَا خَرقا ولَمْ نُؤذِ مَنْ فَوقَنا؟ فإن تَرَكُوهُمْ وما أَرَادوا هَلَكوا وهلكوا جَميعا، وإنْ أخذُوا على أيديِهِمْ نَجَوْا ونَجَوْا جَميعا”. أخرجه البخاري في صحيحه. 

 المعنى العام للحديث

هذا حديث عظيم يشبه فيه النبي صلى الله عليه وسلم المجتمع أو الدنيا كلها بسفينة، أقامت مجموعة من الناس في طابقها الأول، ومجموعة في طابقها الثاني بعد أن استهموا يعني: اتخذ كل واحِد منهم سَهْما، أَي: نصيبا من السَّفِينَة بِالْقُرْعَةِ، ثم وجدت المجموعة التي في الطابق الأرضي أنهم كلما أرادوا الماء اضطروا للمرور على من فوقهم فيؤذونهم، ففكرت تلك المجموعة لقربها من الماء أن تختصر الجهد والوقت ولا تزعج مجموعة الطابق الثاني في خرق السفينة للحصول على الماء، ويوجه النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم إلى أن الواجب على الجميع في هذه الحالة هو: منع خرق السفينة؛ لأنها إن غرقت فسيغرق الجميع ولن يقتصر الهلاك على الذين قاموا بفعل الخرق دون غيرهم وهو ما عبر النبي صلى الله عليه وسلم عنه بقوله:” فإن تَرَكُوهُمْ وما أَرَادوا هَلَكوا وهلكوا جَميعا، وإنْ أخذُوا على أيديِهِمْ نَجَوْا ونَجَوْا جَميعا” وما أكده القرآن الكريم من أن العقوبة لا تنزل فقط بمن ظلم بل بمن صمت على الظلم ولم ينكره حسب قدرته قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 25]، وهكذا القائم على حدود الله والواقع فيها، أي المستقيم على كل شيء منع الله مجاوزته، أو الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، فالنبي صلى الله عليه وسلم يشبه من يرى المنكر ولا ينكره بحجة أن ضرره لا يصله بشكل مباشر، بمن يرى سفينة هو على ظهرها تخرق وستغرق ولا يتحرك لمنع خرقها لأن خارقها يتصرف في سهمه ويخرق في حقه، وكما أن النتيجة في مشهد السفينة ستكون هلاك الجميع فكذلك هلاك المجتمع إذا ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 

وقد جسد المسلمون الذين هاجروا إلى الحبشة نموذجا مثاليا في حراسة السفينة من الخرق والغرق رغم أنهم كانوا أقلية مستضعفة غريبة على المجتمع تخشى على نفسها من الهلاك بالترحيل والتسليم لقريش ليفتكوا بهم، فعندما قامت ثورة داخلية مسلحة ضد النجاشي ملك الحبشة العادل ذهب إليه جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وعرض عليه أن يقاتلوا معه فرفض، فنفخوا قربة للزبير بن العوام ليعوم عليها ويراقب أجواء المعركة ليتدخل المسلمون بالإغاثة إذا لزم الأمر، وذكرت الروايات عن السيدة أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت: فقمنا بالليل نصلي وندعو الله أن يظهر النجاشي على من خرج ينازعه في ملكه. ولما سلم الله سفينة مجتمع الحبشة من الخرق والغرق فرح الصحابة فرحا عظيما عبرت عنه السيدة أم سلمة رضي الله عنها بقولها: فما فرحنا فرحا قط بشيء منذ هاجرنا كفرحنا بظهور النجاشي على من خرج ينازعه في ملكه.

