لماذا تفسد الفطرة.. وكيف نحميها؟

الشيخ طه عامر

الشيخ طه عامر

لقد أفسد شياطين الإنس والجن الفطرة في زماننا، ووظفوا علوماً وأموالاً وقدراتٍ ومهاراتٍ ودعاياتٍ عبثية لا حدود لها، حتى أصبح المعروف منكراً والمنكر معروفاً، وأنَّ النقيضين يلتقيان ويجتمعان، وأن لا ثبات لشيء من القيم والأخلاق، وهذا لعمري من أعظم البلاء الذي يهدد البشرية.

إن عالمنا المعاصر يشبه السيارة المسرعة التي فقدت السيطرة على المقود، وإذا بها تهوي من فوق جبل إلى واد سحيق، أتعلمون السبب؟

لأنه قطع حباله مع السماء ولم يعد له مرجعٌ ولا سندٌ إلا ما أُشرِب من هواه.

نعم، إنه خطر الرَّان الذي يتعاظم حتى يُطبق على القلب فيرى الخير المحض شراً خالصاً، ويزين له الشيطان سلوكيات وأخلاقيات ومذاهب فاسدة على أنها خير للناس وما هى إلا الردى، ولخطورة الذنوب والمعاصي وأثرها على فساد الفكر والعقل والتصورات ورد الحديث الشريف الذي رواه حذيفة بن اليمان رضى الله عنه قال: “كُنَّا عِنْدَ عُمَرَ، فقالَ: أيُّكُمْ سَمِعَ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ يَذْكُرُ الفِتَنَ؟ فقالَ قوْمٌ: نَحْنُ سَمِعْناهُ، فقالَ: لَعَلَّكُمْ تَعْنُونَ فِتْنَةَ الرَّجُلِ في أهْلِهِ وجارِهِ؟ قالوا: أجَلْ، قالَ: تِلكَ تُكَفِّرُها الصَّلاةُ والصِّيامُ والصَّدَقَةُ، ولَكِنْ أيُّكُمْ سَمِعَ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ يَذْكُرُ الَّتي تَمُوجُ مَوْجَ البَحْرِ؟ قالَ حُذَيْفَةُ: فأسْكَتَ القَوْمُ، فَقُلتُ: أنا، قالَ: أنْتَ لِلَّهِ أبُوكَ. قالَ حُذَيْفَةُ: سَمِعْتُ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: تُعْرَضُ الفِتَنُ علَى القُلُوبِ كالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فأيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَها، نُكِتَ فيه نُكْتَةٌ سَوْداءُ، وأَيُّ قَلْبٍ أنْكَرَها، نُكِتَ فيه نُكْتَةٌ بَيْضاءُ، حتَّى تَصِيرَ علَى قَلْبَيْنِ، علَى أبْيَضَ مِثْلِ الصَّفا فلا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ ما دامَتِ السَّمَواتُ والأرْضُ، والآخَرُ أسْوَدُ مُرْبادًّا كالْكُوزِ، مُجَخِّيًا لا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا، ولا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، إلَّا ما أُشْرِبَ مِن هَواهُ . ” رواه مسلم.

وفتنة الرجل في أهله وجاره أي: ما يصيبه من قلق وهم، أو صغار الذنوب فتكفرها الصلاة والصيام والصدقة

تدبروا كلمة “كموج البحر”.  

فأنى لنا بالقلب الذي لا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض إلا بالمجاهدة الطويلة والاحتراس من الذنوب أشد من احتراسنا من الفيروسات المُهلكة.

وحينما سئل حذيفة: ما أسْوَدُ مُرْبادٌّ؟ قالَ: شِدَّةُ البَياضِ في سَوادٍ، وسئل أيضا: فَما الكُوزُ مُجَخِّيًا؟ قالَ: مَنْكُوسًا.

وكلمة “منكوسا”: شديدة التعبير عن حال عصرنا، حيث نعيش عصر انقلاب في المعايير والمفاهيم والرؤى والسلوك.

