مختارات نبوية | أعلى الناس رتبة في الخير

د. خالد حنفي

د. خالد حنفي

الحديث الرابع: أعلى الناس رتبة في الخير

عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ وَأَنَا خَيْرُكُمْ لأَهْلِي. الترمذي وابن ماجة بسند صحيح 

المعنى العام: 

في هذا الحديث الشريف البليغ واسع المعنى على قلة كلماته ووجازة ألفاظه يعلمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن معيار الخيرية وميزان التفاضل بين الناس وأعلى الناس رتبة في الخير هو: من يقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم في معاملته لزوجه، والعكس كذلك أن شر الناس هو سيء الخلق والمعاملة مع زوجه وأهله، وكثير من الناس اليوم يكون في أعلى درجات حسن الخلق مع الناس خارج البيت فيكرمهم ويؤثرهم على نفسه ويمازحهم ويلاطفهم ويطيل الحوار والاستماع إليهم ولكنه لا يفعل عشر ذلك مع زوجه فتراه في البيت عبوسا متجهما يقتر على زوجه في النفقة قليل الحديث والتحاور معها، لا يحسن إلى أهلها كما تحسن إلى أهله، لا يحسن عشرتها في الجملة. ويلاحظ في الحديث الشريف أن النبي صلى الله عليه وسلم عبر عن الزوجة بالأهل يعني أن الزوجة من أهل الزوج الذين هم أقرب الناس إليه والتعبير يوحي بالقرب العاطفي والنفسي بين الزوجين والذي عبر عنه القرآن الكريم بقوله تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة: 187]، وقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21] ، وعليه فمن أراد التحقق بالخيرية وأن يكون من أعلى الناس رتبة في الخير فليكن في علاقته بزوجه كعلاقة النبي صلى الله عليه وسلم بزوجاته ومن أهم مظاهر تلك العلاقة: عدم الإيذاء أو الضرب؛ فلم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب زوجة من زوجاته ولو مرة في حياته كلها بل ثبت عنه النهي عن الضرب فقال: «لَا تَضْرِبُوا إِمَاءَ اللَّهِ» سنن أبي داود (2/ 245)، كان في خدمة أهله صلى الله عليه وسلم فعَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ عَائِشَةَ: هَلْ كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْمَلُ فِي بَيْتِهِ شَيْئًا؟ قَالَتْ: نَعَمْ، ” كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْصِفُ نَعْلَهُ، وَيَخِيطُ ثَوْبَهُ، وَيَعْمَلُ فِي بَيْتِهِ كَمَا يَعْمَلُ أَحَدُكُمْ فِي بَيْتِهِ ” مسند أحمد ط الرسالة (42/ 209) ولنا أن نتخيل أن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم مع كثرة أعبائه ومسؤولياته وأعدائه وتحدياته الداخلية والخارجية يجد وقتا ليكون في خدمة أهله لا يقطعه عنه إلا الصلاة، وهو رد عملي على من يعتبر وظيفة المرأة الكبرى القيام بشؤون البيت والزوج لا يساعدها فيها. 

ومنها: وفاؤه لزوجته بعد موتها وتصريحه بحبها فعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: مَا غِرْتُ عَلَى نِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَّا عَلَى خَدِيجَةَ وَإِنِّي لَمْ أُدْرِكْهَا، قَالَتْ: وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا ذَبَحَ الشَّاةَ، فَيَقُولُ: «أَرْسِلُوا بِهَا إِلَى أَصْدِقَاءِ خَدِيجَةَ» قَالَتْ: فَأَغْضَبْتُهُ يَوْمًا، فَقُلْتُ: خَدِيجَةَ فَقَالَ: رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنِّي قَدْ رُزِقْتُ حُبَّهَا» صحيح مسلم (4/ 1888)

ومنها: حواره مع زوجاته وسماعه لهن: كما في حديث أم زرع الطويل، ومنها: الترويح عنها بصور وأشكال الترويح المتاحة في عصره، فكان يسابق السيدة عائشة رضي الله عنها فيسبقها وتسبقه، وكان يأخذها إلى التلاع أي أماكن الخضرة والطبيعة، ومنها مشاورته لزوجته في أعقد الأمور وأصعبها كمشاورته للسيدة أم سلمة رضي الله عنها في التحلل من الإحرام بالعمرة، وغير ذلك من صور حسن العشرة من النبي صلى الله عليه وسلم مع زوجاته فمن أراد أن يكون خير الناس وأفضلهم عند الله فليكن كالنبي صلى الله عليه وسلم في حسن معاملته لأهله.