والحديث أصلٌ في الدور الإصلاحي للمسلم في أي مكان ينزل به وأن لا يكون همه أن يحفظ نفسه ولا يلتفت لغيره أو يصون جماعته المسلمة ولا ينظر إلى المجتمع أو الأمة، ولهذا شُغل إبراهيم عليه السلام بهذه المهمة الإصلاحية حين جاءته الملائكة تبشره بالولد الذي انتظره طويلا وجاءه على كِبر فجادل الملائكة في منح قوم لوط فرصة أخرى علهم يتوبوا إلى الله مما وقعوا فيه قال تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} [هود: 74] وقد جسد هذه المهمة الإصلاحية نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم حين سألته السيدة عائشة رضي الله عنها قائلة: يَا رَسولَ اللهِ، هلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كانَ أَشَدَّ مِن يَومِ أُحُدٍ؟ فَقالَ: لقَدْ لَقِيتُ مِن قَوْمِكِ وَكانَ أَشَدَّ ما لَقِيتُ منهمْ يَومَ العَقَبَةِ، إذْ عَرَضْتُ نَفْسِي علَى ابْنِ عبدِ يَالِيلَ بنِ عبدِ كُلَالٍ فَلَمْ يُجِبْنِي إلى ما أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ علَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إلَّا بقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بسَحَابَةٍ قدْ أَظَلَّتْنِي فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، فَنَادَانِي، فَقالَ: إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَما رُدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إلَيْكَ مَلَكَ الجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بما شِئْتَ فيهم، قالَ: فَنَادَانِي مَلَكُ الجِبَالِ وَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قالَ: يا مُحَمَّدُ، إنَّ اللَّهَ قدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَأَنَا مَلَكُ الجِبَالِ وَقَدْ بَعَثَنِي رَبُّكَ إلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بأَمْرِكَ، فَما شِئْتَ، إنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عليهمُ الأخْشَبَيْنِ، فَقالَ له رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِن أَصْلَابِهِمْ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لا يُشْرِكُ به شيئًا. أخرجه مسلم في صحيحه. 

 وما أكثر خُرَّاق السفينة اليوم الذين يفسدون في الأرض وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، بل وما أكثر من يتابعون بصمت ويرون بأعينهم السفينة التي تحملهم تغرق ولا ينكرون خرقها بكلمة. والأخذ على يد من يخرق السفينة لابد أن يتم بحكمة وفقه وفي إطار القانون والنظام العام وإلا أدى إلى فساد أكبر. 

