ماذا بعد شهر رمضان؟

الشيخ طه عامر

الشيخ طه عامر

بعد انتظام العبد وتأمله في هذا الدرس العظيم طوال شهرٍ كاملٍ يكتسب ملكة المراقبة لله تعالى واستشعار نظره إليه واطلاعه عليه، وأن الملائكة تسجل عليه كل شيء، فيصبح ضميره هو رقيبه في القيام بواجباته تجاه ربه، وتجاه أسرته، وتجاه مجتمعه، فلا يفرط في عمله، ولا يجترأ على المعصية، وإن وقع في ذنب سارع واستغفر وعزم على التوبة النصوح. وهذا هو تعظيم الحرمات.

 الصيام وكسر الأنا

الإعجاب بالنفس والخيلاء من أدواء العصر، ذلك لأننا نعيش زمان الفردانية وتضخيم الذات.

 لقد غفل الإنسان أنَّه صغير في هذا الكون، وأنَّ كل ذرة في جسده تفتقر لرعاية الله تعالى وحفظه.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) سورة فاطر

وثناء أهل الجنة هو الحمد للواحد ونسبة الهداية إليه سبحانه وتعالى.

قال تعالى: 

وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ ۖ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ ۖ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ ۖ وَنُودُوا أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (43) سورة الأعراف 

مسكين هذا الإنسان حينما يظن نفسه في الكون رقماً صعباً، ونسى أنه لم يكن شيئاً مذكوراً.

وكم كان يكره الرسول ﷺ كلمة (أنا).

عن جابر بن عبد الله رضى الله عنهما قال: أتَيْتُ رسولَ اللهِ ﷺ فدقَقْتُ البابَ فقال: (مَن ذا)؟ فقُلْتُ: أنا فقال: (أنا أنا) – مرَّتَيْنِ – كأنَّه كرِهه.

 صحيح ابن حبان: 5808  

 يمكن للمرء أن يُحرز سبقاً في علمٍ أو فنٍ من الفنون، فهل ذلك يسوغ له أن يمشي في الأرض مرحاً أو يخال أنه سيبلغ الجبال طولاً؟!

لا بأس أن يفرح المسلم بما أنجزه من عمل، كأن يكون كتب مقالاً نافعاً، أو ألف كتاباً ماتعاً، أو علَّم طالباً، أو بنى لله مسجداً، أو نصر مظلوماً، أو قهر ظالماً، أو ساهم في نشر الخير في أي بقعة من الأرض.

هذا الفرح بفضل الله تعالى والرضا عن النفس أن هداها لطريق السعادة، إنما فرحٌ بفضل الله، والصائم يفرح حين فطره، بل إن هذا الفرح هو من علامات الإيمان، إنه انشراح الصدر بالطاعة والقربات.

إنما الفرح المذموم والمهلك هو فرح البطر والخيلاء المصحوب بالمن والأذى ونسبة النجاح والإنجاز للذات والقوة والقدرة والذكاء والمواهب. حينها يهلك المرء.

عن إياس بن سلمة بن الأكوع، عن أبيه قال: قال رسول الله ﷺ: «لا يزال الرجل يذهب بنفسه حتى يكتب في الجبارين فيصيبه ما أصابهم» رواه الترمذي 

ما أهون المرء عند الله عندما يذكر نفسه وينسى فضل ربه.

وما أعظمه حينما يرى أن الصانع في الكون كله هو الله تعالى.

والصيام يعلمنا ويشعرنا بحجمنا وصغرنا، فالفقراء والضعفاء والأغنياء والأصحاء سواء في الشعور بالجوع والعطش والافتقار إلى حاجات الجسد.

 والملوك والسوقة يمتنعون عن المباحات طواعية، فعلام الاختيال والعجب؟!

بل إن كثيراً من العجائز والمرضى يأبون الإفطار ويصرون على الصوم تعبداً وامتثالاً.

فالصوم يكسر النفس ويستل منها الشعور بالاستعلاء على الآخرين.

  إنَّ لحظة انكسار وتذللٍ لله رب العالمين تستخرج منك داءً هو فيك ولا تشعر.

حين ترفع يديك عند فطرك وتدعو متأملاً في القبول وجميل المثوبة والمغفرة.