رسائل الحديث: 

  1. ميزان الخيرية ومعيار التفاضل هو بمقدار حسن خلق الرجل مع زوجه وإحسانه إليها كما أحسن النبي صلى الله عليه وسلم. 
  2. شر الناس من يحسن لغير أهله ولا ترى زوجه منه إلا كل عيب ونقيصة. 
  3. الزوجة منزلتها من الزوجة بمنزلة أهله وعائلته في وجوب الإحسان إليها والبر بها وإكرامها في حياتها وبعد موتها. 
  4. الميزان الذي نزن بها سلوكنا ومعاملاتنا مع زوجاتنا هو الميزان النبوي لا الأعراف والعادات والتقاليد التي تهين الزوجة أو تنتقص من كرامتها. 
  5. الزوج الصالح يتقرب إلى الله بحسن خلقه واقتدائه بالنبي صلى الله عليه وسلم في معاملته لأهله. 
  6. على الزوجة كذلك أن تبادل إحسان زوجها إليها بإحسان مثله وأكبر منه، وأن تكون في حسن عشرتها وتبعلها كما كانت زوجات النبي صلى الله عليه وسلم. 

الحديث الخامس: فضل العبادة في وقت الغفلة

عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ» أخرجه مسلم.

المعنى العام للحديث 

هذا الحديث يبين فضل الثبات على الدين في زمن غربته وقلة المتمسكين به، وعِظم الأجر والثواب على ملازمة الطاعات في أوقات الغفلة، فالهرج هو الفتن واختلاط الناس وكثرة الكذب وانتشار ترك الطاعات، فمن عبد الله واستمسك بدينه في هذه الأوقات كان كمن هاجر مع النبي صلى الله عليه وسلم من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة وثواب الهجرة عظيم كبير كما في قوله تعالى: {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} [آل عمران: 195]، والعلاقة بين العابد في زمن الغفلة والمهاجر في سبيل الله من وجوه: أن المهاجرين كانوا قلة وكذا العباد في أوقات الفتن والغفلات قلة، ومنها: أن المهاجر يقاوم رغبته في البقاء في وطنه مع أهله وماله ويضحي بتركها لله، وكذا العابد في وقت الغفلة يقاوم رغبته وشهوته في أن يسير مع الناس فيما يفعلون من ترك للطاعات واقتراف للمحرمات فكلاهما فرَّ بدينه من الناس، ومنها: أن الهجرة ومفارقة الأوطان في سبيل الله دليل على حياة القلب وارتفاع منسوب الإيمان، تأمل موقف صهيب الرومي رضي الله عنه حين ترك كل ما يملك ليلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم وبشره النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم بقوله: ربح البيع أبا يحيى ربح البيع. فقلب صهيب الحي التارك للدنيا وراء ظهره هو قلب العابد التارك للشهوات في أوقات الغفلات والفتن. 

وهذا الحديث يتنزل على كل مسلم أو جماعة مسلمة تواجه تحديات للالتزام بدينها وتقدم تضحيات للثبات عليه وإعانة الناس على حفظ دينها، كالمسلمين في الغرب حيث يواجهون تحديات وصعوبات في الالتزام بدينهم والبقاء عليه تختلف كثيرا عن غيرهم ممن يعيشون في بلدان أكثريتها مسلمة ونظمها وقوانينها تتوافق مع تعاليم الإسلام، وهو المعنى الذي أشار إليه النبي الكريم صلى الله عليه وسلم حين قال لمهاجري الحبشة: ” ولكم أنتم أصحاب السفينة هجرتان” وذلك جوابا عن سؤال من أسماء بنت عميس رضي الله عنها وهي إحدى المهاجرات للحبشة حيث عارضها عمر بن الخطاب قائلا لها: سبقناكم بالهجرة فنحن أحق برسول الله صلى الله عليه وسلم منكم؟ وإنما ضاعف النبي صلى الله عليه وسلم الأجر لمهاجري الحبشة عن المهاجرين معه إلى المدينة؛ لأن جهادهم للثبات على الدين مع أولادهم أعظم ممن هاجروا معه. 

وتظهر قيمة العبادة في وقت الغفلة في مواسم الغفلات والفتن في الغرب كاحتفالات رأس السنة وغيرها، وحين يجد الشاب أو الفتاة نفسه أمام طوفان من المغريات والفتن فيعتصم بالله ويذهب إلى محرابه ومصحفه. 

رسائل الحديث

  1. الثبات على الدين في زمن غربته والتشكيك في قطعياته وثوابته أجره يعدل أجر المهاجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. 
  2. بلوغ رتبة العبَّاد في أوقات وأزمنة الفتن والغفلة يكون بتعهد القلب وتزكية النفس في أوقات الرخاء ولزوم الأوراد العبادية من ذكر وتلاوة للقرآن وصيام وقيام نفلا وفرضا. 
  3. الصلاح عند فساد الناس وإصلاح ما أفسد الناس والأخذ بيد الناس للثبات على الدين مما يبلغ به المرء درجة المهاجر إلى الله ورسوله. 
  4. قبل النظر إلى كثرة الفتن والتحديات علينا أن ننظر إلى عظم الأجور والمثوبات، فمن لمح فجر الأجر هان عليه ظلام التكليف. 

القلة العابدة العاملة خير من الكثرة المنحرفة العاطلة، فهنيئا لشاب أجلبت عليه الشهوات والفتن بخيلها ورجلها فاستعصم بربه ولاذ إلى مصحفه ومحرابه، وأنعم بفتاة تمسكت بلباسها واحتشامها رغم كثرة نداءات النفس وضغوط الصحبة بين شهوة وشبهة قالت: معاذ الله. 

بقلم الدكتور: خالد حنفي.