 رسائل الحديث

  1. استحقاق العقوبة العامة بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: الصورة البيانية التي رسمها هذا الحديث النبوي الشريف توضح أن العقوبة الإلهية أو السننية الأرضية حين تصيب الناس لا تقتصر على المفسدين وحدهم ولكنها تنزل بالجميع ومن بينهم الصالحين الذين لا يتورطون في خرق السفينة لكنهم لم ينكروا الخرق ولم يتحركوا لإيقافه؛ وذلك لبيان خطر الصمت على الخطأ وتحميل المسؤولية العامة للمجتمع كله عن حماية النظام العام وقيم المجتمع، وعلى المسلمين في الغرب أن يقوموا بواجبهم في حراسة القيم العامة الأصيلة في الإسلام وسائر الأديان إذا وقع التغول والعدوان عليها، كالحرية والعدل والمساواة والشورى والديمقراطية، وأن تكون حركتهم لحماية القيم حركة مبدئية يدفعهم إليها الإيمان بها لا المصلحة المحدودة المتعلقة بالمسلمين فيثورون ويحتجون فقط إذا كان غرقى السفينة من المسلمين، أو كان القانون الجديد يضر بالحريات الدينية للمسلمين، بل عليهم أن يرفضوا كل توجه يتفق العقلاء على أنه خرق للسفينة؛ لأنه حتما سيصلهم شرره ولو بعد حين.
  2. امتناع بعض المسلمين عن المشاركة السياسية خرقٌ للسفينة: تعتبر المشاركة السياسية في عالم اليوم هي أحد أهم الوسائل الحديثة في العالم المتحضر للتغيير وحفظ قيم المجتمع وحرياته العامة، وبعض المسلمين يشكك في مشروعية تلك المشاركة بل يبلغ به الحد إلى تحريمها، والواقع يحتمها ويفرضها؛ لأنها السبيل الأمثل لمنع القوانين المقيدة للحريات، ومنع وصول الأحزاب الشعبوية المتطرفة التي تخرق سفينة المجتمع بخطابها وتوجهها وتطرفها، فهي أفضل وسيلة سلمية آمنة للتغيير والوقاية والإيجابية.
  3. خرق سفينة الأسرة: ارتفعت نسب الطلاق بشكل مخيف في عالم اليوم، والإشكال الأكبر هو أن أسباب هدم الأسرة في أغلب الحالات يمكن الصبر عليها وتجاوزها بشيء من الحكمة والتغافل والنظر إلى الإيجابيات الأخرى في كل من الزوج والزوجة، إن هدم الأسرة بالطلاق هو خرق لسفينة الأسرة وخطوة في هدم سفينة المجتمع، فيجب أن لا يصار إليه إلا إذا تعين سبيلا لحماية سفينة الأسرة بإعادة بنائها أو استبدالها بأفضل منها، وعلى الزوجين وعائلتها والمؤسسة الدعوية في الغرب بذل الجهد لحماية سفينة الأسرة وصيانتها بالتأهيل قبل الزواج وحسن المتابعة بعده؛ فإن التحديات التي تواجها الأجيال الجديدة في الغرب لابد لها من أسرة متعاونة متماسكة، وأكثر من يدفع ثمن الطلاق والشقاق في الغرق هم الأولاد. 
  4. تقديم المصلحة العامة على الخاصة: فإن أهل الطابق الأرضي القريبون من الماء أصحاب مصلحة في خرق السفينة للحصول على الماء وتوفير الوقت والجهد لكنهم إن فعلوا أضروا بالمصلحة العامة للمجتمع بإغراق السفينة كلها؛ ولهذا فعلى المسلمين في الغرب أن يقدموا دائما مصلحة المجتمع والأمة الأوربية على مصالحهم الخاصة الجزئية حالة التعارض، فإذا كنا مثلا أمام حزبين سياسيين متنافسين: أحدهما برنامجه يحمي المصالح العامة كالبيئة لكنه يضيق على حريات المسلمين الدينية، والثاني يحقق ببرنامجه مصلحة للمسلمين لكنه يضر بالشأن العام فيجب دعم الأول على الثاني؛ لأن دعمه يمثل حماية السفينة من الغرق.
  5. فقه ” أخذوا على أيديهم”: إنكار المنكر والتصدي لمحاولة خرق السفينة يحتاج إلى فقه وحكمة؛ لأن منع الخرق بغير فقه ودون حكمة ربما أدى إلى منكر أعظم أو اتساع الخروق في السفينة، لهذا تدرج النبي صلى الله عليه وسلم في إنكار المنكر ومنع خرق سفينة المجتمع ووضع جملة من الخيارات كالإنكار اللساني والقلبي والإنكار باليد، وربما كان الاكتفاء باللسان هو عين الحكمة، ومنع الخرق باليد يحتاج أعلى درجات الفقه، وفي حالة العجز التام ليس أقل من الإنكار اللساني ليبقى المسلم متحفزا رافضا لخرق سفينة المجتمع فمتى سنحت الفرصة للمنع بغير القلب انتقل إليه. وفقه منع الخرق يؤكد على رفض العنف بكل صوره وأشكاله سبيلا إليه في دولة القانون والمؤسسات.
  6. جواز القرعة وضرب المثل: فالنبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر استهامهم واقتراعهم لوصول كل فريق إلى قسمه ونصيبه في السفينة، فيجوز استعمال القرعة في مختلف مجالات الحياة، كما يفيد الحديث أهمية ضرب المثل في التوجيه والتعليم.

بقلم الدكتور: خالد حنفي.