ود الشيطان لو يظفر من ابن آدم  بأدنى غفلة عن ربه وتقصير في جنبه، وإن له مع ابن آدم عداوة قديمة يوم أعلن أنه غايته إضلاله وغوايته بكل سبيل وطريق.
“قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ ۖ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)” الأعراف

قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82)” ص

وقد أمرنا الله تعالى أن نوحد عدواتنا تجاه العدو الأكبر للإنسانية كلها:

“إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ۚ إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6)” فاطر  

وحذرنا من السقوط في شِراك خطواته واستدراجه والسقوط في فخاخه فقال تعالى:

“يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ۚ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَىٰ مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)” النور

وليس أكبر غاية ينالها الشيطان من بني آدم إيقاعهم في الصغائر أو الكبائر، أو الكفر وجحود وجود الخالق جل وعلا، كلا، إنه لا يقنع من الإنسان بمستوى من الضلال والإضلال، والفساد والإفساد، والعبث والمجون، وهذا ما يفسر لنا دركات الشهوات التي يسقط فيها قوافل من الناس في عصرنا -والتي لا نهاية لقاعها- كأنهم سكارى، وما هم بسكارى.

غواية الشيطان

في قصة آدم وحواء وغواية إبليس عبرة وعظة، إنها كاشفة لمشاهد تكرر على مدى الزمان، وتعالوا معي نقف   مع  بعض دلالات هذه الآيات الشريفة :

“فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَىٰ (120)” {طه}

 أنقل هنا باختصار تعليق الإمام ابن القيم في كتابه “إغاثة اللهفان” يقول:

 كيف أطمع عدو الله آدم عليه السلام أن يكون بأكله من الشجرة من الملائكة، وهو يرى الملائكة لا تأكل ولا تشرب، وكان آدم أعلم بالله وبنفسه وبالملائكة من أن يطمع أن يكون منهم بأكله، ولا سيما مما نهاه الله عز وجل عنه؟

والجواب: أن آدم وحواء عليهما السلام لم يطمعا في ذلك أصلا، وإنما كذبهما عدو الله وغرَّهما بأن تلك الشجرة شجرة الخلد، فهذا أول المكر والكيد، ومنه ورث أتباعه تسمية الأمور المحرمة بالأسماء التي تحب النفوس مسمياتها، فسموا الخمر: أم الأفراح، وسموا الربا بالمعاملة، وسموا أقبح الظلم وأفحشه شرع الديوان.. فلما سماها شجرة الخلد قال: ما نهاكما عن هذه الشجرة إلا كراهة أن تأكلا منها فتخلدا في الجنة ولا تموتا مثل الملائكة الذين لا يموتون…”

وهكذا يسكن الشيطان في دائرة الممنوع والمحظور رغم قِلته وضئالة حجمه مقارنة بدائرة المباح وهو غير محصور أو محدود، ويبذل إبليس جهده في هذه النقطة من ناحيتين:

الأولى: أن يزين لأقوام تضييق دائرة المباح حتى يقدموا الدين خَصما للفطرة والعقل ومصالح العباد.

ويجعلوا الشرع تحريما في تحريم، بدعوى الحيطة والحذر وسد الذرائع، فينفر الناس من الدين بالكلية ويستبيحون الحرام الذي لا شك فيه.  وهذا المسلك يُفسد فطرة الطفل والشاب إذا نشأ عليه.  وهو الذي أفسد الأديان قديما. فالإسراف في القول بالتحريم أو دعوى التحريم بغير هدى ودليل صحيح صريح يصرف الناس عن التدين ويصد عن سبيل الله تعالى.

الثانية: أن يوسوس الشيطان للإنسان ليقتحم الممنوع ويزينه له بمكائد عديدة، كما فعل مع أبيه آدم عليه السلام بـ”شجرة الخلد”  و”ملك لا يبلى”. ويجلب عليه بخيله ورجله ويحشد أتباعه الناعقين بكل سبيل ليثيروا الشبهات حول الدين وأحكامه والتشكيك في مُسَلماته وقطعياته، وما أكثر الحيل التي يبتدعها إبليس ويوحى بها لأوليائه ليفسدوا في الأرض وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.

 ومن يفشل في الدخول إليه من باب الشبهات نفذ إليه من باب الشهوات.

“وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21)” الأعراف

كيدٌ متكرر

كان عمر بن الخطاب رضى الله عنه يستعيذ بالله من جَلَد الفاجر وعجز الأمين.

حينما يمتلك أهل الفساد والإفساد قوة  المال والإعلام والسلطان فإنهم يلتمسون جميع الوسائل والطرق لغرس أفكارهم ومبادئهم، ومنها أسلوب المخادعة والمخاتلة وارتداء قفازات الحرير التي تُخفي السم الناقع، كالحية الرقطاء .

