ليظهره على الدّين كلّه | من سنن الله في النّفس والحياة

الشيخ الهادي بريك

الشيخ الهادي بريك

ليظهره على الدّين كلّه

ورد هذا القانون مرّتين في الكتاب العزيز. (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدّين كلّه). مرّة في سورة التّوبة وهي من آخر ما نزل ومرّة في سورة الصّف. وكلتاهما مدنية. الإظهار هو التّغليب والإعلاء والنّصر. قال تعالى (فلا تكوننّ ظهيرا للكافرين). وقال سبحانه في موضع آخر (وكان الكافر على ربّه ظهيرا). وقال عن بني قريظة في واقعة الأحزاب (وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم). إذ ظاهروا قريشا وغطفان. هذا وعد إلهيّ صادق قوامه أنّ الإسلام سيظلّ ظاهرا منصورا منداحا ولو كره المشركون والكافرون. ألسنا نرى هذا اليوم بأمّ أعيننا. إذ كلّما تعرّض الإسلام إلى محاولات إبادة شرسة ـ تغدق عليها ما لو أغدق على الأرض لأضحت حديقة ذات بهجة ـ خرج منها أقوى. بعض النّاس من المسلمين يستعجبون كيف أنّ الإسلام يتعرّض إلى مثل هذا. العجب كلّه هو عدم حصول ذلك. ألم نخلق لغاية واحدة لا ثاني لها وهي الابتلاء؟ بأيّ حقّ ينعم هؤلاء بالجنّة خالدين فيها يوم القيامة وأولئك يشقون في النّار خالدين فيها إذا لم يكن ذلك مسبوقا بملاحم من الابتلاء شديدة عاتية ضارية؟ نخن غافلون عن هذا: الله يريد الآخرة. إرادة الله الآخرة معناه أنّه يريد تمحيص النّاس ليستحقّ كلّ واحد منهم مقعده في الآخرة من بعد محاكمة آلتها الموازين القسط. فلا تظلم نفس شيئا. ألم يقتل أنبياء كثيرون؟ كيف يدع الله سبحانه نبيّا هو من أرسله يقتل؟ معنى ذلك أنّ الدّنيا لا عبرة بها إلاّ بما فيها من تدافعات لا يهدأ لها أوار بين المؤمنين والكافرين.

تشغب علينا الشّاغبات كثيرا وتغشانا أهواء وغفلات حتّى نظنّ أنّ الله سبحانه يريد منّا تحقيق النّصر والغلبة في هذه الدّنيا. لو كان يريد ذلك لم لم يتحقّق ذلك على أيدي الأنبياء. كم عدد الأنبياء الذين انتصروا حتّى شيّدوا للنّاس دولة؟ قليل من قليل. ذلك هو معنى أنّه سبحانه يريد الآخرة. ولكن قضى سبحانه في شأن الدّين الأخير الخاتم أنّه يظلّ ظاهرا نافذا لا يمحى له أثر مهما تداعت عليه كآبات المجرمين. علينا أن نميّز هنا بين الدّين والإسلام. الله سبحانه تعهّد بحفظ الدّين بما هو عقائد وعبادات وقيم وغير ذلك ممّا هو إلى الدّائرة التّوقيفية أدنى. ومن ذلك حفظه كتابه العزيز أن يزيّف أو يزوّر. ولكنّه سبحانه عهد إلينا نحن بحفظ الإسلام بما هو آثار عملية في شتّى الحقول لذلك الدّين. الإسلام ـ من حيث أنّه دين موقوف لا مناص منه للزوم الصّراط المستقيم عقيدة وعبادة وما هو إليهما أدنى ـ محفوظ ظاهر. ولكنّه من حيث أنّه سلطان وحضارة وتقدّم وغلبة وقوّة وصفّ واحد وغير ذلك من الأبعاد التي يغلب عليها الطّابع التّكافليّ موكول لنا نحن. فإن حفظنا تلك الأبعاد بذلك القلب الدّينيّ النّابض الحيّ غلبنا وعصمنا أنفسنا من قهر الرّجال.

وإن لم نفعل بسبب وعي منخول أو ركون إلى الدّعة افترستنا ذئاب الأرض دون رحمة. هذا القانون كفيل بزرع الأمل وبثّ اليقين وشحذ الهمم. فلا يلقي أحد فسيلته مهما تجاسرت الكلاب وعوت الذئاب. ألسنا نرى بأمّ أعيننا أنّ الرّدة عن الإسلام لا وجود لها إلاّ في أذهان المفلسين. وأنّ الإسلام ظلّ يشهد مذ ولد وحتّى اليوم ردّات إليه زرافات ووحدانا عدا أنّنا لا نراها بالعين حتّى نقرأ عنها؟ كثيرون لا يحصون يدخلون في دين الله سبحانه وحدانا في صمت وهدوء خوفا من بعضهم على نفسه أو على ما تحت يديه وإهمالا من وسائل الإعلام أن تتحدّث عنهم. لو لم يكن الأمر كذلك ما كان لهذا الدّين أن يصمد في وجه حملات قاسية لو سلّطت على الجبال الشّامخات الرّاسيات لأضحت أثرا من بعد عين. كيف لا يغري هذا الدّين النّاس وهو يلبّي داعيات الفطرة؟ بل كيف وهو يتحدّى النّاس في كلّ زمان ومكان بما يفتخرون به أنّه من كسبهم إذ استغنوا عن الدّين والغيب؟ أليس النّاس اليوم يغترّون بعلومهم ومعارفهم واكتشافاتهم واختراعاتهم؟ أليس قد ظنّوا أنّهم أفلحوا في طرد فكرة الغيب والدّين في القرن الميلاديّ المنصرم حتى أينع الإلحاد وأضحى محلّ افتخار؟ لم يعمّر الأمر عدا قرنا واحدا حتّى جاء كتاب القرن ـ كما أسمّيه ـ ليعلن فيه أساطين الفيزياء في أروبا أنّ الإلحاد خرافة وأنّ الله هو خالق هذا الكون. كان ذلك منذ أسابيع خلت في مهرجان علميّ بباريس قدّم فيها مؤلّفو الكتاب ما توصّلوا إليه في سفرهم العظيم باللّغة الفرنسية: الله ـ العلم ـ البراهين. هذا غيث منهمر لن يتوقّف عند نظرية أنّ الله هو الخالق لهذا الكون. السّؤال الآخر الذي سيطرح عمّا قريب هو : ما هو حقّ الله علينا وما هي العلاقة معه؟

ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون

ورد هذا القانون في سورة القصص المكية. ورد في سياق إرادة الله سبحانه أنّه يمكّن للمستضعفين ويقوّض سلطان العتاة المجرمين. ورد في سياق أطول قصّة حفي بها القرآن الكريم. وهي قصة موسى عليه السّلام مع قومه بني إسرائيل ومختلف فقرات القصّة. قال سبحانه (ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمّة ونجعلهم الوارثين ونمكّن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون). عندما يقول الله سبحانه أنّه يريد شيئا أو أنّه أراده فما على أهل التدبّر إلاّ التمهّل طويلا ليقرؤوا على مكث. الله عندما يريد شيئا فلا معقّب لإرادته. كلّ شيء طوعه.

وعندما يأتي فعل الإرادة منه سبحانه بصيغة المضارع فإنّ ذلك يعني أنّ تلك الإرادة ماضية لا تتخلّف. تصيب المتأخّرين كما أصابت المتقدّمين. الحديث في سياقه الأوّليّ عن بني إسرائيل. ولكنّ العبرة دوما بعموم اللّفظ. سنّة مسنونة وقولا واحدا فصلا. معقل هذا القانون هنا هو قوله (منهم). ومعنى ذلك أنّ الله سبحانه ينفّذ إرادته بالمستضعفين أنفسهم. وليس بمعجزة خارقة تظلّ أعناقهم لها خاضعة مشرئبّة. كلمة (منهم) هذه يعدّها العبد الفقير مفتاحا من مفاتح فقه الكتاب العزيز وسننه في الحياة. معنى ذلك أنّ الله سبحانه ينتصر للمستضعفين المقهورين المظلومين. ولكن بهم هم أنفسهم. إذ ينطلقون مقاومين مجاهدين مناضلين دون حرّيتهم وكرامتهم وحرماتهم وأوطانهم وعقائدهم. أمّا من رضي بالخنوع فلن ينصره الله سبحانه ولن يمكّن له في الأرض ولن يمنّ عليه لا بإمامة ولا بوراثة. قدرا فإنّ الله سبحانه هو من يفعل كلّ ذلك فهو (بنون العظمة) من يمنّ على المقهورين ويمكّن لهم ويجعلهم أئمّة وهو من يري الجبّارين المجرمين زوال ملكهم. وهو الذي يحذرونه كلّ الحذر. ولكن عملا فوق الأرض ـ أو قدرا شرعيا ـ فإنّ الله سبحانه ينفّذ إرادته تلك بالإنسان نفسه. يمكن لك أن تقول أنّ كلمة (منهم) هنا تعني (بهم). وهي صنو قوله سبحانه لنبيّه محمّد عليه السّلام (هو الذي أيّدك بنصره وبالمؤمنين). فإذا قاوم المستضعفون جاءهم نصر الله سبحانه وإذا قعدوا حاق بهم قدره. وهو قدر الهزيمة النّكراء. ليس فرعون وهامان وجنودهما عدا رموز للكبر والقهر والظّلم والطّغيان. فرعون نفسه ليس اسما لإنسان. إنّما هو اسم لمؤسّسة.
معنى ذلك أنّ القرآن الكريم لا يفقه إلاّ موضوعيا مقاصديا جامعا. إذ هو يعبر الزّمان والمكان ويقدّم للنّاس خلاصات التّاريخ الغابر. وما يحذر سلالة فرعون وهامان وجنودهما شيئا عدا زوال عروشهم المتهافتة المتهالكة. ومن ذا يأخذهم سبحانه بأيدي الذين كانوا يعذّبونهم ويسترقّونهم على حين غرّة لتتهاوى مملكاتهم في طرفة عين. عزو الفعل كلّه إلى الله سبحانه لا يعدم إرادة الإنسان. وإرادة الإنسان لا طول لها ولا حول إلاّ إذا زكّاتها إرادة الله سبحانه. ولكنّ الله سبحانه كتب على نفسه أنّه ينتصر للمظلوم ولو بعد حين ما تجشّم أمواج الجهاد وركب أفلاك الخطر. هذا قانون جرى على الأنبياء أنفسهم فقتل كثير منهم وعلى الأصحاب الكرام فلقوا المصرع ذاته. هل ترانا نعفى منه؟ ألم يقل سبحانه في قانون صنو له (أكفّاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزّبر)؟ فلا كفّارنا اليوم ـ سيما بمعنى الظّلم والقهر والعدوان ـ خير من كفّار قريش مثلا فيحابون. ولا نحن خير من الأنبياء والأصحاب فنعفى من هذا القانون. ألم يقل سبحانه: فلن تجد لسنّة الله تبديلا ولن تجد لسنّة لله تحويلا؟ معالم الطّريق أجلى من الجلاء وأبهر من البهار لمن يريد علما ومعرفة

بقلم الشيخ: الهادي بريك