ومن أسرار الصيام كما يقول الإمام أبو حامد الغزالي: “أن يكون قلبه بعد الإفطار معلقا مضطرباً بين الخوف والرجاء، إذ ليس يدري أيقبل صومه فهو من المقربين؟ أو يرد عليه فهو من الممقوتين؟”

 إحياء علوم الدين ج /1 308

والخوف دون إفراط يُسلم لك عملك، والرضا دون اعتداد يمنعك من اليأس.

يقول ابن عطاء الله السكندري:

” أصل كل معصيةٍ وغفلةٍ وشهوةٍ الرضا عن النفس، وأصل كل طاعةٍ ويقظةٍ وعفةٍ عدم الرضا منك عنها، ولأنْ تصحب جاهلاً لا يرضى عن نفسه، خير لك من أن تصحب عالماً يرضى عن نفسه..”

وحين تأتي ليال العشر وتشمر عن الجد وتترقب ليلة الغفران وتذرف دموع الندم على ذنبك وتقصيرك.

والتذلل لله تعالى هو عين العز والحرية، وكلما زدتَ إليه افتقاراً زادك الله غنى.

ويعجبني أن نعود سريعاً لإحدى الحكم العطائية:

“تحقَّق بأوصافك يمُدك بأوصافه، تحقَّق بذُلك يمُدك بِعِزه، تحقَّق بعجزك يمُدك بقدرتك، تحقَّق بضعفك يمُدك بحوله وقوته “

 فإذا انسلختَ من شهر رمضان وقد أقبلتَ فيه صادقاً على مولاك عدتَ لفطرتك الطيبة النقية التي تعرف نفسها بالافتقار في كل لحظة للخالق جل في علاه.

وأختم هنا بأبيات لأبي العتاهية:

خانك الطرف الطموح    أيها القلب الجموحُ

لدواعي الخير والشر      دُنوٌ ونزوحُ

هل لمطلوبٍ بذنبٍ     توبةٌ منه نصوحُ

كيف إصلاح قلوبٍ    إنما هنَّ قروحُ

أحسن الله بنا      أنَّ الخطايا لا تفوحُ

فإذا المستور منا    بين ثوبيه فضوحُ

كم رأينا من عزيزٍ    طُويت عنه الكشوحُ

صاح منه برحيلٍ   صائح الدهر الصدوحُ

سيصير المرء يوماً   جسداً ما فيه روحُ

بين عيني كل حي   علم الموت ينوحُ

نح على نفسك يا  مسكين إن كنت تنوحُ

لست بالباقي لو   عمرتَ ما عمر نوحُ

الصيام والمواساة

  إنًّ عالمنا المعاصر عاكف على نفسه مشغول بهمومه متشوف في غده لمتعٍ جديدةٍ. قد استغنى كثيرٌ من الناس بأنفسهم عن غيرهم وتوارى الاهتمام بضعفاء الناس خلف حُجُب كثيفة.

إلى متى يبقى العالم في هذا الشرود والصدود؟ ومن للضعفة ومن ألمَّت به الأوجاع وخيَّمت على قلبه الأحزان؟

ويأبي الله تعالى الرحمن الرحيم إلا أن يجعل للعبادات في الإسلام أبعاداً خيريةً إنسانيةً، وبقدر احتراق العبد في محاريب العبادات بقدر ما يقطر قلبه رقَّة للفقراء والمساكين، ويده نداوةً للمحتاجين وأخلاقه ليناً وسِعة لكل عباد الله.

لهذا رغب الإسلام في الصدقة بوجه عام وفي شهر رمضان بوجه خاص، وفرض كذلك صدقة الفطر.

 ويأتي شهر رمضان ليذكرنا بأن هناك من لا يجد قوتاً ولا يملك من متاع الحياة شيئاً، روى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: ” كان رسول الله ﷺ أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيُدارسه القرآن، فَلَرسول الله ﷺ أجودُ بالخير من الريح المُرسَلة”.

 وتتدفق أيدي المؤمنين بالخير حتى بعض عُصاة المسلمين يبادرون في تفطير الصائمين حول العالم، وترى كثيراً من المسلمين حول العالم يسارعون في الإطعام وإخراج الصدقات في وجوه الخير.

 شهر رمضان شهر المواساة والإحساس بمن سيقضي شهر رمضان وحيداً لا أنيس له، غريباً لا صديق له، شريداً لا مأوى له، حزيناً يحتاج إلى من يخفف ألمه ويذهب وحشته ويواسيه في محنته.

بقلم الشيخ: طه عامر