وتحت شعارات برَّاقة خدَّاعة مدفوعة بحشد حقوقي وإعلامي ومالي استُبحيت الأعراض وهُدمت الأسر وضاعت المجتمعات وقُلبت الحقائق واغتُصبت حقوق واحتُلت أوطان وخُدعت شعوب.

 والأمثلة كثيرة جدا.

أنواع التأكيد الواردة في الآية يستعلمها أهل الغواية في زماننا:

هذا إشارات لغوية استنبطها ابن القيم من الآية الكريمة للوسائل التى زخرف بها إبليس أسلوبه في الخداع والتي تتكرر في زماننا وفي كل عصر من أهل الغواية، أشير إليها بتصرف:

1- التأكيد بالقسم. قلت: وكم حاكم حنث في أيمانه، وكم من قاض باع ضميره، وكم مؤسسات دولية تكيل بألف مكيال رغم إعلانها للمحافظة على حقوق الإنسان. 

2- تأكيده بأنَّ.

3- تقديم المعمول على العامل، “والقصد منها إرادة الحصر” كما في قوله تعالى إياك نعبد وإياك نستعين أي: نصحيتي مختصة بكما وفائدتها إليكما لا إلىّ. قلت: وهكذا يفعل أتباع الشيطان في كل بدعة مضلة فاسدة أنها ستنفع أتباعها. والتاجر الذي يُغرر بزبائنه يقسم لهم أغلظ الأيمان أنه لن يربح منهم شيئا وأنه ناصح أمين.

4- الإتيان باسم الفاعل وليس المضارع، ليدل على الثبوت واللزوم . واسم الفاعل هنا “ناصح”.

5- إتيانه بلام التأكيد في جواب القسم. “لمن الناصحين”.

6- صوَّر نفسه لهما من جملة الناصحين. وهكذا يَلبس أصحاب النحل المنحرفة عن الإسلام التي تخالف أصول الشرع وأحكامه ثوب الواعظ المشفق، “وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204)” البقرة. 

وتلعب بعض وسائل الإعلام والتواصل الحديثة – صحف – مجلات – سينما – مواقع – ألعاب الكترونية إلخ  دوراً كبيراً في زماننا في تلوين أمزجة الشعوب وفق أجنداتها  وخططها الماكرة التي أفضت إلى صناعة إنسانٍ هش الشخصية مضطرب النفسية، متقلب المزاج، ضعيف الإرادة عديم الغاية، قلق الفؤاد ظمئ الروح، تائها يسير في الأرض حيرانًا.  والحديث في هذا يطول عن المقام.

“فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ ۚ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا ……(22)” الأعراف

وهكذا يفعل الشيطان مع الإنسان، كلما اقتحم بابا من الشر وظن أنه فيه ما يشبع لذته ويحقق غايته وسعادته وجد نفسه يجري خلف وهمٍ وخيالٍ وسرابٍ . ولن يجني من وراء ذلك إلا الندامة والشقاء. ونسأل الله السلامة وحسن العاقبة.

 الكون والوجه الآخر للفطرة

تتجلى سلامة الفطرة في الكون كما في النفس، فنظرةٌ إلى زُرقة السماء وصفائها، ومشهد البحر وأمواجه، وأصوات العصافير وأنغامها، وخرير الماء وصوت حفيف الأشجار، وجمال ساكن في جناح فراشة، وألوان زاهية في ورود جميلة، وتناسق بديع وتكامل دقيق في خَلْق الله تعالى . كل هذا يعكس معنى الفطرة، فالنفس بطبيعتها تحب الجمال وتنفر من الفوضى، وتستعذب الأصوات الحسنة وتصد عن أنكر الأصوات، وتأْلَف السكون وتضجر من العبث. 

وهكذا يجب أن نحافظ على سلامة فطرة أولادنا من التبديل والتغيير، بحسن تربيتهم على الكلمة الطيبة، والمنظر الجميل، والنظام والدقة، والمحبة والتسامح، واحترام الحقوق، وبيان معالم الحلال والحرام، وتحسين الحسن، وتقبيح القبيح.

وما زال في حديثنا بقية إن شاء الله.

كتبه فضيلة الشيخ/ طه عامر